تقرير رقم (97)
1 يناير 2023

:تمهيد
:المحتويات
:الملخص التنفيذي
- الملخص التنفيذي.
تناولت هذه القضية تسليع الثقافة كأحد مصادر الدخل. وأشار د. زياد الدريس في الورقة الرئيسة إلى أننا انتقلنا من زمن تثقيف السلعة إلى زمن تسليع الثقافة، و” الثقافة ” في كلتا الحالتين هي الضحية. ففي الحقبة الأولى كانت محشوة بمضامين فائضة، وفي الأُخرى فُرّغت الثقافة من مضامينها المعرفية من أجل خدمة مضامينها الاقتصادية والربحية. لكن، في الاتجاه المعاكس، فإن ما ننعته ببزنسة الثقافة هو السبيل الأجدى حاليًا نحو الحفاظ على هذه الثقافة (بنوعيها: المادي وغير المادي/الشفوي) وتحويلها من عنصر جامد/ ستاتيكي إلى عنصر متحرك/ ديناميكي يتفاعل مع حركة الحياة وتمثّلاتها المعرفية والترفيهية والوجدانية. إذ إن توسيع الانتشار للعناصر الثقافية يساعد في ترسيخ الحفاظ عليها. هذا عدا المردود الرأسمالي الذي تدرّه آليات تسويق عناصر التراث والفنون على الدول الثرية بتلك المنتجات.
بينما أكَّد د. فهد العرابي الحارثي في التعقيب الأول على أنه لا يمكن للثقافة، في مفهوماتها الواسعة، أن تزدهر، وتحقق طموحاتها، وتواكب عصرها، وتواجه تحدياته، في ظل وجود اقتصاد ضعيف أو مشلول. ومن الصعب أن نتخيل أن التنمية، يمكن أن تدير ظهرها للصناعات الثقافية المهمة، والمدرة للأموال، والداعمة للاقتصاد، والمسهمة في خلق وظائف جديدة، ومن تلك الصناعات الثقافية مثل: السياحة والسينما، والترفيه، والمتاحف، والمواقع الأثرية، والمسرح، والفنون بأشكالها المختلفة، وكذلك مجالات البحوث والتطوير. فهذه كلها “مصانع” منتجة للثقافة، وهي مستهلكة لها بصفتها مادتها الخام في الوقت ذاته. وإجمالًا فإن الاقتصاد اليوم هو الملهم للثقافة، وهو المعيار، أحيانًا، الذي يقضي بالبقاء، أو يحكم بالزوال.
في حين ذكر د. منصور زويد المطيري في التعقيب الثاني أن آليات تسليع الثقافة لا تختلف كثيرًا عن آليات توزيع السلع المادية العادية، حيث يكون العائد المادي هو الدافع وراء بيع المنتجات الثقافية، ويكون ذوق الجمهور عاملًا حاسمًا في حصول الأرباح. ومن هنا يأتي الإشكال الحقيقي؛ حيث إن بيع المنتجات الثقافية لا يتم إلا بإحداث تغيير وتعديل على معناها الثقافي الأصلي، حتى تكون مقبولة لدى أكبر قدر من المستهلكين في السوق. كما أن الاتجاه إلى تسليع الثقافة فتح المجال لتصنيعها. ومعنى تصنيعها أنها تتطلب تمويلًا ووسائلَ وتقنيةً ضخمة وكبيرة.
وأوضح أ. وليد بن سالم الحارثي في التعقيب الثاني أن الرأسمالية تُشير إلى نظام اقتصادي، تكون فيه وسائل الإنتاج مملوكة لشركات تعمل بهدف الربح. وأصبحت الثقافة في ظل هذا النظام الرأسمالي سلعة معروضة للبيع والشراء. وحين يعتبر العائد على الاستثمار الاجتماعي هو الذي يقوم على القيمة بدلًا من المال. وهو أساس تحسين الرفاهية في المجتمع عبر دمج التكاليف والفوائد الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وخلافها، يبرز الخط الفاصل بين تسليع الثقافة وبين جعلها بنية أساسية في المجتمع.
وتضمنت المداخلات حول القضية المحاور التالية:
- صناعة الثقافة وتعظيم دورها التنموي.
- الثقافة كسلعة وأبعاد الاستثمار بها.
- تسليع الثقافة من منظور اقتصاد المعرفة وكجزء من اقتصاد الدولة.
- الفنون والموروث الثقافي كمصدر لتدفق الأموال: السياحة الثقافية ودورها التنموي نموذجًا.
- آليات الحد من الآثار السلبية لتسليع الثقافة.
ومن أبرز التوصيات التي انتهى إليها المتحاورون في ملتقى أسبار حول القضية ما يلي:
- بناء وتعزيز مفاهيم الثقافة السليمة في مناهج التعليم العام والجامعي والتجديد المستمر بحسب معطيات متغيرات الحياة ومتطلباتها في ضوء رؤية 2030.
- تفعيل دور الأندية الأدبية في مختلف مناطق المملكة العربية السعودية، وتطوير آليات عملها، وتوفير الدعم اللازم لها، والعمل على زيادة فروعها وتنويع أنشطتها الثقافية.
- استثناء الكتب وما يرتبط بها من أنشطة من ضريبة القيمة المضافة.
- سن تشريعات وأنظمة تسهل عمل الجمعيات الثقافية ومؤسسات القطاع الثالث غير الريحية وفصلها عن الجمعيات الخيرية، مع توفير الدعم الإداري اللازم لها بتدريب كوادرها على الإدارة الثقافية وطرق التمويل الذاتي لضمان استدامتها.
- إبراز المواقع السياحية والأثرية في المملكة ودعم وتشجيع الفنون والموروثات بصفة عامة (مثل الأزياء والمأكولات والرقص الشعبي … إلخ)
- تشجيع صناعة السينما والموسيقى والمسرح في المملكة والمنتجات الثقافية الأخرى .
- مقدمة: مدخل لفهم الثقافة.
– إشكاليات تعريف الثقافة وتحديد مفهوم المثقف.
تظل العلاقة بين الثقافة والاقتصاد محلًا لاهتمام الباحثين من مختلف المدارس والتيارات الفكرية، وهي علاقة ملتبسة ومعقَّدة وتثير كثيرًا من الاختلاف في وجهات النظر، بما تنطوي عليه من عناصر متناقضة في تأثيرها على الاقتصاد وعلى الثقافة معًا (1). وقد شهد أوائل القرن العشرين انتشارًا جديدًا لأشكال التواصل الجماهيري، وظهور صناعة ثقافية هائلة تهدف إلى تحقيق الربح من خلال إنتاج وتوزيع المنتجات الثقافية. وقد كان “تيودور أدورنو” و”ماكس هوركهايمر” من أوائل العلماء الذين نظّروا لهذه الظروف الثقافية الجديدة، وأسموها الصناعة الثقافية (2).
وبالعودة إلى مفهوم الثقافة، نجد أنه أحد أكثر المفاهيم الملتبسة في كل اللغات؛ لأنه يراد التعبير بكلمة واحدة عن مضمون شديد التركيب والتعقيد والتنوع (3). كما يعتبر مفهوم الثقافة ملازمًا للعلوم الاجتماعية، بالنظر إلى أن الإنسان بالأساس كائن ثقافي، والثقافة لا تتيح للإنسان التكيف مع بيئته فحسب، بل تتيح له إمكانية تكييف هذه البيئة لحاجاته ومشروعاته (4).
وينحدر أصل كلمة ثقافة من اللاتينية (Cultura) (5)، وعلى صعيد الاصطلاح يعد من أبرز تعريفات الثقافة ذلك التعريف الذي قدمه “إدوارد تايلور” بوصفها “كل مركب يشتمل على المعرفة والمعتقدات والفنون والأخلاق والقانون والعُرف، وغير ذلك من الإمكانيات والعادات التي يكتسبها الفرد باعتباره عضوًا في مجتمع”(6).
ويبرز في هذا التعريف العناصر اللامادية لحياة الناس في جماعة، كالأخلاق والقانون والعُرف التي تنشأ نتيجةً للتفاعل الاجتماعي، وتأخذ طابعًا إلزاميًا، إلى جانب العنصر المادي للثقافة، علاوة على العلاقات بين الناس وبين العناصر المكونة للثقافة (7).
والمؤكد أن الثقافة تتأثر بطبيعة البناء الاجتماعي، وهي تعيد إنتاج التمايز الاجتماعي، وتشكل رأس المال الثقافي للفئات الاجتماعية المختلفة. وبات من المعلوم أن إشكالية الوحدة والتنوع في المسألة الثقافية ذات بعد نظري وفلسفي وهي في الوقت نفسه ذات بعد سياسي واقتصادي، متصل بالدولة وعلاقتها بمكونات المجتمع العرقية والثقافية (8).
وأشار “أنتوني جدنز” إلى أن الثقافة هي جوانب الحياة الإنسانية التي يكتسبها الإنسان بالتعلم لا بالوراثة. أي هي سلوك وأفعال المجتمع اليومية. هذه الأفعال والسلوكيات تتكون من جزأين أو عنصرين:
- الجزء المضمر أو المستتر: أي العنصر الجوهري في الثقافة، وهو المعتقدات والقيم وما يتبعها من المعايير التي تساعد هذه المعتقدات والقيم في التشكل في شكل فعل وسلوك.
- الجزء الظاهر: المتمثل في الإشارات والرموز والسلوكيات الظاهرة.
وتكتسب العلاقة بين الفعل الاجتماعي أو السلوك – ومنه السلوك الاقتصادي – وبين جوهر الثقافة الذي هو المعتقدات والقيم أهمية ضخمة وفائقة الأثر، فالفعل والسلوك دال على قيمة معينة، ولذلك فالإنسان – كما يقولون – معلق في شبكة من الدلالات بين المعتقد والسلوك. ومن هنا فإن أي سلوك اقتصادي يخص الثقافة لا بد أن يكون مُعبرًا عن قيمة ومعنى ودالًا عليها كتعبير طبيعي وآلي عن الهوية، وهذا ما تفعله كل الثقافات.
في ضوء ذلك يمكن تفهم الدور المهم جدًا للثقافة في حياة البشر، وأن العنصر الجوهري فيها هو ما يعطي معنىً للحياة، وأن العنصر الشكلي الظاهر يمثل تجسيدًا للعنصر الجوهري؛ لكنه ليس بأهميته، لأن بعض العناصر فيه يمكن أن تتغير دون مشكلة ثقافية كاللباس مثلًا.
نخلص من هذا إلى أن الثقافة تشكل الهوية التي هي مجموع قواعد السلوك واللغة التي يقوم الشخص عن طريقها بتحديد انتمائه إلى جماعة معينة فيتماهى ويتماثل معها. كما أن الثقافة أيضاً بوصلة توجه السلوك الفردي في علاقاته، فهو يتصرف مع الآخرين بناءً على مرجعيات كوّنتها الثقافة تخص السلوك والتواصل. بدون هذه المرجعيات يتخبط الفرد في سلوكه كأنما هو تائه في صحراء ليس معه بوصلة. كما أن الثقافة أيضًا وخصوصًا عناصرها الجوهرية فتيل الحياة أي أنها حية في المجتمعات الحية النشطة، وكامنة في المجتمعات الساكنة التي فقدت التوازن لتعيد لها في لحظة تاريخية معينة جذوة الحياة. وهذا ما تفعله بعض التقاليد والمعتقدات، حيث تستيقظ في الحاضر على الرغم من وجودها في الماضي (إذا صح التعبير).
إذا أدركنا هذا، أدركنا أن المعنى والغاية البعيدة في الحياة والوجود تحددها العناصر الجوهرية في الثقافة، وبالذات المعتقدات والقيم. والمجتمعات التي يحصل فيها تبديلُ وتغييرُ هذه العناصر، إما أن تقع في فخ العدمية التي تعني ممارسة الحياة والعيش فيها على أنها لا تحمل أي معنى ومغزى أو غاية، أو تتحول إلى ثقافة أخرى مغايرة.
كما أن أي فعل ثقافي – جوهريًا كان أو هامشيًا – يساهمُ في وجود وتحقيق المعنى والغاية كما تحدده هذه الثقافة أو تلك.
وبنظر البعض فإن الثقافة لا تعتبر قطاعًا مستقلًا ليتم تصنيفها وتصنيف مستفيديها بصفة؛ فالإنسان دون ثقافة جاهل وفاقد للقدرة على التواصل مع الآخرين ولن يكون قادرًا على إيصال آرائه وإبداعاته أيًا كان تخصصه. ثم يمكن القول بأن الثقافة هي أم العلوم والفنون والأعمال؛ فلا عالم دون ثقافة ولا فنان دون ثقافة ولا حتى رجل أعمال دونها، أما المشهور دون ثقافة كالمهرج الذي يلفت انتباهك لحركات شاذة سرعان ما تعتاد وتمل منها ويفقد الاهتمام وتأفل شمس شهرته. الثروة والشهرة وحتى النجاح هم مراحل يصل لها الإنسان ولا بد في يوم أن يتركها، فهم ليسوا صفات لأحد. أما الثقافة إذا حصل عليها الإنسان فتصبح صفة حميدة به لا تفارقه حتى بعد موته.
ومن الإشكاليات التي يتزايد الجدل بشأنها هي مسألة أننا لا نستطيع وضع حدود حقيقية لما يمكن تسميته: “عصر المثقف المتعفف”، حتى نستطيع بعد ذلك الحكم على انتهائه. أما “المثقف المتعفف” نفسه فموجود في كل العصور السابقة واللاحقة، جنبًا إلى جنب المثقف المرتزق! التغير يكمن فقط في زيادة عدد هؤلاء عن أولئك في زمنٍ ما والعكس في زمن آخر. وما يُقصد بـ (المثقف المتعفف) في هذا الإطار ليس مغايرًا للمثقف (المكتسب) بل للمثقف (المرتزق)، ولا يخفاك الفرق الشاسع بين الاثنين في المفهوم الاصطلاحي/الاجتماعي وليس اللغوي!
ولا ينطوي تعريف المثقف المرتزق على صفة واحدة شاملة فقط، فالذي يخفض سقف القيم الثقافية في نتاجه لأجل المزيد من الكسب المادي هو مثقف مرتزق، والذي يزيف المفاهيم والقيم الثقافية ثم يجمّلها من أجل إرضاء تيار مهيمن أو شخص نافذ هو مرتزق، والذي يرفع من قيمة ثقافة مبتذلة هو مرتزق. أما التكسب من الثقافة والنتاج الثقافي فأمر مشروع للغاية، بل و(مندوب) أحيانًا كثيرة.
بينما على الجانب الآخر يرى البعض أنه لا يفترض وجود شيء اسمه “المثقف المتعفف”، فالمثقف سواء كان كاتبًا أو شاعرًا أو روائيًا أو سينمائيًا لا بد أن يعيش بكرامته وبما يكفي من المال لكي يبدع ويقدم ما لديه من مادة إبداعية، ولا سيما أن المثقف إذا أصبح “عضويًا” منهمكًا بهموم الجمهور قد يواجه مواقف وتوجهات يُطلب منه التماهي معها وفي حال عدم حدوث ذلك فإنه قد يتم “شطبه” وربما إيقافه من الكتابة والإنتاج.
ثمة خلط بين استخدام “الثقافة” ووسائلها كقوة ناعمة وبين استغلال وتوسل المنتج الثقافي وسيلة لا للعيش ولكن للثراء! كذلك الخلط بين التكسب بالفن وحصول المثقف على أجر لقاء نتاجه الثقافي. هناك أنصاف أنبياء وأنصاف ملائكة لا يريدون أجرًا على إنتاجهم أو لا يفاوضون على ما يحصلون عليه من نقود قليلة؛ لإيمانهم بأن إنتاجهم خدمة لقضية يؤمنون بها (من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار) وهؤلاء لهم التقدير؛ ولكنهم ليسوا مقياسًا ولا أنموذجًا!
ويرى الجابري أن المشكلة في تناول مفهوم المثقف العربي، هي نقله من بيئته الغربية عبر ترجمته بنجاح لا شك فيه، دون رده إلى بيئته العربية الإسلامية التي تضعه في إطاره الصحيح وتُكسبه فهمًا أكثر وأعمق، بل إنها تدفع المثقف العربي الراهن لفهم ما الذي يعنيه هذا المفهوم بالنسبة له، وما حدود استخداماته المختلفة، سواء على مستوى الفكر أو على مستوى الواقع.
وهناك أجنحة دافعة للثقافة، تظل منزوية لأنها تخصصية وليست شعبوية، وهي في الغالب إما ثقيلة وأكاديمية، أو ذات رتم سريع ولا تكاد تُرى. وأحد أوجه هذه الثقافة هي”ثقافة التفكير “(Culture of Thinking – CoT) والتي تُعرف بأنها الأماكن التي يتم فيها تقييم التفكير الجماعي والفردي للمجموعة وظهوره والترويج له بنشاط كجزء من التجربة اليومية المنتظمة لجميع أعضاء المجموعة. ويركز مشروعٌ عملتْ عليه كلية التعليم في هارفارد انتباه المعلمين على القوى الثقافية الثماني الموجودة في كل حالة تعلم جماعي، والتي تعمل كمُشكِّلين للديناميكية الثقافية للمجموعة، وتتكون من اللغة والوقت والبيئة والفرص والروتين والنمذجة والتفاعلات والتوقعات. بينما يسعى المعلمون جاهدين لخلق ثقافات التفكير في فصولهم الدراسية، يمكنهم استخدام مجموعة متنوعة من الأساليب، بما في ذلك تخصيص وقت للتفكير بلغة ثقافية جديدة وتطوير واستخدام لغة التفكير تلك لجعل بيئة الفصول الدراسية غنيةً ثقافيًا بوثائق عمليات التفكير، وجعل تفكيرهم غنيًا بموارده الثقافية على سبيل المثال لا الحصر. في عام 2005 بدأت في جامعة هارفارد تجربة من خلال العمل بشكل مكثف مع مجموعتين تركيزيتين من ثمانية معلمين من مختلف مستويات الصف والموضوعات من الروضة إلى الصف الثاني عشر؛ لخلق ثقافة تفكير مهنية غنية للمعلمين تهدف لتحقيق فهم أفضل للتغيرات الثقافية في مواقف وممارسات المعلمين والطلاب، عندما يصبح التفكير أكثر وضوحًا في البيئات المدرسية والفصول الدراسية، وتم بتطوير مقاييس للتفكير في المدرسة والفصول الدراسية لالتقاط هذه التغييرات، وإجراء دراسات حالة للمعلمين، ونظر الباحثون في كيفية تطور فهم الطلاب لمجال التفكير. وأظهر البحث أن الطلاب يدركون أن الفصول الدراسية لمجموعات ثقافة التفكير أكثر تركيزًا على التفكير والتعلم والفهم والإبداع، ومن المرجح أن تكون تعاونية بطبيعتها من تلك الخاصة بالمعلمين غير الموجودين في المشروع.
وقد يكون من الملائم القول بأننا لسنا ملزمين بمفاهيم تقليدية قديمة وُجِدَت ونَمت في سياقات اجتماعية وثقافية مضى عليها سنوات مديدة وقرون. فالمفاهيم تنمو وتتطور.. وتتغيّر.. بل قد تندثر وتختفي ويحل في مكانها غيرها ولا سيما في مجال الإنسانيات.
لقد كان انتشار الثقافة في العصور الإسلامية قاطبةً انتشارًا فطريًا وتلقائيًا، ولم يكن نشر أي آية أو حديث أو حكم، سلعة، أو يتم اعتبارها سلعة لها ثمن، وتُعطى لمن يدفع أكثر. والدليل على ذلك القرآن الكريم، وانتشاره في جميع الأقطار. حتى الشعر لم يكن كذلك أبدًا، ويُنبِّئنا عن ذلك سوق عكاظ، والقصائد التي كانت تذاع فيه، فكان مصنعًا أصيلًا للشعر، ومصدرًا للثقافة باعتبار القصائد والأشعار التي تُقدَّم فيه مصدر شهرته وجوهره. كل ذلك كان جزءًا من الحضارة العربية الإسلامية، وأساسه: “الكلمة”، التي هي أساس الثقافة، سواء كُتبت أو أُلقيت، أو رُسمت، أو حُولت إلى إشارة، أو لحن جميل، أو مشهد درامي، أو منحوتة نادرة. وهذا الأساس الحضاري المتين، لم يتنبه إليه أحد.
وتلعب الثقافة دورًا مهمًا في حياة الإنسان، بل هي جزء مهم في حياته بوصفه فردًا من أفراد المجتمع؛ فهي تساعد على التمييز بين فرد وآخر، وبين جماعة وأخرى، وبين مجتمع وآخر. بل إنها تميز الجنس البشري عن غيره من الأجناس، لأنها تؤكد الصفة الإنسانية في الجنس البشري.
وإذا كانت المجموعات الإنسانية تشترك في امتلاك المخزون الوراثي نفسه، فإنها تتمايز باختياراتها الثقافية. وتُشكِّل الاختلافات القائمة بين المجتمعات الإنسانية في تلك الخيارات الثقافية السائدة فيها ظواهر ثقافية شاهدة على قدرة الإنسان على الإبداع والابتكار. وهذا التنوع يُثري تواجد الإنسان من خلال نسج هذا التراث المشترك للإنسانية حاضرًا ومُستقبلًا.
ويُعد التنوع الثقافي أحد الموضوعات المهمة التي تم الالتفات لها مؤخرًا وبشكل مختلف وبنظرة إيجابية اختلفت عما كانت عليه سابقًا؛ يُنظر إليه الآن على أنه عنصر قوة في المجتمع، وفرصة مواتية للتنافس الخلاق من أجل الابتكار، وقوة محركة لتحقيق التنمية المستدامة؛ لأنه يوسع نطاق الخيارات المتاحة لكل فرد، وبالتالي فهو أحد مصادر التنمية.
ولسوء حظ الإنسان – أو ربما لحسن حظه! – أن الشطر الأصغر من القيم هي التي يمكن وصفها بأنها قيم ثابتة ومحايدة، أما الشطر الأكبر منها فهي قيم نسبية أو متحيزة.
سوسيولوجيًا… يمكن الزعم بأن القيم المتحيزة تتكاثر في فترات الهيمنة الدينية على الخطاب الإنساني، أما في حال هيمنة الخطاب الليبرالي فتتحول كثير من قيم المجتمع إلى قيم نسبية. ذاك أن الخطاب الديني أو الأيديولوجي يمنح اهتمامًا خاصًا لتحفيز واستنهاض الهوية، ولذا فهو لا يدّخر وسعًًا في توظيف القيم توظيفًا متحيزًا، ما دام أن هذا التوظيف سيغذي ماكينة صناعة الهوية!
في المقابل… يتحايل الخطاب الليبرالي في الهروب من المطاردة الأزلية مع الهوية، بتنسيب القيم وتحويلها إلى أداة فاعلة أو هامشية حسب الظرف الزمكاني، وهو تلاعب متحيز مع القيم وإن كان يبدو في ظاهره غير ذلك.
وعليه… يمكن القول إن الضاغط الديني والسياسي في المجتمع هو الذي ينبت القيم «المتحيزة» في الإعلام… بينما يقوم الضاغط الثقافي والاقتصادي باستنبات ورعاية القيم “النسبية”.
هل يمكن تحويل القيم النسبية إلى قيم مطلقة، أو تحويل القيم المتحيزة إلى قيم محايدة؟! الذي يبدو أن نزعة تحويل كل الثوابت إلى متغيرات أو كل المتغيرات إلى ثوابت سوف يترك لنا كونًا بلا «قيم»، لأن القيم، وإن كانت تحمل صفة «المتغيرات» سوسيولوجيًا، إلا أنها سيكولوجيًا تُصنَّف لدى الذات الإنسانية بوصفها من “الثوابت”!
وإذ ذاك فإنه يمكننا أن نكرر مع منظمة اليونسكو قولتها: “لا توجد أزمة قيم – وعندنا منها الكثير – بقدر ما توجد أزمة في تحديد معنى القيم”.
–تعريف وزارة الثقافة السعودية لمفهوم الثقافة في ضوء توجهات رؤية المملكة 2030.
استندت وزارة الثقافة السعودية في تعريفها لمفهوم الثقافة على تعريف منظمة اليونسكو لها، والذي ينصّ على أن:”[الثقافة] هي ذلك الكل المُركَّب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والأعراف والقدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها [الإنسان] باعتباره عضوًا في المجتمع” (9).
وقد حددت وزارة الثقافة السعودية 16 قطاعًا فرعيًا تتمحور حولها أعمالها وأنشطتها. وتتمثل في: (الأفلام، المتاحف، الكتب والنشر، التراث الطبيعي، الأزياء، الفنون البصرية، فنون العمارة والتصميم، الموسيقى، المواقع الثقافية والأثرية، المسرح والفنون الأدائية، فنون الطهي، التراث، المهرجانات والفعاليات الثقافية، اللغة والترجمة، الأدب، المكتبات)(10).
وجاءت فكرة إنشاء وزارة خاصة بالثقافة في المملكة انطلاقًا من رؤية 2030. ويتمثل هدف وزارة الثقافة في حفظ وإبراز الثقافة السعودية، ويتركز دورها في قيادة القطاع الثقافي وتوفير التوجيه الاستراتيجي له وإثراء نمط حياة الفرد في المملكة العربية السعودية. وتتعاون وزارة الثقافة مع مختلف الهيئات والجهات الناشطة في المشهد الثقافي. ويتمثل دورها في تعزيز الثقافة وتطويرها في كافة أرجاء المملكة. وتم الإعلان عن رؤية وتوجهات وزارة الثقافة يوم 27 مارس 2019م، وهي ترسم الخطوط العريضة للأهداف الرئيسية التي تسعى الوزارة لتحقيقها. وتتمثل في: الثقافة بصفتها نمط حياة، والثقافة من أجل النمو الاقتصادي، والثقافة من أجل التبادل الدولي.
وردت الإشارة إلى الثقافة في النظام الأساسي للحكم بالمملكة الصادر بالأمر الملكي الكريم رقم (أ/90) وتاريخ 27/8/1412 هـ الموافق 1992 م (الباب الخامس: الحقوق والواجبات )وتحديدًا في المادة التاسعة والعشرين) والتي نصت على “أن ترعى الدولة العلوم والآداب والثقافة، وتُعنى بتشجيع البحث العلمي، وتصون التراث الإسلامي والعربي، وتسهم في الحضارة العربية والإسلامية والإنسانية”.
كما تنص رؤية المملكة 2030 على أن الثقافة “من مقوّمات جودة الحياة”، وتشير إلى أن المملكة بحاجة إلى زيادة نشاطها الثقافي، ويساهم قطاع الثقافة بدور مهم ومباشر في تحقيق الركائز الاستراتيجية الثلاث لرؤية المملكة 2030، والمتمثلة في بناء مجتمع حيوي، واقتصاد مزدهر، ووطن طموح (11).
ويلاحظ في السياق ذاته أن مفهوم الثقافة، على حداثته عند العرب كما أشار الجابري، قد خضع للناموس الطبيعي نفسه، إذْ مرّ بالتطورات نفسها، فبعد أن كان حكرًا على المنتجات الفكرية والأدبية أصبح الميل قائمًا اليوم للأخذ بأبعاده الأرحب ليشمل الفنون والتراث والموروثات والعادات والتقاليد والآثار، وهذا ما انتهجته وزارة الثقافة السعودية بوصفها الوزارة الأحدث في المملكة. وهذا المفهوم بالتالي هو أحد مستهدفات الرؤية 2030 العملاقة، وهي تنسجم في ذلك مع الرؤية المعاصرة للثقافة في العالم كله ولدى المنظمات الدولية الكبرى وفي مقدمتها اليونيسكو المعبرة عن تصوّر العالم المعاصر للثقافة.
- الورقة الرئيسة: د. زياد الدريس
في ما مضى كان الناس لا يجدون ما يعبّرون به عن إعجابهم البالغ بأحد أو بشيء أكثر من قولهم: أن هذا «لا يُقدّر بثمن».
كانوا إذا استمعوا إلى صوت أدائي جميل، قالوا: هذا الفنان لا يُقدَّر بثمن. وإذا شاهدوا لوحة فنية جميلة، قالوا: هذه اللوحة لا تقدّر بثمن. وإذا انبهروا بمهارات لعب رشيق، قالوا: هذا اللاعب لا يقدّر بثمن.
الآن يمكن القول بأن عبارة (لا تقدّر بثمن) نفسها لم يعد لها ثمن؛ لأن كل ما سبق من صفات وامتيازات وقدرات أصبح لها ثمن. كل شيء تحوّل الآن إلى سلعة، لها تسعيرة، وتاريخ صلاحية.
الشاعر، المطرب، اللاعب، الرسام. بل حتى: المقرئ والداعية، أصبح لهم ثمن… بعد أن كانت لهم قيمة في ما مضى! بإيجاز؛ نحن نشهد نهاية مقولة: “لا تُقدّر بثمن”.
***
لا شك أننا نعيش الآن العصر الذهبي للرأسمالية، إذ لم يمر حتى في أكثر العصور الماضية بذخًا أن تحولت تفاصيل الحياة اليومية إلى سلع لها ثمن، كما يجري في زمننا الآن.
يفسر البعض هذه النزعة المتجذرة للرأسمالية إلى أنها صنو الرفاهية المطلقة التي ينعم بها العالم اليوم. قد يكون هذا التفسير مقبولًا لو أن تسليع الأشخاص والأشياء لم يتجاوز سقف الكماليات والترفيهيات، لكن وقد اقتحمت الرأسمالية دور العبادة ومسارح الثقافة، فقد بات الأمر أكثر من مجرد وجودنا في زمن الرفاهية.
عندما يتحول عنصرا الدين والثقافة إلى منشط استهلاكي وساحة استثمارية، يصبح من الممكن القول إننا بتنا نعيش في عصر الأثمان لا القيم.
هذا التأوه لا يعني تحريم الكسب والتعيّش على الدعاة والمثقفين، لكنّ فارقًا كبيرًا بين أن يتكسّبوا وبين أن يتحولوا هم أنفسهم إلى سلعة… تُباع وتشترى.
لنعد حتى إلى ما اقترفته الرأسمالية المطلقة في جوانب الفنون والترفيه، ولنسأل إن كان ذلك قد أضفى مزيدًا من الإمتاع لمتابعيها؟
المؤكد أن تسهيلات الرأسمالية قد منحت ساحات الفنون والرياضة مزيدًا من التشويق والإثارة والانتشار؛ لكنّ شكوكًا كثيرة تحيط بفكرة أنها غدت أكثر إمتاعًا مريحًا للنفس الراغبة في التخفّف من صرامة الحياة. إذ باتت هذه الترفيهيات نفسها، بما طغاها من إجراءات التسليع والتربّح، مصدر قلق وتأزم تقتضيه مطاردة هذه الإجراءات والانشغال بها عن صُلب الهدف الوجداني المنشود، الذي هو الترفيه.
انغماس المنتفعين في هذه الدوامة التربّحية يجعلهم يصطنعون تفسيرات أخلاقية لهذه الحالة اللاأخلاقية التي تعيشها عوالم الفنون والجمال والترقيق والتذوق في عصرنا الغارق في ماديّته.
لا مبرر أخلاقيًا أبدًا لتحويل كل الأشياء إلى سلع، وكل القيم إلى أثمان.
***
أزدادُ سعادة وتفاؤلًا كلما دُعيت إلى ملتقى يُعنى بالثقافة، وسط هذا العالم الذي لم يعد يعتني بشيء أكثر من عنايته بالمال.. والمزيد من المال!
لكني لا أستطيع أن أخفي قلقي من لافتة: (صناعة الثقافة)، إذ لا يطمئن قلبي إلى براءة الثقافة المقرونة بــ ” الصناعة ” أو ” التجارة “. أدرك بأن ما أطلبه أقرب ما يكون إلى الجنوح الطوباوي العسير في هذا (العصر) المادي.
“تتجير” العالم و”تسعير” الكون، هو ما نخشاه من خلال العولمة السلبية المستهلِكة، لا العولمة الإيجابية المانحة والمضيفة لصورة الكون ألوانًا أُخرى تضاف إلى الألوان الأساسية لثقافات الكون وحضاراته.
عاشت كتلة من شعوب العالم فترة من الزمن تحت هيمنة نظام يسعى إلى تثقيف السلعة، أي حشوها مهما كانت بريئة وبسيطة وتلقائية بمفاهيم وشعارات تخدم (نظامًا) لا يترك شيئًا إلا أدلجه.
وسقط نظام تثقيف السلعة، وهيمن الآن (نظام) أحادي لا يترك شيئًا إلا استربح منه. فهو لا يريد فقط أن يُحرّر السلعة من الأدلجة ويجعلها سلعة فقط، بل زاد في نزعته السلعوية إلى درجة أنه يريد أن يجعل الثقافة سلعة!
أي أننا انتقلنا من زمن تثقيف السلعة إلى زمن تسليع الثقافة، و” الثقافة ” في كلتا الحالتين هي الضحية. ففي الحقبة الأولى كانت محشوة بمضامين فائضة، وفي الأُخرى فُرّغت الثقافة من مضامينها المعرفية من أجل خدمة مضامينها الاقتصادية والربحية.
اليونسكو ومعها الدول ذات الثقافات والحضارات العريقة والموغلة في القدم، تكافح من أجل مفهوم بسيط كلنا يجب أن نكافح من أجل ترسيخه في عقل العالم، إنه مفهوم الحفاظ على التنوع الثقافي، الذي لأجله نشأت (الاتفاقية الدولية للتنوع الثقافي)، التي صوّت عليها عام ٢٠٠٥م بالتأييد ١٤٨ دولة تقودهم فرنسا، وبالاعتراض دولتان فقط هما الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل(!)، وما يزال الدول الأعضاء في المنظمة يكابدون من أجل عدم إجهاض هذه الاتفاقية من لدن تُجار الثقافة الكونية. ويحمل لواء هذه المكافحة عدد من الدول ذات الثقافة المتينة، سعيًا نحو الحفاظ على عالمنا في صورة متعددة الأطياف، وليست صورة ملونة بلون واحد فقط.
نعم إن الرأسمالية تساهم في عولمة الثقافة وانتشارها (الثقافة التي تشتهيها فقط وتضخّها بالأموال)، غير أنها للأسف تساهم إزاء هذا بصنع ثقافة متشابهة أحادية وهشّة، لكنها مربحة.
هنا يكمن الصراع الذي يقلقنا.. بين ثنائية الثقافة المنتجة للإبداع أو الثقافة المدرّة للأرباح!
***
لكن، في الاتجاه المعاكس، يمكننا القول إن ما ننعته ببزنسة الثقافة هو السبيل الأجدى حاليًا نحو الحفاظ على هذه الثقافة (بنوعيها: المادي وغير المادي/الشفوي) وتحويلها من عنصر جامد/ ستاتيكي إلى عنصر متحرك/ ديناميكي يتفاعل مع حركة الحياة وتمثّلاتها المعرفية والترفيهية والوجدانية.
تحويل عناصر الثقافة والفنون والتراث إلى منتجات وأشباه سلع كفيلٌ بتدويل المفاهيم والقيم والأذواق الثقافية خارج حدودها الجغرافية ونطاقها الوجداني الضيق، وهذا الهدف مغاير تمامًا ومعاكس لما يظنه البعض مناقضًا لمفهوم الحفاظ على التنوع الثقافي، إذ إن توسيع الانتشار للعناصر الثقافية يساعد في ترسيخ الحفاظ عليها. هذا عدا المردود الرأسمالي الذي تدرّه آليات تسويق عناصر التراث والفنون على الدول الثرية بتلك المنتجات، وهو استثمار مشروع كالذي نراه في شباك تذاكر الأهرامات وبرج إيفل وتاج محل، والعلا الآن، وعرض البجعات الثلاث في مسرح البلشوي وأوبرا عايدة وسامري عنيزة وفرقة أبو سراج للمزمار والينبعاوي.
تعالوا بنا نلقِ نظرة سريعة على أهم الفعاليات والمواقع السعودية استقطابًا للسياح والزوار الآن، إنها بكل وضوح: العلا ومدائن صالح، جدة التاريخية، رجال ألمع، وفي الرياض: الدرعية وسوق الزل وساحة المربع.
سيتضح لكم فورًا أن القاسم المشترك بين جميع هذه المواقع السياحية/ الترفيهية أنها مواقع (تراث ثقافي)، ما يعني ازدياد شغف الناس بتراثهم (ظاهرة عالمية وليست محلية فقط)، وبالتالي ازدياد قدرة هذه المواقع (الثقافية) أن تكون مصدرًا للدخل الوطني وللحفاظ على التراث الوطني في آن.
***
وفي هذا الإطار فثمة العديد من الأسئلة المطروحة:
- هل القلق النخبوي من تسليع الثقافة في محله، أم إنه قلقٌ يتكئ على تصورات طوباوية/ ماضوية؟
- هل الاتجاه السائد نحو بَزنسة الثقافة هو الخيار الملائم لزمننا الذي نعيش فيه، أم إنه الخيار الحتمي الذي لا مفر منه؟
- هل أن تسليع العناصر الثقافية يزيد من انتشارها حقًا، ولكنه يُنقص من جودتها العفوية؟
- هل يوجد حل وسط يفرز العناصر الثقافية التي تقبل التسليع عن التي لا تقبل؟
- التعقيبات:
- التعقيب الأول: د. فهد العرابي الحارثي
لا يمكن للثقافة، في مفهوماتها الواسعة، أن تزدهر، وتحقق طموحاتها، وتواكب عصرها، وتواجه تحدياته، في ظل وجود اقتصاد ضعيف أو مشلول. ومن الصعب أن نتخيل أن التنمية، يمكن أن تدير ظهرها للصناعات الثقافية المهمة، والمدرة للأموال، والداعمة للاقتصاد، والمسهمة في خلق وظائف جديدة، ومن تلك الصناعات الثقافية مثل: السياحة والسينما، والترفيه، والمتاحف، والمواقع الأثرية، والمسرح، والفنون بأشكالها المختلفة، وكذلك مجالات البحوث والتطوير.
فهذه كلها “مصانع” منتجة للثقافة، وهي مستهلِكة لها بصفتها مادتها الخام في الوقت ذاته.
السياحة والسينما يمثلان، أحيانًا، شكلًا من أشكال إعادة تصنيع الثقافة، في المفهوم، وكذلك في المحتوى والمقومات والأدوات والمعالجة، فهما هكذا تتحولان إلى منتجات تدر الأموال، وتخلق الوظائف، وتعزز الاقتصاد، فتؤثران بالتالي في عجلة التنمية، وتسهمان بطريقتهما في حل مشكلات البطالة. وهما مصدران يتعاظم دورهما من يوم لآخر، بل إنهما جاذبتان بطبيعتهما للابتكار الذي يقود دائمًا إلى التطوير، والإتقان، والجودة العالية، وخفض التكاليف.
السياحة لها، منتجاتها، ولها وسائلها في العرض والتسويق والتشويق، ولها منظوماتها من الدراسات والقواعد والإجراءات والتشريعات التي تكفل لها الأداء المستقل الجيد، وتضمن للمستهلك أو المستفيد الحصول على ما يقابل ما ينفق من الأموال. ويمكن أن نتكلم براحة تامة عما نسميه “عولمة” البيئة الإجرائية للسياحة، وبالتالي نشوء حشد معرفي وتقني هائل يساعد في التعريف بالمقومات السياحية في المناطق الجاذبة والمنخرطة في تنافسية الصناعة في أرجاء الكرة الأرضية، ما دفع إلى اكتشاف صيغ مهمة لحوار الحضارات، وسجال الثقافات وقد أضحت هذه الصيغة تؤدي اليوم دورًا مهمًا في المشروع الإنساني الأهم الذي تلخصه هذه العبارة: “مختلفون بلا خلافات”، وإذا استطاع المعنيون بالسياحة تأكيد هذه “الحمولة” الإنسانية المهمة لصناعتهم، فهم سيقومون بالدور الأهم في ترسيخ مشروع “سلام العالم” وأي دور ثقافي أجمل من هذا الدور للسياحة.
السياحة “صناعة” على قدر كبير من الأهمية والتأثير، من الناحية الاقتصادية. فهي في فرنسا أو إسبانيا تمثل المصدر الأهم في الدخل القومي للبلاد. ومن الطبيعي أن يكون من أبرز المنتجات التي تقدمها صناعة السياحة: الثقافة نفسها في مفهومها الشامل. والمقصود بالثقافة هنا ما يتوافر عليه المجتمع من قيم، وخصوصيات في التفكير والسلوك. والمقصود بالثقافة أيضًا تراث ذلك المجتمع في الفنون والتاريخ والآثار والفلكلور والأزياء، والمأكولات، إلخ.
ونظرًا لأهمية السياحة، ثقافيًا واقتصاديًا، فقد كانت تنميتها ودفعها لتكون مصدرًا من المصادر المهمة للدخل هدفًا واضحًا وبينًا لرؤية المملكة العربية السعودية 2030.
والمملكة ضمن الرؤية 2030 نفسها التفتت إلى مناطق الجذب السياحي مثل مناطق الآثار، والمناطق الصحراوية والبحرية، وأنشأت فيها وحولها المنظومات الخدمية التي تعظم من فاعليتها ومردودها المادي.
فضلًا؛ والمملكة تتوافر على ثراء وتنوع ثقافي ملفت قلما يوجد في بلدان أخرى: في العمارة والفلكلور والأزياء والحُلي والمأكولات والرقصات والفنون بشكل عام. ولقد كان هذا التنوع موضوعًا لعدد من الدراسات التي اشتغل عليها باحثون شغوفون، وإن كانت -وما زالت- هناك كنوز كثيرة في التراث الثقافي السعودي لم تكتشف بعد، وهي تحتاج إلى جهود كبيرة لدراستها وتوثيقها والتعريف بها، واستثمارها ثقافيًا وسياحيًا.
الترفيه يتداخل غالبًا مع السياحة في كثير من مجالاتها، وهو في ذاته منتج ثقافي، ولا سيما في جانب الفنون على مختلف صيغها، فضلًا عما تتوافر عليه الطبيعة ذاتها من فرص ترفيهية في البر والبحر، وفي المرتفعات والجبال والسهول والصحاري والشطآن.
والسياحة منظومة كبيرة من الخدمات التي تتطلب بنية تحتية متكاملة في النقل والإسكان ومراكز التسوق، ما يعني خلق مجالات رحبة للاستثمار، وخلق فرص عمل لا محدودة. والسياحة كذلك ليست فنادق ووسائل نقل فحسب، بل هي، بالإضافة إلى ذلك، إعادة هيكلة للثقافة المحلية برمتها: التراث والآثار ومناطق الترفيه. وهي فوق ذلك إعادة صياغة لسلوك المواطنين، وطريقة تفكيرهم، وحسن تقديرهم لعلاقاتهم مع الآخرين في ظل ثقافة جديدة تقتحم عليهم جدرانهم الحصينة.
من الصناعات المهمة أيضًا التي يلتقي فيها الاقتصاد والثقافة لدعم التنمية، السينما إنتاجًا واستهلاكًا.
تشير بعض التقارير إلى أن مؤشر الأثر المضاعف لصناعة السينما تراوح بين 2 في بريطانيا و2.67 في أستراليا، والمتوسط العالمي 2.43 مما يعني أن كل دولار ينفق على القطاعات الثلاثة (الإنتاج – التوزيع – العرض) لصناعة السينما يكون مردوده على الناتج المحلي 2.43 دولار.
يضاف إلى ذلك أن صناعة السينما تعتبر محركًا أساسيًا لعدد من الصناعات الإبداعية الأخرى مثل النشر (الرواية وكتابة النص) والفنون التمثيلية، والموسيقى، والتصوير، والتصميم، والأزياء، والبرمجيات، والعمارة (تصميم وديكور مواقع التصوير)، التلفزيون (أحد منافذ العرض للأفلام) والإعلان (لتسويق الأفلام).
ويندرج في هذا السياق من الصناعات الثقافية المسرح، والإنتاج الفني (التلفزيوني خصوصًا).
لا بد أن نذكر هنا أن من النشاطات التي تعد من مولّدات الثقافة صناعة المهرجانات والمعارض والمؤتمرات والاجتماعات. وهي تشمل اللقاءات والتجمعات المنظمة، المتخصصة وغير المتخصصة، التي يرتادها الأفراد أو المنظمات أو الشركات ممن يجمعهم اهتمام أو اهتمامات مشتركة، وتكون تلك الاهتمامات المشتركة هي الحاكمة لتلك اللقاءات أو التجمعات فيما يُقدم من أفكار وآراء، وفيما يُعرض من أوراق عمل أو بحوث أو دراسات أو مشروعات ومبادرات، أو فيما يتداول من سجالات وحوارات للعصف الذهني. وهذا النوع من صناعات الثقافة أصبحت له قواعده وتقاليده وتشريعاته، وهو من وجهة اقتصادية أحد أوجه الاستثمار المهمة والمؤثرة في مسيرة التنمية، فهو عامل فاعل في تنشيط عدد من أوجه الخدمات مثل النقل، والضيافة، والتسوق وخلافه. لا بل لقد قامت اليوم في العالم ما يمكن أن يسمى ببورصة “المتحدثين” في هذه المؤتمرات والمهرجانات، وهم من السياسيين أو المفكرين والمثقفين والخبراء. ونعرف أن من هؤلاء المتحدثين من يصل سعر مشاركته للمرة الواحدة ما لا يقل عن المائتي ألف دولار (750 ألف ريال سعودي).
وفيما يتصل بالبحوث العلمية (الصناعة الثقيلة للفكر) فهي تتطلب كما يعلم الجميع مختبرات، وأدوات، وموادَّ، وباحثين، وإدارات مساندة، وبالتالي ميزانيات للصرف على التنفيذ من أجل بلوغ النتائج. وهذه النتائج نفسها تكون هي “المنتجات” العلمية أو الثقافية التي يتم تسليعها، وتسويقها، وإدراجها في قوائم المنتجات التجارية. وهكذا تكون دورة البحوث العلمية “صناعة” تترجم نفسها إلى وظائف، واستهلاكات، ومحفزات للاقتصاد.
لعلنا نذكر هنا أن الثورات التكنولوجية والمعلوماتية نفسها التي حدثت في العالم هي بطبيعة الحال ذات بُعد ثقافي معرفي، بل إنها هي التي شكلت ما يعرف اليوم بمجتمع المعرفة، الذي نشأ عنه ما يعرف أيضًا باقتصادات المعرفة، التي بشرت وتبشر باقتصادات جديدة غير تقليدية، وتقنيات متقدمة نقلت العالم إلى ما يسمى بالثورة الصناعية الرابعة، ثورة إنترنت الأشياء، والروبوتات، والذكاء الاصطناعي.
وهكذا تزداد علاقات “الثقافي” بـ “الاقتصادي” تقاربًا وتلاحمًا وتبادلًا للمنافع.
وفي المجمل فإننا نعتقد حقيقة أن الاقتصاد اليوم لم يعد يأخذ بزمام السياسة فقط كما كان دائمًا، فهو الحاكم الأول والأميز فيها، بل ينطبق الحال كذلك على موضوع الثقافة نفسها، فالاقتصاد اليوم هو الملهم للثقافة، وهو المعيار، أحيانًا، الذي يقضي بالبقاء، أو يحكم بالزوال.
- التعقيب الثاني: د. منصور زويد المطيري
نظرة في مفهومي الثقافة والتسليع:
تسليع الثقافة (commodification of culture) مصطلح مركب من لفظين آخرين هما في نفس الوقت مصطلحان محملان بأحمال من المفاهيم والمعاني غزيرة: الثقافة، والتسليع. نحاول أولًا الإلماع بلمعة سريعة على مفهوم الثقافة، ثم نلمع إلماعة سريعة أخرى على مصطلح التسليع.
التسليع:
التسليع يعني تحويل الشيء إلى منتج تجاري يباع ويشترى في السوق. وتسليع الثقافة يعني تحويل العناصر الثقافية إلى منتجات اقتصادية تدر عائدًا ماديًا مثلها مثل السلع والخدمات المادية.
وآليات تسليع الثقافة لا تختلف كثيرًا عن آليات توزيع السلع المادية العادية، حيث يكون العائد المادي هو الدافع وراء بيع المنتجات الثقافية، ويكون ذوق الجمهور عاملًا حاسمًا في حصول الأرباح. ومن هنا يأتي الإشكال الحقيقي؛ حيث إن بيع المنتجات الثقافية لا يتم إلا بإحداث تغيير وتعديل على معناها الثقافي الأصلي حتى تكون مقبولة لدى أكبر قدر من المستهلكين في السوق. هذا التعديل يتم عبر آليتين:
- النشر والإذاعة (diffusion) أي نشر وإذاعة وإيصال السلعة الثقافية (المنتج) إلى أكبر قدر من المستهلكين. وهذا يتم عن طريق الدعاية والإعلان.
- التغييب والهدم (defusion) للعناصر الثقافية والسياسية غير المتفقة مع انتشار هذا المنتج الثقافي، وذلك بإسقاط وتغييب أفكارها ومبادئها وقيمها، حتى يمكن نشر هوية ثقافية تتقبل هذه السلعة الثقافية ولا تعارض هذا النمط الاستهلاكي الجديد عليها. يتم هذا بغرض خلق نمط استهلاكي وذوق عام موحد يقبل هذا النوع من التسليع ويطلبه. وهذه الآلية مهمة جدًا لإدراك آليات عمل الحركة المسماة بـ “العولمة الثقافية” وآثارها.
هاتان الآليتان المترابطتان جدًا تقودان حتمًا إلى إحلال قيم وأفكار جديدة محل القيم والأفكار الأصلية أو التقليدية أو المحلية.
يجب الإشارة هنا إلى أن الاتجاه إلى تسليع الثقافة فتح المجال لتصنيعها. ومعنى تصنيعها – كما ذكر ذلك صاحب كتاب عولمة الثقافة (جان فارنيي) – أنها تتطلب تمويلًا ووسائلَ وتقنيةً ضخمة وكبيرة، كما أنها تخرج منتجات متماثلة مثلما ينتج مصنع الأحذية أحذيةً متماثلة، كما أنها أيضًا تنتج وتعمل لأجل السوق وإشباع الطلب فيه. كما أنها أيضًا مبنية على تنظيم العمل على النمط الرأسمالي، فالمبدع يتحول إلى عامل وموظف.
الحوار حول تسليع الثقافة:
تولت مدرسة فرانكفورت النقدية – وبالذات أدورنو – نقد الأساليب الرأسمالية بخصوص الثقافة، حيث اعتبرت أن هذه الأساليب تؤدي إلى التسلط على البشر، فمن خلال ارتباط التسليع بالصناعة وبوسائل الإعلام وبالتقنيات يتم خلق ذهنية مرتبطة بالتقنية هي ذهنية السيطرة والتحكم والخداع، فالملعب الذي تلعب فيه التقنيات الإعلامية داخل مجتمع ما هو ملعب أولئك الذين يسيطرون عليها اقتصاديًا. فالرأسمالية ترى أن الجماهير هي بالدرجة الأولى ” سوق ” ينبغي استثمارها وقولبتها وتوجيهها وإعادة تشكيل ذوقها، وما تحب وما تكره، بل وكل اختياراتها وتفضيلاتها. وترى هذه المدرسة أن تسليع الثقافة أفقد الفعل الثقافي قيمته المنبثقة أصلًا من الحرية والإبداع والتلقائية. بينما التسليع الثقافي يقود إلى التصنيع الثقافي الذي يقتل التلقائية، ويصادر الحرية، والإبداع خارج المصنع الثقافي، ويقولون كم من “شارلي شبلن ” لم تتح له صناعة السينما الظهور؟!!. كما يقولون كم من جوائز عالمية للكتّاب والفنانين وغيرهم حبست اللجانُ المسؤولة عنها، والجهاتُ الممولة لها إبداعات عظيمة لكتّاب وفنانين آخرين، لا توافقُ في إنتاجها ميول هذه اللجان والممولين ولا مصالحهم؟!. كما تحدثت هذه المدرسة عن ” الإمبريالية الإعلامية” التي يقصد بها استخدام قوة وسائل الإعلام الجماهيرية من أجل فرض القيم والعادات والنزعات الاستهلاكية التي تمثل فقط مصالح أصحابها على حساب الثقافات المحلية الأصلية، مستخدمة آلياتِ التضليل لعقول البشر – بما تحمله من العبث بالنظام الإدراكي للناس- لكي تعمل كأداةِ قهرٍ تسعى النخبةُ من خلالها إلى تطويع الجماهير لأهدافها الخاصة.
وبالمختصر تَعتبرُ مدرسة فرانكفورت تسليعَ الثقافة، وما قاد إليه من تصنيعها تحولًا عميقًا في بنية ومفهوم الثقافة، فهو تحول مفروض بآليات غير نزيهة تشرف عليه مجموعة من التكتيكات المرتبطة بالسلطة وبالميول الثقافية والأيديولوجية لها، أدت في ما أدت إلى صناعة التفاهة والانحدار بالذوق.
نوقشت هذه المدرسة من معارضيها وهم كثيرون بأنها مدرسةٌ متشائمة وأنها أخطأت واستعجلت؛ فأغلب أطروحات مدرسة فرانكفورت النقدية ظهرت قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي التي أعطت لكل فرد أملًا ومجالًا للتعبير عن رأيه، وإظهار ابداعاته إن كان مبدعًا. كما انتُقِدَت هذه المدرسةُ بأن أغلب تعميماتها حول الطابع التنظيمي والاستلابي لوسائل الإعلام الجماهيرية لم يكن مبنيًا على بحوث ميدانية، وإنما على جدل فلسفي وتأملي. كما أن هذه المدرسة في نظر معارضيها احتقرت قدرة الذوات والأفراد على الابتكار والتجديد والخيال. فالذوات الفردية تحركها رغباتها التي قد تكون مبنية بعيدًا عن المصنع الثقافي أو معارضةً له. كما أن مدرسة فرانكفورت لم تستطع التفريق بين المنتج الصناعي الثقافي وبين استخدامه. فالتماثل في الإنتاج لا يعني أبدًا التماثل في الاستهلاك والاستخدام.
وجهة نظر حول هذا الجدل:
ابتداءً يجب أن نذكر الحقيقتين التاليتين:
- ظاهرة أو عملية التسليع والتصنيع الثقافي هي نشاط واضح ملتصق بنمط عيش المجتمعات الغربية. فالأيديولوجيات الفكرية والسياسية الدافعة للتصنيع الثقافي، والتقنيات المادية والفكرية المستخدمة فيه، والتطور الحاصل على هذه التقنيات، والخبرات الفنية والتاريخ المتراكم، لهذه العملية كلها؛ إنما هي منتجات غربية ليبرالية رأسمالية، ماديةٌ في نظرتها للوجود. وكل المجتمعات الأخرى قلدتها وتقلدها فيه.
- أَنتجت عملية تسليع وصناعة الثقافة المتولدة عن مجموع عمليات الربط والدمج بين الثقافة وبين الاقتصاد والإعلام وعلم النفس وعلوم التواصل كاللغة واللسانيات والسياسة، مع الخبرة التي تولدت مع مرور الأيام من هذا الدمج، قوةً تأثيريةً هائلة لم تحدث عبر التاريخ. وأصبحت في يد بعض الدول أداة سيطرة تحل محل الجيوش. فبإمكانها بيسر وسهولة خلق عادات ومعتقدات جديدة في مدة يسيرة بغض النظر عن قيمتها وفائدتها. وللتمثيل فقط نذكر مثالين؛ أحدهما قديم، والآخر حديث. فمن الأمثلة الحديثة ما تفعله شبكة نتفلكس مثلًا في نشر الشذوذ الجنسي، وتطبيعه ليكون سلوكًا عاديًا يخرجُ من إطار الجريمة، ليدخل في إطار حقوق الإنسان. وأما المثال القديم فتكمن أهميته في أهمية صانعه وهو إدوارد بيرنيز، الذي يعد الشخصية الأهم التي قلبت موازين الدعاية لتنتقل من التركيز على المنتج أيًا كان، إلى التركيز على ذهنية الجمهور المستهلك مستخدمًا علم النفس والدوافع النفسية. فمثلًا تعاقدت معه إحدى شركات التبغ لتحويل العادة الموجودة عند النساء الأمريكيات التي تمنعهن من التدخين باعتباره من عادات الرجال، إلى دفعهن إلى استهلاكه. وقد استطاع فعلًا تغيير هذه العادة عبر ربط التدخين بحرية المرأة واستقلالها وشجاعتها وحقوقها، وقد انتشر تدخين التبغ بينهن بشكل كبير حينذاك.
أما بخصوص الجدل الدائر بين مدرسة فرانكفورت ومعارضيها المنتقدين لها أن كليهما على حق، فكل منهما ينظر من زاويته داخل الإطار الفلسفي والمعرفي الذي ينتميان إليه (philosophical and epistemological paradigm) وهو الإطار المادي الليبرالي الرأسمالي، فكلا الفريقين يحامي عن الحرية التي هي رأس القيم في المجتمعات الغربية الليبرالية المادية، فالحرية عند فريق هي الفاعل، وعند فريق آخر هي المفعول به، وللمعلومية فالحرية الاقتصادية في الغرب سبقت الحرية الفلسفية. كما أن الجدل بينهما يدور حول من الذي يكيف الآخر؟؛ حيث تذهب مدرسة فرانكفورت إلى أن السلعة الثقافية هي التي تُكيف الجمهور المستهلك، وبالتالي فإن صانعي الثقافة هم الذين يكيفون الجمهور ويرغمونه على ذائقتهم ويشكلونها، موهمين الجمهور أن هذه السلعة جاءت موافقة ومواكبة لما يحب، بينما الحقيقة أن الجمهور لم يطلب ذلك، وكل الذي يفعله أنه يتكيف مع الوضع الجديد فقط بدلًا من معارضته. بينما يرى معارضو مدرسة فرانكفورت أن الجمهور هو الذي يطلب، والصناعة الثقافية تلبي ما يطلب.
لكن المتأمل يرى أن هناك شواهد لا تحصى على صحة نظرة مدرسة فرانكفورت تجاه الاستلاب والقهر الثقافي، بل والاستعمار الثقافي الذي تمارسه الصناعة الثقافية الغربية في بعدها المعولم. وفي المقابل هناك شواهد أيضًا تدل على قدرة الفرد على التأثير والاختيار والفعل الثقافي، ويمثل البعض على ذلك باختراع واكتشاف الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، لكن هذا التمثيل غير مقنع، فعلى الرغم من أنه يكشف عن قدرات الأفراد على التجديد، إلا أنه في نفس الوقت يثبت العكس أيضًا، فالحكومات والشركات الكبرى كانت هي الداعم والمالك الرئيس لهذه الوسائل، ثم إن تقنيات السيطرة التي تذكرها مدرسة فرانكفورت لم تفارق الإنترنت ولا وسائل التواصل الاجتماعي، بل زادت الطين بلة، فأصبحت الدول تشتكي من التلاعب بالرأي العــــــام من قبل خصومها عن طريق هذه الوســـــائل، فكيف بالأفـــــراد؟!!.
العولمة الثقافية:
النشاط القائم على تسليع وتصنيع الثقافة الملتصق بنمط عيش المجتمعات الغربية جرى تعميمه، وأُعطي صفة العالمية. فالثقافات الأخرى – بمفهوم الثقافة المذكور في البداية – في الأجزاء غير الأوربية من العالم يجري العمل على تغييرها وتحويلها لتتطابق مع الثقافة الغربية التي يتم الإصرار على وصفها بالعالمية. ويجري نشر هذه الثقافة الغربية وعولمتها بنفس الآليات التي يتم بها تسليع وتصنيع الثقافة داخل المجتمعات الأوربية. فآليات الــــ (diffusion) والــــ (defusion) المذكورة سابقًا تُستخدم وتُطبق بحذافيرها على الثقافات غير الأوربية، وبشكل أشد تأثيرًا. وكونها أشد تأثيرًا؛ لأنه يجري خلق أمر ثقافي جديد في هذه المجتمعات قبل دخول السلع الثقافية الغربية، وهو خلق الاعتقاد بأهمية السلعة الثقافية الغربية، وخلق الشعور بالحاجة إليها. فمن المعروف أن توزيع السلع في أي مجتمع يعتمد اعتمادًا أساسيًا على وجود ” الحاجة ” إليها، والاعتقاد بأهميتها في حياة المستهلك. والمستهلك أيضًا يطلبها لحاجته إليها، وأهميتها في حياته. ولخلق هذه الحاجة للمنتج الثقافي الغربي خارج حدود المجتمعات الغربية يجب اعتماد الآليتين السابقتين: آلية النشر والإذاعة، وآلية التغييب والهدم والعزل والإبعاد. فما يجري هو ترويج للمنتج الثقافي الغربي، وترويج للحاجة له عبر عملية زراعة لأهميته.
هذا جعل بعض المفكرين العرب -الجابري- يعتقد أن العولمة الثقافية في حقيقتها دعوة إلى تبني “نموذج معين “، وهي عبارة عن أيديولوجيا تُعبِّر عن إرادة الهيمنة، وتقوم على نفي الآخر، واعتماد لسياسة الاختراق الثقافي، بدلًا من التثاقف أو الصراع الثقافي الذي سارت عليه عملية التبادل الثقافي عبر التاريخ.
كما أن هناك تأطيرًا للعقل غير الأوروبي بإطار التبعية عن طريق استعمال مفاهيم عامة تشل حركة هذا العقل كمفهوم التخلف، والعالم النامي وما يماثلهما، التي تجعل العقل غير الأوروبي يحس بالدونية مقابل الآخر المتطور والمتقدم، والنتيجة انكفاء هذا العقل على المحاكاة والتقليد.
الموقف من التسليع والتصنيع الثقافي:
أدعو إلى شيء اسمه الاستثمار في ثقافتنا الخاصة. لا يمكن أن تقوم لثقافة ما قائمة في عالمنا المعاصر دون إدخال الاقتصاد في الثقافة، بل ولا يمكن التأثير والانتشار لثقافة معينة دون استعمال نفس التقنيات التي تستعملها الثقافة الغربية حاليًا. فهذا التراث المتراكم المنصب على عملية التأثير في الأفراد يصعب تجاهله، وليس فيه عيب، وإنما العيب والإشكال هو في الإطار الفلسفي والمعرفي الذي يحكم تقريبًا كل الأنشطة في المجتمعات الأوربية. هذا الإطار المادي العلماني الليبرالي إطار يقود حتمًا إلى فقدان المعنى الغائي للحياة، وإلى العدمية (nihilism) وإلى تبني مذهب المتعة (hedonism) أي أن المتع واللذات هي الهدف الأسمى في الحياة.
ومن هنا أنا أدعو إلى الاستثمار في ثقافتنا الحقيقية (الجوهر والشكل)، فثقافتنا الحقيقية لا تقود إلى فقدان المعنى للحياة الذي هو أساس كل الآفات الناتجة عن التسليع الثقافي الغربي. ويكون هذا عبر الخطوات التالية:
- رفض الاعتراف بعالمية الثقافة الغربية أو كونية الأفكار التي يصدرها الغرب، أي رفض المركزية الغربية، والمقصود رفض الإطار المادي العلماني الليبرالي؛ لأنها ثقافة تمثل جزءًا من العالم فقط هو الغرب الأوروبي، وتخصه وحده. ظهرت هذه الثقافة والأفكار بسبب ظروف هذا الجزء من العالم الاجتماعية والسياسية والدينية والفلسفية، وسيرورة تاريخه الخاص. وكل التطورات التي تحصل في هذه الثقافة، والموضات الفكرية التي تتعاقب فيه هي تطورات وموضات تخص هذا المجتمع وحده. ومن ناحية أخرى فإن الأساس الفلسفي الذي بُنيت عليه هذه الثقافة وهو الأساس المادي والأساس الليبرالي لا يتطابق مع حقيقة الوجود والغاية منها، بل وتتناقض معه؛ فالإشكالات الناتجة عن هذا التناقض والخصام مع حقيقة الوجود لا تحتاجها المجتمعات الأخرى، هي إشكالات تخص المجتمع الغربي فقط. المجتمعات المسلمة مثلًا لها إشكالاتها الخاصة المختلفة تمامًا التي تستدعي صناعة ثقافية مختلفة.
- اعتماد الإطار الإسلامي الذي يدور حول العبودية لله، وما يتبعه من قيم حقيقية تعطي للحياة والوجود معنىً حقيقيًا مطابقًا لفطرة الإنسان. وهذا موضوع يحتاج إلى بسط وشرح كثير؛ لأن أغلب النخب المشتغلة بصناعة الثقافة في مجتمعاتنا يفتقدون المعرفة الحقيقية بهذا الإطار، بحكم التكوين العلمي، وبحكم الخبرات التي اكتسبوها داخل الإطار الفلسفي والمعرفي الغربي، وبحكم الانبهار. فالعقلية التي ظهرت في بداية القرن الماضي، ودعت إلى تقليد الغربيين في كل صغيرة وكبيرة، واستيراد كل ما لديهم حتى الديدان التي تفتك بأمعائهم لا تزال موجودة.
- لا يعني رفض الإطار الفلسفي والمعرفي الغربي رفض الخبرات والمعرفة التي هي من باب المشترك الإنساني التي بلغت فيها الثقافة الغربية شوطًا بعيدًا، وهو أحد أسباب قوة هذه المجتمعات. فالمنتج الثقافي -كما يقول منتقدو مدرسة فرانكفورت- شيء مختلف عن استخدامه. فلنعتمد على هذه القاعدة وهي أن (استخدام المنتج الثقافي الصناعي كالسينما مثلًا متفاوت، بينما إنتاج وتصنيع المنتج نفسه متطابق، فالسينما هي السينما في كل مكان).
- التعقيب الثالث: أ. وليد بن سالم الحارثي
إثر انهيار الاتحاد السوفيتي في نهاية الثمانينيات من القرن العشرين الماضي، تراجعت الثقافة الشيوعية عالميًا. وفي مقابل ذلك أصبحت الرأسمالية هي الأيديولوجيا الأكثر رواجًا. وكان ذلك بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية التي اتجهت إلى فرض الرأسمالية بالإقناع أحيانًا، وبالفرض كثيرًا.
وقد أشار المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما في كتابه: نهاية التاريخ إلى أن: التاريخ سينتهي بسيطرة النموذج الرأسمالي، وتسليع الثقافة في عهده. وسخَّرت الولايات المتحدة كل آلياتها للعمل على جعل الثقافة (ابتداءً من الكتاب، وانتهاءً بالجريدة التي يقرأها الإنسان العادي)، سلعة تباع وتشترى.
ومن الحق أن نقول: أن الرأسمالية تُشير إلى نظام اقتصادي، تكون فيه وسائل الإنتاج مملوكة لشركات تعمل بهدف الربح. وأصبحت الثقافة (وهي مجموعة القيم والاتجاهات والسلوكيات والمعارف المختلفة لأفراد المجتمع) في ظل هذا النظام الرأسمالي سلعة معروضة للبيع والشراء.
واتكاءً إلى ما سبق، وما يمضي إليه العالم اليوم، من الاعتراف بالقوي ماديًا: لماذا لا يكون المهتمون بالثقافة ذوي دخولات عالية؟! وفي عالم يحصل فيه من لا يملكون المعرفة -إذا أردنا ألا نقول الجهلة- مبالغ طائلة من الجمهور المتشوق إلى أي شيء يشغل الساحة: لماذا لا يشغلها المثقفون، ويملؤون الساحة ثقافة؟
ولأن الحقبة الحاكمة في العالم، هي حقبة الرأسمالية فإننا نشاهد في الدول الغربية الكبرى -على سبيل المثال- نماذج المثقفين الأثرياء الذين أثرتهم كتبهم، وأعمالهم. حيث تتسيد شركات النشر التي تعمل مع كُتَّاب شهيرين مثل الأمريكي بول أوستر والياباني هاروكي موراكامي مشهد الثقافة هذا.
ثم إن السؤال المُلِح هنا: حين تدفع جهات مرموقة لرياضيين مبالغ طائلة، لماذا لا تكون هناك جهات تدفع لمثقفين أيضًا مبالغ أغزر منها.
أليس من يلعب -برأسه أولى ممن يلعب بقدميه؟!!
يجب أن تنتهي تلك الحقبة التي تربط الثقافة بالفقر، والمعرفة بقلة الحيلة.
وهذا ما نشاهده في ارتفاع مرتبات العلماء والباحثين في الجامعات، والمؤسسات المتخصصة الفاعلة في المجال الثقافي، والمجالات الأخرى المرتبطة بالثقافة والمعرفة والعلم.
للأسف! يكتب الكاتب قصة محبوكة بدم قلبه، ثم يأتي ممثل لم يقرأ صفحتين من قبل، ليحصل أضعاف مضاعفة من الأموال.. بينما المبدع والكاتب الذي صنع الفكرة أو كتبها لم يحصل إلا على فتات النقود.
وهذا يذكرني بقصة ذكرها لي أحد الأصدقاء، قال: إن إمام مسجدهم في الحي حصل على مبلغ ١٥ ألف ريال لقاء إمامته بالناس لصلاة التراويح في رمضان، فاستنكر أهل الحي ذلك.. لكنهم لم يستنكروا على المطرب الذي حضر يوم العيد حصوله على مبلغ ٣٠ ألف ريال.
فما المانع أن يأتي رجل الدين ورجل الثقافة على قمة من يُدفع لهم!
أود أن أشير هنا أيضًا إلى بروز مفهوم “الاستثمار الاجتماعي” عند تناول موضوع تسليع الثقافة باعتبارها أحد مصادر الدخل. حيث أدت أفعالنا وأنشطتنا اليومية، إلى تغيير ملامح العالم من حولنا، وخلق قيم جديدة وتدمير أخرى؛ على الرغم من أن القيم التي نخلقها تتخطى نطاق ما يمكن شرحه في هذه العجالة. ونتيجة لذلك، تأخذ الأمور التي يمكن شراؤها وبيعها أهمية أكبر، بينما يتم إهمال الكثير من الأمور المهمة.
وحين يعتبر العائد على الاستثمار الاجتماعي هو الذي يقوم على القيمة بدلًا من المال. وهو أساس تحسين الرفاهية في المجتمع عبر دمج التكاليف والفوائد الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وخلافها، يبرز الخط الفاصل بين تسليع الثقافة وبين جعلها بُنية أساسية في المجتمع.
وقد كان للثقافة دور حاسم في بلوغ الهدف الحادي عشر من أهداف التنمية المستدامة، والذي ينص على “العمل على أن تكون المدن والمؤسسات البشرية مفتوحة للجميع، مرِنة ودائمة”.
ولذا اعتبرت الصناعات الابتكارية والبنية التحتية الثقافية موارد ثمينة لتوفير وسائل العيش، ومثل تشجيع تجارة المنتوجات والخدمات الثقافية حافزًا للأسواق المحلية والوطنية، علاوةً على الجوانب غير المادية في الثقافة والتي هي جزء لا يتجزأ من ذلك.
- المداخلات حول القضية
- صناعة الثقافة وتعظيم دورها التنموي.
صاغ عالما الاجتماع “ثيودور أدورنو” و”ماكس هوركهايمر” باحترافية مصطلح “صناعة الثقافة” وذلك في كتاباتهما في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي وبخاصة كتاب جدل التنوير، وما كتباه تحت عنوان “صناعة الثقافة: التنوير وخداع الجماهير”، فهما يريان أن “ثقافة الجماهير” لا تعني أن هذه الثقافة تنبع من الجماهير؛ وإنما هي قد تم إنتاجها وتسويقها للجماهير بهدف تحقيق الأرباح على حساب الثقافة الحقيقية، وهذا التسليع للثقافة يجعل تحقيق الأرباح، حتى بالنسبة لبعض المبدعين، أهم من الإبداع الفني. وهنا يصبح المنتَج الثقافي مثل أي سلعة أخرى من سلع الاستهلاك التي يتم إنتاجها في المصنع عبر خطوط إنتاجية نمطية تقذف بسلع متماثلة، تفتقر إلى الروح الجمالية التي يبدعها الفنان. وعلى سبيل المثال، فقد حلَّت اللوحات المستنسخة بدلًا من اللوحات الأصلية، وهذه المستنسخات يتم إنتاج وطباعة ملايين النسخ منها، وتنتهي كبضاعة شعبية مطروحة في الأسواق كأي سلعة استهلاكية أخرى!
ومما يثير الاهتمام أن أدورنو وهوركهايمر، بحكم توجههما اليساري الماركسي، وانتمائهما إلى مدرسة فرانكفورت التي تنحو إلى اليسار، قد طرحوا موضوع “تسليع” الثقافة في السياق النقدي لـ”الرأسمالية الجشعة”، فهما يريان أن الرأسمالية حوَّلت الإنسان إلى كائن جشع يلهث نحو التملك وتحويل كل شيء في الطبيعة إلى سلع تباع وتشترى. وفي هذه الظروف يصبح المبدع نفعيًا يتحرك وفق بوصلة السوق وليس انطلاقًا من بواعث الإبداع الفني.
لقد حدث في أواسط القرن العشرين ما يشبه الانفجار في ما يسمى بـ”الفن الجماهيري”، و”الثقافة الجماهيرية” وهي تقابل الثقافة العالية أو ثقافة النخبة التي تقوم على أعمال أدباء وموسيقيين ورسامين مثل شكسبير وموزارت ودافنشي وبيكاسو وجيمس جويس ممن تتذوق النخبة القليلة أعمالهم، وكان من أسباب ذلك الثورة التقنية وانتشار وسائل الإعلام الحديثة كالراديو والتلفزيون التي أقبل عليها عموم الناس. وقد اعتبر بعض المفكرين أن ذلك هو “تسليع للثقافة” وابتذالٌ لها وتحويلها إلى صناعة عادية وفق المفاهيم الرأسمالية.
وبذلك أصبحت الحكومات في العالم تساهم بشكل كبير في تسليع الثقافة وإدارتها بشكل يحقق ويخدم أهدافها الأساسية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبعدها سار أفرادها ومؤسساتها على ذات النهج الذي لن يتوقف، وبذلك يمكن القول إن الثقافة والفن بجميع مساراتها أصبحت سلعة مثلها مثل السلع والخدمات الاقتصادية الأخرى.
ومما يبرر القول بتسليع الثقافة، كون إنتاج الثقافة ونشرها هي عملية مكلفة في حدِّ ذاتها، وبالتالي لا بد أن تكون سلعة كبقية السلع؛ فالكتاب على سبيل المثال ورق يتم تصنيعه وشراؤه لطباعة الكتب والصحف والمجلات، وهناك ناشر يدفع للمؤلف ومالك مطبعة يريدان جني أرباح لكي يستمرا في السوق، وهناك موزع يريد نصيبه، إضافة لأصحاب المكتبات وصالات عرض الكتب.
أما الكتب التي تُستخدم كمقررات دراسية في مختلف التخصصات فهي أيضًا لا تقدم للطلاب مجانًا، بل تُباع وبأسعار مرتفعة، وهناك دور نشر عالمية متخصصة في هذا المجال لعل أشهرها دار Sage الأمريكية التي لها شراكات واسعة مع الجامعات والمعاهد الأمريكية، بحيث توفر لها احتياجاتها من المقررات والكتب المتخصصة التي يقوم بالترويج لها عادة الأساتذة، فيقترحون على طلابهم اقتناءها والإفادة منها كجزء من المقررات الدراسية. وبالتالي فإن ما تقوم به دور سيج وماكميلان وروتلج ليست أعمالًا خيرية بقصد نشر المعرفة والثقافة؛ ولكنها صناعة متكاملة وراءها المئات من الشركات والأفراد.
يسري ذلك -أي التكلفة- على جميع مصادر الثقافة؛ فهم يقولون “صناعة السينما” ما يعني أنها بالفعل صناعة كبيرة مدرة للدخل، وليس أي دخل، فقد تبلغ أرباح الفيلم الواحد مئات الملايين من الدولارات ما يعد دخلًا كبيرًا لا يستهان به، ناهيك عن الأعداد الكبيرة من الموظفين والفنيين الذين يعملون على إنتاج الفيلم. يمكن بهذا الخصوص فحص التتر (شارة النهاية) في أي فيلم سينمائي أمريكي؛ فهي عادة تضم مئات الأسماء من المشاركين في إنتاجه حتى وصوله إلى صالات العرض.
ولعل من أفضل الأمثلة على “تسليع الثقافة” هو الأغنية، فقد تم نزع الناحية الطربية منها (جمال صوت المطرب وحسن أدائه، وعبقرية الكلمة واللحن) لتتحول من أغنية طويلة من عدة كوبليهات قد تستمر ساعة من الزمن، إلى أغنية قصيرة جدًا (٤ دقائق) بعد إدخال عناصر جديدة عليها، كاللقطات والصور، والرقص، وملابس المغني أو المغنية، مع إظهار المفاتن في حالة المغنيات الجميلات، لتصبح الأغنية في النهاية مادة بصرية تداعب الحواس في قالب لا يخلو من الايروتيكية المبتذلة.
ينطبق ذلك حتى على كلمات الأغنية ولقطات الفيديو المصاحبة والكورال النسائي. هذا النوع من الأغاني يمكن وصفه بأنه شبيه بالـ fast food يتم استهلاكه بسرعة وخلال فترة زمنية قصيرة ثم يطلب الجمهور غيره، وأغاني هذا النمط لا تستمر أكثر من شهر ثم يتركها الجمهور إلى غيرها.
أحد المطربين ذكر أن عقده مع إحدى شركات الإنتاج يتطلب منه عددًا من الأغاني في السنة، تزيد عن عشرين أغنية يتم توزيعها في أشهر معينة من السنة لضمان انتشارها، في حين أن أم كلثوم -رحمها الله- كانت لا تنتج أكثر من أغنية واحدة في السنة وربما في السنتين، لكنها من نوع الأغاني الخالدة التي يتم سماعها حتى اليوم.
هذا مجرد مثال على التسليع الذي لم يقف عند رسملة الأغنية، ولكنه تعداه إلى حرف ذائقة الجمهور، بحيث أصبح يردد وبكل بلاهة أغنيات تتضمن كلمات تافهة في أحيان كثيرة. وينطبق هذا على موجة ما سُمي في مصر (أفلام المقاولات). كما شهدنا في الدورات الأخيرة من معرض الرياض للكتاب حفلات توقيع (كتب مقاولات) لمؤلفين غير مألوفين!
لكن بعيدًا عن السياق النقدي الماركسي، لا يمكن تجاهل الأثر الإيجابي لتسليع الثقافة في حفظ بعض الثقافات من الاندثار، فعلى سبيل المثال تزايد الطلب من السياح على ثقافة المايا ما حفز المرشدين السياحيين والنحاتين لتتبع دراسات النقوش وعلماء الآثار الذين يعملون في المنطقة من أجل تعلم علم الكون لدى المايا، كما حاولوا تعلم اللغة الأم، مما شجع المتحدثين الأصليين أيضًا لاستخدام لغتهم الأم فساهم ذلك في إحيائها.
وتجدر الإشارة إلى أنه في سياق الحديث عن أهمية ازدهار صناعة الثقافة والضيافة والسياحة في المملكة، فقد سعت مبادرة “روايات الأطباق الوطنية وأطباق المناطق” إلى استثمار القيمة الرمزية لطبقي “الجريش” و”المقشوش” والتعريف بهما إقليميًا ودوليًا. وإذا كان من الواضح أن ما يربط هذا الاختيار هو الاعتماد على منتجات المحاصيل القمحية، فالمأمول أن تكون الحلوى الوطنية السعودية المختارة مصنوعة من التمر – التي اشتهرت السعودية بأنواع مميزة عالميًا منه لا توجد في مكان آخر – فلدينا الحنيني والمحلى والقشد ،والشعته وغيرها من الحلويات السعودية اللذيذة المصنوعة منه. وهو ما يندرج في إطار التأكيد على أهمية الثقافة كرافد اقتصادي ودورها في التنمية المستدامة.
- الثقافة كسلعة وأبعاد الاستثمار بها.
تسليع الثقافة أو ثقافة السلعة ربما يتمظهران كوجهين لعملة واحدة دون أن نشعر في كثير من الحالات اليوم. كما أن تسليع الثقافة كمصطلح ينبغي تحديده في دائرة مفاهيمية خاصة تحصره في الجانب المظلم فقط، بهذه الطريقة يصبح له معنى قابل للتعاطي فكريًا (أو ثقافيًا إن شئت). وهذا النوع من التسليع ليس جديدًا فهو متزامن مع صراع الإنسان الإنسان.
- سياسيًا: قريش الكافرة كانت تكسب من ثقافتها بالأصنام وكيفية التعاطي معها في القرابين وما إلى ذلك، والشيوعية والرأسمالية والحزبية الدينية (الإسلامية والصهيونية والهندوسية) تكسبت من بعدها الثقافي.
- اجتماعيًا: يتكسب المرتزقة من الشعراء والمغنين والفنانين من الناس دون مراعاة لقيمهم الثقافية؛ فالشاعر ينظم قصيدة لمدح عروس لاحظ لها من الجمال كما لو أنه يصف افروديت، ويمدح عريسًا أبخل الناس كأنما هو حاتم، وعليه يقاس.
- ثقافيًا أدبيًا: يتكسب الأدباء والكتاب من تحزباتهم وشلليتهم ليرفّع بعضهم لبعض ويرقع بعضهم لبعض.
- مؤسساتيًا: تستخدم المنظمات شعارات ثقافية لتروج لذاتها وتكسب سمعة، مثلًا: شعار (التعلّم) الذي تدعيه المدارس الخاصة بينما هي لا تطبقه، كذلك شعارات (رؤية رسالة قيم) التي تضعها كثير من المنظمات في ردهاتها ولا تطبق نصفها.
وثمة ثلاثة مستويات أساسية يجب أن تكون محط الاهتمام في مسألة الاستثمار في الثقافة باعتبارها سلعة:
- المستوى الأول: هو مستوى الهوية بحيث يكون محددًا بشكل واضح، وتحديده طبعًا ليس موضوعًا تجريديًا، هو موضوع ينبغي أن تجده في الواقع؛ في التعليم في الإعلام.. وفي كل منافذ التنشئة.
- المستوى الثاني: مستوى التشريعات التي تحدد المجالات الخاضعة للاستثمار، والمجالات التي لا تباع ولا تشترى.
- المستوى الثالث: مستوى الإجراءات والأدلة التي تحكم سلوك الفاعلين في النشاط الثقافي الاقتصادي.
والثقافة إذا أصبحت سلعة فهي قطعًا سوف تتأثر بقواعد اللعبة في ملعب التجارة، لذا قد نجد: سلعة ثقافية مزيفة، وسلعة ثقافية مهربة، وسلعة ثقافية محتكرة، وسلعة ثقافية نادرة، وسلعة ثقافية منتهية الصلاحية، وسلعة ثقافية مخالفة للمواصفات، وسلعة ثقافية تجميع صيني.
الطامة الكبرى إذا كانت الثقافة سلعة تجارية فهي غالبًا تحتاج لعملية (تسويق) وهنا يبدأ الغش والتحايل وتلميع منتج ثقافي عادي على أنه عمل ثقافي بديع وفريد.
الاستثمار في الثقافة قد يكون مطلوبًا؛ لكن بضوابط صارمة حتى لا يبتذل العمل الأدبي والمنتج الثقافي ويصبح فقط (بضاعة) الهدف منها الربح في الأجواء الرأسمالية الجشعة.
تحويل الثقافة إلى سلعة (بحتة) يعرضها لقانون العرض والطلب، وبالتالي إذا وُجِد منتج ثقافي رفيع المستوى، فقد يكون كذلك غاليَ الثمن، وبهذا تتكشف لنا مأساة أن تصبح الثقافة / السلعة حكرًا على طبقة من المجتمع، بينما يحرم الفقراء من رفاهية اقتناء السلعة الثقافية الجيدة؛ لأنها غالية الثمن وهو ما أصبح ملموسًا في الارتفاع الجنوني في أسعار الكتب. ولهذا يجب أن تتوفر طريقة بديلة لوصول المنتج الثقافي ممثلًا في الكتاب إلى يد (المستهلك) بسعر (مدعوم) من جهة راعية للثقافة كما نجده مثلًا في مصر من وجود ما يسمى (قصور الثقافة) أو الهيئة العامة للكتاب والتي تعتبر (منافذ بيع) مخفضة لسلعة الكتب.
والخشية أنه وإذا كانت الثقافية سلعة فربما يصبح المثقف يمكن (المتاجرة به) ويغدو هو الآخر بمكن أن يباع ويشترى.
وفي سياق متصل فإن التكسب المشروع من الثقافة والإنتاج الثقافي أمر مستساغ وقد يكون مطلوبًا لتحقيق الاستدامة المالية والأهداف التنموية. وعليه فإن الاستثمار الثقافي مهم والتكسب من وراء العمل الثقافي مشروع؛ ولكن الهدف من الاستثمار الثقافي مختلف من جهة لأخرى ومن شخص لآخر. ولعل الأجدى في التركيز هو على جانب المؤسسات، فهناك جهات هدفها الأول ربحي بطبيعة الحال؛ ولكن هناك دور للجهات الحكومية في التشريع والتنظيم والحماية، وهناك دور للمؤسسات غير الربحية وكل ما ينتمي للقطاع الثالث في دعم ما من شأنه أن يعزز الهوية ويدعم المبدعين والإبداع الأصيل المتحرر من الأهداف الربحية.
ولعل من الجدير بالإشارة إلى أهمية أن لا يكون الدافع الأساس في المنتج الثقافي هو المال أو غوايات السوق، لأن الدافع الأساس في هذه الحقول الإنسانية يجب أن يكون إثراء الوجدان، وتهذيب الذوق، وتنمية الخيال والحلم والابتكار، فإذا استدر الأموال في نزاهة وعدل، فهذا مطلوب ومرغوب ليكون داعمًا للاقتصاد ودافعًا للازدهار إلى جانب رسالته الإنسانية.
- تسليع الثقافة من منظور اقتصاد المعرفة وكجزء من اقتصاد الدولة.
تسليع الثقافة قد تكون إحدى المصطلحات المصاحبة لعصر اقتصاد المعرفة. ويتضمن هذا المعنى الشمولي مفهوم إعادة التدوير للأنواع الثقافية الموجودة بالفعل بحيث يتم إعادة استخدامها في إطار معطيات اقتصاد المعرفة وهو ما يعني استثمار للموارد الثقافية وليس تسليعًا للثقافة ذاتها بالمعنى الذي يتحفظ عليه البعض.
وفي هذا الإطار فإن أمر (تسليع الثقافة) ومن وجهة نظر مؤيديه لا يستدعي تلك المخاوف على الأعراف والقيم والمعتقدات. فحين يُطبع مصحف ويباع فلن ينقص من قيمة كتاب الله شيء، والأمر ينسحب على أجر معلم حلقة القرآن والمؤذن والإمام، وكذلك استثمار القيم والتقاليد من باب أولى. وقد يكون جزءًا لأحد التوجهات نحو اقتصاديات الوطن، لكي يتم التفاعل بصورة عملية مع متطلبات اقتصاد المعرفة.
وكون الثقافة تقوم على مبدأ القبول والتلاقي والمفيد والمنتج والبناء وعلى الجزء المملوء من الكأس، يدفع إلى عدم إنكار دور الثقافة في اقتصاد الدولة، بالعمل على استدامتها كرافد اقتصادي مهم للدولة، وإبرازها كقوة ناعمة للسعودية.
وعندما نتحدث هنا عن علم الاقتصاد وعلاقته بالثقافة، فهو يهتم بأحد وجوه النشاط الإنساني في العالم المتمثل في النشاط الاقتصادي الذي يشتمل على جميع المخرجات الثقافية التي تتصل بكل من الإنتاج والتوزيع والتبادل، وما يتفرع عنها من ظواهر اقتصادية مثل: التنمية المستدامة والدخل القومي والاستثمار في الثقافة كرافد هام لاقتصاد الدولة وغيرها، لتصبح هي لاحقًا رافدًا مهمًا من الاقتصاد الوطني. ولكن بعيدًا عن تصنيفها كسلعة، وإنما كنتاج فكري ومنتج وطني وموروث شعبي وطعام تقليدي ولبس تراثي وهوية سعودية.. إلخ، يجب إبرازها للعالم الخارجي بشكل يليق بتاريخنا ومكانتنا بين الدول، مع أهمية الموازنة بين القيمة الثقافية والقيمة الاقتصادية.
ولأن هناك من يلهو بالآداب والثقافة والفن، وهناك من يوظفها اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا، ولعل من المناسب هنا اقتباس ما جاء في البروتوكول الثاني عشر من «بروتوكولات حكماء صهيون» أن: “الأدب والصحافة، هما: أعظم قوتين تعليميتين خطيرتين، وصناعتهما هما أشد عوامل التهذيب، ولهذا السبب ستشتري حكومتنا العدد الأكبر من الدوريات”.
إذن ثقافتنا السعودية تحتاج بلا شك لدعم اقتصادي ومعنوي على أكبر المستويات؛ فهي ستنتقل من جيـلٍ لآخر، ومن مجتمع لآخر. مع قابليتها للتعديل والتغيير من جيلٍ لآخر؛ فكل جيل سيضيف لثقافتنا ما يكتسبه، مما يطرأ على حياته من قيم ومبادئ وأفكار وسلوكياتْ ومفاهيم جديدة، لمْ تكن موجودة عند الأجيال السابقة؛ نتيجةً لتغير الظروف.
مع أهمية الحرص على خلق سياسات وآليات تحافظ على الجذور الثقافية لمجتمعنا، وقيمنا الأصيلة وهويتنا السعودية، واختيار الأشخاص المؤهلين لذلك بدقة ودون استثناءات؛ ولعل أجمل ما يميز الثقافة في هذا السياق، أنها: لا تخضع لعملية حسابية تعتمد على ربح أو خسارة. فالتمازج الثقافي، والتفاعل بين مختلف الثقافات يلعب دورًا هامًا في بناء وتنمية أي مجتمع والنهوض به.
- الفنون والموروث الثقافي كمصدر لتدفق الأموال: السياحة الثقافية ودورها التنموي نموذجاً.
تحتلُّ الثقافةُ مكانةً بارزةً في تشكيل هوية أي دولة تتطلَّع إلى أن يكون لها حضور لافت ومؤثر وملهم في العالم. إذ ترتكز الدولةُ (أي دولة) على القوة المادية، والقوة الثقافية في الوقت نفسه. ولذلك لا مناص لها من بناء وتعزيز هويتها الثقافية التي تميِّزها عن غيرها من الدول الأخرى، والسَّعي إلى تشكيل أو تعزيز تلك الخصوصية الثقافية المبدعة التي تستلهم روح المجتمع وتراثه وتاريخه.
وبالتزامن فقد أصبح الاقتصاد هو المتحكم بكل تفاصيل حياتنا والنمط الاستهلاكي، كما أصبح هو المسيطر ويشمل ذلك الآن كل أشكال الإبداع. فإذا أردنا أن نبحث عن مصادر لاقتصاد قوي تمثل السياحة أحد ركائزه، فعامل الجذب الأول هو الفنون والموروث الثقافي، ولكن هناك خوف مشروع من أن تكييف هذه الفنون وهذا الموروث لتلبية الجذب السياحي وتحكم العامل الاقتصادي فيه قد يساهم في تسطيحه وقولبته وربما تدريجيًا يفقد جوهره ويصبح شبيهًا بغيره ويفقد قيمته وفرادته.
ويمكن اعتبار تسليع الثقافة والتراث مصدرًا لتدفق الأموال من جانب السياحة الثقافية، وهو جانب إيجابي خاصة من منظور التنمية المستدامة؛ ولكن من الجانب الآخر، قد يُخشى على الثقافة المحلية من فقدان أصالتها وكذلك إبداعها، خاصة إذا رُبط التسليع بالآثار السلبية للعولمة.
ومن أهم الخطوات التي تساهم في تسويق ثقافة الشعوب والمجتمعات هو أن تتحول إلى منتجات مختلفة يدفع الجمهور الداخلي والخارجي مقابلًا ماليًا للحصول على تلك المنتجات سواء كانت حرفية أو طهيًا، أو موسيقى، أو أزياءً أو غيرها في إطار ما يعرف بتسليع الثقافة.
وقد اختصرت اليونسكو الطريق وجمعت الصناعات الثقافية والتي تشمل ” ١٣ ” نوعًا تحت مظلة ” شبكة الصناعات الإبداعية” وحفزت المدن حول العالم على تسويق ثقافتها من خلال صناعتها الإبداعية التي تشجع الزوار من أنحاء العالم للاتجاه لها وبالتالي تشجع السياحة وتحسن اقتصاد المدينة من خلال رواد الأعمال والأسر المنتجة التي تَعيّـن عرض ثقافتها الأصيلة بقالب جديد. من الأمثلة على ذلك: جلاسو، من مدينة مثقلة بالديون والبطالة واليأس في الثمانينيات الميلادية إلى مدينة من الخمس الأوائل في جاذبيتها للسياحة في أوروبا بفضل التركيز على الثقافة. نفس المفهوم ينطبق على برشلونة، أثينا، روما وغيرها من المدن التي “سلعت” ثقافتها وتحولت لعامل جذب اقتصادي!
ومع وباء COVID-19 حدث توقف كامل لحركة السياحة العالمية، وأصبح الملايين من الناس في الحجر الصحي في منازلهم ويبحثون عن الخبرات الثقافية والسفر، ووجدوا ومن خلال العالم الافتراضي فرصتهم، وأثبتت الثقافة أنها لا غنى عنها خلال هذه الفترة ووصل الطلب على الوصول الافتراضي إلى المتاحف والمواقع التراثية والمسارح والعروض إلى مستويات غير مسبوقة.
مع إغلاق أكثر من 80% من المواقع الثقافية حول العالم من خصائص التراث العالمي لليونسكو، تعرضت سبل عيش الملايين من المهنيين الثقافيين لخطر شديد. إذا كان من المقرر أن تساهم السياحة في بقاء قطاع الثقافة، أي دور السينما والفنون والعديد من القطاعات الأخرى، يجب أن تعزز الهوية الثقافية والعلامات التجارية للوجهات السياحية.
وقد تم إعداد التوصيات التالية من قبل إدارة الأخلاقيات والثقافة والمسؤولية الاجتماعية التابعة لمنظمة السياحة العالمية بالتعاون مع شركائها الدوليين ذوي الخبرة والكفاءة في مجال السياحة الثقافية.
أولًا: الاستجابة الفورية: من خلال الإجراءات التالية:
- تحسين تبادل المعلومات والبيانات بين القطاعات: حيث يعد تدفق المعلومات بين القطاعات أمرًا أساسيًا لفهم تأثيرات الوباء ووضع استجابات فعالة. ستسمح البيانات المحددة حول الآثار الاجتماعية والاقتصادية لـ COVID-19 على الثقافة والسياحة وكذلك حول الحلول التي يتم وضعها لبقاء السياحة الثقافية، بخطط تخفيف أكثر تركيزًا للاستجابة للاحتياجات المختلفة وتكرار الممارسات الجيدة.
- إطلاق تحالفات مبتكرة: أثبت الحجر بالمنازل أهمية التكنولوجيا ووسائل الإعلام الجديدة في حياتنا اليومية، فمع وجود الملايين من الناس محصورين في منازلهم، كانت هذه هي اللحظة المناسبة لتطوير وتعزيز الخبرات الثقافية لجمهور أسير. ويكمن التحدي في تقديم هذه التجارب بطريقة تدعم الفوائد المباشرة للمنظمات والممارسين المعنيين. ومن خلال هذا التحول الرقمي، يمكن للسياحة والثقافة إقامة تحالفات مع شركات التكنولوجيا والقطاع الخاص لتحسين الوصول إلى برامج بناء القدرات في مجال الثقافة والسياحة المستدامة، المتاحة عبر الإنترنت.
- إلهام مستقبل أكثر استدامة للسياحة الثقافية: يجب أن يواصل قطاعا السياحة والثقافة العمل معًا لإلهام مستقبل أكثر استدامة للسياحة الثقافية. وتسلط استراتيجيات التسويق في السياحة الضوء على أشكال التعبير الثقافي المحلي ليس فقط للتحدث إلى جماهير جديدة، ولكن أيضًا لإلهام السفر المسؤول. في الوقت الراهن تتصارع المقاصد والمواقع الثقافية حول كيفية النجاة من فترة النوم تلك، والتخطيط لاستعادة الحركة السياحية.
- تشكيل قوة عمل سياحية وثقافية أكثر مرونة: سوف تتطلب الملامح المهنية للعاملين في الثقافة والسياحة مهارات جديدة لاتخاذ إجراءات فورية والمشاركة في التعافي. تحتاج كل من القطاعات لتطوير حلول التوظيف الإبداعية والابتكارية لتوفير المرونة للقوى العاملة بعد عقود من الدقة. يجب الحفاظ على الوظائف الحالية في السياحة الثقافية ومهارتها، حيث إن المواهب البشرية والمعرفة موجودة بالفعل.
- تعزيز هياكل الحوكمة لتحسين التنسيق وتبادل المعلومات: تمثل هذه الأزمة فرصة رائعة لبناء نماذج حوكمة عبر القطاعات بين الجهات الفاعلة في مجال السياحة والثقافة. يجب أن تشرك هذه النماذج شركاء التكنولوجيا لبناء منصات وتبادل المنتديات لتنسيق الإجراءات وتبادل المعلومات، ويجب أن تتضمن المنصات اتصالًا فعالًا وصنع القرار والاتفاقيات بشأن وضع حدود للتنمية السياحية التي تنطوي على الأصول الثقافية.
- جذب جماهير جديدة: يقوم قطاع الثقافة بتشكيل مواطنين عالميين ملتزمين وسائحي المستقبل من خلال الوصول إلى الشرائح العمرية من الأطفال والشباب، فالروابط العاطفية الناشئة الآن بين المواطنين والمبدعين الثقافيين ستحدث فرقًا في السنوات القادمة، ويمكن للحصر أن يجعل الزائرين المتكررين والسائحين الثقافيين “الكبار” يدعمون الثقافة من خلال أعمال الرعاية والتضامن.
ثانيًا: التعافي؛ وينطوي على الإجراءات التالية:
- التحول من الكم إلى الجودة: تم التركيز خلال الفترات الماضية على قياس نجاح السياحة تقليديًا من خلال إحصائيات تسلط الضوء على أعداد الزائرين، في حين كانت المؤشرات النوعية والملف الشخصي للزائرين أقل أهمية. ويجب أن يتماشى الانتعاش المشترك للسياحة والثقافة بين سياسات المرونة والأولويات الجديدة وقيم القياس الجديدة، بالإضافة إلى استراتيجيات التسويق المصممة خصيصًا لهذا الأمر.
- تنويع المنتج السياحي الثقافي: يجب أن تتناول الوجهات السياحية الأسواق الجديدة والتقليدية وملفات تعريف محددة للزوار الثقافيين، الذين يمكن إعادة تشكيل اهتماماتهم وأولوياتهم بعد أزمة COVID-19. ستتطلب الثقافة الدعم من أجل البقاء والازدهار، لأنها تثري هوية الوجهات وتلهم إحياء السياحة، وقد يتم استبدال بعض التجمعات الثقافية مؤقتًا بمنتجات بديلة مع ظهور سيناريوهات جديدة.
- تعزيز المشاركة المجتمعية والسياحة الداخلية: سيكون لإشراك منصات المواطنين في إعادة إنشاء العرض الثقافي المحلي أهمية اجتماعية واقتصادية استراتيجية، وسيكون دور المجتمعات المحلية ضروريًا في احتضان التدفقات الأولى للزائرين، مع الاحتياطات. ويجب أن نعي أن استعادة ثقة العملاء المحليين سوف تؤدي إلى تسريع المرحلة الأولى من انتعاش السياحة الثقافية.
- تكييف العرض الثقافي للزائرين الدوليين: سيكون تعافي السياحة الثقافية أكثر صعوبة قبل أن يقرر المستهلكون السياحيون السفر إلى الخارج. من خلال تخصيص عروضهم الثقافية، سوف يمكن للحكومات والوجهات السياحية والصناعات الثقافية أن يكون لها امتداد عالمي أكثر، وسيكون للتحالفات الدولية وعبر القطاعات دور رئيسي في ذلك.
- تمكين ريادة الأعمال الثقافية والابتكار: ستكون هناك حاجة إلى الابتكار خاصة في الشركات الصغيرة والمتوسطة والتعاونيات والاقتصاد الإبداعي من أجل الانتعاش، وخاصة لتمكين النساء والشباب والسكان المحليين. سيؤثر COVID-19 بشدة على هذه المجموعات حيث إن اقتصادها غالبًا ما يكون غير رسمي، لا سيما في الوجهات الناشئة. يجب أن نعي أنه سوف تتحسن سبل عيش هؤلاء من خلال تعزيز وصولهم إلى الأسواق وإدماجهم في سلسلة توريد السياحة الثقافية، وسوف يفيد التحول من الاقتصاد غير الرسمي إلى الاقتصاد الرسمي العديد من المجتمعات والوجهات.
- جعل السياحة الثقافية في متناول الجميع: يجب تعزيز سهولة وسلاسة إمكانية الوصول إلى المرافق والمنتجات والخدمات الثقافية لتلبية احتياجات الأشخاص ذوي الإعاقة وكبار السن والأسر التي لديها أطفال صغار والسكان المحليين والزائرين على حد سواء. إن توسيع نطاق وسلاسة الوصول إلى أماكن السياحة الثقافية في الوجهات السياحية سوف يفيد الجميع.
وهذا المؤشر يقودنا إلى تأكيد أهمية الاستثمار في الصناعات الثقافية والإبداعية والمعرفية، لمنزلتها المتنامية في العالم، باعتبارها استثمارًا مستدامًا للتراث والثقافة والفنون والآثار، يُسهم في نمو الاقتصاد وتعزيز المساهمة الاقتصادية للقطاع الثقافي، وتعزيز الوعي بأهمية الاستثمار في المجال الثقافي، وتشجيع الاستثمار في مشروعات ثقافية إبداعية مستدامة.
- آليات الحد من الآثار السلبية لتسليع الثقافة.
ثمة مخاوف متزايدة على الثقافة والهوية من تسليع الثقافة وتداخله مع الجانب الاقتصادي والمبلغ الذي يدفع للسلعة، وكيف يمكن أن تتأثر السلعة برغبة المستهلك فتتغير الثقافة تدريجيًا. هذا جانب، الجانب الآخر هو تسليع ثقافات ليست لنا وبيعها علينا، لإقناعنا بشيء ما. فكيف يمكن أن تساند الأنظمة والقوانين تسليع الثقافة، وكيف يمكن أن تحافظ ذات القوانين على الهوية الثقافية لبلادنا، وكيف يمكن أن تكون هذه الانظمة والقوانين حارسًا لحماية ذهن المواطن من ثقافة معينة باستخدام سلع معينة، مثل ما نراه من تسليع ثقافة الشواذ مثلًا؟
والتصور أن الأنظمة والقوانين يجب أن يكون لها دور في المحافظة على القيم والهوية ومنعًا لتسليع ثقافات ليست لنا وقبولنا بها على المدى الطويل.
ولعل أحد مهددات تسليع الثقافة هو أننا حين نطلق عنان عقولنا في كل آفاقنا الرحبة لنطلب لاحقًا من التطبيقات التي ستهتم بالشأن الثقافي ضمن إطار الذكاء الصناعي، سنجد أنها تجعل غير المثقف ينتج مواد ثقافية قصائد وروايات وقصصًا وكتبًا في موضوعات وقضايا نبز بها أكبر المثقفين وأكثرهم تميزًا وأغزرهم إنتاجًا؛ بل وحتى على مستوى المعرفة الأكاديمية والحصول على الشهادات العلمية ستتيح هذه البرامج خدمات علمية وثقافية تنوب عن الطالب والدارس .وكما كان الكاتب والأديب لا يجني من إنتاجه ربحًا سيواجه مستقبلًا أن هناك من يتفوق عليه ممن لا خبرة له ولا معرفة في المجال نفسه، وهو ما سيزيد من شعوره بالإحباط واليأس .
ومن جانب آخر يفرض التوجه نحو تسليع الثقافة الحاجة إلى أن ننمي ونسلع ثقافتنا؛ ولكن مع المحافظة على قيمنا ولغتنا وقصصنا وكل ما هو حول جغرافيتنا بدون الانحدار أو الانزلاق إلى هوة العولمة وفقدان الهوية. جميل جدًا أن نحافظ على المحرمة والمدورة المكاوية والقط العسيري والكرم الحائلي وغيرها من مظاهر ثقافية في المملكة، ولا نمزجها بنكهات من بلاد أخرى ونميعها.
حقيقة أن الميل الطبيعي للإنسان إلى الابتكار والإبداع قد يدفع إلى التغيير أو الخلط في الثقافة؛ لكي يكون له قيمة اقتصادية أكبر لغرابة المنتج أو (أصالته!) ولكن لا بد أن تكون لنا خطوط حمراء، ولعل تميز مظاهر ثقافية سعودية معينة هو ما يبحث عنه السائح في أي بلد يزوره، ومن ثم فقد لا تحبذ بعض الآراء أن نقبض ثمنًا مقابل تمييع أو تذويب الثقافة المحلية وبيعها للسياحة. واليونسكو ذاتها تشدد في طلب تسجيل العناصر الثقافية على شرط أساسي هو: الأصالة Authenticity حتى لا تتمايع هويات الشعوب المميزة لها من بين الآخرين.
وبتقدير بعض وجهات النظر فيما يخص خطورة تسليع الثقافة فإن القادم سيكون أخطر من ذلك بكثير، إن لم نعمل على السيطرة على ذلك والحد من آثاره. لكن من جانب آخر فقد يكون لهذا الكثير من الآثار الإيجابية والتي ستنعكس على الثقافة والمثقفين، وذلك حين يحسن المثقفون توظيف تقنيات هذا الذكاء الصناعي، إذ سيجدون أن عليهم أن يتفرغوا للإبداع الثقافي، مما قد يسهم بعهد جديد من الإبداع الثقافي الكبير والواسع. وربما يكتشف المثقف لاحقًا أن ما يقدمه الذكاء الصناعي من أفكار وآراء وإنتاج يضيف له الكثير ليحلق في سماء الإبداع.
أيضًا يكمن أحد الحلول المهمة في مواجهة إشكالية تسليع الثقافة في رفع وعي المستهلك لرفض هذه الممارسات أولًا، وطبعًا القصد كل أنواع المستهلكين، وفي مقدمتهم مستهلك الثقافة، وبدون هذا الوعي فلن ينبذ الممارسات الخاطئة وسيظل يتشربها فتزيد كرتها الثلجية.
كما أن الحديث عن وعي المستهلك في مواجهة تسليع الثقافة مسألة هامة يمكن للمؤسسات الثقافية أن تركز عليها من خلال تنمية الذائقة ورفع مستوى الوعي بالفنون والفكر والثقافة.
- التوصيات
- بناء وتعزيز مفاهيم الثقافة السليمة في مناهج التعليم العام والجامعي والتجديد المستمر بحسب معطيات متغيرات الحياة ومتطلباتها في ضوء رؤية 2030.
- تفعيل دور الأندية الأدبية في مختلف مناطق المملكة العربية السعودية، وتطوير آليات عملها، وتوفير الدعم اللازم لها، والعمل على زيادة فروعها وتنويع أنشطتها الثقافية.
- استثناء الكتب وما يرتبط بها من أنشطة من ضريبة القيمة المضافة.
- سن تشريعات وأنظمة تسهل عمل الجمعيات الثقافية ومؤسسات القطاع الثالث غير الربحية وفصلها عن الجمعيات الخيرية، مع توفير الدعم الإداري اللازم لها بتدريب كوادرها على الإدارة الثقافية وطرق التمويل الذاتي لضمان استدامتها.
- إبراز المواقع السياحية والأثرية في المملكة ودعم وتشجيع الفنون والموروثات بصفة عامة (مثل الأزياء والمأكولات والرقص الشعبي … إلخ)
- تشجيع صناعة السينما والموسيقى والمسرح في المملكة والمنتجات الثقافية الأخرى .
- المصادر والمراجع
- عبدالواحد الحميد: تسليع الثقافة.. الوجه الآخر، مجلة القافلة، عدد مارس – إبريل 2021م.
- محمد نجاد: الصناعة الثقافية في المجتمع الرأسمالي: بين تسليع الإنتاج الثقافي وإمكانية تسييس الجمهور، المركز الديمقراطي العربي، يونيو 2021م.
- شهيب عادل: الثقافة والهوية: إشكالية المفاهيم والعلاقة، الملتقى الدولي الثاني حول مجتمع المخاطرة المنعقد يومي 4-5 مايو 2009م.
- دوني كوش: مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، ترجمة: قاسم المقداد، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2002م.
- ناصر محمد الشعلالي: قراءة في مفهوم الثقافتين عند سي. بي. سنو، المجلة الجامعة، العدد العشرون، المجلد الثاني، أكتوبر 2018من ص ص 153-174.
- زياد الدريس، مكانة السلطات الأبوية في عصر العولمة، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2010م.
- ناجي على الصناعي: الثقافة الوطنية بين إشكالية المفهوم والتحديات الراهنة، مجلة القلم، العدد الثالث، يناير/يونيو 2015م، ص ص303-344.
- مجموعة من الكتاب: نظرية الثقافة، ترجمة: على سيد الصاوي، مراجعة: الفاروق زكي يونس، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد (223)، 1997م.
- منجي الزيدي: إشكالية الوحدة والتنوع في الثقافة، مجلة التفاهم، المجلد 18، العدد 67،2020م، ص ص 467-488.
- وزارة الثقافة، المملكة العربية السعودية، متاح على الموقع الإلكتروني: https://www.moc.gov.sa
- المصدر السابق.
- المصدر السابق.
- المشاركون.
- الورقة الرئيسة: د. زياد الدريس
- التعقيب الأول: د. فهد العرابي الحارثي
- التعقيب الثاني: د. منصور زويد المطيري
- التعقيب الثالث: أ. وليد بن سالم الحارثي
- إدارة الحوار: أ. هناء عبدالله العمير
- المشاركون بالحوار والمناقشة:
- معالي الفريق د. عبدالإله الصالح
- د. محمد الملحم
- د. فوزية البكر
- د. وفاء طيبة
- د. عفاف الأنسي
- أ. فائزة العجروش
- د. خالد الرديعان
- د. فهد اليحيا
- د. مساعد المحيا
- د. حسين الحكمي
- د. علي الطخيس
- د. عبدالرحمن العريني
- أ. عبدالله الرخيص
- اللواء م. فاضل القرني
- د. الجازي الشبيكي
- أ.د خالد الثبيتي
- د. أحمد بن حامد الغامدي
- د. منصور المطيري
- أ. فهد الأحمري
- أ.د. محمد المقصودي
- د. سعيد العمودي
- أ. نبيل المبارك
- د. عائشة الأحمدي
- أ. خالد المبيض
- أ. خالد آل دغيم
- أ. خالد المنصور
- د. عبير برهمين