تقرير رقم (111)

1 أغسطس 2023

:تمهيد

تمهيد: يعرض هذا التقرير قضيةً مهمةً تمَّ طرحُها للحوار في ملتقى أسبار خلال شهر أغسطس 2023م، وناقشها نُخبةٌ متميزةٌ من مُفكِّري المملكة في مختلف المجالات، والذين أثروا الحوار بآرائهم البنَّاءة ومقترحاتهم الهادفة؛ حيث تناولت: استشراف مستقبل مدينة الرياض في ظلِّ الرؤية الوطنية ٢٠٣٠، وأعدَّ ورقتها الرئيسة د. وليد الزامل، وعقَّب عليها كلٌّ من أ. د. علي باهمام، أ. د. مشاري النعيم، وأدار الحوار حولها أ. د. فيصل المبارك. المحتويات: تمهيد فهرس المحتويات الملخص التنفيذي. الورقة الرئيسة: د. وليد الزامل تتبُّع النمو العمراني والمخططات الاستراتيجية في مدينة الرياض. تحليل توجُّهات النمو العمراني في مدينة الرياض خلال العقود الماضية. مستقبل مدينة الرياض في ظل الرؤية الوطنية 2030. مقومات النموذج الاستشرافي لمدينة الرياض. التعقيبات: التعقيب الأول: أ. د. علي باهمام (ضيف الملتقى)([1]) التعقيب الثاني: أ. د. مشاري النعيم إدارة الحوار: أ. د. فيصل المبارك المداخلات حول القضية: الدراسات المستقبلية واستشراف مستقبل مدينة الرياض. بعض عوائد المشاريع التطويرية بمدينة الرياض. تحديات التطوير الشامل لمدينة الرياض. التحدي الاقتصادي ومستقبل مدينة الرياض. آليات تحقيق المستهدفات الاستراتيجية لمدينة الرياض. مواكبة الرؤية الوطنية. أهمية التعاون المؤسساتي. الخطة الاستراتيجية للرياض. الذكاء الاصطناعي وتطوير مدينة الرياض. مستقبل الرياض كمدينة مستدامة. خطة متكاملة للنقل في مدينة الرياض. إدارة الرائحة في مدينة الرياض والتصميم الحضري. الرياض كنسخة غير مكررة لمدن أخرى. التوصيات المصادر والمراجع المشاركون

:المحتويات

تمهيد: يعرض هذا التقرير قضيةً مهمةً تمَّ طرحُها للحوار في ملتقى أسبار خلال شهر أغسطس 2023م، وناقشها نُخبةٌ متميزةٌ من مُفكِّري المملكة في مختلف المجالات، والذين أثروا الحوار بآرائهم البنَّاءة ومقترحاتهم الهادفة؛ حيث تناولت: استشراف مستقبل مدينة الرياض في ظلِّ الرؤية الوطنية ٢٠٣٠، وأعدَّ ورقتها الرئيسة د. وليد الزامل، وعقَّب عليها كلٌّ من أ. د. علي باهمام، أ. د. مشاري النعيم، وأدار الحوار حولها أ. د. فيصل المبارك. المحتويات: تمهيد فهرس المحتويات الملخص التنفيذي. الورقة الرئيسة: د. وليد الزامل تتبُّع النمو العمراني والمخططات الاستراتيجية في مدينة الرياض. تحليل توجُّهات النمو العمراني في مدينة الرياض خلال العقود الماضية. مستقبل مدينة الرياض في ظل الرؤية الوطنية 2030. مقومات النموذج الاستشرافي لمدينة الرياض. التعقيبات: التعقيب الأول: أ. د. علي باهمام (ضيف الملتقى)([1]) التعقيب الثاني: أ. د. مشاري النعيم إدارة الحوار: أ. د. فيصل المبارك المداخلات حول القضية: الدراسات المستقبلية واستشراف مستقبل مدينة الرياض. بعض عوائد المشاريع التطويرية بمدينة الرياض. تحديات التطوير الشامل لمدينة الرياض. التحدي الاقتصادي ومستقبل مدينة الرياض. آليات تحقيق المستهدفات الاستراتيجية لمدينة الرياض. مواكبة الرؤية الوطنية. أهمية التعاون المؤسساتي. الخطة الاستراتيجية للرياض. الذكاء الاصطناعي وتطوير مدينة الرياض. مستقبل الرياض كمدينة مستدامة. خطة متكاملة للنقل في مدينة الرياض. إدارة الرائحة في مدينة الرياض والتصميم الحضري. الرياض كنسخة غير مكررة لمدن أخرى. التوصيات المصادر والمراجع المشاركون

:الملخص التنفيذي

  • الملخص التنفيذي:

يتناول هذا التقرير قضية “استشراف مستقبل مدينة الرياض في ظلِّ الرؤية الوطنية ٢٠٣٠”. وأشار د. وليد الزامل في الورقة الرئيسة إلى أن مدينة الرياض شهدت تحوُّلات عمرانية كبرى في سياق توجُّهات الرؤية الوطنية الرامية لتحسين جودة الحياة والارتقاء بالمدن السعودية. كما أن هناك مبادرات نوعية تسعى لتحسين البيئة الحضرية في المدينة ومشاريع ضخمة تم الإعلان عنها مؤخراً وخلال فترة زمنية قصيرة نسبياً. وفي ظلِّ النمو العمراني الذي تشهده مدينة الرياض أُعلنت هذه المشاريع النوعية لتضيف مستهدفات استثمارية ترتقي بتنافسية المدينة لتكون من أكبر عشر مدن اقتصادية في العالم مع نمو سكاني يمكن أن يصل من 15-20 مليون نسمة في عام 2030. واليوم ووفقاً لمتطلبات الرؤية الوطنية 2030، فإن المنظور الاستراتيجي للتخطيط العمراني مختلف؛ فتطوير المخططات الهيكلية ومراقبة مراحل النمو العمراني ثم تطوير المخططات السكنية لم تعُد غايةً في حد ذاتها؛ بل أصبح هناك توجُّه للارتقاء بأساليب المعيشة، وهو الهدف الأسمى للتخطيط العمراني.

بينما أكَّد أ. د. علي باهمام في التعقيب الأول أن عملية الحراك المتسارع الذي تعيشه مدينة الرياض، للوصول إلى مستهدفات برامج رؤية المملكة للمدينة الرياض، ستواجه بالكثير من التحديات، وبالذات في مجال توفير الإسكان الكافي والملائم للنمو السكاني المستهدف. وهذا يستدعي العمل على ضمان أن تُحقِّق التنمية الإسكانية المستقبلية في المدينة الاستدامة في أبعادها الثلاثة (البيئية والاقتصادية والاجتماعية)، بصفتها أهم العوامل المؤثرة في التنمية العمرانية الإيجابية للمدن، ولا سيما أن رؤية المملكة (٢٠٣٠) قد جاءت لتحقق ضمن محاورها الأساسية الثلاثة (مجتمع حيوي، واقتصاد مزدهر، ووطن طموح) التوازنَ بين أبعاد الاستدامة الثلاثة، التي ترتقي بمستوى معيشة المواطن ورفاهيته، وتحسين نوعية حياته وجودتها.

في حين ذكر أ. د. مشاري النعيم في التعقيب الثاني أن الخطاب العمراني المرتبط بمدينة الرياض الذي تكوَّن في السبعينيات مثَّل منعطفاً جديداً في الصورة الذهنية، ويمكن فهم الثقافة المجتمعية/ المتشكلة في تلك الفترة من خلاله، كما يمكن فهم هذا الخطاب اليوم مع هذا الاتساع الهائل للمدينة من خلال التركيز على توجُّهين أساسيين لا يزالان حاضرين حتى اليوم في عمران الرياض؛ الأول: التطوير الشامل المستقل عن السياق العمراني العام للمدينة، والثاني: التطوُّر المؤسسي العمراني في مدينة الرياض، وهو تطوُّر يحتاج إلى مراجعة عميقة.

وتضمَّنت المداخلات حول القضية المحاور التالية:

  • الدراسات المستقبلية واستشراف مستقبل مدينة الرياض.
  • بعض عوائد المشاريع التطويرية بمدينة الرياض.
  • تحديات التطوير الشامل لمدينة الرياض.
  • التحدي الاقتصادي ومستقبل مدينة الرياض.
  • آليات تحقيق المستهدفات الاستراتيجية لمدينة الرياض.

ومن أبرز التوصيات التي انتهى إليها المتحاورون في ملتقى أسبار حول القضية ما يلي:

  • أن تتولى وزارة الشؤون البلدية والقروية والإسكان تحديث نظام التخطيط، وإعادة تنظيم التشريعات العمرانية المنبثقة منه شاملًا تحديث الحوكمة العمرانية لتنسجم مع رؤية 2030، والتي تحثُّ المواطنة المسؤولة والحكومة الفاعلة، ومن ذلك تحفيز المشاركة المجتمعية؛ ويشمل ذلك تحديث الأدلة الإرشادية والمواصفات الفنية، وإجراءات التطوير العقاري التي لا تزال تُصنَّف كإجراءات بدائية قائمة على توفير بعض المرافق وتقسيم الأرض؛ وصولاً لتطوير أحياء سكنية مستدامة تؤكد على الهوية المحلية، وتراعي التباين الاجتماعي والاقتصادي، وتحقق أعلى معايير جودة الحياة.
  • أن تتولى وزارة الشؤون البلدية والقروية والإسكان تطوير خطة إقليمية لمنطقة الرياض، تُؤكِّد على التوجُّه الاستراتيجي لمدينة الرياض في سياقها الإقليمي من خلال تعزيز شبكات النقل وخطوط القطارات الخفيفة، وتنمية المدن الصغيرة كروافد حضرية تتكامل مع المدينة، وتُعزِّز من المشاريع الاستثمارية في مدينة الرياض.
  • أن تعمل الهيئة الملكية لمدينة الرياض على تطوير نموذج تنموي مستدام يؤكد على الاستغلال الأمثل للموارد المائية المتاحة والمناطق البيئية وأنظمة الطاقة المتجددة، بما يتواكب مع النمو السكاني المستقبلي والمشاريع البيئية لمدينة الرياض؛ ويشمل ذلك الاستفادة من المياه السطحية، والسدود، وإعادة ضخ المياه في الأودية، والاستفادة من المياه الرمادية وتلك المعاد تدويرها في ريِّ الحدائق والمناطق الخضراء.
  • تحديث المخطط الاستراتيجي لمدينة الرياض بما يراعي مبادئ النمو الذكي، ويُقلِّل من الزحف العمراني الأفقي؛ من خلال تعزيز نقاط التطوير المُوجّه للنقل العام TOD كمراكز نمو حضري عالي الكثافة، وإعادة تطوير الأراضي الفضاء داخل المدينة، وتنويع استعمالات الأراضي وأنماط الإسكان، واستخدام أنظمة التحليل المكاني المبني على استخدام الذكاء المكاني بما يلبي الطلب المستقبلي لكافة الشرائح الاجتماعية والاقتصادية في المدينة.
  • تحسين البيئة الحضرية في الأحياء السكنية القائمة في مدينة الرياض بما في ذلك معالجة التشوهات البصرية، وتعزيز بيئة المشاة، والتشجير، وتطوير أنظمة البناء، وأنظمة التخلص من النفايات، وإعادة تأهيل البيئة العمرانية للأحياء المتدهورة مع الحفاظ على الرمزية التاريخية للأحياء القديمة واستغلالها لاستيعاب النمو السكاني المستقبلي.
  • دعم الجامعات والمراكز البحثية في تطوير أبحاث لخدمة الإسكان، والمدن الذكية، والأنظمة المتقدمة للتعامل مع البيئات الصحراوية، والاستدامة بشكل يتماشى مع المشاريع النوعية، وينعكس إيجاباً على البيئة الحضرية، ويرتقي بأساليب المعيشة في مدينة الرياض.

 

  • الورقة الرئيسة: د. وليد الزامل

مقدمة:

شهدت مدينة الرياض تحوُّلات عمرانية كبرى في سياق توجُّهات الرؤية الوطنية الرامية لتحسين جودة الحياة والارتقاء بالمدن السعودية. هناك مبادرات نوعية تسعى لتحسين البيئة الحضرية في المدينة ومشاريع ضخمة تمَّ الإعلان عنها مؤخراً، وخلال فترة زمنية قصيرة نسبياً؛ كالرياض الخضراء، وتحسين المشهد الحضري، والمسار الرياضي، والرياض آرت، والمربع الجديد، ومطار الملك سلمان، ومشروع أنسنة حي الملك سلمان. وفي ظل النمو العمراني الذي تشهده مدينة الرياض أُعلِنت هذه المشاريع النوعية لتُضيف مستهدفات استثمارية ترتقي بتنافسية المدينة لتكون من أكبر عشر مدن اقتصادية في العالم مع نمو سكاني يمكن أن يصل من 15-20 مليون نسمة في عام 2030 [1].

إنَّ المتتبع الحصيف لمسار الخطط الاستراتيجية لمدينة الرياض خلال العقود الخمسة الماضية يجد أنها جاءت في سياق رسم توجُّهات مستقبلية لتخصيص الأراضي ومعالجة الطلب المستقبلي على الخدمات لاستيعاب السكان. ومع ذلك، جاءت هذه الخطط العمرانية متأخرةً في معظم الأحوال لمواكبة هذا النمو نتيجة عدم وجود “نموذج استشرافي” يتسم بالمرونة والكفاءة، ويكون قادراً على صياغة مستهدفات واضحة خلال سنة الهدف، والتنبؤ بالقضايا الحضرية المستقبلية ومعالجتها. لقد وضعت الخطط العمرانية خلال العقود الخمسة الماضية مخططات هيكلية لتوزيع نطاقات الأراضي Zoning وفقاً لسنة الهدف، وترافقت مع تقارير وصفية للقضايا الحضرية والإشكالات التي تعاني منها المدينة في مجال النقل الحضري، والإسكان، واستعمالات الأراضي، والبيئة. وفي معظم الأحوال، ركَّزت هذه المخططات على القضية العمرانية في نطاق محلي دون استيعاب شمولي للسياق الإقليمي، ولم تكن متماشيةً تماماً مع النسيج الاجتماعي والاقتصادي. وهكذا جاءت السياسات العمرانية التي تلازمت مع هذه المخططات لتضع حلولاً مثالية أو بعيدة عن الواقع، ولا ترتبط بآليات تنفيذية أو إطار حوكمة يؤكد على مبدأ “المشاركة المجتمعية”، ويقيس المستهدفات ليتحقق من إنجازها ضمن إطار زمني محدد. لقد جاءت مُجمل هذه الخُطط لتصف الإشكاليات الحضرية التي تعاني منها مدينة الرياض بمنظور عمراني محلي قريب المدى وغير خاضع للتقويم المستمر. بعبارة واضحة، يمكن وصف نموذج التخطيط في العقود الخمسة الماضية بـ “النموذج الرد فعلي” القائم على أساس تطوير مساحات الأراضي المستقبلية، وليس “النموذج الاستشرافي” القادر على استيعاب التحديات الحضرية ورسم مستقبل المدينة.

تتبُّع النمو العمراني والمخططات الاستراتيجية في مدينة الرياض:

  • مخطط دوكسيادس

حتى عام 1960م لم يكن هناك مخطط عمراني لمدينة الرياض يُنظِّم عملية التنمية، ويرسم اتجاهات النمو العمراني؛ حيث كان النمو العمراني يحاول مواكبة الاحتياج الفعلي دون إدارة شمولية للأراضي. وفي عام 1971 تم إعداد المخطط الرئيس الأول لمدينة الرياض (دوكسيادس) الذي حدَّد اتجاهات النمو العمراني شمال وادي حنيفة وبشكل موازٍ له. وكما هو مُوضَّح في الشكل رقم (1)، تبنى المخطط النموذج الشبكي للأحياء السكنية بمساحة 4 كلم2. كما حدَّد المخطط مساحةً حضريةً 300 كلم2 منها 150 كلم2 كاستعمالات سكنية تستوعب 760,000 نسمة حتى عام 1985، و1.400,000 نسمة متوقع حتى عام 2000م. ومع ذلك، لم تكن هذه التقديرات قريبةً من الواقع؛ لكونها لم تأخذ تماماً بعين الاعتبار المدخلات الاجتماعية والاقتصادية، وأعني بها طبيعة الأسرة السعودية والثقافة المحلية وتحولات التحضر السريع الذي شهدته المملكة العربية السعودية. تجاوز عدد السكان حاجز المليون نسمة في فترة الثمانينيات، ليتخطى فعلياً 3,000,000 نسمة في عام 2000م، وهو رقم غير محسوب في تلك الخطة. وفي ظل الطفرة الاقتصادية ارتفعت نسبة التحضر من 31% في عام 1960م إلى 51% في عام 1971م [2]. لقد جاء التمركز السكاني في مدينة الرياض ليُضيف عبئاً على إدارة المدينة والأجهزة البلدية حديثة الخبرة في تلك الفترة، ليقتصر دورها على ملاحقة الطلب على الخدمات والمرافق والإسكان بدلاً من إيجاد خطة تنموية شاملة ومستدامة.

شكل رقم (1): المخطط الأول لمدينة الرياض (دوكسيادس)

المصدر: [3]

  • مخطط ست إنترناشونال:

في عام 1976م ومع زيادة النمو السكاني والطفرة الاقتصادية، تمَّ تنقيح المخطط الأول لمدينة الرياض بواسطة شركة ست إنترناشونال، وتم الانتهاء من المخطط في عام 1981م. خصَّص المخطط مساحة 850 كيلو متر مربع للنمو المستقبلي حتى عام 1990م، وبشكل يستوعب عدداً متوقعاً من السكان في حدود 1,600,000 نسمة [3]. وكما هو مُوضَّح في الشكل رقم (2) تمَّ الاحتفاظ بنفس نسق النموذج الشبكي للأحياء السكنية، وصُنِّفت بعض الطرق الرئيسة كمحاور تجارية على جانبيها استعمالات تجارية أو مختلطة. بعض المبادئ التوجيهية في هذا المخطط لم تؤخذ في عين الاعتبار، مثل: تطوير وادي حنيفة كحزام أخضر يندمج في منظومة متنزهات على مستوى المدينة ككل، وتطوير موقع المطار القديم كمتنزه رئيس للمدينة [3]. لقد أصبح النظام الشبكي للأحياء السكنية بمثابة النموذج المكرَّر في مدينة الرياض، وأصبحت هذه الأحياء تفتقر إلى الهوية العمرانية المحلية، كما أنها لم تتماشَ مع تباين النسيج الاجتماعي والاقتصادي للسكان. وبقيت إجراءات للتطوير العقاري تحافظ على هذا النمط التخطيطي الذي يركز على تقسيم الأراضي وبيعها فردياً دون تطوير شامل للحي السكني؛ مما أسهم في زيادة الأراضي الفضاء داخل نطاق المدينة، وشجَّع على المضاربات العقارية. قُسِّمت الأحياء السكنية على هيئة بلوكات سكنية تتخللها شوارع متعامدة، كما انتشرت المحلات التجارية والمدارس والمستوصفات الأهلية على طول الشوارع التجارية في محيط الحي السكني بديلاً عن التركز في مجمعات تجارية مخدومة بالمرافق، وهو ما أسهم في زيادة حجم الازدحام المروري.

شكل رقم (2): المخطط الثاني لمدينة الرياض (ست إنترناشونال)

المصدر: [3].

  • مخططات الهيئة الملكية لمدينة الرياض:

في عام 1994م اعتمدت الهيئة الملكية لمدينة الرياض – الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض سابقًا – مُخطط سياسات وضوابط الأراضي، حيث تمَّ تقسيم مراحل النمو العمراني إلى مرحلتين: الأولى من عام 1994 إلى 2000م، والثانية لاستيعاب النمو العمراني من عام 2000 – 2005م [3]. وكما هو مُوضَّح في الشكل رقم (3)، أكَّد هذا المخطط على أهمية الحفاظ على الموارد البيئية وإعادة تأهيلها كمتنزهات طبيعية، ودمجها ضمن السياق الحضري، كما وضع المخطط نطاقات للنمو العمراني في محاولة للحد من الانتشار الأفقي الذي أسهم في تباعد أجزاء المدينة وصعوبة الوصولية وضعف المركز.

النطاق العمراني الأول النطاق العمراني الثاني مناطق محمية بيئياً

 

شكل رقم (3): ضوابط التنمية للنطاق الأول والثاني لمدينة الرياض لعام 1994

المصدر: [3].

أما المخطط الاستراتيجي لمدينة الرياض (MEDSTAR) فقد ركَّز على توجيه التنمية الحضرية المستقبلية لمدينة الرياض ومعالجة القضايا التي تواجه المدينة ضمن إطار تحقيق بيئة حضرية مستدامة للأجيال الحالية والمستقبلية. وسعى المُخطط الاستراتيجي لمواجهة عدد من التحديات المستقبلية ذات العلاقة بالنمو السكاني والإسكان؛ حيث وضع المخطط الاستراتيجي تقديراً لإجمالي عدد السكان المتوقع استيعابهم في المدينة باستثناء مناطق الضواحي يعادل 8,351,437 نسمة في عام 1450هـ وبمتوسط كثافة عامة 63 شخصاً في الهكتار [4]. واجه المخطط الاستراتيجي تحديات عديدة في سياق التصدي لقضايا الفقر الحضري، واستكمال شبكات البنية التحتية وخاصة تصريف مياه السيول والمرافق العامة للمناطق غير المخدومة، ومشاريع الإسكان وزيادة نسبة الأراضي الفضاء داخل النطاق العمراني. لقد اتسم النمو العمراني في المدينة بالانتشار الأفقي وبمعدلات كثافة منخفضة، حيث تركَّزت الكثافات العمرانية على محاور الحركة الرئيسة (محاور الأنشطة) أو الطرق الرئيسة [4]. وكما هو مُوضَّح من الشكل رقم (4) وضع المخطط الهيكلي للمدينة تصوُّرات مكانية ووظيفية للسياسات الحضرية، ووضع عدداً من الأنشطة الرئيسة ومراكز العمل CBD وشبكات المرافق العامة والمناطق المفتوحة. ويلخص الشكل رقم (5) مراحل النمو العمراني في مدينة الرياض.

شكل رقم (4): المخطط الهيكلي لمدينة الرياض 1450هـ

المصدر: [4]

 

1 2
المرحلة الأولى عام 1940م: ما قبل التخطيط 

المساحة: 416 هكتاراً

عدد السكان: 50,000 نسمة

الكثافة: 120 شخصاً / هكتار

المرحلة الثانية 1970م: المخططات الاستشارية (دوكسيادس) 

المساحة: 7,590 هكتاراً

عدد السكان: 420,000 نسمة

الكثافة: 55,3 شخصاً / هكتار

3 4
المرحلة الثالثة 1980م: المخططات الاستشارية (ست إنترناشونال) 

المساحة: 24,701 هكتار

عدد السكان: 760,000 نسمة

الكثافة: 30. 7 أشخاص/ هكتار

المرحلة الرابعة 1996م: مخططات الهيئة الملكية لمدينة الرياض 

المساحة: 61,965 هكتاراً

عدد السكان: 3,100,000

الكثافة: 50.0 شخصاً/ هكتار

 

5

  

 

 

المرحلة الخامسة 2016م: مخططات الهيئة الملكية لمدينة الرياض

المساحة: 131,021 هكتاراً

عدد السكان: 6,506,700 نسمة

الكثافة: 50 شخصاً/ هكتار

شكل رقم (5): مراحل النمو العمراني في مدينة الرياض

المصدر: المعلومات والخرائط من [5].

تحليل توجُّهات النمو العمراني في مدينة الرياض خلال العقود الماضية:

لقد نمت مدينة الرياض على امتداد محاور الطرق الرئيسة، وتوزَّعت اتجاهات النمو العمراني على وجه الخصوص في الجزء الشمالي والشرقي من المدينة حيث توجد الأراضي بكثرة. وتشير تقديرات موئل الأمم المتحدة إلى أن مساحة كامل الأراضي القابلة للتطوير ضمن حدود مرحلة النطاق العمراني 1450هـ 230,833 هكتاراً، أي تعادل 63% ضمن حدود مرحلة النطاق العمراني لعام 1450هـ. وهو ما يعني أن 5% من مساحة التوسع المستقبلي سوف تكون كافية لاستيعاب النمو المستقبلي مع الأخذ بعين الاعتبار متوسط كثافة 150 شخصاً/ هكتار [5].

إن تحليل الوضع الديموغرافي في مدينة الرياض يلعب دوراً مهماً في تحديد سياسات التنمية العمرانية وأنماط الإسكان المتاحة. لقد شهدت مدينة الرياض نمواً سكانياً غير مسبوق خلال العقود الماضية من 1,389,500 نسمة في عام 1986م إلى حوالي 2,083,400 نسمة في عام 1990م؛ وصولاً إلى 3,116,800 نسمة في عام 1996م؛ ثم 4,260,192 نسمة في عام 2004م؛ و6,506,700 نسمة في عام 2015م. وتشير آخر إحصائية صادرة من الهيئة العامة للإحصاء أن عدد سكان مدينة الرياض بلغ 7,009,120 نسمة في عام 2022م، ويُشكِّل 82% من إجمالي سكان منطقة الرياض البالغ عددهم 8,591,748 نسمة [6]. وهو ما يعني تركُّز جهود التخطيط العمراني محلياً على مدينة الرياض دون استيعاب شمولي للسياق الإقليمي في المنطقة. وعلاوة على ذلك، فإن مراحل النمو السكاني لا تزال بعيدةً عن الاستراتيجيات المرسومة حيث أثرت العديد من المدخلات الحضرية الجديدة على التركيبة السكانية في المدينة.

في العقود الماضية، اتسمت توجُّهات النمو العمراني لمدينة الرياض بكونها ردود أفعال للمشاكل الحضرية الراهنة دون أن ترسم نموذجاً لتوجُّه مستقبلي شمولي يدمج كافة قطاعات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية في سياق المدينة. بعبارة أخرى، انشغلت إدارة المدينة بحلِّ المشاكل الحضرية الآنية، مثل: الازدحام المروري، والإسكان، وتوفير الخدمات والبنى التحتية دون تطوير توجُّه استراتيجي مستدام يرتقي بأساليب المعيشة، ويُحقِّق التوازن بين الأبعاد البيئية والاقتصادية والاجتماعية. كما جاءت العديد من الاستراتيجيات العمرانية بحلول بعيدة عن استيعاب الموارد والإمكانات المتاحة في المدينة، لتزيد من توسُّع المدينة الأفقي دون تحليل لمدى قابلية المدينة للتوسع العمراني، وهو ما أسهم في زيادة نسبة الأراضي الفضاء داخل المدينة، وارتفاع أسعار الأراضي، وصعوبة الوصولية، ونقص المساحات الخضراء، وانحسار دور مركز المدينة.

لقد طُوِّرت العديد من المخططات السكنية بهدف عقاري لاستيعاب الطلب (الكمي) دون الأخذ في عين الاعتبار التباين الاقتصادي للسكان، ومستوى الجودة، ونوع الخدمات، واعتبارات البيئة، والأنماط الاجتماعية؛ وهو ما ولَّد في نهاية المطاف فكراً نمطياً، تقليدياً، تراكمياً عن الأحياء السكنية باعتبارها أوعية رتيبة ومكررة لاستيعاب السكان، وليست نظاماً اجتماعياً اقتصادياً يرتقي بالمجتمع ويُحقِّق التنمية بمفهومها الشامل القائم على أساس بناء الإنسان من خلال الاستغلال الأمثل للموارد في المدن.

مستقبل مدينة الرياض في ظلِّ الرؤية الوطنية 2030:

اليوم يمكن أن نقول بشكل نظري ووفقاً لمتطلبات الرؤية الوطنية 2030: إن المنظور الاستراتيجي للتخطيط العمراني مختلفٌ؛ فتطوير المخططات الهيكلية ومراقبة مراحل النمو العمراني ثم تطوير المخططات السكنية لم تعد غاية في حد ذاتها؛ بل أصبح هناك توجُّه للارتقاء بأساليب المعيشة، وهو الهدف الأسمى للتخطيط العمراني. هناك مصطلحات عمرانية عديدة بدأت بالانتشار الواسع منذ إطلاق الرؤية الوطنية عام 2016م، مثل: تحسين جودة الحياة، وتحسين المشهد الحضري، والتحول للمدن الذكية، والاستدامة، واستثمار المدن؛ وكلها تصبُّ في سياق تحقيق مستهدفات الرؤية الوطنية في بناء مجتمع حيوي، واقتصاد مزدهر ووطن طموح. لقد أصبح السعي نحو التنمية المستدامة وتحويل المدن السعودية من مدن “مستهلكة” إلى مدن “منتجة” ترتقي بأساليب المعيشة وتُحقِّق فُرصاً وظيفيةً للسكان وبشكل يتسق مع الاحتياجات الاجتماعية، ويتكيَّف من البيئة؛ وذلك من خلال تطوير مشاريع تنموية كبرى تسهم في توليد الاستثمارات، وتؤكد على تنويع مداخيل الاقتصاد الوطني، وتغيير هيكلة الاقتصاد من اقتصاد ريعي قائم على البترول إلى اقتصاد قائم على موارد المدن واستغلال الطاقات الكامنة بها.

إنَّ تنفيذ مثل هذه المستهدفات على أرض الواقع يُشكِّل تحدياً كبيراً، ويتطلب تعديلاً هيكلياً لمسار “التخطيط العمراني” في المدن بما فيها الكوادر البشرية، والتشريعات العمرانية، وآليات المشاركة المجتمعية، وتحديث أنظمة التطوير العقاري التي لا تزال متأخرةً عن مواكبة هذه التحولات. بعبارة أخرى، هذا يعني تحوُّل مسار “التخطيط العمراني” من فكرة التخطيط وفقاً لـ “النموذج الرد فعلي”؛ والذي ينظر إلى المدينة باعتبارها “المدينة الريعية” أو “المدينة المستهلكة”، والقائمة على أساس استيعاب السكان وتوفير احتياجاتهم الرئيسة، وتطوير مخططات (فنية) لتقسيمات الأراضي إلى “النموذج الاستشرافي” الذي يؤكد على مبدأ “المدن المنتِجة” أو “المدن المستدامة”، والتي تعتمد على الاستغلال الأمثل للموارد وتوظيفها للارتقاء بأساليب المعيشة، وإيجاد مصادر دخل للمدن. هذا التحدي الكبير يقتضي تحسين البنية الهيكلية لـ “التخطيط العمراني” في مدينة الرياض أولاً قبل المضي قُدماً في تطوير مشاريع عمرانية نوعية قد تستنزف فيما بعدُ جهوداً كبيرةً لربطها ضمن السياق الحضري للمدينة.

التساؤل المطروح؟

إن الباحث العمراني الحصيف يطرح تساؤلاً هاماً حول مستقبل مدينة الرياض وماهية المشاريع النوعية في المدينة، وكيف يمكن أن تؤثر على السياق الحضري؟ كيف يمكن لمدينة الرياض أن تتخذ دورها ضمن السياق الإقليمي كرافد للمدن الصغيرة؟ وكيف يمكن أن نستشرف مستقبل المدينة في ظلِّ التحديات العمرانية من جهة، والمشاريع النوعية الرائدة من جهة أخرى؟ والسؤال الأهم: هل يمكن أن تتماهى هذه المشاريع مع مدينة الرياض لتعزز قيمة مضافة للمدينة، أم أنها سوف تصبح بمثابة مشاريع نموذجية أشبه بكتل “معمارية” تحيط بها الإشكالات الحضرية من جميع الجوانب كسفينة تلاطمها الأمواج وتُبحر من دون بوصلة اتجاه؟ وأخيراً، هل التشريعات العمرانية الحالية تساعد المدينة على تطبيق التحولات العمرانية الطموحة؟

لقد أصبح لزاماً المضي قدماً بالتخطيط لـ “النموذج الاستشرافي” حول مستقبل مدينة الرياض، وأعني به صياغة إطار لتوجُّه استراتيجي واضح المعالم للمدينة غير قائم على الاجتهادات أو المشاريع الفردية المنعزلة، والتي يمكن أن تستهلك من البنية التحتية للمدينة، وربما لا ينعكس تأثيرها الإيجابي على المدينة. بعبارة واضحة، نحن بحاجة إلى إعادة تصوُّر لمفهوم شمولي لـ “التخطيط العمراني” كمنهج يترجم احتياجات المجتمع، والأبعاد الاقتصادية والبيئية وصولاً للارتقاء بأنماط المعيشة للسكان.

مقومات النموذج الاستشرافي لمدينة الرياض:

لاستشراف مستقبل واعد لمدينة الرياض، من الأهمية العمل بالموجهات الإرشادية التالية:

أولاً – السياق الإقليمي: من الأهمية بمكان تطوير تصوُّر عمراني لمدينة الرياض لا يجردها من سياقها الإقليمي من خلال الاعتماد على نظام عمراني مرن يحقق الترابط بين المدن الصغيرة والكبرى، حيث تكون مدينة الرياض بمثابة المزود للخدمات والمحرِّك الرئيس للتنمية، وتسهم في توليد الفرص الاقتصادية للمدن الصغيرة، وتُعزِّز من الهجرة العكسية لتلك المدن. وكما هو مُوضَّح في الشكل رقم (6) لا بد من العمل ضمن سياق خطة إقليمية تكاملية وليست محلية، تؤكد على مبدأ “المشاركة المجتمعية” والتخطيط الترددي من أعلى الهرم (السلطة العليا) إلى أسفل، ومن الأسفل إلى أعلى في صناعة السياسات العمرانية، ومن خلال تتبُّع مستويات التخطيط العمراني وسد الفجوات السكانية في منطقة الرياض بدايةً من المستوى الوطني فالإقليمي ثم المحلي. كما يجب أن تقترن المخططات الاستراتيجية مع آليات تنفيذية، وإطار حوكمة يراقب مؤشرات التقدُّم في الخطة ويشارك فيه كافة أصحاب المصلحة Stakeholders بمن فيهم المجتمع. وهكذا يمكن استشراف مستقبل التنمية وحل الإشكالات الحضرية المحلية في سياقها الإقليمي، وصولاً لتحقيق الكفاءة والمساوة والاستدامة.

1-المستوى الوطني 2-المستوى الإقليمي (المنطقة) 3-إقليم مدينة الرياض
4-حاضرة الرياض 5-مدينة الرياض 6-الحي السكني

شكل (6): النظام الاستشرافي يأخذ في عين الاعتبار مستويات التخطيط العمراني

المصدر: [5]

ثانياً – التشريعات العمرانية: لاستشراف مستقبل واعد لمدينة الرياض يتواكب مع تطلعات الرؤية الوطنية 2030، لا بد من تحديث التشريعات العمرانية في سقف يؤكد على مفاهيم استدامة المدن، ويحافظ على توازن الجانب الاقتصادي بحيث لا يؤثر الاستثمار على البيئة أو المجتمع؛ بل يكون رافداً يُعزِّز من استدامة الموارد، ويحافظ على حقوق الأجيال المستقبلية. ومن الأهمية بمكان تحديث التشريعات العمرانية التي لم تقدم خلال العقود الخمسة الماضية أحياء سكنية تؤكد على الهوية المحلية والتنوع الاجتماعي والاقتصادي. هذا التحديث يجب أن يأخذ في عين الاعتبار تطبيق مؤشرات جودة الحياة لبناء أحياء سكنية ترتقي باحتياجات المجتمع.

ثالثاً – تعزيز أنظمة النقل ومستويات الوصولية للمشاريع الكبرى: من الأهمية بمكان استغلال المشاريع النوعية كمراكز حضرية في مدينة الرياض ذات كثافات عالية، وبالتالي تعزيز أنظمة النقل وربطها بشكل متكامل يخدم المدينة، ويؤثر على المحيط العمراني. أعني بذلك، ألا تكون هذه المشاريع ككيانات فردية مستقلة ضمن نطاق المدينة، أو أشبه بمناطق نموذجية داخل مدينة مليئة بالإشكالات الحضرية. لا بد من رسم تصور استراتيجي بعيد المدى للنقل على مستوى المدينة يربطها بالمدن الصغيرة والضواحي المجاورة، ويمكن أن يتحقق ذلك من خلال أنظمة القطارات الخفيفة، وبشكل يعزز من استقرار السكان في المدن القريبة واستخدام القطارات الخفيفة للذهاب إلى مراكز العمل في مدينة الرياض.

رابعاً – إعادة هيكلة استعمالات الأراضي: تعَدُّ استعمالات الأراضي جزءاً هاماً في منظومة النقل الحضري؛ لكونها تسهم في توليد أو جذب الرحلات المرورية. ومدينة الرياض بوضعها الحالي تتوزَّع فيها استعمالات الأراضي بشكل أفقي مما يزيد من حجم الحركة المرورية، ويُفاقم من الازدحام المروري، ولن يُجديَ تطبيق أنظمة النقل العام في ظلِّ التوزيع الحالي لاستعمالات الأراضي؛ لعدم وجود مراكز حضرية عالية الكثافة. الخطوة المستقبلية يجب أن تؤكد على إعادة تخطيط استعمالات الأراضي في المدينة ضمن سياق مبادئ “النمو الذكي”، بحيث تتوزع المراكز الاقتصادية والتجارية والمختلطة في مناطق يمكن أن تخدم النقل وتساعد على سهولة الوصولية بديلًا عن التوزيع الأفقي الشريطي. مع ضرورة استغلال الفراغات والأراضي البيضاء داخل النطاق العمراني من خلال تطبيق أنظمة رسوم الأراضي بحيث يتم التأكيد على تطوير الأرض النفعي ومنع المضاربات العقارية على الأراضي، على أن يتم استغلال مداخيل هذه الرسوم في تحسين البيئة العمرانية الحالية.

خامساً – تحديث أنظمة وإجراءات التطوير العقاري: لا يزال نظام التطوير العقاري “تقليدياً”، ولا يتواكب مع تطلعات الرؤية الوطنية في بناء أحياء سكنية نموذجية تُحقِّق الاحتياج الكمي والنوعي ضمن إطار جودة الحياة، وأعني بذلك أن تكون الأحياء السكنية نواةً لبناء الإنسان وتنمية المجتمع. إجراءات التطوير العقاري تتسم بالفردية والنمطية، وهو ما أفرز نسيجاً عمرانياً متشابهاً ومكرراً، حيث لا توجد هوية عمرانية لتلك الأحياء السكنية. وتبدأ مراحل تحديث إجراءات التطوير العقاري بوضع اشتراطات للشركات العقارية للحدِّ من النهج التقليدي القائم على الاجتهادات الفردية، وتحقيق مكاسب للمستثمرين. يمكن أن تتضمن هذه الاشتراطات الملاءة المالية، وتوفر كوادر بشرية متخصصة، وزيادة نسبة الخدمات النوعية، وتخصيص مساحات لمشاريع الإسكان تزيد من مخزون الإسكان في السوق وتحافظ على التوازن في الأسعار، واشتراط تطوير نسبة من المخطط بشكل كامل بدايةً من البنية التحتية وحتى الهيكل العمراني؛ لتقليل المضاربات العقارية على الأراضي الفضاء.

  • التعقيبات:
  • التعقيب الأول: أ. د. علي باهمام

تتميز الرياض، عاصمة المملكة العربية السعودية عن غيرها من مدن المملكة، بأن نشاطها الاقتصادي يمثِّل نصف مجمل الاقتصاد الوطني غير النفطي، وأن تكلفة النمو السكاني فيها يعَدُّ الأقلَّ بين المدن. كما أنها تتمتع ببنية تحتية ممتازة، وشبه مكتملة خاصة في مجال الطرق والنقل العام. لذا، نجد أن ولي العهد السعودي قال: “كل الخصائص التي تمتلكها الرياض تعطي ممكّنات لخلق وظائف، وخلق نمو في الاقتصاد، وخلق استثمارات، وخلق العديد من الفرص”. وعليه، نُظر إلى مدينة الرياض لتكون محورًا رئيسًا في تعزيز نمو الاقتصاد المحلي، من منطلق أن الاقتصادات العالمية تقوم اليوم، وبشكل أكبر، على المدن عوضاً عن الدول. لذا، هدفت الرؤية ضمن برامجها إلى جَعْل مدينة الرياض من أكبر عشرة اقتصاديات مدن في العالم في عام ٢٠٣٠، مع نمو سكاني يصل إلى ما بين ١٥ و٢٠ مليون نسمة، لتكون وجهة رئيسة جاذبة للاستثمار العالمي والسكاني.

يتضح مما سبق أهمية موضوع “استشراف مستقبل مدينة الرياض في ظلِّ الرؤية الوطنية ٢٠٣٠”، بصفته موضوعاً ملحاً في ظل مستهدفات برامج الرؤية لمدينة الرياض. وقد ناقشت الورقة الرئيسة في ثناياها تاريخ النمو العمراني المعاصر لمدينة الرياض، مع استعرض للمخططات الاستراتيجية الموجَّهة لنموها ضمن العوامل التي أثَّرت عليها، من منطلق أنها كانت في الغالب معالجات للمشاكل والتحديات التي واجهت مدينة الرياض خلال مراحل نموها. وقد قدَّمت الورقة عدداً من التساؤلات عن مستقبل مدينة الرياض، مع التأكيد على الحاجة إلى صياغة إطار لتوجُّه استراتيجي واضح المعالم للمدينة، من خلال مفهوم شمولي لـ “التخطيط العمراني” بوصفه منهجاً يترجم احتياجات المجتمع، والأبعاد الاقتصادية والبيئية، وصولاً للارتقاء بأنماط المعيشة للسكان، واختُتمت باستعراض أهم المقومات التخطيطية لاستشراف مستقبل مدينة الرياض.

ومما لا شك فيه أن عملية الحراك المتسارع الذي تعيشه مدينة الرياض، للوصول إلى الهدف المرسوم لها، ستُواجه بالكثير من التحديات، وبالذات في مجال توفير الإسكان الكافي والملائم للنمو السكاني المستهدف. وهذا يستدعي العمل على ضمان أن تُحقِّق التنمية الإسكانية المستقبلية في المدينة الاستدامة في أبعادها الثلاثة (البيئية والاقتصادية والاجتماعية)، بصفتها أهم العوامل المؤثرة في التنمية العمرانية الإيجابية للمدن، ولا سيما أن رؤية المملكة (٢٠٣٠) قد جاءت لتُحقِّق ضمن محاورها الأساسية الثلاثة (مجتمع حيوي، واقتصاد مزدهر، ووطن طموح) التوازن بين أبعاد الاستدامة الثلاثة، التي ترتقي بمستوى معيشة المواطن ورفاهيته، وتحسين نوعية حياته وجودتها. وبما أن الإسكان يمثِّل النسبة الكبرى من مجمل النسيج العمراني لأي مدينة، وبما أن مدينة الرياض تستهدف نمواً سكانياً قد يصل إلى عشرين مليون نسمة؛ فإن توفير الإسكان المحقِّق للاستدامة (البيئية والاقتصادية والاجتماعية) يجب أن يكون إحدى الركائز التي ينطلق منها استشراف مستقبل مدينة الرياض. إن العناية بموضوعَي التيسير والاستدامة في توفير الإسكان ستؤدي إلى تجنُّب أي مشاكل مستقبلية من الناحيتين الكمية والنوعية، حيث يمكن توفير عدد أكبر من المساكن عن طريق تخفيض التكلفة الأولية، بالإضافة إلى رفع العمر الافتراضي للمساكن، وكفاءة استهلاك المياه والطاقة، والتقليل من التأثيرات السلبية لإنشاء المساكن على البيئة.

لقد تأثَّرت الأنماط والنماذج الإسكانية المعاصرة في مدينة الرياض، مثل بقية مناطق المملكة، بالخلفيات الاجتماعية الثقافية للأماكن التي نُقلت منها، وهو ما يجعل العناية بتحقيق الاستدامة الاجتماعية الثقافية في قطاع الإسكان إحدى المشاكل والتحديات التي تواجه مستقبل مدينة الرياض. فعلى الرغم من أن التطوُّر الأمثل لإسكان يحقق الاستدامة الاجتماعية الثقافية للمجتمع، يتشكل عادةً في منحنى منتظم، من دون طفرات، يتم من خلاله الحفاظ على استمرارية المجتمعات في تكوينها الاجتماعي الثقافي، المحقِّق لارتباط الإنسان بمسكنه وجيرته وحيه، ومن ثَمَّ بمدينته؛ إلا أن الإسكان في مدينة الرياض مرَّ بمرحلة من الانقطاع عن المسار الطبيعي للتطوُّر الاجتماعي الثقافي. فقد أدَّت زيادة حركة الهجرة إلى مدينة الرياض إلى الحاجة لتوفير عدد كبير من المساكن في فترة قصيرة، وخاصة عندما تقرر نقل الوزارات والهيئات الحكومية إلى مدينة الرياض. وبما أن أساليب وتقنيات البناء “التقليدية”، المتاحة في ذلك الوقت، كانت غير قادرة على تنفيذ الأعداد الكبيرة من المساكن في فترة قصيرة؛ فقد تم تنفيذ مشروع إسكان موظفي الوزارات والهيئات الحكومية في الملز، بتقنيات بناء حديثة ومستوردة، قادرة على إنتاج الأعداد الكبيرة من المساكن ضمن مدة أقصر؛ ونتيجة لذلك استورد معها نمط إسكاني جديد للتصميم العمراني للمناطق السكنية، ولتقسيمات الأراضي، وللتصميم المعماري للوحدات السكنية. وطُبِّق بعده النظام الشبكي في مخططات تقسيمات الأراضي، وأصبحت نماذج الوحدات السكنية الكبيرة من نوع الفلل، والوحدات السكنية المشتركة من نوع الشقق وما شابهها، النموذجين السائدين، واستمرت بعد ذلك نتيجة للتشريعات المعتمدة وتطبيقها.

أدَّى انتشار المساكن الكبيرة في مدينة الرياض إلى هيمنة الكثافة المنخفضة على غالبية المناطق السكنية، ومن ثَمَّ الاتساع الأفقي للمدينة، بما صاحبه من مشاكل عمرانية. ولمعالجة هذه المشاكل، وتوفير بيئة سكنية ميسرة ومستدامة، يتعيَّن العمل على رفع الكثافة السكنية، بصفتها حلاً مــن الحلــول الإيجابيـة غـير المكلِّفـة للاسـتغلال الفعَّـال لـلأرض، الذي يعمل عـلى تخفيـض تكلفــة حيــازة الأراضي، وتكلفــة توفــير البنيــة التحتيــة، ومن ثَمَّ زيــادة عــدد الوحــدات الســكنية لــكلِّ مســاحة مــن الأراضي؛ وهو ما يؤدي إلى تيســير عمليــة تمكــين الأسر مــن الحصــول عــلى المســكن وامتلاكــه. بالإضافة إلى أن رفع الكثافة يحدُّ مـن الاعتـماد عـلى السـيارات في رحلات طويلة للتنقـل، والتخلص مـما يصاحبـه مـن تكاليـف إضافية وتلـوث بيئي للمدينة. إن رفـع معـدلات الكثافـة السـكنية إلى معـدلات متوسـطة يُقـدِّم حـلاً إيجابيـاً غـير مُكلِّـف لتحسـين بيئة المناطــق الســكنية، إذا أُخــذ في الاعتبــار الأبعــاد الثقافيـة الاجتماعيـة، ورُوعيت جوانـب الاسـتدامة البيئيـة والاقتصاديـة، أمـا إذا أُهملـت هـذه الأبعـاد والجوانـب فقـد تظهـر تأثـيرات سـلبية لرفـع الكثافــة.

إن إيجاد بيئة ســكنية ذات جــودة يتطلب أيضاً العملَ على إبراز الإرث الثقــافي في تشــكيل الأحياء وتصميــم المســاكن، والعنايــة بتعزيـز أمن المناطـق السـكنية، والحـد مـن الحـوادث المروريـة فيهـا، وتحقيـق الاسـتدامة الاجتماعيـة فيهـا؛ مــن خــلال زيــادة المناطــق الخضـراء والســاحات المفتوحـة، وتمكيـن السـكان مـن التنقـل عـلى الأقـدام بيُـسر وأمان؛ لتشـجيعهم عـلى الوجـود في الفراغات الخارجيــة، ومزاولــة الرياضــة، وتحقيــق الاســتدامة البيئية مــن خــلال توفـُّـر نظــام صحــي لجَمْــع النفايــات والتخلــص منهــا في الأحياء الســكنية، والحــد مــن التلــوث، والحــرص عــلى ترشــيد اســتهلاك الميــاه والكهربــاء، والعنايــة باســتخدام بدائل الطاقـة المتجـددة في المسـاكن، والعمـل عـلى توطـيـن صناعتهــا، وتوفرهــا بأسعار منافســة، ووضــع الاشــتراطات اللازمــة لتطبيقها.

بينما يتطلَّب تمكـين الأسر مـن الحصـول عـلى المســكن الملائم العملَ على توفير إسكان ذي جـودة نوعيـة، يتوافـق مـع إمكانية الأسر الماليــة، ويُحقِّــق متطلباتهــا الوظيفيــة والاجتماعيــة، عــلى أن يتــم تقديم بدائل متنوعــة مــن المســاكن المناسبة لجميــع فئات المجتمــع؛ وهذا يستدعي العنايــة بمواضيـع متعـددة، تشـمل: تطويـر معايير التصميـم العمــراني والمعــماري الميــسر وأساليب تطبيقهــا، وتعديـل تنظيـمات بنـاء المسـاكن واشـتراطات تخطيط المناطــق الســكنية، وتطويــر تقنيــات وأنظمة بنــاء تعتمـد التصنيـع جزءاً مـن عمليـة إنتاج المكونـات المعياريــة ســهلة التركيــب لبنــاء المســاكن بالجملــة، وتوطيــن صناعتهــا في المملكــة، وجَعْلهــا متوفــرة بأسعار منافســة في أسواق التجزئة، بالإضافــة إلى توفير قنــوات جذَّابــة ومتنوعــة للادخــار مـن أجل المسـكن، مــع بدائل ميــسرة للتمويــل.

وفي الختام، إن توفير إسكان يحقق مستهدفات الرؤية الموضوعة لمستقبل مدينة الرياض يستلزم العمل على إجــراء مجموعــة مــن الدراســات والبحــوث التطبيقيـة؛ بعضهـا في الجوانـب المعماريـة والعمرانيـة (فيــما يتعلــق بمعايــير تصميــم الأحياء السـكنية والمسـاكن)، وبعضها في الجوانـب الهندسـية (فيـما يتعلـق بتطويـر تقنيـات بنـاء المسـاكن المصنَّعــة ومركباتهــا المعياريــة)، أو في الجوانــب التنظيميــة (المشــتملة عــلى الأنظمــة والاشــتراطات واللوائــح)، أو في الجوانــب الاقتصاديــة (لتطويــر برامـج الادخـار وقنواتـه)، أو في البرامـج التحفيزيـة لتشــجيع الإبــداع والابتــكار (ســواء في جانــب التصاميــم، أو مركبــات البنــاء، أو الاســتفادة مــن الطاقـة المتجـددة، وغيرهـا)، أو في مجـال تطويـر لوائـح وتنظيــمات قطــاع الإســكان غيــر الربحــي.

 

  • التعقيب الثاني: أ. د. مشاري النعيم

المدينة كائنٌ حيٌّ، وهو ما يعني أن هذا الكائن يحلُّ في جوهره الحاجة إلى الحركة وإلى الاقتصادي وإلى الثقافة والمشهد الجميل، وإذا كنَّا نتكلم عن مدينة بحجم الرياض بكل تجاربها التخطيطية التي استعرضتها الورقة الرئيسة الشاملة، فلا بد أن نتحدث عن الجانب الآخر غير المرئي الذي يعطي أي مدينة هويتها ويرسخ فيها روح المكان. هذا التعقيب يتحدث عن تجربة “المكان الآخر” أو “العمارة الأخرى”، وأقصد به التطوير الموازي الشامل الذي ركَّز على “الاستقلال الثقافي العمراني”، وخلق بيئات عمرانية متفردة لم تتحول إلى أمثلة تُحتذى للأسف.

التأثير الذي تركه مخطط “دوكسيادس” على الحركة العمرانية في الرياض امتدَّ إلى مجالات مختلفة، سواء على مستوى التنظيم وسن القوانين العمرانية أو على مستوى إعادة تعريف “الشكل العمراني”؛ لكن إذا ما حاولنا أن نتتبع تسلسل تطور الأفكار العمرانية في الرياض بعد المخطط، سوف نجد أنه كان هناك تحولٌ عميقٌ في منهج الإنتاج العمراني الشامل، ونقصد هنا تطوير مناطق عمرانية بشكل متكامل بمعزل عما يجري من تطوُّر طبيعي لنسيج المدينة العمراني، أو ما يمكن أن نُسمِّيه “التطوير العمراني الموازي”. هذا يجعلنا ننظر إلى عقد السبعينيات الميلادية على أنه الفترة التي بدأت الرياض تتخذ فيها منحى لعمران موازٍ لنسيج المدينة الطبيعي تمثَّل في نشأة المدن المصغَّرة المغلقة وشبه المغلقة ذات الوظائف الخاصة وشبه الخاصة، والتي شكَّلت إلى يومنا هذا إحدى خصائص الهوية العمرانية لمدينة الرياض.

ليس بالضرورة أن التطوير العمراني الموازي (الشامل) كان مرتبطاً بمخطط “دوكسيادس” من الناحية الجغرافية التنظيمية؛ بل قد يكون تطويراً مستقلاً، كما حدث في حي السفارات، وفي حرم جامعة الملك سعود، وفي العديد من المدن الصغيرة المستقلة التي نمت وسط النسيج العمراني لمدينة الرياض؛ لكن وجود المخطط (دوكسيادس) بمحاوره الحركية وامتداداته الجغرافية جعَل من قرار بناء تلك المشاريع قراراً مبرراً. وحتى نكون مُنصفين، يجب أن نُفرِّق بين وجود المبرر الذي يدفع إلى اتخاذ قرارات عمرانية محددة، والكيفية التي تمت بها معالجة هذه القرارات وربطها بجسد المدينة الطبيعي. فإذا كان المخطط الجديد لمدينة الرياض في تلك الفترة وجَّه الأنظار لإمكانية خلق “بؤر مؤمكنة” شاملة ومستقلة، إلا أن تشكُّل هذه البؤر عمرانياً وتشكيليا حمَل العديد من الأفكار التي غيَّرت من هوية الرياض العمرانية بعد ذلك. إذًا، يمكن القول إنه تطوَّرت “شبكة” من الأفكار العمرانية بعد المخطط، لكنها كانت أفكاراً في طور البداية، ولم تصل إلى مرحلة النضج إلا بعد أن أصبحت أفكاراً مستقلةً، وصاحبها مشاريع خاصة بها، حيث تحوَّلت تلك الأفكار إلى واقع تدريجي تكوَّن خلال فترة زمنية بعضها كان طويلاً نسبياً، والبعض الآخر كان قصيراً.

يمكن أن ننظر للمشاريع الجديدة التي أطلقها سمو ولي العهد مؤخراً على أنها امتداد لهذا التوجه المبكر في خلق مكان موازٍ لنسيج المدينة الطبيعي. ومع ذلك، لا يمكن أن نعطي الفضل لنشأة التطوير العمراني الموازي لمخطط “دوكسيادس” فقط، بل يجب أن نعود لأول نقلة عمرانية موازية في الثلاثينيات الميلادية عندما قرَّر الملك عبد العزيز بناء “مجمع المربع”، الذي يمكن اعتباره أول تطوير موازٍ متكامل خارج سياق المدينة التاريخي. ولعل تلك النقلة هي التي شجَّعت الملك سعود في الخمسينيات أن يتبنى تجربتين يمكن اعتبارهما ضمناً تجارب مهمة، هما: مجمع الناصرية وحي الملز، حيث شكَّلا تجربتين موازيتين للتطور العمراني العفوي لمدينة الرياض في تلك الفترة. إذاً، كانت هناك تجارب مهمة لخلق تجمعات عمرانية مبتغاة، أو أن صانع القرار كان يراها حلولاً مثالية يصعب تعميمها على كافة أجزاء المدينة، فمثَّلت حلولاً مستقلةً، وأسهمت في خلق نوع من المقارنة المستمرة بين صورتين ذهنيتين لعمران الرياض كما حدث في الناصرية والملز عندما وصفهما الناس بالرياض الجديدة مقارنةً بالمدينة التاريخية (القديمة).

نشأة وتطوُّر المفاهيم أو الصور المتضادة، غالباً ما يُحدث نوعاً من الارتباك في تحديد “الهوية”، فهل الرياض هي الجديدة أم التاريخية أو كلتاهما؟ ظهور الصور الذهنية العمرانية المتضادة يمكن اعتباره بداية تطوُّر “مأزق الهوية”، فقد تطوَّرت “الهوية العمرانية المتعددة الأقطاب” لتُحدِث خللًا في الانسجام البصري والمكاني، وبالتالي الثقافي في المدينة. ولأن الرياض كانت تتجه بخُطى ثابتة نحو بناء مدينة حديثة تُضاهي المدن الكبيرة حول العالم، لذلك لم يكن هناك أي توجُّه للعودة للوراء؛ لكن تطوَّرت رغبة متصاعدة للبحث عن حلول مغايرة لاستعادة روح المكان، والتخفيف من ازدواجية الصور الذهنية، والتقليل من ارتباك الهوية العمرانية، وإنْ كان من الصعوبة بمكان الوصول إلى حلول مثالية لها. فهل يمكن إذاً اعتبار المشاريع الكبرى الجديدة هي حالة تعويضية لعدم قدرة المخططات الاستراتيجية لمدينة الرياض على تحقيق الصورة الذهنية المبتغاة لمدينة الرياض؟ هذا السؤال محوريٌّ لفهم المستقبل، وماذا يجب علينا فعله، فالورقة الرئيسة تنتقد “تخطيط ردود الفعل”، وهي مُحقة في ذلك، فكيف نُصنِّف هذه المشاريع ضمن الطرح الذي طرحته الورقة.

لقد استمر هذا الارتباك إذاً حتى اليوم مع امتداد الحلول العمرانية الموازية المستقلة عن باقي عمران الرياض، وهو ارتباك صار يتقلص، ليس لتقلص وجود هذه الحلول؛ بل على العكس فالرياض تُقدِّم حلولاً عمرانيةً موازيةً لافتةً (المربع والمكعب و”النورث بول” وحي الملك سلمان، وغيرها)، فهل الصورة الذهنية العمرانية لدى ساكن الرياض اتسعت كثيراً، وخبرة الناس البصرية تجاوزت ما هو موجود، وصارت توقعاتهم العمرانية غير محدودة. هذا مجرد افتراض يحتاج إلى اختبار، لكنه قد يقودنا إلى كيف يفكر ساكن الرياض اليوم، وما الصورة الذهنية التي تشكَّلت لديه حول عمران الرياض؟

أيُّ خطاب جدلي غير مُوجَّه غالبًا ما ينتج عن تطوُّر الصور المتضادة في البيئة العمرانية، بحيث يتطوَّر هذا الجدل للشعور بوجود “هوية مزدوجة” أو ربما عدة هويات مجتمعة في مكان واحد. ليس بالضرورة أن تكون تلك الهويات مرتبطةً بالقديم والجديد أو الأصيل والمعاصر أو الجميل والقبيح؛ بل ثمة خطابٌ جدليٌّ متعدد الأقطاب يخلق هويات متعددة. وإذا ما أردنا أن نفهم كيف بدأ سكان وزوَّار الرياض يُشكِّلون صورهم العمرانية فسوف نشعر بوجود صورتين عمرانيتين شبه متضادتين في الرياض كانتا حاضرتين في أذهان الناس قبل أن يتطوَّر حي السفارات في نهاية السبعينيات، وقد ازداد هذا بشكل واضح بعد ظهور الحي كواقع عمراني يمثِّل التطوير الموازي المتكامل بصورة مثالية. فقد أسهم الحي بشكل جوهري في خلق ما يمكن أن نُسمِّيه “المكان الآخر” الذي حاول أن يستعيد القيمَ المكانية الجوهرية للمدينة التاريخية، ويُقدِّمها بأسلوب معاصر.

مثَّل حي السفارات، الذي لم يكن مغلقاً أمام الناس، مرحلةَ الانتقال من المفاهيم المتضادة المباشرة التي صنعت مقارنةً لدى الناس بين القديم والجديد إلى المفاهيم المتضادة التي تحمل في داخلها توجُّهاتٍ فكريةً جدليةً مرتبطة بالنسيج العمراني العام للمدينة والمكان الآخر الذي قدَّمه الحي. ورغم أن الناس لم يُقحموا أنفسهم في ذلك الجدل إلا أنهم صاروا يشعرون أنه يمكن إيجاد بيئة عمرانية أفضل من تلك التي يرونها في باقي الرياض. لا نستطيع أن نُنكر أن حي السفارات عمَّقَ من جدل الهوية العمرانية، ونقل هذه القضية إلى الوعي المجتمعي بدلاً من أن يكون محصورا بين المتخصصين. ومع ذلك، فقد كانت مساهمة المجتمع الفكرية محدودةً، وتمثلت في رغبات معلنة أحياناً ومكبوتة في كثير من الأحيان، تمثَّلت بشكل واضح في أن الرياض تستحق أن تستعيد شخصيتها العمرانية، فطالما أن هناك مثالاً موجوداً على أرض الواقع يمكن أن يحقق هذه الرغبة، فلماذا لا تُعمَّم الفكرة، وهو الأمر الذي لم يحدث!

ثمة اتفاقٌ بين المهتمين بالأنثروبولوجيا البنيوية Structural Anthropology على أن المفاهيم المتضادة تشكل الجوهر العميق لأي ثقافة، وغالباً التغير في معاني هذه المفاهيم يعني وجود تغير حقيقي في الثقافة المجتمعية بشكل عام، وبالتالي فقد كان واضحاً أن مجتمع الرياض تجاوَز المقارنة بين القديم والجديد في نهاية السبعينيات، ودخل مرحلةً جديدةً من المقارنات تركز على جودة الفضاءات العمرانية وملاءمتها الاجتماعية ومدى اكتمالها الوظيفي. يصعب كذلك التوقف عن المفاهيم المتضادة كحدود فاصلة، بل غالباً ما يوجد منطقة مشتركة هي التي تمثل “التوجه التوفيقي” بينهما، فالأصالة والمعاصرة تشكلان مفهومين متضادين متلازمين، ولطالما كان الجدل يدور حول التوفيق بينهما.

إذاً، الخطاب العمراني الذي تكوَّن في السبعينيات مثَّل منعطفاً جديداً في الصورة الذهنية، ويمكن فهم الثقافة المجتمعية/ المتشكلة في تلك الفترة من خلاله، كما يمكن فهم هذا الخطاب اليوم مع هذا الاتساع الهائل للمدينة من خلال التركيز على توجُّهين أساسيين لا يزالان حاضرين حتى اليوم في عمران الرياض؛ الأول: التطوير الشامل المستقل عن السياق العمراني العام للمدينة، والثاني: التطور المؤسسي العمراني في مدينة الرياض، وهو تطور يحتاج إلى مراجعة عميقة كما أشارت له الورقة الرئيسة.

 

  • المداخلات حول القضية:
  • الدراسات المستقبلية واستشراف مستقبل مدينة الرياض:

تبرز أهمية الدراسات المستقبلية وما تحتويه من نموذج استشرافي، وهو نموذج يتسم بالمرونة والكفاءة، ويكون قادراً على صياغة مستهدفات واضحة خلال سنة الهدف، والتنبؤ بالقضايا الحضرية المستقبلية ومعالجتها.

إن مقياس النجاح في استشراف المستقبل يعتمد على مبدأين لا ثالث لهما؛ يتلخص الأول في: خَلْق ثقافة الاستشراف عند جميع فئات المجتمع ومكوناته، وتوضيح أهمية الدراسات المستقبلية واستشراف المستقبل بالتفكير الاستراتيجي بما سيكون عليه الحال في الغد، واتخاذ الإجراءات والخطوات اللازمة للوصول إلى تحقيق أعلى مراتب النجاح فيما تمَّ تحديده من أهداف. بينما يتمثَّل الثاني في: التخطيط السليم القائم على أساس علمي لهذا الاستشراف مع الاستفادة من دروس الماضي والحاضر في تكوين مخزون معرفي يمثل المرجع الأمثل لعملية الاستشراف.

وبشكل عام، تُقسِّم الدراسات المستقبلية الاستشراف إلى نوعين، هما:

  • الاستشراف الاستباقي (الهجومي)، والذي يركز على محاولة السبق في تحقيق نتائج معينة، ولا يريد التعامل مع الأحداث من خلال ردة الفعل (وهذا ما تضمنته الورقة الرئيسة حول أهمية تحويل مسار “التخطيط العمراني” الحالي من فكرة التخطيط وفقًا لـ “النموذج الرد فعلي” إلى “النموذج الاستشرافي” الذي يؤكد على مبدأ “المدن المنتجة” أو “المدن المستدامة”. وهو غالبًا ما يسبق التخطيط الاستراتيجي.
  • الاستشراف الدفاعي، والذي يركز على الجانب الوقائي من خلال رسم سيناريوهات للمستقبل لمواجهة الأزمات واستثمار الفرص المستقبلية.

واستشراف المستقبل العمراني الذي وردت الإشارة إليه بالورقة الرئيسة، هو لرسم نَهْجٍ استباقي يُمكن تحويله إلى واقع ملموس يرتقي بالتخطيط العمراني كعمل مؤسسي مبني على أُسُسٍ ومعايير مبتكرة، يرتكز على النتائج المُحَقَّقَةِ؛ لتحقيق أعلى معدلات لرضا السكان وسعادتهم من خلال تحسين جودة حياتهم، وتحسين المشهد الحضري وتحوُّل مدينة الرياض لمدينة ذكية مستدامة، وتحديد الاتجاهات البعيدة المدى، وتخيُّل مستقبل أفضل لمدينة مُخطَّط لها أن تكون من أكبر عشرة اقتصاديات في العالم، واقتراح استراتيجيات عمرانية تُحقق الأهداف. مع الأخذ بعين الاعتبار (الابتعاد عن الفكر التقليدي والنمطي التراكمي للأحياء السكنية)، والتدابير الواجب اتخاذها كالتباين الاقتصادي للسكان، ومستوى وجودة الخدمات، والاعتبارات البيئية والأنماط الاجتماعية، وتصحيح الانحرافات إذا حدثت.

وبالتأكيد، فإن جوهر نجاحنا في استشراف مستقبل الرياض يكمن في الاهتمام المناسب بالتحديات التي ينبغي أن نتأهب لها بشكل استباقي، ولا شك أن ذلك سيتم عبر الأفكار المبدعة الخلَّاقة البعيدة عن النمطية والتقليد، والُبعد عن أخطاء الماضي والتطلع إلى مستقبل فياض بالفرص، من خلال تعديل هيكلي لمسار “التخطيط العمراني” في المدن بما فيها الكوادر البشرية، والتشريعات العمرانية وآليات المشاركة المجتمعية، وتحديث أنظمة التطوير العقاري.

إذاً، نستطيع تلخيص عملية استشراف المستقبل العمراني لمدينة الرياض بأنها ستكون: عملية منهجية تَشاركية تَقوم على جمع المعلومات المستقبلية ووضع رؤى متوسطة وطويلة الأجل تهدف إلى اتخاذ قرارات قابلة للتنفيذ في الوقت الحاضر. وتقديم الصورة المثلى لمستقبل المدينة لإدارة التوجه الاستراتيجي المستقبلي؛ فالاستشراف ضد العشوائية والاستسلام لمقتضيات الواقع أو ما سيقع.

والأهمية المعقودة على استشراف مستقبل مدينة الرياض لن تؤتي أُكلَها إلا عندما تُدرك الحكومة اليوم أن استشراف مستقبل المدينة واستباق المتغيرات والتأهب للاحتمالات المقدِمة عليها الرياض وما تنطوي عليه من تطوُّرات من قِبل المتخصصين والمهتمين والسكان، ضرورة ملحة وليس عملاً تكميلياً؛ بل هو من صميم صياغة التوجهات الاستراتيجية العمرانية ووضع السياسات العامة، وصورة استشرافية للمدينة في ظل التطور الكبير الذي تشهده والتسارع السكاني الكبير. وكلُّ هذا سيُمكِّن الحكومة والجهات ذات العلاقة من الاستثمار الأمثل لكافة الإمكانيات والمقدرات، لتحقيق الكثير من الإنجازات المستهدفة بحلول 2030. وكذلك عندما تصبح ثقافة الاستشراف ثقافةً مجتمعيةً، ويتم إقرارها كنمط تفكير أساسي، ويتم إدراجها ضمن المناهج الدراسية في كافة المراحل الدراسية، وتتوجَّه جهودنا لتنمية رأي عام مهتم بمستقبل العاصمة، واستثارة الوعي والتفكير المستقبليين، وتوسيع قاعدة المنشغلين ببناء مستقبل أفضل.

وفي هذا الإطار، يجدر التأكيد على ضرورة توفير الإسكان المحقِّق للاستدامة كإحدى الركائز المستقبلية التي ينطلق منها استشراف مدينة الرياض. والتركيز هنا تحديداً على ضرورة توافق السكن مع إمكانيات الأسر المالية، وتقديم بدائل متنوعة من المساكن المناسبة لجميع فئات المجتمع؛ حيث يمثِّل حلاً مناسباً سيساعد على إقدام الشباب على الزواج بدلًا من عزوفهم الملاحظ بشكل كبير بسبب الأسعار المبالغ فيها للمساكن سواء أكانت للإيجار أو للتملُّك.

كذلك، فثمة أهمية لإيجاد حلول لاستعادة روح المكان، وضرورة أن تستعيد الرياض هويتها العمرانية، لكن في الوقت نفسه لا مانع أبداً أن تكون للرياض هوية مزدوجة (الحديثة والتاريخية) مع أهمية التوفيق بينهما. لكن المهم أن نحرص على إيجاد بيئات عمرانية تستحقها الرياض وسكانها وزوَّارها، وتُركِّز على جودة الفضاءات العمرانية وملاءمتها الاجتماعية، ومدى اكتمالها الوظيفي.

وفي السياق ذاته، فإن عوامل النجاح الرئيسة للاستشراف المستقبلي لمدينة الرياض تتمثَّل في:

  • أن الاستعداد للمستقبل يجب ألا يستند إلى دراسات عشوائية أو اهتمامات آنية؛ بل ينجم من شغف وطموح وإصرار من جانب مَن ينادون بهذا التوجه؛ لإعادة تصور لمفهوم شمولي لـ “التخطيط العمراني” كمنهج يلبي احتياجات المجتمع، ويأخذ بعين الاعتبار نِسب النمو السنوية المتوقعة للسكان -حيث ورد في الورقة الرئيسة أن الاستراتيجيات العمرانية جاءت بحلول بعيدة عن استيعابها – ويترجمها بشكل متسق مع الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.
  • أننا نحتاجه كوسيلة منظَّمة لتشكيل المستقبل، وأسلوب منهجي وتشاركي لتطوير استراتيجيات عمرانية وسياسات فعَّالة من أجل المستقبل يهدف لمساعدة صنَّاع القرار في اتخاذ القرار المناسب وقت الأزمات، أو توقع الأزمات المحتملة مستقبلاً اتساقًا مع النظر في مستقبل الأبعاد الأخرى للتنمية المستدامة لمدينة الرياض وتفاعلاتها، من أجل تعزيز المنفعة الاجتماعية والاقتصادية والبيئية.

ولأن هذا النوع من الدراسات يرتبط به عدد من المفاهيم كـ (بحوث المستقبليات، ودراسات البصيرة، والتنبؤ التخطيطي، والتحركات المستقبلية، والمنظور والمأمول المستقبلي)، وغيرها؛ لذا يجب التركيز بشكل كبير على توسيع نطاق العديد من الحلول والابتكارات التكنولوجية والاجتماعية على حد سواء (الموجودة بالفعل)، وتسريعها وتشجيع التحولات السلوكية، وتبسيطها وتنفيذها. مع تحفيز المزيد من البحث والتطوير، والاستماع إلى المواطنين وإشراكهم بشكل حيوي، بتخصيص ميزانيات لدعم المؤسسات الحكومية المهتمة بالدراسات المستقبلية. وتشجيع الباحثين على التخصُّص في مجال البحث المستقبلي، خاصةً وأن هذا العلم مرتبطٌ بجميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والبيئية والتكنولوجية.

ولا شك أن التنبؤات اللازمة لمثل تلك الدراسات المستقبلية، والتي يشارك فيها متخصصون من ميادين متعددة، من أهمها: (الهندسة، التخطيط العمراني، الاقتصاد، الوضع الديموغرافي والطبوغرافي للمدينة، البيئة، النقل ووسائل الموصلات، المدن الذكية، المدن المستدامة)، تجعل الدقة في التنبؤ أعلى من حيث تحديد زمن التنبؤ ومضمونه.

  • بعض عوائد المشاريع التطويرية بمدينة الرياض:

الرياض مع رؤية 2030 ستكون واحدةً من المدن العشر العالمية الاقتصادية المستدامة، هي ومدينة نيوم فقط؛ لذا سيصل السكان فيها إلى 15 -20 مليون نسمة، وستكون بإذن الله وجهةً عالميةً.

وتنطوي المشاريع التطويرية بمدينة الرياض على العديد من العوائد المتوقَّعة، والتي يعَدُّ من أبرزها ما يتصل بتحسين جودة الحياة بالمدينة، جنباً إلى جنب مع تطوير البنية التحتية للمدينة، لا سيما وأن البنية التحتية للرياض نُفِّذت لظروف وحسابات قبل ٤٠ سنة، استوفت معطياتها خلال العشرين سنة الأُوَل، حيث تضاعف سكان المرابض من ١.٧ تقريبا إلى ٣.٥ ملايين (نهاية القرن الماضي!).. الآن، والرياض تتجه لضعف سكان اليوم ببنية انتهت صلاحيتها بداية القرن الحالي!

كما أنه من المتوقع إعادة استثمار الكثير من الأماكن في مدينة الرياض وبالذات القريبة من وسائل النقل العام، لتكون مؤسسات علمية أو مجتمعية كالجامعات والمراكز التدريبية أو المستشفيات. ُيضاف لذلك إمكانية وجود مناطق للشركات الناشئة؛ نظراً لوفرة الفئات العمرية دون الأربعين في المدينة.

ومع أن المشاريع الكبرى في مدينة الرياض سوف تضيف ميزة إضافية للمدينة؛ إلا أن الأمر المهم الذي أكدت عليه الورقة الرئيسة هو كيفية فهم هذه المشاريع في سياق مستقبل مدينة الرياض؛ بمعنى: هل هي مشاريع عمرانية (نموذجية) مغلقة داخل مدينة مليئة بالإشكالات الحضرية؟ وإذا سلَّمنا أن هذه المشاريع النوعية هي إضافة للمدينة، فكيف يمكن أن تتكامل في سياق يخدم المدينة (الربط)؟ وكيف يمكن أن تستجيب المدينة لهذه المشاريع النوعية بشكل إيجابي؟ فالمعروف أن هذه المشاريع سوف تجذب المزيدَ من السكان والوظائف، وبالتالي هل سوف تتزايد إشكالات (النقل، الإسكان، توزيع استعمالات الأراضي في المدينة)؟ وهل هذه المشاريع سبقت المخطط الاستراتيجي للمدينة؟ وهل التخطيط بوضعه الحالي قادر على بناء نموذج استشرافي للتنبؤ بالمشاكل الحضرية المستقبلية أم أنه لا يزال قائماً على أسلوب “رد الفعل”؟

ونستطيع أن نتفهَّم أن العديد من المشاريع النوعية في مدينة الرياض هي مشاريع رائدة، وسوف تُحدِث نقلةً نوعيةً، ولكن هل تم استحضار التخطيط (المستقبل) في سياق فهم العوائد التي يمكن أن تُجنيها المدينة؟ بعبارة أوضح، كيف يمكن أن نتنبأ بمستقبل مدينة الرياض في ظل وفرة هذه المشاريع لا سيما إذا علمنا أن عدد سكان منطقة الرياض 8 ملايين نسمة، منهم 7 ملايين نسمة في مدينة الرياض فقط؟ هل سوف نشهد مزيداً من النمو السكاني في المدينة التي تعاني حالياً من إشكالات في النقل الحضري والإسكان وضعف المركز، والتمدد الأفقي الذي أدى لصعوبة الوصولية بين أطرافها؟ لا يزال هناك تصوُّر غير واضح حول الأثر الإيجابي على السياق الحضري؛ فالمشاريع النموذجية هل ستكون أشبه بحلقات مغلقة داخل المدينة أم سوف يكون لها تأثير إيجابي؟ وكيف يمكن التأكيد على الأثر الإيجابي؟

  • تحديات التطوير الشامل لمدينة الرياض:

حسب المعلومات المتوافرة، فإنه لم يتم تحديث المخطط الاستراتيجي لمدينة الرياض حتى الآن (على الأقل الإعلان عن أنه وشيك الإطلاق!). لا شكَّ – ومن حيث أصول التخطيط – أنه لا يمكن إطلاق مشاريع معينة بشكل سليم ومتكامل بدون البدء بالمخطط المحدَّث الذي يقود ويحقق التناغم بين هذه المشاريع الكبرى وشبكة الطرق والأحياء القادمة!

وقد تضمَّن المخطط الاستراتيجي كإحدى آليات الهيئة الملكية، عدداً من المبادرات لتنفيذها؛ إحداها هي توجه TOD، وهو رفع الكثافات حول محطات المترو، وهذا يتطلب سلسلةً من التشريعات في استعمالات الأراضي والكثافات، ولتأخُّر تشغيل المترو يبدو أن ذلك يتطلب تزامناً بينهما! كما تضمَّنت الاستراتيجية تطوير المناطق المتردية وسط الرياض (مرَّ المشروع عبر محاولات غير مثمرة منذ ٢٠ سنة، مثل: مخططAtkins ، وشركة الرياض للتعمير بشراكة مع سوليدير ثم صندوق الاستثمارات بالاستعانة بالاستشاري العالمي جاكوبس، وما زلنا ننتظر وضوح الاتجاه، أما التوجه الثاني فهو المشاريع (المليارية)، مثل: المسار الرياضي، والقدية، ووسط الرياض الجديد (المكعب)، وروشن، وحديقة الملك سلمان، وحي الملك سلمان، وربط جامعة الملك سعود ببوابة الدرعية، وبوابة الدرعية، وأخيراً وليس آخراً (مدينة مسك).

كما أن المخطط الاستراتيجي تضمَّن أفكاراً معاصرةً في حينه، مع الأسف مسار تقسيمات الأراضي استمر كما كان عليه وكأنَّ المخطط لا وجودَ له، لاحظ: ١- ربط وسط الرياض بمنطقة قصور اليمامة ومطار الملك عبدالعزيز بمحاور. ٢- خمس مناطق حضرية (تتسع لمراكز مناسبة للتطوير، مثل مركز الملك عبدالله المالي الذي تسب في زيادة الازدحام المروري وشلل شبه تام معظم اليوم). ٣- مدينتين قمريتين (بنبان وسعد). ٤-كما تضمَّن عدداً من الأحزمة الخضراء. والمخطط يمكن اعتباره استشرافياً تماماً! الإشكالية أن التشريعات لم تتغير لتنفيذ المشروع كما خُطِّط له!

في التاريخ القديم والحديث كانت القاعدة المطردة أن المدن الكبرى والعواصم الفائقة الحجم وعدد السكان لا تقام إلا على ضفاف الأنهار أو البحيرات أو الأحواض المائية، وفي أقل الحالات تكون مدينةً ساحليةً مثل الإسكندرية القديمة. الغريب أن بعض المدن الكبرى القديمة كان يُقال إنه يُشترط لها ليس فقط أن تكون على نهر، ولكن أيضاً أن تكون الأراضي الزراعية التي تغذي المدينة يمر عليها النهر، ثم يجري ليصل لتلك المدينة؛ وذلك بهدف تقليل الطاقة في شحن المواد الغذائية، وألا يكون نقل البضائع عكس التيار. لذا من الأمور المهم الانتباه لها في المدن الكبرى ضرورة وجود نظام محكم (لإدارة الكوارث)؛ فمثلًا وقت القلاقل – لا سمح الله – كما حصل في زمن حرب الخليج الثانية عندما قام صدام والجيش العراقي بتهديد محطات تحلية المياه في المنطقة الشرقية، أو كارثة تلوث مياه الخليج بالنفط كان ممكن أن يؤدي ذلك لأوقات عصيبة. وربما في المستقبل يبقى مثل هذا السيناريو المقلق لأسباب أخرى. وهو ما يفرض التفكير في الاحتياطات المتخذة لمثل هذه الكوارث أو التحديات في توفير الغذاء والماء والطاقة لمدينة هائلة في منطقة نائية. فعلى سبيل المثال، بعد حريق روما في مطلع القرن الأول الميلادي، تم إعادة تصميم المدينة بشوارع واسعة ومستقيمة وبكود بناء يُجبر استخدام مواد مقاومة الحريق، وهذا ما مكَّن في النهاية أن كانت مدينة روما أول مدينة في التاريخ البشري يصل عدد سكانها لحوالي المليون شخص. الكارثة قديماً قادت للتطوير، ما يجعل من المهم التساؤل: هل يمكن للتطوير المحكم حالياً أن يحول دون وقوع الكارثة مستقبلاً؟

وفي تصوُّر البعض، فإن الرياض تحتاج إلى إعادة هيكلة عمرانية مبنية على الأفكار الجديدة التي تنادي بتقسيم المدن إلى قطاعات، يكون داخلها كافة الخدمات، ويكون الوصول لهذه الخدمات من ٥ إلى ١٥ دقيقة.

وتجدر الإشارة إلى أن هناك مدناً صغيرة على مستوى العالم يتم التخطيط لها وفقاً لمستقبل مورد المياه، ويتم حساب نصيب الفرد من الماء في سنة الهدف، ويتم رسم سيناريوهات حول مصادر المياه، هل هي خط أنابيب أم توصيل مياه من الأنهار أم بناء برنامج توعوي للترشيد بحيث تساعد المياه التي تمَّ توفيرها من الترشيد وتكون كافيةً للزيادة السكانية المتوقعة؟

ومن الأهمية بمكان اعتبار السياق الإقليمي في التوجه الاستشرافي لمدينة الرياض؛ فلا يزال التخطيط الإقليمي حلقة شبه مفقودة، حيث من غير الواضح كيف تتواكب المدن الصغيرة مع توجه مدينة الرياض وماهية الأدوار التي تلعبها هذه المدن. آخر إحصائية تشير إلى أن التركز السكاني على مستوى الأقاليم في مدينة الرياض تليها الخرج ٣٠٠ ألف نسمة، ثم بقية المدن التي لا يتجاوز عدد سكانها حي من أحياء مدينة الرياض.

الإشكالية أيضاً أن هناك توجهاً لإغلاق بعض فروع الكليات والجامعات في المدن الصغيرة؛ لكون هذه المدن طاردةً للسكان، وإعادة فتحها في مدينة الرياض، وهذا يؤكد عدم وجود خطة واضحة المعالم على السياق الإقليمي؛ فافتتاح الجامعات في المدن الصغيرة ليس كافياً بدون قاعدة اقتصادية ووظائف وفرص استثمارية واعدة.

ولعل همزة الوصل في ضعف تنفيذ الاستراتيجيات والقرارات التخطيطية بشكل عام هو عدم ربطها قانونياً بالتشريعات الملزمة؛ ما يعَدُّ سبباً رئيسياً من أسباب ضعف التنفيذ، فبقيت قرارات (فنية) اختيارية. بينما في الدول التي تمكَّنت من رفع مستوى المشهد الحضري، كان السبب هو منحها الصفة القانونية.

ويمكن رصد عدد من التحديات أو المشكلات التي يجدر التغلب عليها عند تطوير مدينة الرياض فيما يلي:

  • هناك مبادرات نوعية لتحسين البيئة الحضرية في المدينة ومشاريع ضخمة يُعوَّل عليها في تطوير الرياض ليس من الجانب الجمالي فقط؛ بل من الجانب الأهم وهو (البنية التحتية)، وهذه ستأخذ سنوات طويلة وصعبة التحقيق إذا لم يتم تدارك النمو العمراني العشوائي كما يحدث حالياً في شمال الرياض وغربها.
  • تعاني مدينة الرياض من سوء التخطيط السابق لبعض الطرق الرئيسة، والتي لم تضع في خططها النمو السكاني بعد ١٠ سنوات، مثل طريق الملك عبد الله والذي يعتبر الشريان الرئيس من غرب الرياض إلى شرقها. من حيث ضيق مساحة الطريق؛ حيث لا يستوعب الطريق أكثر من ٣ مسارات في بعض المناطق مع تكدس المحلات التجارية على أطرافه (وأغلبها محلات ذات مجال تجاري متكرر بالإمكان التخفيف منها)؛ وهذا يتسبب يومياً في ازدحام مروري هائل صباحاً ومساءً مع حركة الموظفين والجامعات والمدارس! وكذلك طريق أبو بكر والذي يمتد من شمال الرياض إلى غربها، وسعة الطريق لا تستوعب الكثافة المرورية اليومية مما يتسبب في ضياع الوقت بالساعات التي يقضيها الناس في الطرق العامة مع كثرة الحوادث وقلة المنافذ للحالات الطارئة!
  • التخطيط العشوائي في الأحياء الجديدة بالرياض دليل قوي على أنها لم تواكب الرؤية المستقبلية للرياض ٢٠٣٠، كمثال وليس للحصر: (حي الياسمين، النرجس، العارض)، فضلاً عن وجود مخططات سكنية أغلبها بالشكل الكرتوني تُشعر الإنسان بالضيق والكبت مقابل أسعارها المليونية، إلى جانب بعثرة الخدمات وتفاوتها من حي لآخر، وسوء تخطيط الطرق الفرعية للأحياء وإنجازها بالصورة المريحة للقيادة!
  • انتشار العمائر السكنية في أغلب الأحياء في السنوات الأخيرة لعدم قدرة الشباب على شراء أو استئجار فيلا صغيرة قد لا تتجاوز ٢٥٠م، وهذا الانتشار المواكب للظروف الاقتصادية للكثير من الشباب وغيرهم من ذوي الدخل المحدود، ينقصه التصميم والتخطيط المعاصر وتوفر الخدمات الأساسية؛ بالرغم من غلاء قيمتها وقيمة استئجارها!
  • المرافق العامة في أغلب الأحياء المفتوحة تحتاج إلى إعادة تدوير من حيث توفُّر الحدائق لسكان الحي، أو الملاعب للأطفال والمراهقين، أو لكبار السن وأعتبرُهم من أكثر الفئات ظلماً من حيث الاستفادة من الحدائق العامة! حيث من غير المعقول أنه لا يوجد سوى مركز الملك سلمان الاجتماعي فقط على مستوى منطقة الرياض كمتنفس مناسب لهم؛ وذلك لعدم استطاعة مَن يسكنون في جنوب أو غرب الرياض أو حتى شماله الحضور للمركز للاستفادة من خدماته حتى لو أسبوعياً بسبب الكثافة المروية التي تعوق وصولهم له براحة وسهولة!
  • من أكثر أسباب التشوه البصري في الرياض انتشار المحلات التجارية على جوانب الطرق الرئيسة والفرعية داخل الأحياء؛ وهنا يبرز التساؤل حول دور البلديات في توزيع التواجد المكاني للمحلات ونوعية خدماتها حسب احتياج كل حي.
  • فيما يخصُّ وسائل النقل في مدينة الرياض، بقيت السيارة هي وسيلة النقل الأساسية، سواء كانت خاصة أو أجرة / أوبر. وللأسف، فإن جميع الخطط لم تأخذ في الحسبان إيجاد المواقف الكافية للسيارات، لا في الأماكن العامة ولا في الأحياء المكتظة بالعمارات. ربما وُضعت الخطة على الورق ولم تُنفَّذ، لكن هناك خلل في التنظيم. وهذا سبَّب إزعاجاً كبيراً للسكان واختناقات مرورية. طبعاً كان هناك على مر العقود خدمات باصات، لكنها بقيت رديئةً ولا تُستخدم إلا من قِبل العمال. قبل عدة أشهر بدأت خدمة نظامية للباصات في بعض الشوارع الرئيسة، إلا أننا نشاهدها شبه خالية، مُسبِّبةً مزيداً من الاختناق المروري؛ لأنها لم تقلل عدد السيارات في الشوارع. وكل ما نخشاه أن يستمر الحال على ذلك حتى بعد تشغيل المترو.
  • ثمة إشكالية ترتبط باستقلالية الأحياء السكنية بمدينة الرياض؛ فجميع أحياء الرياض السكنية بنفس التصميم التقليدي (الممل) لشوارع متعامدة، مفتوح الوصول لها من جميع الاتجاهات. وأصبح كثيرُ منها ممراً لغير ساكنيها للتنقل من نقطة في المدينة لأخرى، وربما لدخول العابثين. هذا الوضع سبَّب إزعاجاً لسكان الأحياء، وتلوثاً بيئياً، وانخفاضاً في درجات الأمن والسلامة. وليس من المعروف سبب عدم الأخذ بمبدأ الأحياء المستقلة Cul de Sac المعمول به في كثير من دول العالم. الحي الدبلوماسي قد يكون استثناءً من هذه الإشكالية، لكنه له خصوصيته. ويرتبط بذلك عدم توافر كود معماري خاص لكل حيٍّ مما يُشعر السكان بالانتماء السكني والتميز ما بين حي وآخر، فضلاً عن كونه مريحاً بصرياً وجاذباً ومريحاً نفسياً.
  • مواقف السيارات مرتبطة بإشكالية توزيع الاستعمالات التجارية والخدمية التي غالباً ما يتم توزيعها على محاور الحركة والطرق التجارية؛ وهذا يزيد من العبء، ويُسبِّب اختناقات مرورية. ولعل من المناسب تركيز المواقع التجارية بعيداً عن النمط الشريطي وحصرها في مواقع محددة تُزوَّد بخدمات المواقف ومحطات النقل وبيئة مشاة. بجانب إقفال المداخل والمخارج في الأحياء السكنية؛ حيث إن كثرة مداخل الحي ليس لها جدوى سوى مزيد من الازدحامات والاختناقات وتشجيع المرور العابر في الأحياء السكنية.

وعلى الجانب الآخر، فثمة وجهات نظر ترى أن مدينة الرياض الحديثة بعمرها القصير إذا اعتبرنا أن أول تخطيط استراتيجي حقيقي كان تخطيط شركة دوكياديس المبني على التخطيط الشبكي الموسَّع وليس على غرار التخطيط الشبكي (البلوكات) المعمول به في أغلب المدن الأمريكية، فهذا النوع من التخطيط الحضري للمدينة يمثل نموذجاً جيداً كونه يتضمن:

  • أولاً: أن كل حي يغطي مساحة 4 كم٢، أي 2 كم × 2 كم، وهو محاط بطرق رئيسية لا يقلُّ عرض الطريق عن 60م.
  • ثانياً: الحي مُقسَّم إلى أربعة أجزاء تقريباً بأطوال 1كم ×1 كم لكل جزء أو مربع، يتوسط الحي أرض للخدمات والمرافق بمساحة لا تقل عن 40000م٢، تصل إليها من خلال طرق تُسمَّى شوارع تجارية بعرض 36 م.
  • ثالثاً: أن للرياض طرقاً محوريةً من الجنوب إلى الشمال عديدة، تبدأ من طريق الملك خالد مروراً بالأمير تركي فالتخصصي فالملك فهد، وهكذا، وتنتهي بطريق جابر إذا لم نأخذ في الاعتبار الطرق التي تليه شرقاً، أي تقريباً 13 طريقاً محورياً من الجنوب إلى الشمال، وكذلك هناك طرق محورية من الغرب إلى الشرق، إذا بدأنا من الدائري الجنوبي جنوباً وتجاوزنا عن الطرق التي تليه جنوباً سواء في الدار البيضاء أو ما قبلها إلى طريق الخزام شمالاً، أي تقريباً 14 طريقاً محورياً.

وتكمن المشكلة فيما يلي:

  • أن تخطيط وتصميم مربعات الأحياء وُضِع على عاتق العقاريين لفترة طويلة من الزمن؛ حيث كان من المفارقات المضحكة والمبكية في آن واحد أن الأمانة تُلزم المواطن – عند رغبته في بناء مبنى سواء كان سكنياً أو تجارياً – بأن يكون المخطط مُصمَّم من قِبل مكتب هندسي معتمد، وهذا شيء تُشكر عليه الأمانة بلا شك. ولكن، في المقابل كانت مخططات الأراضي حتى وقت قريب تُعَدُّ وتُعمل من قِبل أصحاب العقار وليس من قبل المكاتب الهندسية؛ علماً أن المبنى سواء كان سكنيًا أو تجارياً تستطيع أن تزيله أو تعدل فيه في أي وقت بعد سنة أو خمس أو أكثر بدون التأثير على غيره، بينما مخطط الأرض لا تستطيع إزالته أو تعديله إلا بتكاليف عالية جداً. فكان من المفترض أن يكون تخطيط الأراضي من قِبل مكاتب هندسية عالمية وليست محلية فقط للاستفادة منها، خاصة وأن هناك الكثير من التجارب العالمية الناجحة؛ مثلاً: لو كانت بعض المخططات السكنية على غرار الكمباوند الكبير ذي الخصائص الكاملة لاحتياجات ساكنيه، وكذلك بدلاً من تقسيم الأراضي التي على الطرق المحورية بمساحات صغيرة بعضها يصل إلى 600م٢؛ كان من المفترض ألا تقل قطعة الأرض عن 10000م٢ لتحتوي على مواقف وخلافه.
  • إن وضع الشوارع التجارية (36 م) داخل الأحياء كان أثرها السيئ على الحي واضحاً جداً؛ وذلك للأسباب التالية:

أ – أنها تعمل طوال اليوم من 6 ص إلى 12 م.

ب- أن قاطنيها والعاملين فيها من فئة العمالة.

ج – فئة العمالة في السعودية بشكل عام هي خليط من مجتمعات متنوعة ومتباينة أخلاقياً وفكرياً.

د- أن هذه الفئة فئة عزاب؛ مما يخلق بعض القلق والخوف لدى العائلات والأطفال في الحي.

لهذه الأسباب مجتمعةً مع غيرها، أصبحت بعض الأحياء طاردةً للعوائل السعودية؛ فكم من حي كان في وقته جميلاً متميزاً، مثل حي (الملز، العليا، الرحمانية، السليمانية، الملك فهد… وغيرها)، فانتقل السعودي إلى حي آخر في الشمال غير مكتمل الخدمات هروباً من ذلك.

  • التحدي الاقتصادي ومستقبل مدينة الرياض:

دون الإخلال بأهمية الجوانب الأخرى، يعَدُّ التحدي الاقتصادي أمام مدينة الرياض هو التحدي الرئيس بالدرجة الأولى، وهو التحدي الذي تتولَّد منه بقية التحديات، أخذاً في الاعتبار أن مستهدفات مدينة الرياض هي اقتصادية في الأساس؛ فالطموح هو أن تصبح حاضرةً عالميةً مزدهرةً من ضمن أكبر 10 اقتصاد مدينة في العالم، وأن يتضاعف عدد سكانها إلى 15-20 مليون نسمة، وأن يحدث ذلك في غضون سبع سنوات.

وسيعني تحقيق ذلك مستوى هائلاً من الإنفاق الرأسمالي والتشغيلي، وبالتالي، سيضغط ذلك على تكاليف المعيشة والإنتاج؛ ما قد يُولِّد ضغوطاً تضخميةً تؤثر على تنافسية المدينة في المدى المنظور. ومن جهة ذات صلة، فإن الحراك المتصاعد للإطلاق المتتابع للعديد من المبادرات العملاقة في مسعى ليس فقط لتنويع اقتصاد المدينة بل لإعادة هيكلتهِ بصورة جذرية؛ سيعني ضغوطاً لاستقطاب الموارد البشرية المؤهَّلة بالكثافة المطلوبة، للعمل في وظائف لأنشطة جديدة، تتطلب مستوى عالمياً من الإبداع والريادة، وفي الوقت نفسه بيئة استثمارية عالمية الجاذبية لاستقطاب المستثمرين القادرين على المساهمة في رسم السمة الاقتصادية الجديدة للرياض، والتي تختلف عما هو معاش حالياً.

أما الشق البشري، فقد كان ولا يزال وسيبقى لعقود عديدة قادمة هاجساً أمام المدينة، والسبب هو أنه -رغم كل ما يقال- فالرياض كانت نقطةَ جذب للسكان، بحكم أنها مقر الحكومة ومقر للشركات الرئيسة وللحراك الاقتصادي. والآن، هناك تطلعات أكبر لاستقطاب المزيد من الموارد البشرية للمدينة، استقطاباً نوعياً يتسق مع الأجندة الاقتصادية لاستراتيجية مدينة الرياض الطموحة؛ ما يعني أن ترزح المدينة وسط زخم متزايد من البشر، وإلا إذا تم التغلب على اختناقات البنية التحتية بما يجعل السعة الاقتصادية للمدينة من بين الأفضل في العالم. والتحدي الذي على مدينة الرياض مواجهته هو أن تواكب النمو السكاني بسرعة ترتقي للتطلعات، وبما يجعل تكلفة إقامة الأعمال في المدينة تنافسيةً مع الوجهات الاقتصادية الرئيسة في العالم، بما يؤدي لنجاح المدينة في استقطاب المال والبشر. إذن، نحن أمام معضلة: النمو والتكلفة.

وفي هذا السياق، فقضية الاستثمار مفصلية، إذ إن المدينة بحاجة لاستقطاب استثمارات ضخمة من الحكومة لتمويل توسيع البنية التحتية بما يجعلها عالمية المستوى، ويجعل المدينة من بين الأذكى في العالم، ومن بين الأفضل للمعيشة الفردية والأسرية والعمل بمعايير جودة الحياة. كما أن المدينة بحاجة لاستقطاب استثمارات القطاع الخاص المحلي والأجنبي ليس فقط من أجل المال، بل كذلك من أجل جلب عقول ريادية خلَّاقة قادرة على جَعْل الرياض مرتكزاً ومحطاً إقليمياً إنْ لم يكن عالمياً لصناعات المستقبل في مناخ مشبع بقدرات الابتكار والبحث والتطوير.

ومدينة الرياض بحاجة لخطة رُبع قرنية، فالمدن كائنات بحاجة لنظرة آنية ولتطلعات قصيرة المدى ومتوسطة المدى وبعيدة المدى، وكذلك لخُطط قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى تتماهى زمنياً مع تلك التطلعات. وفي عمر المدن سبع سنوات هي فترة زمنية قصيرة، وثمة تحدٍّ حقيقي في استكمال التنفيذ بالكامل لتطلعات مدينة الرياض ضمن النطاق الزمني الذي سقفه العام 2030.

ومن الضروري التنويه أن ثمة اتساقاً بين مستهدفات العام 2030 وتلك التي ستُربط بالخطة الأطول مدى؛ حيث من المتصور أن تُوضَع للخطة ربع القرنية 2025-2050 خارطة طريق، وسلسلة متتابعة من المستهدفات والتطلعات. وبالتأكيد، فما ورد من تطلعات للمدينة حتى الآن للعام 2030 يصبُّ في ذات السياق، إلا أن الخطة الربع قرنية تواصل لامتداد زمني أبعد. وليس ذلك غريباً على الرياض كمدينة، فلديها تجربة ثرية في التخطيط طويل المدى حافلة بالنجاحات. فضلاً عن أن التخطيط طويل المدى شائع في المدن الكبرى، ويمكن هنا الإشارة لمثالين:

  • مدينة طوكيو، عاصمة اليابان، لديها خطة أطلقتها العام 2022، تُسمَّى “رؤية طوكيو 2040″، تهدف إلى جَعْل المدينة أكثر استدامةً ومرونةً وصلاحيةً للعيش. تتضمن الخطة أهدافاً، مثل: تقليل انبعاثات الغازات الدفيئة، وتحسين كفاءة الطاقة، وزيادة الوصول إلى المساحات الخضراء.
  • مدينة سان فرانسيسكو في ولاية كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأمريكية، لديها خطة أطلقتها العام الحالي (2023)، تُسمَّى “سان فرانسيسكو تزدهر”، تهدف إلى جعل المدينة أكثر عدلاً واستدامةً ومرونةً، ومداها الزمني 20 عاماً، حتى 2043.
  • آليات تحقيق المستهدفات الاستراتيجية لمدينة الرياض:
  • مواكبة الرؤية الوطنية:

النهوض بمدينة الرياض لمواكبة الرؤية الوطنية ينبغي أن يستند إلى استراتيجية شاملة تتضمن رؤية استراتيجية واضحة طويلة المدى تحدد الأهداف والتوجهات المرجوة لتطوير المدينة وتحقيق التقدم. يجب أن تكون هذه الرؤية شاملةً ومتكاملةً، تشمل الاقتصاد والتعليم والثقافة والبيئة والسياحة وجودة الحياة.

  • أهمية التعاون المؤسساتي:

للتعاون المؤسساتي أهميته من حيث توفير إطار للتعاون والتنسيق بين الجهات المعنية، بما في ذلك القطاع العام والقطاع الخاص والمجتمع المدني، ويمكن تشكيل شراكات استراتيجية لتنفيذ المشاريع والبرامج التنموية وتبادل المعرفة والخبرات. كما أن ثمة حاجةً لتحسين الناقل الجوي الوطني الحالي. ولا يمكن إغفال التأكيد على الاستدامة البيئية وحماية البيئة. كما يمكن اتخاذ إجراءات لتحسين جودة الهواء وإدارة المخلفات، وتوفير الموارد المستدامة، وتشجيع الطاقة المتجددة، وتعزيز خطة الرياض الخضراء، والمحافظة على المساحات الخضراء وتنميتها. فضلاً عن تعزيز الاهتمام بالثقافة والتراث في المدينة، من خلال دعم المشاريع الثقافية والفنية وتنظيم المهرجانات والفعاليات الثقافية. يمكن تطوير المتاحف والمعارض والمسارح، وتعزيز الفنون والتراث المحلي. ومن الأهمية بمكان موضوع الترويج لمدينة الرياض كوجهة متميزة للسياحة والاستثمار والأعمال من خلال تنفيذ حملات تسويقية وإعلانية لجذب السياح والمستثمرين، وتعزيز الصورة الإيجابية للمدينة على المستوى الدولي، ودعم المنشآت الصغيرة والمتوسطة من باب أولى، وتخفيف الأعباء والمتطلبات.

  • الخطة الاستراتيجية للرياض:

نتطلع لنتاج الخطة الاستراتيجية للرياض قريباً لتُصبح واحدةً من أفضل مدن العالم من ناحية الهوية والبنية التحتية والجمع بين الحضارة والتراث. الأمر فيه جهود وتقاطعات من قطاعات مختلفة ما بين كلٍّ من: (أمانة الرياض، بلدية الرياض، وهيئات مختلفة مثل التنمية، الاستثمار ومجموعة من الوزارات كالنقل، والتعليم). وربما نحتاج في هذه الفترة كسكان للرياض للتوعية والتثقيف بهذه المشاريع والتصوُّر والاستراتيجية من خلال عرض خطة زمنية للتنفيذ خصوصاً لشريحة أصحاب الأراضي الموقوفة.

وقد أكد تقرير مستقبل المدن ضمن مسار تصوُّر مستقبل المدن الذي تمَّ إطلاقه في منتدى المدن العالمي الذي عُقد بمدينة كاتويس في بولندا بتاريخ 30 يونيو ٢٠٢٢م، أن لدى الحكومات بالفعل خارطة طريق للمرونة الحضرية والاستشراف العمراني، ففي أجندة التنمية المستدامة العالمية وتضمينها ضمن منظومة الاستشراف التخطيطي للنقل العام وجودة الحياة تمَّ التأكيد على أهمية أن يضع النظام متعدد الأطراف إطاراً لتحقيق المرونة الحضرية في شكل أهداف التنمية المستدامة، والأجندة الحضرية الجديدة، وإطاراً موثوقاً للحد من مخاطر الكوارث، بجانب جدول الأعمال التراكمي الذي يُبنَى على الإنجازات والاتفاقيات الدولية والإقليمية. وتوفر هذه الوثائق معًا إطارًا متماسكًا للعمل المتكامل متعدد المستويات الذي يعترف بأهمية الكيانات الوطنية والمحلية في بناء المرونة للمدن بحيث يكون قائماً على الاستشراف التخطيطي المرتكز على السياسات المستنيرة بالأدلة والقرائن  Evidence based policies

يجب أن يكون بناء المرونة الحضرية الموضوعية متعدد القطاعات ومتعدد الأبعاد ومتعدد الشركاء: إن عملية جعل المدن أكثر مرونةً لا تعمل إلا إذا كانت استشرافية استباقية، وتشمل جميع أصحاب المصلحة بمن في ذلك المهمشون والفقراء والشباب وذوو الإعاقة). كما أنها توفر استثمارًا متكاملًا في التأهيل وإعادة البناء بشكل مختلف، وليس فقط إعادة البناء، أو إعادة البناء بشكل أفضل على غرار نفس الخطوط التي تدعم عدم المساواة والظلم الاجتماعي المتأثرين بنمط الحياة غير المتفاعلة مع المستجدات الاقتصادية. ومن ثَمَّ كما هو الحال مع الاستدامة، فإن المرونة تتعلق بزيادة الإنصاف مع الحد من الفقر والبطالة والظواهر المرتبطة بها.

كما يجب على صانعي السياسات مطابقة تقييمات المخاطر الحضرية بالحلول المناسبة؛ حيث تواجه المدن – ومدينة الرياض ليست استثناءً- مجموعةً متنوعة من المخاطر، بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر الأوبئة وتغير المناخ، ويجب إنشاء تقييمات دقيقة ومحلية ومحدودة النطاق لهذه التهديدات. ولكن دون اتخاذ خطوات علاجية مناسبة، فإن المدن تُخاطر بترك مواطنيها في حالة من عدم اليقين في مواجهة التغيرات الاقتصادية والاجتماعية وتحديات الازدحام المروري، وغيره من المخاطر ومنغصات جودة الحياة للسكان. علاوة على ذلك، يجب أن تتماشى الخطط والتدخلات قصيرة المدى مع تلك الخطط والتدخلات على المديين المتوسط ​​والطويل، وهي الآفاق الزمنية المناسبة لمعالجة التفاوتات الهيكلية، وتشمل تحديات مثل بناء الاستدامة والمرونة.

أيضاً يجب أن تعطي رؤية وتنفيذ خطط المرونة الحضرية الأولوية للمجتمعات الأشد فقراً والأكثر ضعفاً؛ حيث تواجه هذه الفئات من سكان المناطق الحضرية وطأة المخاطر حيث يتم تقييدهم في كثير من الأحيان في الأراضي الحضرية الأقل جاذبيةً والأكثر خطورةً. يعاني هؤلاء السكان بشكل غير متناسب من سلاسل متتالية من الآثار المتكررة والشديدة في كثير من الأحيان، والتي تزيد من ضعفهم من خلال تقويض أصولهم وقدرتهم على الصمود، ومن الأمثلة على ذلك سكان الأحياء القديمة والعشوائية

ولن ينجح بناء المرونة الحضرية دون مشاركة المجتمع؛ فالمرونة ليست عمليةً من أعلى إلى أسفل؛ بل هي عملية من أسفل إلى أعلى، وأي جهد لإعداد خُطط المرونة أو صياغة السياسات أو تنفيذ المشاريع سيكون له احتمالات أكبر للنجاح إذا تم تنفيذها باستخدام تشاركية نشطة الأساليب بحيث يشارك جميع السكان وأصحاب المصلحة في التخطيط واتخاذ القرار، فمن خلال الإنتاج المشترك والتصميم المشترك للمرونة سيطور السكان إحساساً مشتركاً بالملكية جنبًا إلى جنب مع الإدارة المحلية.

  • الذكاء الاصطناعي وتطوير مدينة الرياض:

إذا كان التعليم هو اللبنة والقاعدة الأساسية لانطلاقة مشاريع التنمية والبناء في الدولة؛ بل هو البنية التحتية لأي دولة في العالم، وأنه إذا صلُح التعليم صلحت بقية القطاعات؛ فإنه من هذا المنطلق فإن التعليم الذكي المستدام يُشكِّل القاعدة التي يجب ألا يتجاوزها المصممون الحضريون والمعماريون، والمدن الذكية التي تستهدفها السعودية اليوم تحتاج إلى جامعات ذكية تتوافق مع النقلة المعرفية والنوعية التي يجب أن يتصف بها المجتمع الذكي. كما أنه ومع هذا التسارع الكبير الذي نشهده في المجالات التي يستطيع الذكاء الاصطناعي لعب دور كبير في تحسين عملها، وتقليل الوقت والجهد المبذول؛ يبقي من المهم التفكير في إمكانية تسخير المخططين الحضريين والمعماريين خوارزميات الذكاء الاصطناعي للقيام بوضع تصوُّر لطرق حديثة تعمل على دمج مصادر الطاقة المتجددة، والمساحات الخضراء، والتكنولوجيا الذكية داخل النسيج الحضري لمدينة الرياض وغيرها من المدن السعودية -كالمستقبل المنتظر لمدينة نيوم؛ بدمج خلايا الوقود التي تعمل بالهيدروجين في المباني وأنظمة النقل، واستخدامه في مختلف جوانب البنية الحضرية كمصدر للطاقة النظيفة؛ الأمر الذي يوفر حلولاً لطاقة فعالة وخالية من الانبعاثات، ويعزز من قدرة الرياض كمدينة أكثر استدامةً وصديقةً للبيئة.

  • مستقبل الرياض كمدينة مستدامة:

يُضاف إلى ما تقدَّم من زاوية أخرى ترتبط بالنظرة المستقبلية لمدينة الرياض وكذلك المدن الأخرى بشكل عام؛ أن مدينة المستقبل يجب أن تكون مرنةً من عدة نواحي؛ أهمها: سرعة استجابة وتدخل قطاع الخدمات لمعالجة أي خلل قبل تفاقمه. ومنها مثلاً معالجة وضع المباني المهجورة، والكتابة على الجدران، وترك مخلفات المباني، وتجمُّع أكياس القمامة أو غيرها من المخلفات لفترة طويلة في أطراف المدينة أو بعض الشوارع الداخلية في بعض أحيائها الشعبية أو الطرفية. فالواقع أن إهمال الأمر الصغير مع الوقت يتحول إلى مشكلة كبيرة. وهذا ما أكدته نظرية “النوافذ المكسورة” والتي تؤكد أن إهمال معالجة المشاكل الصغيرة يؤدي إلى تفاقمها من منطلق أن (النار من مستصغر الشرر). فإهمال إزالة الكتابة على مساحة صغيرة من الجدار سيؤدي إلى زيادة مساحة الجدران الملوثة بالكتابات في ذلك المكان. وكسر زجاج شباك واحد لمنشأة عامة إذا لم يُصَلَّح سيؤدي إلى كسر باقي زجاج المبنى. وإذا رُمي كيس قمامة على قارعة طريق ولم تتم إزالته بسرعة، يتحول ذلك المكان إلى مكبٍّ للنفايات وهو غير مُخصَّص لذلك. فمدن المستقبل تحتاج إلى جهاز خدمات رشيق سريع الاستجابة.

  • خطة متكاملة للنقل في مدينة الرياض:

فيما يخصُّ وسائل النقل في مدينة الرياض، لا بد من وجود خطة متكاملة لإقناع وتحفيز السكان والزوَّار على استخدام وسائل النقل العام. هذا بالإضافة لوضع رسوم على استخدام الطرق المزدحمة، ومنع الوقوف العشوائي للسيارات في الطرق. وربما يستغرق ذلك الإقناع سنوات؛ لكن التحفيز له لم يبدأ حتى الآن.

ويعَدُّ من أهم الحلول لتحديات النقل والمواصلات بمدينة الرياض:

  • التقليل من وجود الأرصفة الوسطية وحجمها، التي تتسبب في هدر مساحة الطريق.
  • إزالة العقد عن التقاطعات الرئيسة خاصة الدوران فوق الإنفاق على حساب مساحة التقاطعات؛ مما يجعل التقاطع كعنق زجاجة.
  • الاستفادة القصوى من الشوارع المساندة والموازية للطرق المحورية.

 

  • إدارة الرائحة في مدينة الرياض والتصميم الحضري:

أيضاً، ثمة أهمية لإدارة الرائحة في مدينة الرياض وغيرها من المدن والتصميم الحضري؛ فكما أن للمدن روحاً، فإن لها أيضاً روائح كما يخبرنا محمود درويش عندما يقول: “المدن رائحة… وكل مدينة لا تُعرفُ من رائحتها لا يُعوَّل على ذكراها”. فالرائحة بلا شك تُشكِّل جزءاً جوهريًا من تجاربنا وتفاعلاتنا مع المواقع والدول التي نزورها، وهي العنصر الأهم الذي يبقى في أعماقنا ونحمله في دواخلنا عندما نسير في شوارع أي مدينة من مدن العالم. فكما ترتبط المدن السعودية برائحة العود والقهوة المهيلة، نجد ارتباط المدن الفرنسية بالعطور والأجبان، واليابانية بأزهار الخزامى ونبات الويستريا، والهندية بالكاري، والتايلندية بالصويا، والدانماركية برائحة فطيرة “الدانيش”. ورغم أن الاهتمام بالروائح في المساحات الحضرية أمرٌ مستجدٌ؛ إلا أن كثيراً من المهندسين المعماريين والمصممين الحضريين تداركوا ما هي الفرص التي يمكن أن توفرها حاسة الشم، وتزيد من ارتباط الإنسان بالمكان. ففي هولندا، وبعد اكتشاف باحثين هولنديين أن رائحة أشجار الحمضيات تحثُّ الناس على الترتيب والنظافة في دراسة أُجريت في عام 2005م، ازداد بعدها انتشار أشجار الحمضيات في الأماكن والساحات العامة. وانطلاقًا من تلك التجربة، ولمعرفتنا القديمة بالآثار الكبيرة لرائحة الريحان والزعتر والنعناع والأرجوان والخزامى وفائدتها في تحسين نوعية النوم وعملية الهضم والدورة الدموية، وتخفيف التوتر والصداع والالتهابات. لماذا لا يتم إدراج ذلك ضمن مخططاتنا العمرانية؟! أو على الأقل نُخصِّص زراعتها في حدائق المستشفيات ومراكز التأهيل في المدينة تحت إطار “العمران الحضري الطبي”.

 

  • الرياض كنسخة غير مكررة لمدن أخرى:

هناك حاجة ماسة لتسخير المقومات والفرص لتصبح الرياض ليست نسخة جديدة من نيويورك أو دبي ونحوها؛ فالرياض ليست طرقاً وشوارع وبيوتاً ومطاعم ومتنزهات ولا معارض وجامعات فقط؛ حيث تم النظر إلى الرياض على مستويات وتفرعات وطبقات من المهم فالأهم؛ فالرؤية تركز على جذب الاقتصاد الأجنبي وتوفير البيئة الملائمة الجاذبة لهذه الفئة، فما احتياجهم؟ كما أن الرؤية تركز على دعم الشباب واستقطاب هذه الفئة للرياض للعمل في الشركات أو حتى الاستثمار فيها، فما احتياجهم؟ أيضاً الإعداد السكاني يشير إلى ازدياد في هيئة كبار السن، فما احتياجهم؟ ما نلاحظه في الأحياء تعدُّد وتنوُّع الفئات العمرية والاجتماعية خصوصاً مع التوجه الحالي لإعادة شراء المنازل القديمة وترميمها.

 

  • التوصيات:

 

[1] أن تتولى وزارة الشؤون البلدية والقروية والإسكان تحديث نظام التخطيط وإعادة تنظيم التشريعات العمرانية المنبثقة منه، شاملاً تحديث الحوكمة العمرانية لتنسجم مع رؤية 2030، والتي تحثُّ المواطنة المسؤولة والحكومة الفاعلة، ومن ذلك تحفيز المشاركة المجتمعية؛ ويشمل ذلك تحديث الأدلة الإرشادية والمواصفات الفنية، وإجراءات التطوير العقاري التي لا تزال تُصنَّف كإجراءات بدائية قائمة على توفير بعض المرافق وتقسيم الأرض؛ وصولاً لتطوير أحياء سكنية مستدامة، تؤكد على الهوية المحلية، وتراعي التباين الاجتماعي والاقتصادي، وتحقق أعلى معايير جودة الحياة.

[2] أن تتولى وزارة الشؤون البلدية والقروية والإسكان تطوير خطة إقليمية لمنطقة الرياض تؤكد على التوجُّه الاستراتيجي لمدينة الرياض في سياقها الإقليمي من خلال تعزيز شبكات النقل وخطوط القطارات الخفيفة، وتنمية المدن الصغيرة كروافد حضرية تتكامل مع المدينة، وتُعزِّز من المشاريع الاستثمارية في مدينة الرياض.

[3] أن تعمل الهيئة الملكية لمدينة الرياض على تطوير نموذج تنموي مستدام يؤكد على الاستغلال الأمثل للموارد المائية المتاحة والمناطق البيئية وأنظمة الطاقة المتجددة بما يتواكب مع النمو السكاني المستقبلي والمشاريع البيئية لمدينة الرياض؛ ويشمل ذلك الاستفادة من المياه السطحية، والسدود، وإعادة ضخ المياه في الأودية، والاستفادة من المياه الرمادية وتلك المعاد تدويرها في ريّ الحدائق والمناطق الخضراء.

[4] تحديث المخطط الاستراتيجي لمدينة الرياض بما يراعي مبادئ النمو الذكي، ويقلل من الزحف العمراني الأفقي من خلال تعزيز نقاط التطوير الموجَّه للنقل العام TOD كمراكز نمو حضري عالي الكثافة، وإعادة تطوير الأراضي الفضاء داخل المدينة، وتنويع استعمالات الأراضي وأنماط الإسكان، واستخدام أنظمة التحليل المكاني المبني على استخدام الذكاء المكاني بما يلبي الطلب المستقبلي لكافة الشرائح الاجتماعية والاقتصادية في المدينة.

[5] تحسين البيئة الحضرية في الأحياء السكنية القائمة في مدينة الرياض بما في ذلك معالجة التشوهات البصرية، وتعزيز بيئة المشاة، والتشجير، وتطوير أنظمة البناء، وأنظمة التخلص من النفايات، وإعادة تأهيل البيئة العمرانية للأحياء المتدهورة مع الحفاظ على الرمزية التاريخية للأحياء القديمة واستغلالها لاستيعاب النمو السكاني المستقبلي.

[6] دعم الجامعات والمراكز البحثية في تطوير أبحاث لخدمة الإسكان، والمدن الذكية، والأنظمة المتقدمة للتعامل مع البيئات الصحراوية، والاستدامة بشكل يتماشى مع المشاريع النوعية، وينعكس إيجاباً على البيئة الحضرية، ويرتقي بأساليب المعيشة في مدينة الرياض.

   

  • المصادر والمراجع:
  • وكالة الأنباء السعودية، “وكالة الأنباء السعودية (واس)،” سمو ولي العهد يكشف عن خطط تطوير مدينة الرياض، 2021. [Online]. Available: https://sp.spa.gov.sa/viewfullstory.php?lang=ar&newsid=2184632. [Accessed 2023].
  • World Bank, “World Bank,” Urban population, 2021. [Online]. Available: https://data.worldbank.org/indicator/SP.URB.TOTL.IN.ZS?locations=SA.
  • الهيئة الملكية لمدينة الرياض. (2004). المخطط الاستراتيجي الشامل لمدينة الرياض،” الهيئة الملكية لمدينة الرياض، الرياض.
  • الهيئة الملكية لمدينة الرياض. (2014). المخطط الاستراتيجي الشامل لمدينة الرياض 1450هـ، الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض، الرياض.
  • وزارة الشؤون البلدية والقروية والإسكان وبرنامج الأمم المتحدة، “الرؤية العمرانية الشاملة لمدينة الرياض”، وزارة الشؤون البلدية والقروية وبرنامج الأمم المتحدة، الرياض، 2020.
  • الهيئة العامة للإحصاء، “السكان” الهيئة العامة للإحصاء, [Online]. Available:

https://portal.saudicensus.sa/portal/public/1/15/101460?type=TABLE.

  • الملخص التنفيذي لتقرير تصور مستقبل المدن الذي تمَّ إطلاقه في منتدى المدن العالمي الذي عُقد بمدينة كاتويس في بولندا بتاريخ 30 يونيو ٢٠٢٢ م، ترجمة وتلخيص وإعادة صياغة: م. عبد الله بن عبد الله الرخيص.
  • العلوان، أمير بن محمد. (2013). دراسة تحليلية لعوامل التخطيط العمراني المسبِّبة للازدحامات المرورية داخل مدينة الرياض كنموذج للمدن الكبرى في المملكة العربية السعودية. الإدارة العامة، س 53، ع 3، 639-700.
  • الرياض “تاريخ، تراث، ورؤية”. (1437هـ). الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض.
  • تقرير حالة ازدهار المدن “الرياض”. (1440هـ). وزارة الشؤون البلدية والقروية، الرياض.
  • مرصد قطاع دعم الأعمال، غرفة الرياض. (2020). المشاريع التنموية الكبرى بمنطقة الرياض في ظل رؤية المملكة 2030.
  • أنور، محجوب. (2022م). فهم مسار التطور العمراني والنقل في مدينة الرياض. مركز الملك عبد الله للدراسات والبحوث البترولية، الرياض.

 

  • المشاركون:
  • الورقة الرئيسة: د. وليد الزامل
  • التعقيب الأول: أ. د. علي باهمام
  • التعقيب الثاني: أ. د. مشاري النعيم
  • إدارة الحوار: أ. د. فيصل المبارك
  • المشاركون في الحوار والمناقشة:
  • د. حمد البريثن
  • د. وفاء طيبة
  • أ. فائزة العجروش
  • د. أحمد الغامدي
  • د. أماني البريكان
  • م. عبد الله الرخيّص
  • م. أسامة كردي
  • أ. فهد الأحمري
  • د. موضي الزهراني
  • د. فهد اليحيا
  • معالي الفريق عبد الإله الصالح
  • معالي د. رياض نجم
  • د. مساعد المحيّا
  • د. حميد الشايجي
  • د. خالد المنصور
  • د. إحسان بو حليقة
  • د. خالد بن دهيش
  • د. زياد الدريس
  • د. نادية الشهراني
  • أ. سمها الغامدي
  • د. محمد المعجل
  • د. عبد الرحمن العريني

 

كشاف الأعلام:

  • صدام (حسين)
  • محمود درويش
  • الملك خالد
  • الملك سعود
  • الملك سلمان
  • الملك عبد العزيز
  • الملك عبد الله
  • الملك فهد
  • ولي العهد السعودي

كشاف الأماكن:

  • بولندا
  • دبي
  • الرياض
  • سان فرانسيسكو
  • طوكيو
  • كاتويس
  • كاليفورنيا
  • نيوم
  • نيويورك
  • هولندا
  • الولايات المتحدة الأمريكية
  • اليابان
Scroll to Top