التقرير الشهري رقم (67)
1 سبتمبر 2020

:تمهيد
:المحتويات
:الملخص التنفيذي
الملخص التنفيذي:
سلطت الورقة الرئيسة الضوءَ على بعض قضايا التوطين الرئيسة وأثرها المحلي على الصناعة والاقتصاد. وتمَّ في هذا السياق التطرُّق إلى نَقْل وتوطين التقنية من منظور منظمة الأمم المتحدة، وآفاق التوطين المحلي، وأهمية تكييف التقنية وليس مجرد نقلها وتوطينها فحسب. كذلك فقد تمت الإشارة إلى رؤية المملكة 2030، وهدف توطين التقنيات الإستراتيجية المتضمَّن في إطارها.
وقد أكد د. سلطان المورقي في الورقة على أهمية التكامل والتعاون بين الجهات المستفيدة وأصحاب المصلحة الرئيسيين، والحاجة إلى إشراك القطاع الخاص في عملية التوطين، وضرورة وَضْع إستراتيجية وطنية خاصة ومحددة للتوطين.
وأشار م. فاضل القرني في التعقيب الأول إلى أنه إذا كانت الدولة تتطلع من خلال رؤية ٢٠٣٠ لتوطين التقنية بما نسبته ٥٠٪، فإن من الأهمية بمكان أن تكون الأنظمة وبنود ذلك شاملةً لجميع السيناريوهات والتحديات المحتملة، مع العمل على تذليل الصعاب التي تعوق الاستمرارية والاستدامة، والاتفاقيات الضامنة في حال المتغيرات السياسية والأمنية والتقنية، وكذلك أن يكون لدى الجهات المعنية بالمحتوى المحلي الصورةُ الواضحةُ والبياناتُ اللازمة عن جميع موارد المملكة: البشرية، والطبيعية، والقانونية؛ لضمان تحقيق الغاية التي أُعِدَّ مفهوم المحتوى المحلي من أجلها.
بينما أكد أ. محمد الدندني في التعقيب الثاني على ضرورة وجود وزارة سيادية للمحتوى المحلي، لها الصلاحيات في التعامل ومناقشة الخُطط مع كل مَن يعنيه هذا الأمر، وتكون هذه الوزارة واضعةً للأحكام والتشريعات والمراقبة والتدخل لدى أي منشأة حكومية أو خاصة؛ لضمان جودة العمل والتركيز والتنسيق وعدم تضارب الأعمال.
وتضمَّنت المداخلاتُ حول القضية المحاورَ التالية:
- أهمية توطين التقنية في المملكة.
- تحديات توطين التقنية في المملكة.
- وسائل تعزيز توطين التقنية وزيادة المحتوى المحلي في خُطط التنمية.
ومن أبرز التوصيات التي انتهى إليها المتحاورون في ملتقى أسبار حول القضية ما يلي:
- الدعوة إلى الإسراع في اعتماد نظام نَقْل وتوطين التقنية الذي سيُشكِّل البيئة التنظيمية، ويضع الحوافز لتوطين التقنية في المملكة.
- دعوة مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية والهيئة العامة للصناعات العسكرية إلى التنسيق بينها ومع مَن تراه من الجهات ذات العلاقة، لتنفيذ منهجية وطنية لـ “مستوى جاهزية التقنية TRL” المُطبَّقة في كثير من دول العالم.
- الورقة الرئيسة: د. سلطان المورقي
- نقل وتوطين التقنية من منظور منظمة الأمم المتحدة:
يعَدُّ نقل وتوطين التقنية إلى الدول النامية أحد السُّبل المهمة التي تسمح لهذه الدول بالقضاء على الفوارق الاقتصادية والتقنية والاجتماعية التي تفصل بينها وبين الدول المتقدمة، حيث تعتبر من منظور منظمة الأمم المتحدة بمثابة عملية نَقْل تتيح للدول النامية الحصول على المعرفة الفنية والمنتجات التقنية المستوردة من الدول المتقدمة. وقد بدأت الدول النامية في تبنِّي إستراتيجيات الابتكار والملكية الفكرية لدعم الأنشطة البحثية لديها على نحو يؤدي إلى نمو معرفي أصيل مرتبط بالملكية الفكرية؛ لذا فقد أُدرج بند نَقْل التقنية في كثير من الاتفاقيات متعددة الأطراف في الأمم المتحدة منذ عام 2003 (1).
- آفاق التوطين المحلي:
نقل وتوطين التقنية من العناصر المهمة في تعزيز الاقتصاد الوطني، وخصوصًا في القطاع الصناعي في الدول النامية، كما يُعزِّز القدرةَ التنافسيةَ لاقتصادياتها، كما يؤثر على النمو الاقتصادي على المدى القصير وكذلك المدى البعيد، ويعتبر من العناصر الأساسية لتحقيق الاستدامة من خلال استخدام وتنمية الموارد الحالية التي تُولِّد فرص عمل جديدة، ويقود لخفض الاعتمادية على الاقتصاديات التي ترتكز على الموارد التي تنضب. ويتبين أن عملية التوطين ناجحة من خلال دراسة حالات بعض الدول مثل الصين وهونغ كونغ وكوريا الجنوبية وسنغافورة وأيضًا الهند وتركيا.
ومن الناحية الإستراتيجية، تساعد عملية التوطين على بناء القدرات المحلية مع تقليل الاعتماد على المصادر الأجنبية، ويمكن تحقيق ذلك من خلال قنوات البحث والتطوير المحلية و/ أو نَقْل التقنية والشراكة مع شركات دولية لديها الرغبة والقدرة التقنية وذات المصداقية، وتمتلك كامل التقنية المراد نقلها التي تلبي حاجات الجهات المستفيدة، وتشمل مزايا التوطين بعض النقاط المهمة التالية:
- التنويع الاقتصادي (تقليل الاعتماد على النفط والغاز والبتروكيماويات).
- نَقْل التقنية والمعرفة والتصنيع وأعمال الصيانة.
- تنمية القوى العاملة الوطنية، وخلق فرص عمل للمواطنين.
- رَفْع مستوى الجاهزية للأنظمة من خلال استجابة أقصر لأعمال الصيانة.
- تخفيض التكلفة الإجمالية.
- جودة الخدمة (المحلية) والدعم الفني من قِبل القوى العاملة الوطنية المدربة تدريبًا عاليًا.
- القيمة الإستراتيجية: إنَّ امتلاك الدراية والقدرات لبعض الأصول الإستراتيجية الموجودة محليًّا هو ذو قيمة أساسية بالنظر إلى الحاجة إلى تلك القدرات خلال الأوقات الحرجة.
- الاكتفاء الذاتي.
- نقل وتوطين التقنية ليس كافيًا، بل يجب تكييف التقنية:
بعد عملية توطين التقنية تأتي مرحلة تكييف التقنية، التي تعتبر من العمليات المهمة لتهيئة وتنمية القدرات التقنية المحلية، وإعداد الكوادر العلمية والفنية القادرة على اكتساب واستيعاب التقنية المنقولة وتطويعها في التقنية المحلية، وهناك عدة عوامل أساسية تساعد على تطويع وتوطين التقنية، وهي كالآتي:
(أ) البحث والتطوير:
يجب تهيئة البحوث لحل المشكلات التي تواجهها المملكة، حيث تعتبر نشاطات البحث والتطوير جزءًا أساسيًّا لنجاح عملية نَقْل وتوطين التقنية، حيث تتطلب ضرورة تحقيق الربط الوثيق بين هذه النشاطات والعمليات الإنتاجية، وما الذي تلعبه مراكز البحوث العلمية والجامعات في عملية تكييف وتوطين التقنية وتطويعها؛ لذا يجب أن يكون التنسيق المتكامل بين أجهزة البحث العلمي والشركات المحلية، وقبلها الحصول على المتطلبات التشغيلية من الجهات المستفيدة لتطوير المنتج المناسب حسب طلباتهم واحتياجاتهم.
(ب) التخـطـيط العلمـي والتقني:
إن للتخطيط العلمي والتقني دورًا كبيرًا في وَضْع الخُطط والأساليب التي تُحدِّد طُرق وأساليب توطين التقنية بما يتلاءم مع الظروف البيئية والاقتصادية والاجتماعية والإمكانات والاحتياجات والجهد المادي والتنظيمي في سبيل التطوير العلمي والتقني، واكتسابها وتطويعها بشكل يتلاءم مع ظروف المملكة. ويتناول التخطيطُ العلمي والتقني إستراتيجيةَ الخطة العلمية وعلاقاتها بخُطط رؤية المملكة 2030 التنموية، وإعطاء الأولوية للبحوث التي لها علاقة مباشرة بمشاريع التنمية لتطوير التقنية وتوطينها.
(ج) التدريب والتأهـيـل:
إن لمراكز التدريب والتأهيل دورًا مهمًّا جدًّا في إيجاد العلماء والباحثين والفنيين القادرين على استيعاب وتطوير التعامل مع التقنية ومن ثَمَّ توطينها، والعمل على توسيع قاعدة الانتشار العلمي بين المهندسين والفنيين، لكي نُوجد الفنيَّ المتطوِّر المتعلم والقادر على التعامل مع العلم والتقنية، والذي يتطلب وَضْع برامج ومناهج للتعليم والتدريب، ورَبْط عملية برامج التعليم والتدريب بالبيئة المحلية، وتشجيع العلماء والباحثين في مجال الاكتشافات والاختراعات العلمية بالتوجُّه نحو البحث العلمي الذي سوف يُعزِّز القاعدة العلمية والبحثية التي تؤدي إلى تطوير التقنية وخلق الكوادر الوطنية.
(د) توطين وتطويع التقنية:
بعد مرحلة التوطين يعتبر المصدر الرئيسي للتطويع هو المراكز البحثية الوطنية المتخصصة، وأيضًا المصانع المحلية بكفاءتها العملية والمهارة المتاحة فيها. ويعَدُّ التطويع أكثر الأساليب التقنية ملاءمةً للدول النامية، والذي يحتاج إلى تعديلات تزيد من ملاءمته. وعملية التطويع وتوطين التقنية نادرًا ما تحدث في حالة التعاقد بأسلوب تراخيص التصنيع؛ لأن هذا الأسلوب يُضعف من عملية التطويع وتوطين التقنية، وبالتالي يؤدي إلى عدم مساهمة الخبرات الوطنية والفنية بشكل فعَّال، وتكريس التبعية مع الشركاء الأجانب المتعاقدة معهم.
وتتطلب عملية التطويع وتطوير التقنية اختيارَ العناصر التقنية التي لا تتنافس مع الإمكانات الذاتية بهدف تنمية وتطوير مصادر التقنية الوطنية، ومن المسائل الأساسية في هذا المجال ضرورة تجزئة التقنية؛ من خلال التعرف على مكوناتها وعناصرها الأساسية، وإجراء الحسابات الاقتصادية والفنية لمعرفة تكلفة كل منها ونسبته إلى التكلفة الكلية، إلى جانب الحد من نَقْل التقنية التجميعية، واستبعاد بعضها التي يمكن تطويرها محليًّا، وعلى هذا الأساس فإن رفض طريقة المنتج الجاهز يعني التوجه نحو البديل الأكثر ملاءمةً، الذي يتمثَّل في طريقة المنتج المُجزَّأ، فهذه الطريقة الملائمة لتوفير فرص للكوادر المحلية في مراحل الإنجاز المختلفة، فإنها تساعد على استعمال المواد والعناصر التقنية المحلية؛ وبالتالي فإن المنتج المُجزَّأ يُعبِّر عن العوامل الأساسية لنجاح عملية التطويع، ومن ثَمَّ تطوير مصادر التقنية التي يمتلكها البلد.
(هـ) وجود قاعدة بيانات:
تعتبر من أهم وسائل نَقْل وتوطين التقنية، إذ تسهل عملية الوصول إلى المعلومات العلمية والتقنية والصناعية في مختلف المجالات، سواءً في مراكز الأبحاث أو الشركات المحلية ومجالات عملها، بالإضافة إلى توفير قاعدة بيانات للمتخصصين والباحثين والمهندسين والفنيين في هذا المجال، وهو ما يساعد على تحقيق أهداف نَقْل وتوطين وتطوير التقنية.
- رؤية المملكة 2030 وهدف توطين التقنيات الإستراتيجية:
لكي ننتقل إلى مجتمع صناعي متقدم ويتم تخفيف الاعتماد على النفط كمورد أساسي لخزينة الدولة، ونحقق أحد الأهداف الإستراتيجية لرؤية المملكة 2030؛ يجب على صُنَّاع القرار في المملكة السعي لردم الفجوة المعرفية والتقنية التي تفصلنا عن الاقتصاديات المتقدمة (2)، وردم هذه الفجوة لا يأتي إلا بالتعاون والاستثمار والتشارك مع الاقتصاديات العالمية التقنية.
ولِنأخذْ مثال الصناعات العسكرية حيث تُعَدُّ المملكة اليومَ من أكثر خمس دول في العالم في الإنفاق العسكري، غير أنه بحدود 50٪ من هذا الإنفاق يُنتج محليًّا؛ ولهذا أتت الرؤية لتحقيق هدف توطين ما يصل إلى 50٪ من الإنفاق العسكري بحلول (1452هـ – 2030م) بإذن الله تعالى، وهذا الأمر بطبيعة الحال سيخلق قطاعًا صناعيًّا كبيرًا، وسوف يُولِّد عددًا كبيرًا من الوظائف لأبناء هذا الوطن.
إن الأثر الإيجابي لتوطين الصناعات العسكرية لا يقتصر على توفير جزء من الإنفاق العسكري فحسب، بل يتعدَّاه إلى دعم نوعي للاقتصاد المحلي من خلال خَلْق فرص للمنشآت الصغيرة والمتوسطة التي ستعمل في هذا المجال، وأيضًا ستوجد – بإذن الله – أنشطة صناعية وخدمات مساندة كالمعدات الصناعية والاتصالات وتقنية المعلومات.
عملية التوطين معقدة إلى حد ما، وتتطلب الاتفاق مع الشركاء الأجانب وموافقة الحكومات الأجنبية، ويعتبر الدور الحكومي حاسمًا جدًّا لتحقيق النجاح؛ لذا يُشكِّل التوطين محورًا عالي الأهمية لدى قيادة المملكة، والذي تعتبره من أهمِّ الثروات الوطنية، ويتضح ذلك الاهتمام فيما ذكره صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع، عندما أطلق رؤية المملكة 2030، ونصُّ ما ذكره “عندما نأخذ ما هي أهم بنود المحتوى المحلي (230 مليار دولار)، أهم بند هو التصنيع العسكري الذي يتراوح ما بين 50 إلى 70 مليار دولار سنويًّا، يزيد أحيانًا ويقل أحيانا، فنحن ثالثُ أكبر بلد في العالم تُنفق على التسليح العسكري، 99% منه خارج المملكة، وهذه فرصة ضخمة جدًّا لخَلْق صناعات كبيرة داخل المملكة وخلق وظائف وخلق تنمية، وما يُميِّز هذا الأمر أن القرار بيد الحكومة 100%، فالحكومة اليوم اتخذت قرارًا تشترط فيه رَبْط أي صناعة لها بمحتوى محلي؛ بمعنى (أنا ما أشتري منك إلا كم تعطيني محتوى محلي)”.
- التكامل والتعاون بين الجهات المستفيدة وأصحاب المصلحة الرئيسيين:
تُسهِم حكومة المملكة وبشكل كبير جدًّا في تحمُّل تكاليف عملية نَقْل وتوطين التقنية؛ إلا إنه يتوجب على العديد من أصحاب المصلحة والجهات المستفيدة أن تلعب دروًا مهمًّا ورئيسًا في تحقيق أهداف نقل وتوطين التقنية من خلال التعاون والتكامل فيما بينهم، ومن تلك الجهات – على سبيل المثال ما يلي:
- المُشرِّعون وواضعو السياسات في المملكة.
- الهيئة العامة للصناعات العسكرية.
- هيئة المحتوى المحلي.
- وكالات المشتريات الحكومية في الوزارات المعنية.
- صندوق الاستثمارات العامة.
- الشركات الحكومية
- أي جهات حكومية أخرى لها ارتباط أو علاقة بمجال توطين التقنيات؛ على سبيل المثال: وزارة الصناعة والثروة المعدنية، الهيئة العامة للاستثمار في المملكة العربية السعودية (SAGIA)، الهيئة العامة للجمارك، هيئة الزكاة والدخل… وغيرها.
- الجامعات السعودية.
- المعاهد والمراكز البحثية المتخصصة:
- مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية
- مركز الأمير سلطان لأبحاث الدفاع.
- الشركات المحلية وسلاسل الإمداد المتخصصة.
- الصندوق الصناعي.
- مُصنِّعو المعدات الأصلية الأجنبية – لنقل التقنية.
- الحكومات الأجنبية – للحصول على إذن تصدير التقنية.
وهنـاك عـدة طرق لعمليـة نَقْـل وتوطين التقنية، وأكثرهـا شـيوعًا النمـوذج الخطـي Linear Model الـذي يتألـف مـن عـدة مراحـل؛ تبـدأ مـن توليـد الفكـرة والبحـث والتطويـر للتقنية، ومـن ثَـمَّ إلـى مرحلـة حمايتهـا كبـراءات اختراع، والبحـث عـن شـراكة بيـن المراكز البحثية والقطـاع الصناعـي، ونقـل تلـك التقنية مـن خلال اتفاقيـات تراخيـص لشـركات قائمـة أو تأسـيس شـركات ناشـئة، وتُختـزل أغلـب أنشـطة عمليـة نَقْـل التقنية فـي مرحلـة نَقْـل حقـوق الملكيـة الفكريـة إلـى القطـاع الصناعـي (3).
توطين التقنية يتطلب التعاون وتحقيق التكامل الذي يتم من خلال العمل بمنهجية واضحة، وقد يكون الأنسب المنهجية التي تعمل بها كثير من دول العالم الصناعية المتقدمة، وهي منهجية تُسمَّى مستويات جاهزية التقنية Technology Readiness Level- TRL، حيث توزيع الأدوار على الجهات حسب المستوى، وكل مستوى لديه مهام واضحة ويجب تحقُّقها للانتقال للمستوى الذي يليه، ويمكن توزيعها كما يلي:
وبعد اكتمال العمل من خلال تلك المستويات، يكون المنتج النهائي جاهزًا للاستخدام النهائي من قِبل الجهات المستفيدة.
- دور القطاع الخاص في عملية التوطين:
من أجل إشراك القطاع الخاص في عملية التوطين، من الضروري فهم كيفية عمل القطاع الخاص عندما يتعلق الأمر بالاستثمارات، وما هي المخاوف التي يراها، ويمكن تلخصيها فيما يلي:
- الشركات الخاصة ليست على استعداد للاستثمار في أنشطة البحث والتطوير طويلة الأجل و/ أو أنشطة هندسة المنتجات المحلية بسبب الاستثمار المسبق المرتفع، وعدم اليقين بشأن إمكانات نمو السوق، ومخاطر قيام الشركات الأجنبية بالمنافسة المحلية، وفي نهاية المطاف الغموض بشأن العائد على الاستثمار ROI؛ لذا فإن الشركات الخاصة (الصغيرة والمتوسطة والكبيرة) تبحث عن تحقيق عائد جيد على استثماراتها بأقل قدر ممكن من المخاطرة، وتتطلع للنمو المستدام المربح.
- العديد من الشركات الخاصة تفكر طويلًا قبل الاستثمار في التوطين / نقل التقنية، لا سيما إذا تطلَّب ذلك استثمارات عالية جدًّا.
- عند اختيار فرص الاستثمار، تفضِّل الشركات الخاصة فرص الاستثمار المنخفضة (مثل التداول والشراء / إعادة البيع)، فهي تهدف إلى تحقيق أقصى ربح بأقل قدر ممكن من المخاطر.
- سعيًا وراء الربح، تميل الشركات الخاصة إلى إدارة هيكل تكاليفها بعناية، إذ تقوم بتوظيف العمالة منخفضة التكلفة، والحد الأدنى من الاستثمار في التدريب وتنمية الأفراد، وغالبًا ما تمتنع عن الانخراط في مشاريع عالية رأس المال وعالية المخاطر، مثل التوطين أو تطوير منتج جديد، وهذا ما يُفسِّر انخفاض متوسط معدل السعودة في القطاع الصناعي.
قد ترى الحكومة التدخل ومعالجة مخاوف القطاع الخاص، ربما عن طريق تحمُّل جزء من المخاطر التي تتعرض لها الشركات الخاصة في عملية التوطين، وهذا سيحفِّز بالتأكيد المستثمرين المحليين من القطاع الخاص للاستثمار في القوى العاملة المحلية.
- توطين التقنية، والتحديات:
هناك بعض التحديات التي تواجه الشركات المحلية لإتمام عملية التوطين بشكل مناسب، على سبيل المثال لا الحصر:
- إحجام الشريك الأجنبي في مجال التقنية عن كسر سلسلة التوريد الراسخة لديه.
- المصالح المكتسبة في الوضع الراهن، ومقاومة التغيير من قِبل بعض أصحاب المصلحة المعنيين.
- عدم تخصيص التمويل لدعم عملية اكتساب وبناء القدرات المحلية، الرأسمالية والبشرية.
- هناك قيود للتصدير من بعض الحكومات الأجنبية.
- ممارسات الشراء الحكومية التي لا تقدِّم أيَّ حافز للمنتجات محلية الصنع على المنتجات المستوردة.
- ما زالت الصورة الذهنية لدى بعض الجهات المستفيدة بأن البضائع الأجنبية أفضل من السلع المحلية، وأن التقنية العالية مقصورة على تلك الشركات الأجنبية، ولا يمكن بناؤها محليًّا.
- لا تتماشى الطموحات الوطنية مع النمو والتنافسية والابتكار والتصنيع المحلي.
- نقص كبير في التعاون والتكامل بين أصحاب المصلحة الرئيسيين.
- عوامل النجاح الرئيسية:
لكي تنجح عملية التوطين، يجب معالجة العديد من التحديات والعقبات في وقت مبكر من العملية، وهذا يشمل التشريعات الصحيحة والخُطط والتمويل والحوكمة المناسبة لضمان تحقيق أهداف الأداء الإستراتيجية، ويمكن تلخيص عوامل النجاح فيما يلي:
- التكامل والتعاون بين جميع أصحاب المصلحة المشاركين في التوطين للعمل بشكل جماعي وتوزيع الأدوار فيما بينهم، وكل جهة تلتزم بدورها الذي لا يتعارض مع أدوار وأعمال الجهات الأخرى؛ لتحقيق الهدف المشترك.
- الإعفاءات الضريبية والجمركية لجميع الأعمال المرتبطة بنَقْل وتوطين التقنية.
- مراجعة أنظمة المشتريات الحكومية لكي تدعم رؤية المملكة 2030 في مجال توطين التقنية.
- تعزيز دور الشركات الحكومية الجديدة من خلال إعطائها الفرصة لقيادة قطاع الصناعة المحلية، وتعتبر شركة سابك من أفضل الأمثلة في هذا الجانب، وعلى الشركات الحكومية الجديدة عمل ما يلي:
- وضع إستراتيجيات لإشراك الشركات الصغيرة والمتوسطة في عملية التوطين.
- تحديد معايير الاختيار للشركات المحلية السعودية المؤهلة.
- تحديد نوعية الأعمال المطلوبة من الشركات المحلية.
- ضمان بناء سلاسل الإمداد.
- تنمية الخبرات المحلية والفنية والمهنية.
- الوظائف عالية القيمة تكون للمواطنين السعوديين.
- إيجاد الحوافز المالية والمعنوية للشركات المحلية المؤهلة عندما يلزم استثمار رأس مال أولي كبير لإنشاء منتجات جديدة أو لدعم التوطين.
- إلزام المتعاقدين الأجانب بالتزاماتهم، وفرض عقوبات في حال عدم الامتثال.
- وَضْع مؤشرات الأداء الرئيسية KPIs، وتكون محدَّدة بوضوح.
- في ضوء التوجهات الإستراتيجية لحكومة المملكة، يجب أن يتكامل الاستثمار الضخم في بناء القدرات المحلية مع الأولويات الوطنية الأخرى، مثل: خلق فرص العمل، ونقل التقنية، وتنويع الاقتصاد، والاكتفاء الذاتي.
- عمل حملات إعلانية لتغيير الثقافة العامة السائدة من أن الخيار الأفضل هو “المنتج الأجنبي”.
- وَضْع سياسات واضحة وبشكل منهجي لدعم المنتجات محلية الصنع كما هو مُطبَّق لدى الحكومات الأجنبية الأخرى.
- تحديد المنتجات والخدمات المحتملة المناسبة للتوطين، والعمل بالشراكة مع الشركات المحلية لتوطينها.
- التوصيات:
- وضع إستراتيجية وطنية خاصة ومحدَّدة للتوطين.
- إنشاء منصة اتصال لجميع الأطراف المعنية، ربما في شكل ورش عمل منتظمة، ويصبح أصحاب المصلحة جزءًا من فريق تنفيذ إستراتيجية التوطين.
- إنشاء صندوق مُخصَّص لدعم التوطين، وتقدير أهمية التوطين للاقتصاد الوطني واعتباره فرصة.
- الاستفادة من قدرات وإمكانات مراكز ومعاهد البحوث والقدرات البحثية المحلية، والتي تعَدُّ من الروافد الأساسية والمهمة لدفع عجلة نقل وتوطين التقنية والتصنيع المحلي.
- تحفيز الشركات الخاصة على الاستثمار في الاقتصاد المحلي من خلال الدعم الحكومي للاستثمار المباشر لبناء القدرات المحلية، وضمان اتفاقية شراء لمدة معينة وبالكمية والسعر المتفق عليهما.
- يمكن لوزارة الاقتصاد والتخطيط أن تخلق قيمة اقتصادية أكبر من استثمارات المشاريع من خلال التوافق مع أهداف التنمية الوطنية، قد يكون هذا مهمًّا بشكل خاص في جذب الاستثمار إلى الصناعات الجديدة في المملكة.
- تحديد النموذج المالي الأكثر فعاليةً للمشاريع الكبرى.
- حملة ترويج قوية لـ “اشترِ المنتجَ السعودي” بين جميع أصحاب المصلحة والمواطنين والمقيمين.
- إيجاد الأطر التشريعية والتنظيمية لتطوير الإنتاج الصناعي وتسويقه.
- توفير البيئة الصناعية الداعمة والمحفِّزة على أرض الواقع، وتسخير كافة الإجراءات والتعليمات لتحقيق ذلك.
- بناء ودعم وتحفيز البنى الأساسية الصناعية في جميع قطاعات التصنيع الأساسية منها والإستراتيجية.
- يجب أن تعمل الجهات المعنية بالصناعة بشكل توافقي وتكاملي وشفاف، وخصوصًا في مرحلة البناء التي تمر بها الدولة.
- إنفاذ أمر المقام السامي الذي يفرض على جميع الجهات المستفيدة استخدام المنتج المحلي ولو كانت الكفاءة أقل من المنتج الأجنبي بنسبة معينة.
- العمل بمنهجية تعمل بها كثير من دول العالم الصناعية المتقدمة، وهي منهجية تُسمَّى مستويات جاهزية التقنية Technology Readiness Level- TRL، المشار إليها أعلاه.
- المراجع:
- United Nations Conference on Trade and Development (UNCTAD), “Transfer of Technology and knowledge sharing for development Science, technology and innovation issues for developing countries”, December 2014 – 878 – UNCTAD/DTL/STICT/2013/8.
- توطين التقنية خطوة كبيرة نحو التحول إلى اقتصاد المعرفة، صالح ثاني العنزي الاقتصادية، 02/04/2018م.
- Harmon, A. Ardishvili &others, 2016, “Mapping the University Technology Transfer Process”, Journal of Business Venturing 12, 423-434
- التعقيبات:
- التعقيب الأول: م. فاضل القرني
في عام ١٩٨٠ حصلت اليابان (شركة ميتسوبيشي) على الترخيص لبناء وتجميع لأكثر من (١٣٠) ف١٥(F-15J) الدفاعية بعد صناعة عدد (٢) فقط في مصنعها الأصل في (سانت لويس)، وذلك بعد الحصول على الفسوحات والتراخيص اللازمة وبموافقة الكونجرس على ذلك، بالإضافة لتصنيع الأجهزة الإلكترونية التي تتوافق مع المتطلبات لوزارة الدفاع اليابانية. وتلك الخطوة تعتبر كسرًا لقاعدة قانونية حكومية في الولايات المتحدة. بكل تأكيد، فإن اليابان كانت تنظر إلى ذلك البرنامج وإدارته كمشروع تستهدف توطينه ليعود بالنفع على الاقتصاد الوطني الياباني.
تناولت الورقة الرئيسة موضوعًا يعتبر هاجسًا للمملكة منذ أواخر السبعينيات، وتقدَّم حراكُه في منتصف الثمانينيات، المدعوم بالحقائق والأرقام والأمثلة والتطلعات والتوصيات لتوطين التقنية، ودفع القدرة على التصنيع المحلي لآفاق اقتصادية جديدة (كمساند وبمشيئة الله يكون أحد الروافد البديلة للاقتصاد النفطي). وكل ذلك من خلال طريقة الاقتراب الشامل بمنهجية من تهيئة البنية التحتية (التخطيط الإستراتيجي العلمي، البحث والتطوير، التدريب… إلخ).
ولعلِّي هنا وبهذا التعقيب أكتبُ بشكل تكميلي لما ورد في الورقة، بما أراه من اعتبارات مهمة يجب الأخذ بها في تحقيق تلك القدرة، وليس الوقوف عندها كقدرة وحسب؛ بل تحويلها إلى قوة ملموسة مرنة متطورة ومواكبة للمتغيرات.
ومن المهم توضيح الفرق في المعادلات البسيطة التالية:
- العتاد (طائرة، دبابة، سفينة) = أنظمة
- الأنظمة + الأسلحة المتطورة = قدرة (كامنة)
- الأنظمة + الأسلحة المتطورة + الطاقة البشرية المدربة والمؤهلة (أطقم مستخدمة وفنية، مهندسين، صناعيين، إداريين، إستراتيجيين، حكوميين وقطاع خاص وطنيين) = قوة (حركية للتأثير المطلوب).
والمعادلة رقم (٣) هي المطلوبة وخاصةً في إقليم يعتبر مسرحًا نموذجيًّا للعالم لاحتوائه على أسباب متناقضة ومثيرة عديدة: (السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، الجغرافية، الموارد المائية…. وغير ذلك من مؤثرات).
- الجانب السياسي والاقتصادي: كما أوردت سابقًا بأن المملكة كانت وما زالت تسعى لتحقيق نَقْل التقنية وتوطينها (وربما الإضافة حاليًّا هو مفهوم المحتوى المحلي). إلا أنها دائمًا كانت تواجه منظمات الضغط لمقاومتها (وبشكل مكثَّف في الولايات المتحدة) للحصول على الأسلحة والأنظمة المتطورة، ولعل مثال اليابان أعلاه هو البداية الواضحة في طريقة التعاطي والتعامل من قِبل برنامج المبيعات العسكرية الخارجية التابع للحكومة الأمريكية (FMS) مقارنةً بالمملكة. إلا أن الجهود السياسية السعودية من خلال التبريرات والحاجة للقدرات العسكرية هي مطلب لا يمكن قبول أي بدائل، وسيتم البحث عن جهات أخرى توفِّر المطلوب. وفي الغالب تتم الموافقات اللازمة من الحكومة الأمريكية وتُؤخَذ على مراحل بمبدأ (خُذ واطلب)، وبعدها ينتقل التحدي إلى نَقْل التقنية للجانب الاقتصادي. في قطاع الدفاع على وجه التحديد، ونظرًا لضخامة ميزانية وزارة الدفاع وتأثيرها في الناتج المحلي الإجمالي والذي يُقدَّر آنذاك (٢٠٠ مليار دولار) بين (١٩٨٠-١٩٩٠)، وأيضًا المسوغات الأمنية في المنطقة من الحرب العراقية – الإيرانية والتهديدات التي كانت تصاحبها وحتى حرب الخليج الأولى. كانت هناك عدة برامج توطين، مثل (التوازن الاقتصادي) والذي يتبعه اتفاقيات وإنشاء شركات في مجالات معينة، معظمها في الجانب اللوجستي والتحديث في الأنظمة؛ إلا إنه ومن خلال الأحداث السياسية والأمنية في المنطقة وإلقاء ظلالها على التقنية وتوطينها، تقدمت المملكة كثيرًا في هذا الجانب مقارنةً بتلك الحقبة. الآن، ومع المتغيرات وطريقة التفكير، تستدعي وَضْع أولويات بوجود خطوط إنتاج محلية لزيادة رد الفعل والاستجابة، بالإضافة إلى رفع الحس والتطبيق الأمني بالكوادر السعودية العسكريين والمدنيين ومن القطاعين، ومنها كمثال (الأجهزة الدقيقة للتوجيه والإصابة والتعريف والرؤية في جميع الأحوال الجوية المختلفة). إضافةً لذلك، التوطين يساعد في التغلب على النسبة العالية لتوريد السلاح من دولة واحدة (معظم دول المنطقة تعتمد بما لا يقل عن ٦٥٪ على السلاح والأنظمة الأمريكية)، وتعتبر نسبة كبيرة يُخاطَر بها لضمان استدامة الوضع الدفاعي والأمني للمملكة. ولا يمكن إغفال الأحداث والجهود الحالية في السلام مع إسرائيل وصفقة القرن وظلالها على التقنية اكتسابًا وتوطينًا.
- الذكاء الاصطناعي: كان تطور الأنظمة كعتاد وتدريب وإدارة تمضي في الغالب بالتطور التصاعدي الحلزوني (spiral approach)، والذي يعطي الوقتَ لإعداد الخُطط الإستراتيجية للبناء وإدارة التدريب والتخطيط للميزانيات بطريقة يمكن التنبؤ بها. والآنَ مع تطوُّر الصناعة المعلوماتية والذكاء الاصطناعي (System Of Systems)، وضع الأنظمة التقليدية في تحدٍ لا يمكن النظر إليه إلا باليقظة المستمرة، وتقدير تأثيره والعمل على مواكبته. ومن صور تلك التحديات:
- تقصير العمر الافتراضي للأنظمة التقليدية بسبب ابتكار أجهزة ذات أحجام أصغر وتأثير أدق وقلة دعم لوجستي، مثل: (طائرة بدون طيار، وأجهزة الاستطلاع والتجسس والتعريف والإنذار… وغيرها).
- تقليص الحاجة للإنشاءات والبنية التحتية المكلِّفة، والتي تحتاجها الأنظمة التقليدية.
- قلة الاعتمادية على العنصر البشري بسبب الذكاء الاصطناعي.
- ضرورة بناء نظام سيبراني دقيق وذي حماية عالية.
- المحتوى المحلي الفعال: لا شك أن تطلُّع الدولة من خلال رؤية ٢٠٣٠، وكما ورَد في الورقة الرئيسة، بالوصول إلى ٥٠٪ لتوطين التقنية – سيكون لها المردود الاقتصادي، وتقليص البطالة، وسرعة الاستجابة للمملكة في الجانبين الدفاعي والأمني. ولكن من الأهمية بمكان أن تكون الأنظمة وبنود ذلك تشتمل على جميع السيناريوهات والتحديات المتحملة، ومن تلك الاعتبارات:
- العمل على تذليل الصعاب التي تعوق الاستمرارية والاستدامة سياسةً وتطبيقًا، والاتفاقيات الضامنة في حال المتغيرات (السياسية، والأمنية، والأهم التقنية ونقلاتها المتسارعة).
- أن يكون لدى الجهات المعنية بالمحتوى المحلي الصورةُ الواضحة والبيانات اللازمة عن جميع موارد المملكة البشرية والطبيعية والقانونية؛ لضمان تحقيق الغاية التي أُعِدَّ مفهوم المحتوى المحلي من أجلها. وكمثال بسيط جدًّا لإيضاح هذه النقطة: (تعاني الولايات المتحدة من قلة المخزون الطبيعي لمادة التيتانيوم والتي تدخل في الصناعات العسكرية، ومنها الطائرات المقاتلة، وهنا تحافظ على ذلك المخزون الطبيعي وتستورد المادة من روسيا الاتحادية) https://tradingeconomics.com/united-states/imports/russia/titanium-including-waste-scrap
- التعقيب الثاني: أ. محمد الدندني
المحتوى المحلي هو مشروع وطني بحد ذاته، ولو طُلِب اسمٌ آخر لرؤية 2030 بمسمَّى تعريفي، لربما أوفى المحتوى المحلي بالغرض، وإلى حد كبير.
تتمثَّل القضية في نقاش المحتوى المحلي في أحد أهم الأنشطة، وهو التصنيع العسكري؛ لما له من أهمية سيادية، وبنفس الأهمية ما يتطلبه هذا النشاط من تكلفة لها أثر كبير على الاقتصاد الوطني.
تشتمل الرؤية على طموح بسقف عالٍ للوصول إلى ٥٠٪ كنسبة للمحتوى المحلي بحلول ٢٠٣٠. النسبة هدف عظيم وطموح، ولعلَّنا ننظر من ناحية عملية إلى ماهية النسبة، وكيف تكون رافعة يُعتمد عليها في التصنيع العسكري، وما ينتج عنها للمساعدة في رفع المحتوى المحلي في صناعات وخدمات أخرى، حيث إنَّه من المعروف الكمُّ الهائل من التطبيقات المدنية التي خرجت من رحِم الصناعات العسكرية في الدول الصناعية.
الاعتقاد أن التصنيع العسكري لا يجب أن يكون بعيدًا عمَّا يُسمَّى بالثورة الرقمية أو الثورة الصناعية الرابعة، للأسباب المعروفة؛ منها ما يتعلق بجدوى التصنيع العسكري لحماية الوطن وما يتناسب مع موقعه وجغرافيته، وأيضًا مما سينتج من هذه الصناعة من أبحاث وتطبيقات عديدة في الاتصالات والذكاء الاصطناعي وحلوله في أغلب المجالات من التعليم إلى الطب إلى كثير من الصناعات، وما تحتاجه من نوعية وكفاءة الموارد البشرية، حيث إنَّنا بحاجة إلى التصنيع غير التقليدي، أولًا للدفاع عن بلادنا، والذي لا يحتاج أعدادًا كبيرة ممن هم تحت السلاح؛ لسببين جوهرين وهما: عدد السكان، واتساع بلادنا وطول حدودها البرية والبحرية.
طرق كاتب الورقة الرئيسة ضرورة التنسيق بين كلِّ اللاعبين في المحتوى المحلي من جهات حكومية ومراكز أبحاث وجامعات والقطاع الخاص، وهذا مهمٌّ ومطلوب بلا شك؛ فقد سئمنا تركيبة الجزر المتناثرة في بحر كبير من البيروقراطية وعقلية إمبراطورية المنشأة سواء أكانت قطاعًا عامًّا أو خاصًّا.
وهنا لعلِّي أتقدَّم خطوةً بضرورة وجود وزارة سيادية للمحتوى المحلي، لها الصلاحيات في التعامل ونقاش الخطط مع كلِّ من يعنيه هذا الأمر. وزارة تكون واضعةً للأحكام والتشريعات والمراقبة والتدخل لدى أي منشأة حكومية أو خاصة؛ لضمان جودة العمل والتركيز والتنسيق وعدم تضارب الأعمال.
إضافة للتوصيات المذكورة بالورقة، أرى أن تجربة مراكز الأبحاث والتدريب وبالذات في قطاع التصنيع العسكري يجب أن تكون مرتبطةً بهذا القطاع، ولا بأس من التعاون مع مراكز أبحاث أخرى كمدينة الملك عبد العزيز والجامعات الأخرى. أيضًا، تشجيع القطاع الخاص على تخصيص نسبة من الدخل للبحث والتدريب، ويمكن أن تُستقطَع من الزكاة أو ضريبة الدخل متى ما شُرِعت.
في الختام، أودُّ أن أركِّز على أن المحتوى المحلي أمرٌ إستراتيجي لنهضة المملكة وتقدُّمها كمشروع وطني يدخل في كل مناحي حياتنا ووجودنا.
- المداخلات حول القضية:
- أهمية توطين التقنية في المملكة:
ذكر د. حامد الشراري أن نَقْل وتوطين التقنية أو ما يمكن وصفه بنقل التقنية (كسلعة تجارية) ونَقْل المعرفة المرتبطة بها، والقدرة على استيعابها والتمكين من إنتاجها وتطويرها محليًّا بأيدٍ وطنية (توطينها)، بمختلف أشكالها ومجالات استخدامها؛ أصبحت عوامل إستراتيجية مهمة للنمو والنهوض باقتصاد الدول وتنويع مصادر دخلها.
وأشار د. يوسف الرشيدي إلى أن توطين التقنية والمحتوى الصناعي المحلي جزءٌ من الاقتصاد الإبداعي المبني على المعرفة المطوَّرة محليًّا بشكل كلي أو المستوردة؛ كونها مُحرِّكًا للنمو الاقتصادي، فضلًا عن مساهمتها المباشرة في زيادة الناتج المحلي بشكل كبير. وهناك تزايدٌ عالمي في التركيز على الاقتصاد الإبداعي المبني على توطين الصناعة بكل أشكالها.
وأشار م. إبراهيم ناظر إلى أن بداية التصنيع العسكري وتوطينه في المملكة بدأ منذ عهد الملك عبد العزيز عام ١٣٤٨، حيث أمر بإنشاء المصانع العسكرية في الخرج، وتولَّى الأمير منصور وزير الدفاع في ذلك الوقت توقيعَ عقود مع شركات فرنسية لصناعة بعض أنواع الذخيرة والبنادق، ولا شك أن الصناعات العسكرية أو الدفاعية هي جزءٌ من الصناعة الوطنية، ولكنها تظلُّ تتسم ببعض الخصائص المتفردة، وتُبنى على إستراتيجيات ومفاهيم عسكرية واحتياجات دفاعية، وهي أكبر داعم للتقنيات المتقدمة.
- تحديات توطين التقنية في المملكة.
يرى د. حميد الشايجي أن ثمةَ جهودًا كبيرة مبذولة لإنشاء صناعات محلية؛ من أنظمة ومنح وأراضٍ ودعم وقروض ميسرة، من أجل إنشاء مصانع لسد الحاجة المحلية من منتجات معينة. وظهرت في السعودية مدن صناعية متعددة ومراكز لصناعات عسكرية، ولله الحمد. ولكن المشكلة تكمن في آلات التصنيع وقطع غيارها. فكلُّ مصانعنا تعتمد على آلات تصنيع مستوردة، وإنْ تعطَّلت فقطعُ غيارها تُستورد من الخارج، وهو ما يعني أن صناعتنا مرهونة بيد الغير، فلو ساءت العلاقات السياسية لسبب أو آخر فسيتم قطع تصدير آلات التصنيع أو قِطع غيارها للمملكة، مما سيعيق عملية التصنيع. والسؤال هنا: متى نستطيع أن نصنع آلات التصنيع وقطع غيارها؟ متى تشتري المصانع المحلية المكائن من المصنِّع المحلي؟
في حين يرى م. فاضل القرني أنه لا يمكن تحقيق الاستقلال الصناعي بشكل كامل، والصناعة العسكرية أكثر صعوبة بسبب نوعية المعرفة المتوفرة، والمواد الخام، والموارد البشرية المتنوعة والمتشعبة (مهندسين، صناعيين، إداريين، وكيانات البحث والتطوير العملاقة مثل DARPA, RAND ، وكيانات أخرى في بريطانيا وألمانيا…)، وهي نتاج عقود طويلة من الخبرة والنجاحات والفشل. أيضًا، إذا كان بالإمكان تصنيف قدرات التصنيع العسكري بمستويات، نجد أن أمريكا بكل تأكيد تتربع على المستوى الأول لامتلاكها كل عناصر ذلك، بل ولها في صناعات أوروبية وصينية وروسية وشرق آسيوية أجزاء وقطع تكبر أو تصغر، تقل أو تكثر، وتُعتبر مُشارِكة في صناعة تلك الدول، وتستفيد منها استثمارًا وخطوط إنتاج وأيضًا سياسيًّا وقانونيًّا (لوائح التجارة الدولية في الأسلحة International Traffic in Arms Regulations) (ITAR)، حيث لا يمكن لدولة أوروبية أو غيرها أن تبيع أو تتصرف مع طرف ثالث بدون فسح أمريكي. ومن تلك الأجهزة آلات التصنيع، وآلات الاختبارات والمعاينة. ومن الصعب بمكان أن نستهدف حاليًّا المستوى الأول من القدرة التصنيعية؛ لذا فنسبة (٥٠٪) للمحتوى المحلي هي نسبة معقولة وتنطوي على تحدٍ كبير.
بينما أشارت د. عائشة الأحمدي إلى أن ثمةَ عوامل تؤدي لفشل التجارب الصناعية للبعض، من أبرزها ما يلي:
- تشبُّع السوق بتصنيع المنتج، مع الفرق في جودته.
- ضعف الدعم المادي الميسر.
- افتقار العمالة الوطنية المؤهلة والمدرَّبة تدريبًا جيدًا، وحتى في حال توفُّرها ارتفاع كُلفة الأجور.
- ضعف ثقافة دراسة الجدوى للمشروعات الصناعية لدينا.
- ارتفاع كُلفة المنتج؛ من أجور ومصروفات أخرى (كهرباء، رسوم، وخلافه)، يُضاف إليها كلفة المنتج نفسه وما يتطلبه من المواد الخام.
وذكر د. رياض نجم أنه قد رافقت العقودَ الكبيرة لوزارة الدفاع خلال الثلاثين سنة الماضية مشاريع التوازن الاقتصادي، وكان معظمها في الصناعات والخدمات المدنية. فهل نجحت هذه المشاريع في نَقْل التقنية والمعرفة إلى المملكة؟
وأوضح م. إبراهيم ناظر أن وزارة الدفاع ممثَّلة في القوات الجوية في أواخر الثمانينيات الميلادية وقَّعت عقودَ تسليح ضخمة مع شركات أمريكية من ضمنها شركة بوينج، وتم إلزام تلك الشركات ببرنامج التوازن الاقتصاديoffset program، وهو لم يكن ابتكارًا، فكثير من الدول تُطبِّقه ومنها إسرائيل، ويقوم على فكرة استثمار مبلغ من العقد في إنشاء صناعات تحتاجها القوات الجوية بين تلك الشركات ومستثمرين محليين، وتبنَّى المشروع الأمير سلطان؛ حيث تمَّ تشكيل لجنة وزارية من ثلاثة وزراء يرأسها سموه، وتمَّ تشكيل مكتب للبرنامج يعمل فيه ضباط من القوات الجوية، ظل قائمًا إلى بعد وفاة الأمير سلطان رحمه الله بمدة، نتج عنه عدة شركات بعضها نجحت ناجحًا كبيرًا؛ منها: شركة الإلكترونيات المتقدمة AEC، وشركة السلام للطائرات وهي لعمرة الطائرات المدنية والعسكرية، وكذلك شركة الشرق الأوسط للمحركات، والشركة الدولية لصيانة النظُم الهندسية ISE، والشركة المكملة للوازم الطائرات، ولكن هذا البرنامج فشل بشكل ذريع في تطبيقه مع عقود الشراء البريطانية، والأدهى أن شركة الفضاء البريطانية system BAE شكَّلت شركات مختلطة، وبمساعدة من بعض رموز الفساد استحوذت على نسب عالية في AEC وISE.
وفي سياق متصل، أشار م. إبراهيم ناظر إلى أن مقومات الصناعة المدنية والعسكرية هي واحدة، لكن الصناعات العسكرية بالذات تُبنَى على أساس تزويد القوات المسلحة باحتياجاتها المستمرة والمتطورة من الأسلحة والمنظومات القتالية والدفاعية، ومن هذا المنطلق تقوم القوات المسلحة في الدولة بتحديد تلك الاحتياجات بناءً على الإستراتيجية الوطنية الأمنية التي تَبني عليها إستراتيجيتها العسكرية للقوات المسلحة، وحسب التهديد المحتمل على أرض الواقع تقوم القوات المسلحة بناءً على كل تلك المعطيات ببناء قواتها وخُطط الحرب، وبالتالي تحديد احتياجاتها من الأسلحة والمنظومات القتالية والدفاعية الحالية والمستقبلية لسنوات قادمة، وهي دائمًا في حاجة إلى تطوير أسلحتها وتقنيات جديدة لمنظوماتها لمواجهة التهديد المتغير والمتجدد الذي تواجهه في الدفاع عن الدولة. والمؤكد أن الصناعة العسكرية تتسم بسرعة التحديث والتطوير؛ وعلى سبيل المثال، فإن وزارة الدفاع الأمريكية تطلب من الشركات الأمريكية الرائدة في الصناعات الدفاعية طائرة أو نظام بقدرات وتقنيات متطورة جدًّا، وتقوم كل شركة بالعمل على إنتاج ذلك النموذج الأولي prototype، وكل تلك التجارب التي تُجريها كل الشركات تمولها وزارة الدفاع الأمريكية، وفي الأخير تقوم بشراء النموذج الأقرب لمواصفاتها من الشركة الفائزة.
وتساءل أ. محمد الدندني: ما هي الأسلحة المطلوب توطينها حسب الأهمية وإستراتيجية الأمن الوطني، حيث إنَّه لا يمكن أن يقوم التصنيع العسكري بكل الأسلحة المتعارف عليها؟
وفي هذا الصدد، أشار د. سلطان المورقي إلى أنه يمكن تصنيف الصناعات العسكرية إلى ثلاثة أنواع كما يلي:
- النوع الأول: صناعات لا يوجد فيها حساسية عالية، وهذا يُنقَل بنسبة ١٠٠٪؛ لأنه لا يوجد حرج من الدولة المصنعة لنقله للمملكة (السلاح الخفيف، الذخائر، قطع الغيار، الهياكل، إلخ).
- النوع الثاني: بعض الصناعات ذات الحساسية المتوسطة، وفي هذا النوع يوجد حرص من الدولة لنقلها للمملكة، وقد ننجح في الوصول لنسبة تتراوح من 20 إلى ٧٠ ٪ من المحتوى المحلي.
- النوع الثالث: تقنيات معقدة أو ذات حساسية عالية، وبعض الدول ترفض نقلها للمملكة؛ وهذا يحتاج إلى مراكز الأبحاث والابتكار، مثل تقنيات الحرب الإلكترونية وأنظمة الدفاع الجوي وخصوصًا بعض الصواريخ الموجَّهة بالليزر، وأنظمة الاستخبارات والاستطلاع.
وعقَّب د. حمد البريثن أنه بالنسبة للتجهيزات المعملية والورش، فإنها موجودة داخل المملكة بنسبة جيدة، ولكن المشكلة تكمن في التكامل بين الأطراف للخروج بمنتج مُوجَّه للتطبيقات الدفاعية.
ومن جانبه أشار م. إبراهيم ناظر إلى أن التنسيق والتكامل بين القطاعات العسكرية وربما المدنية كان فيما مضى أكبر عقبة بين الجهات المسؤولة في تحديد المتطلبات والتعاون، وبالتالي في نقل التقنية وتوطينها؛ لأن كل جهة ترى في نفسها إمبراطورية مستقلة لا تريد للأخرى التدخل في شؤونها من قريب أو من بعيد، وثمةَ أمثلة كثيرة في هذا الصدد، من أبسطها أنه عند إنشاء مصنع للملبوسات والتجهيزات العسكرية في التسعينيات من قِبل المؤسسة العامة للصناعات العسكرية عجز عن البيع للجهات العسكرية وامتلأت مخازنه بالملبوسات العسكرية، فقد عجز عن تسويق إنتاجه؛ لأن الجهات تفضل الشراء من الخارج رغم وجود توجيهات عُليا بتوحيد المشتريات بدعاوى كثيرة، لكن رؤية ٢٠٣٠ ومحاربة الفساد والفاسدين غيَّرت الوضعَ تمامًا، وها هي GAMI تأخذ زمام المبادرة في نقل التقنية للصناعات العسكرية وتوطينها. لكن رغم إعلان أهدافها في رفع المحتوى المحلي في الصناعات العسكرية إلى ٥٠٪، وبعض المبادرات (مثل: برنامج المشاركة الصناعية، ومنصة التراخيص، ومنح الرخص للصناعات العسكرية)؛ إلا أنه لم يُعلن عن إستراتيجية محدَّدة لتحقيق أهدافها ومبادراتها.
- وسائل تعزيز توطين التقنية وزيادة المحتوى المحلي في خطط التنمية:
في تصوُّر د. حميد الشايجي، فإن الحاجة إلى إنشاء مصانع تصنيع آلات وتصنيع المنتجات المختلفة سواء أكانت عسكرية أو للاستخدامات المدنية. هنا تكون الصناعات مستقلة، وهذا هو القرار الإستراتيجي المطلوب.
وفي اعتقاد أ. محمد الدندني، فإن من الصعب البدء من الصفر كصناعة الآلات، وهي ليست مهمة جدًّا في البدايات. ممكن أن يوجد تصنيع رديف، ويبدأ بفحص الآلات وفَهْم عملها، والبدء بتصنيع قطع الغيار، درجة دقة الـ machinery، وعلم الـMetallurgy علمٌ دقيقٌ، وما زالت الصين تستخدم المنتجات اليابانية لدقتها ودرجة نقائها. الحل في وضعنا هو الشراكات قدر الإمكان في الصناعة عمومًا.
ومن جانبه يرى د. صدقة فاضل أن المفترض أن يتم الانتقال التدريجي للتقنية إلينا مع كل صفقة كبيرة نستورد فيها كمية كبيرة من المعدات، بما في ذلك المركبات… إلخ. ومن المؤسف أن نرى أن هذا الانتقال كان وما زال بطيئًا بُطءَ السُّلحفاة. وكم عوَّلنا على انتقال جزء أو بعض من صناعة العتاد العسكري. ورغم أن الصناعة العسكرية لدينا قد وُلدت، إلا أنها ما زالت تحبو. كما أنها صناعة غير مُستحبة؛ لأن معظم إنتاجها يكون للتدمير. المطلوب انتقال تقني بوتيرة أسرع. ويجب التركيز على الصناعات الخفيفة والمتوسطة في البدء. ليتنا نبدأ بصناعة الملابس والأدوات المدرسية والتعليمية، مثلًا. وليتنا نستفيد من كمِّ الحديد الهائل الموجود لدينا في هيئة سيارات قديمة تالفة (تشليح). إنَّ مستقبل هذه البلاد في المدى الطويل يجب أن يعتمد على السياحة والصناعة.
أيضًا، فقد أكد أ. عبد الرحمن باسلم على أنه يجب أن نأخذ أمورَ توطين التقنية في العقود بمحمل الجد، والاختبارات والأهداف المحددة حتى يتم قياسها؛ لكن ما حدث في السابق لم يُحقِّق المطلوب.
وأشار د. حمد البريثن إلى أن نَقْل التقنية مهم؛ حيث إنَّ أغلب الشركات ذات الإنتاج العسكري (وغير العسكري كذلك) لديها أذرع أكاديمية، ونحن لدينا كمٌّ كبير من المبتعثين من الجامعات، والكثير منهم يبحث عن قبول للدراسات العليا، ومن الجيد التعاون بين القطاعات لابتعاث جزء من هؤلاء المبتعثين للدراسات مع المجاميع البحثية بتلك الجامعات، والتي ترتبط مباشرة بتطوير تلك المنتجات. كذلك يلزم أن تدخل وزارة الدفاع كداعم مباشر للقطاع الأكاديمي عن طريق الدعم للبنية التحتية وصيانتها وتشغيلها.
وذهب أ. عبد الرحمن باسلم إلى أهمية التفرقة بين عملية نَقْل التقنية وامتلاك أسُسها وتطويرها وتطويعها، وتجميع الآلات والأجهزة، وللأسف هو الغالب؛ فالأولى تُفيد البلد بشكل دائم، وتُحقِّق النقلةَ التطويريةَ لمستقبل زاهر، بينما الثانية تموتُ بعد تغيُّر التكنولوجيا، والأهم أنه إذا كنَّا نُنشئ المصانعَ ونجلب العمالة من الخارج – خبراء وعاملين – فلا حاجة لها؛ إنْ لم نبدأ من الصفر كامل الدورة التصنيعية بشبابنا، فلن نتقدم.
وفي تصوُّر د. يوسف الرشيدي، فإن إشراك القطاع الخاص مستثمرًا في توطين التقنية سينتج عنه قطاع صناعي محلي عسكري ومدني ضخم، سيكون له بالغ الأثر على مستقبل الصناعة في المملكة، وسيمتد الأثر بلا شك على المنطقة؛ كوننا سنتحول بسبب المعرفة المطوَّرة محليًّا إلى مُصدِّرين للمعرفة الصناعية للمنطقة بشكل كبير.
وتساءل د. رياض نجم: هل من الأفضل أن تكون خطة التصنيع العسكري فقط للاستهلاك المحلي أم يكون ضمن الخطة التصنيع بغرض التصدير أيضًا، خصوصًا للأسلحة الخفيفة والذخيرة ونظُم الاتصالات مزدوجة الاستخدام؟
وفي هذا الصدد، يرى د. سلطان المورقي أنه في البداية سيكون الهدف هو بناء منتج محلي من خلال نَقْل وتوطين تقنيته أو من خلال مراكز الأبحاث حتى نملك كامل حقوقه، ويكون لنا الحق في بيع المنتج للخارج. المرحلة الحالية تركز على مبدأ مهم، وهو تحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال الأنظمة العسكرية، السوق وكذلك الاحتياج المحلي كبير جدًّا، وهو الهدف الأول لنقل وتوطين التقنية، وفيما بعدُ ممكن يتم بيع المنتجات للخارج (حسب ميزانية ٢٠١٩، تم تخصيص ١٠.١ ٪ من إجمالي الناتج المحلي للإنفاق العسكري، وهو ما يُقدَّر بنحو ٧٨.٤ مليار دولار).
وأوضح د. حامد الشراري أن ثمة مقترحَ مشروع نظام لنقل التقنية وتوطينها قُدِّم إلى مجلس الشورى، وأُقِرَّ ورُفِع إلى الجهات العليا، لعلَّه يرى النور قريبًا. ولأن موضوع التقنية ونَقْلها وتوطينها واسع النطاق ومتشعب وحسَّاس للدول المُنتِجة لها؛ فقد اتسم النظام بمحددات عامة لتخدم توجهات المملكة، ويصب في خدمة الرؤية ٢٠٣٠ مع مراعاة الاتفاقيات الدولية حول التقنية ونقلها وتوطينها، منها أن صلب هذا النظام هو النقل الأفقي للتقنية؛ أي من دولة صناعية أو شركة أجنبية مالكة التقنية للمملكة، ويُركِّز بشكل كبير على العقود ذات العلاقة بالتقنية، وضمان استثمارها الأمثل في تمكين المملكة من إنتاج وتوليد التقنية محليًّا من خلال التدريب والتحسين والتطوير. كما أن النظام مُحفِّز لنقل التقنية وتوطينها بحيث يُعطي حمايةً لمالك التقنية مع وَضْع بعض الشروط التي تُمكِّن المملكة من امتلاكها أو جزء منها على المدى البعيد دون الإخلال بالاتفاقيات الدولية وحقوق مالك التقنية. كما يتسم المقترح بالمرونة ويعمل كمظلة مرجعية لأي عقد تقني حكومي، بحيث يضمن تطبيقَ العقود وتنفيذها بدقة، ويحفظ حقوق الطرفين (مُصدِّر ومستورد التقنية) بعدالة. بجانب وجود جهاز مركزي مستقل يُعنى بمتابعة تنفيذ هذا النظام والعقود التقنية الحكومية. ولعلَّ إقرار مثل هذا النظام يسدُّ ثغرةً تشريعيةً في الأنظمة السعودية، ويدعم المبادرات العديدة والجهود الوطنية في تنويع مصادر الدخل، ويُسهم في توطين التقنية وإنتاجها محليًّا لنلحق بركب الدول المتقدمة.
- التوصيات:
- الدعوة إلى الإسراع في اعتماد نظام نَقْل وتوطين التقنية الذي سيُشكِّل البيئةَ التنظيمية، ويضع الحوافز لتوطين التقنية في المملكة.
- دعوة مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية والهيئة العامة للصناعات العسكرية إلى التنسيق بينها ومع من تراه من الجهات ذات العلاقة، لتنفيذ منهجية وطنية لـ “مستوى جاهزية التقنية TRL” المُطبَّقة في كثير من دول العالم.
- دعوة وزارة الاقتصاد والتخطيط والأجهزة ذات العلاقة إلى وضع خطة وطنية لتحفيز الشركات التي تنفق قدرًا معتبرًا من دخلها على البحث والتطوير RD، تشمل تخفيض التزاماتها الضريبية، ولو لفترة محددة. وأن تُعطى الشركات التي يثبت نَقْلها وتوطينها للتقنية في مجال معين ميزات أكبر تصل إلى إعفائها من الضرائب والرسوم الحكومية.
- الدعوة لاعتماد آلية ثابتة لمشاريع التوازن الاقتصادي للعقود الحكومية الضخمة مع الشركات الأجنبية، سواء أكانت عسكرية أم مدنية.
- دعم الجامعات السعودية بحيث تكون مواضيع البحوث لديها قابلةً للتطوير والتحويل إلى منتجات يُستفاد منها داخل المملكة في التطبيقات المدنية والعسكرية.
- دعوة الصندوق الصناعي للتنمية والجهات ذات العلاقة للتأكيد على جودة المنتجات التي تُصنع في المملكة بما يوازي جودة المنتجات المستوردة، وإنشاء مركز وطني للتميُّز لتطبيق الجودة على المنتجات الصناعية في أسواق المملكة. ودعوة وزارة التجارة والهيئة السعودية للمواصفات والمقاييس إلى مَنْع استيراد المواد والمنتجات الرديئة ومنخفضة الجودة.
- دعوة الهيئة العامة للصناعات العسكرية إلى إشراك الجهات أصحاب المصلحة، مثل الجامعات ومراكز البحوث ومجموعة شركات تقنية، في وضع إستراتيجية وطنية لتوطين الصناعات العسكرية في المملكة، مع إمكانية تصدير جزء من هذه الصناعات في المستقبل.
- الحرص على تفعيل المراكز البحثية القائمة، وإنشاء مراكز متخصصة في مناطق المملكة التي لا يتواجد فيها مراكز بحثية، وذلك بالتنسيق فيما بينها ومع الجامعات ومدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية.
- الدعوة إلى التنسيق بين حاضنات التقنية الحكومية والخاصة وغير الربحية حتى يتم التكامل بينها فيما تقوم به، وإعداد برامج للتعاون مع مثيلاتها في الدول المتقدمة لاكتساب المعرفة والاستفادة من خبراتها.
- دعوة مراكز الأبحاث في المملكة، المستقلة والتابعة للجامعات، إلى إعداد برامج تعاون مع مراكز الأبحاث الدولية، خصوصًا في مجال تحويل الأبحاث النظرية في المجال التقني إلى منتجات صناعية مفيدة وقابلة للاستخدام.
- توجيه بعض من مبتعثي الجامعات السعودية للدراسة في الخارج بالجامعات ذات العلاقة بتطوير المنتجات العسكرية للشركات الدفاعية.
القضية الثانية
تحديد “ثوابت الأمة” لرؤية مستقبلية إيجابية
(10/9/2020م)
- الورقة الرئيسة: د. صدقة فاضل
- التعقيبات:
- التعقيب الأول: د. محمد الملحم
- التعقيب الثاني: أ. يحيى الأمير
- إدارة الحوار: د. عبد الله العساف
- الملخص التنفيذي:
أوضح د. صدقة فاضل في الورقة الرئيسة أن مصطلح الثوابت يشير إلى: أهم المبادئ والأهداف العامة التي يحرص عليها المنتمون المخلصون في الأمة، مهما كان وضع أمتهم، ومهما كانت العوائق أمام هذه الثوابت، التي هي – في نهاية الأمر- آمال وتطلعات وأحلام عربية، يُعتقَد بضرورة السعي لتحقيقها، وبلوغها ذات يوم. وقد حدَّدت الورقة بعضًا من هذه الثوابت، ومنها: ضرورة التضامن الحقيقي، والسعي لاتحاد عربي قوي يعمل على تحقيق المصالح المشتركة ودرء الأخطار المشتركة بالفعالية السليمة المطلوبة. والتمسُّك بالدين الإسلامي الوسطي المعتدل (دين الغالبية العربية)، ونبذ الشوائب الملصقة به، وتطرُّف بعض معتنقيه. وعدم التفريط في مقدسات الأمة وحقوقها المشروعة. والعمل على استتباب الأمن والسلم والاستقرار والنمو في الربوع العربية، على المدى الطويل، وعلى الأسُس الصحيحة. جنبًا إلى جنب مع التعاون مع العالم الإسلامي لأقصى حد ممكن، باعتبار أن العالم الإسلامي “ظهير” الأمة العربية.
وقدَّم د. محمد الملحم في التعقيب الأول قراءةً لأبعاد الورقة الرئيسة ومحاولة للإجابة عن التساؤلات التي طرحتها. وانتهى في تعقيبه إلى أن الدعوة إلى أمة عربية دعوة مغرية لما فيها من جواذب جغرافية، لكنها صعبة المنال ما لم تكن في إطار جامع يجمعها بقوة وصلابة، مثل الدين أو المصير المشترك.
بينما ذهب أ. يحيى الأمير في التعقيب الثاني إلى أن مصطلح الأمة مصطلح ملتبس وبحاجة إلى تحرير، ومن وجهة نظره فإن توصيف (الأمة العربية) مرتبط فقط بعامل مشترك واحد وهو اللُّغة، واللُّغة وحدها لا تصنع أمةً، نعم، قد تصنع قوميةً ووطنًا ما كالفرنسية والإيطالية والتركية وغيرها، لكنها لا تصنع أمةً. ومن ناحية أخرى، فإن الحكم العام على أن ثمة أمة عربية لديها واقع متدهور أو ضعيف، فهذا تعميم غير واقعي؛ لأن الواقع يضمُّ دولًا عربيةً واقعها مزدهر وتنموي وقوي، وأخرى ليست كذلك.
وتضمَّنت المداخلات حول القضية المحاورَ التالية:
- ثوابت الأمة والقضايا الإشكالية ذات الصلة.
- مدى وجود أمة عربية، بالمعنى الحديث للأمة.
- المملكة ومحيطها العربي: محاولة لاستشراف الفرص المتاحة.
ومن أبرز التوصيات التي انتهى إليها المتحاورون في ملتقى أسبار حول القضية ما يلي:
- ضرورة إعداد رؤية أو إستراتيجية مرنة لإظهار موقع المملكة من تاريخ العرب وتراثهم ما يؤكِّد ريادتها، وما يُعزِّز من موقعها في وجدانهم وضميرهم. وذلك يكون النواة لتأسيس عمق إستراتيجي حيوي لها في منطقتها، ومع الدول التي تجمعها بها روابط كثيرة وعميقة.
- أن تعمل المملكة على مواجهة أطماع بعض الدول الإقليمية ذات الأطماع المريبة المُهدِّدة لأمن المنطقة والساعية لتوسيع نفوذها في المنطقة، وأن ترتكز المواجهة على إستراتيجية قوية لتحالفات عربية واسعة تحدُّ من شراسة الأطماع المحيطة.
- إعادة فكرة عروبة العرب لا تقتضي بالضرورة التفكير فعليًّا في مشاريع حالمة كالوحدة العربية (اندماجية كانت أو كونفدرالية)؛ بل تروم أقصى درجات التفاهم والتعاون بما يكفل الأمن والاستقرار والازدهار، وتحجيم فرص الطامعين، وملء الفراغات أمام المتربصين.
- الورقة الرئيسة: د. صدقة فاضل
في ظل هذا التخبط الفكري المخجل، والتيه الإستراتيجي الملحوظ، والتشرذم المدمر الذي يعيشه معظم العرب في الوقت الراهن، وعلى كل المستويات خاصة المستويين الشعبي والرسمي، فضلاً عن المستويين القُطري والقومي؛ تبرز الحاجة الملحة للمراجعة النظرية والفكرية للرؤية العربية المستقبلية، كما يجب أن تكون. وتنطلق هذه الورقة، التي تتضمن قضيةً فكريةً وسلوكية كبيرة، من هذه الزاوية. إنها في نهاية المطاف قضية هوية. لنُحدد وجهتنا… تمهيدًا لمستقبل أفضل، لنا ولأبنائنا وأحفادنا.
لا شك أن هناك “أمة”، ولها – كالمعتاد- “ثوابت” معينة، أو يمكن تعيينها. نعم، هناك بالتأكيد أمة عربية، وهي أمة Nation)) بكل المقاييس… تمتد حدودها من المحيط الأطلسي غربًا، إلى الخليج العربي وجبال زاغروس شرقًا؛ ومن البحر الأبيض المتوسط وهضبة الأناضول شمالًا، إلى بحر العرب وإفريقيا السمراء جنوبًا. وهي من أقدم وأعرق أُمم الأرض. تنطبق عليها كل تعريفات “الأمة”، وإنْ وُجِدت في عدة دول، وساء حال معظمها. ويكفي أن ألد أعدائها يعتبرونها كذلك، رغم أن بعضًا من بني جلدتها يُشكِّكون – مع الأسف – في كونها أمة واحدة، ولا يسرُّهم أن تكون كذلك!
وبصرف النظر عن رأى هذا الطرف أو ذاك، يفرض العرب أنفسهم كأمة متجانسة أو شبه متجانسة، بل إنها من أكثر المجموعات البشرية التي ينطبق عليها مصطلح “أمة”؛ بسبب أنه تربط فيما بين غالبية مكوناتها كلُّ الروابط والأواصر التي تربط عادة بين جماعات بني البشر، وأهمها الروابط الثمانية الشهيرة: الأصل العرقي، الدين الواحد، اللُّغة الواحدة، التقاليد المشتركة، التاريخ المشترك، الجغرافيا، إضافةً إلى المصالح والأخطار المشتركة. ولا توجد الآن مجموعة كبيرة من البشر على وجه البسيطة، يربط فيما بين أطرافها وعناصرها كلُّ هذه الروابط والوشائج، ويبقى هذا حالها: تفكك، وضعف، وتخلف… إلخ! ولكنها عوامل ومسببات هذه المأساة (المسببان الداخلي والخارجي).
إنها أمة وصل تعدادها إلى نحو نصف مليار نسمة. ولها ظل داعم لا يُستهان به، هو العالم الإسلامي، ظهير الأمة العربية، وصديقها وداعمها الأول (نظريًّا، على الأقل). ولو كانت أمور معظم هذه الأمة طبيعية، وفي يدها؛ لربما رأينا تضامنًا حقيقيًّا واتحادًا فيما بين أجزائها، يرتبط بتحالف دفاعي مع مليار مسلم، في عالم اليوم الذي لا يعترف إلا بالمتحدين الأقوياء.
****
وبصرف النظر عن الوضع الراهن لهذه الأمة، وتباين وتناقض علاقاتها البينية، وواقعها الحالي (السياسي والاقتصادي والاجتماعي) المتدهور أو الضعيف؛ فإنهــــــا تظــــــلُّ – كبقـــية الأمم – لهـــــــا “ثـــوابت” (Core Principles/Objectives) يلتزم ويتمسك بها الشرفاء بالأمة، ويتطلعون لتحقيقها مهما حُوربوا من هذا الطرف المتنفذ أو ذاك. والمقصود بالثوابت هو أهم المبادئ والأهداف العامة التي يحرص عليها المنتمون المخلصون في الأمة، مهما كان وضع أمتهم، ومهما كانت العوائق أمام هذه الثوابت، التي هي – في نهاية الأمر- آمال وتطلعات وأحلام عربية، يُعتقَد بضرورة السعي لتحقيقها وبلوغها ذات يوم.
****
ولو حاولنا (تصوُّرًا، واجتهادًا) تحديد أهم هذه الثوابت، ربما يمكننا تلخيص أبرزها فيما يلي:
- ضرورة التضامن الحقيقي، والسعي لاتحاد عربي قوي يعمل على تحقيق المصالح المشتركة ودرء الأخطار المشتركة بالفعالية السليمة المطلوبة.
- التمسك بالدين الإسلامي الوسطي المعتدل (دين الغالبية العربية)، ونبذ الشوائب الملصقة به، وتطرُّف بعض معتنقيه.
- تطبيق المبادئ المبجلة إنسانيًّا وعالميًّا (الحرية، العدالة، المساواة… إلخ)، والتمتع بمزايا هذا التطبيق أسوةً بالأمم المتقدمة.
- عدم التفريط في مقدسات الأمة وحقوقها المشروعة، وخاصة تجاه الحركتين الاستعمارية والصهيونية، ومكافحة أطماعهما في الأرض العربية عبر مناصرة القضية الفلسطينية بخاصة. فقيام دولة فلسطينية مستقلة يحمي الأمنَ القوميَّ العربي، ويقيـــــــه من مخاطرَ لا حصرَ لها.
- العمل على استتباب الأمن والسلم والاستقرار والنمو في الربوع العربية على المدى الطويل، وعلى الأسس الصحيحة.
- التعاون مع العالم الإسلامي لأقصى حد ممكن، باعتبار أن العالم الإسلامي “ظهير” الأمة العربية.
****
إنَّ الفرد العادي في أي أمة من الطبيعي غالبًا أن يتحمس للثوابت الحقيقية لأمته، فهذا سلوك إيجابي تلقائي. وغالبًا لا يوجد تعارض حقيقي بين ولاء الفرد للقُطر الذي ينتمي إليه أو مسقط رأسه أولًا، ثم لأمته. فالالتزام بالثوابت يكون في هذه الحالة على المستويين الوطني والقومي. وبالنسبة لمدى “ثبات” وديمومة الثوابت، يرى الدارسون وجوب ثبات جوهر كل مبدأ. أما تفاصيل ووسائل تحقُّقه، فيجوز تعديلها عند الضرورة، إذا حتَّمت الظروف الزمانية والمكانية المتغيرة، ودون مساس بالكرامة أو تنازل عن حقوق مشروعة.
ومن المؤسف وجود أناس ينتمون لهذه الأمة أو تلك، ولكنهم لا يكترثون بثوابتها، ولا يتمسكون بها كما يجب. ومن الأشد أسفًا، وجود عرب (وإنْ كانوا قلة، نسبيًّا) غير متمسكين بثوابت أمتهم، ويتلاعبون بها ما استطاعوا. بل إن غالبية هؤلاء لا تؤمن أصلًا بوجود أمة عربية واحدة ذات رسالة نبيلة، أو حتى إمكانية هذا الوجود. وتلك هي أصل مأساة عربية كبرى.
****
وفي سياق هذه القضية، فثمة تساؤلات أساسية تحتاج إلى الإجابة عنها، وتتمثل تحديدًا فيما يلي:
- ما مدى وجود “أمة” عربية بالمعنى الحديث للأمة، وإنْ وُجِدت في اثنين وعشرين قُطرًا؟
- ما أهم “ثوابت” الأمة على المستويين الوطني (القطري) والقومي، كما يجب أن تكون؟
- ما مدى الانسجام أو التناقض والتضارب بين الثوابت على المستويين الوطني والقومي؟
- وإذا لم تكن الأمة العربية محل اعتراف، فما هي الثوابت البديلة؟
- التعقيبات:
- التعقيب الأول: د. محمد الملحم
أجد أن الورقة الرئيسة دخلت مساحةَ المقارنة بين الأمتين العربية والإسلامية متخذةً الأولى الأساسَ، مع أن هناك فريقًا آخر يرى عكس ذلك تمامًا ويعتبر الأمة الإسلامية هي الأساس، وهذا محل جدل يصعب التوقُّف عنده، ولا أنصحُ بذلك حتى لا يُهدر دم الورقة في هذه المساحة، بينما هي تهدف إلى الوصول إلى إطار framework لثوابت الأمة العربية، وسوف أُسمِّيها أنا “الأمة العربية الإسلامية”، حيث قرَّر كاتب الورقة أن الدين الإسلامي إحدى لبناتها أو “روابطها” المكونة لها.
وأتفقُ مع كاتب الورقة في تعريف الثوابت، وأما ماهية الثوابت فما اقترحته الورقة جيد ومناسب مع حذف التكرار الذي ورد في الثابتين الرابع والخامس باعتبارهما قابلين للتضمين في الثابت الأول.
وبالنسبة لتساؤلات الورقة فهي تساؤلات منطقية في هذا السياق، وسوف أُجيب عن كل منها فيما يلي:
- ما مدى وجود “أمة” عربية ينطبق عليها التعريف الذي قدمته؟
لا أظن أننا مَن يجيب عن هذا السؤال، فقد سبقنا التاريخ وقطَع علينا الفرصةَ لأي إجابة مُخالفة لحقائقه التي سطَّرتها أمجاد أكثر من ست مئة سنة تمثَّلت في الخلافة الراشدة والخلافتين الأموية والعباسية، أما إنْ كان السؤال حول الواقع المعاصر فإن الإرث المذكور يرفد الإجابة أيضًا؛ فالأمة العربية متواجدة “نظريًّا” عند تطبيق العناصر المشار إليها: العرق والدين واللُّغة والتقاليد والتاريخ والجغرافيا والمصالح والأخطار المشتركة، ولكنها منتفية عمليًّا عند النظر إلى واقع تطبيق هذا النموذج النظري خاصة عنصري الدين والمصالح والأخطار المشتركة؛ ففي مسألة الدين هناك إشكالية حضارية في الاتفاق على حدود الدين ومقتضياته سواء التشريعية أو الأخلاقية، وأحيانًا التعبدية. وفي مسألة المصالح والأخطار، فإن بعض الأمة يُشكِّل خطرًا على بعضها قبل أن يأتي الخطر من الخارج!
- ما هي أهم “ثوابتها”؟
أهم ثوابت الأمة العربية هي تلك الثلاثة التي ذكرتها الورقة الرئيسة، وربما أُضيف لها أن يُبنى التضامن على مصير جغرافي واقتصادي مشترك، فبدون ذلك تظلُّ الثوابت الثلاثة قيمًا معنوية لا تتجاوز حدَّ بلاغة التعبير وسبك العبارة، ولا تتمحور حول قيمة مصيرية تُشكِّل الجاذب الرئيس لكل أولويات عناصر هذه الأمة بكل تشكيلاتها من دول وأحزاب وأقوام وجماعات وتكتلات.
- ما مدى توفُّر انسجام بين الثوابت على المستويين الوطني والقومي؟
لا شك أن هذا من ذاك… فما سبق التعليق عليه في شأن فشل تحقُّق مبدأ “الأمة” بين العرب بمعناه الحقيقي هو بسبب حالة عدم الانسجام بين المصالح القومية الكبرى (لكل العرب) والمصالح الوطنية الخاصة بكل بلد؛ وهو ما يجعل من التكامل حُلمًا مستحيلًا خاصة في ظل مخلفات الاستعمار والمعسكرين الشرقي والغربي اللذين قسَّما ولاءات عدد من دول هذه الأمة في فترة سابقة، ولا تزال آثار هذه الولاءات وأشباهها تؤثِّر بشكل أو آخر في وحدة الأمة، وفشل التجربة؛ الأمل جعل من هذا الانسجام حُلمًا قد لا يتحقق ما لم يكن هناك عامل جديد أو عدة عوامل تطرأ، فتحدث ثورة في التوجُّه وإعادة ترتيب الأولويات.
- وإذا لم تكن الأمة العربية محل اعتراف، فما هي الثوابت البديلة؟
لا أعتقد أن اختلال تطبيق أي نموذج صالح في أساسه النظري يمكن حلُّه من خلال ابتكار نموذج آخر بديل بسبب الفشل في إمكانية التطبيق، ولكن أعتقد أن التعامل مع المشكلة الأساس، أي التطبيق هو الطريق إلى تشكيل هذا الكيان.
أخيرًا، وبعد إجابتي عن أسئلة الورقة استجابةً لمتطلباتها، فإني أشير إلى ملمحين:
أولهما الجانب التاريخي، فبعض هذا المصطلح “الأمة العربية” يعيدنا إلى مرحلة انطلاق مفهوم الثورة العربية والوحدة العربية والبعث والاشتراكية وشعار “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”، ونشوء الجمهورية العربية المتحدة عام 1958 لتضمَّ كلًّا من مصر وسوريا، وما صاحَبها من تصورات وتداخلات فكرية وانتمائية جعلت من الوحدة مولودًا خديجًا، بل ربما كان مجرد سقط لم يكتمل حمله، فينتهي عام 1961 بسبب نزاعات السلطة، وهذا أيضًا يُذكِّرنا بالدعوة المضادة حيث أطلق الراحل الملك فيصل – يرحمه الله – مفهوم التضامن الإسلامي 1962 ردًّا على الدعوة الناصرية للوحدة العربية المزعومة، والتي أخفت وراءها مطامح تفرد بالزعامة، وهنا خرج مفهوم جديد هو “العالم الإسلامي”، فقد كانت الوحدة العربية متموضعة جيوسياسيًّا في إطار المكان والجوار؛ ولذلك كان التعبير “الوطن العربي” و”القومية العربية”، ولم يُتداول مصطلح “العالم” أو “الأمة” للعروبة كما هو حال هذا المصطلح في دعوة التضامن الإسلامي، والذي فجَّر الأساس الذي قامت عليه العروبة ليخرج من الإطار الجيوسياسي المحدود إلى إطار أوسع “فيما وراء البحار”، وهنا ظهر مصطلح “الأمة الإسلامية” ليُعبِّر عن الخريطة “الافتراضية” إنْ صحَّ القول بتعبيرنا المعاصر؛ وهنا كانت خطورة هذه الدعوة على مفهوم “الوطن” العربي المحدود بـ “قوم” معينين، ليسقط في يده، وتبدأ رحلة المفهوم الجديد حتى بعد وفاة الملك فيصل رحمه الله، حيث ظلت النظرة إلى قيادة المملكة العربية السعودية للعالم الإسلامي وريثةَ هذه الدعوة حتى يومنا هذا.
ثانيهما، أن الدعوة إلى أمة عربية دعوة مغرية؛ لما فيها من جواذب جغرافية، لكنها صعبة المنال ما لم تكن في إطار جامع يجمعها بقوة وصلابة مثل الدين أو المصير المشترك؛ ولهذا اقترحتُ مصطلح “الأمة العربية الإسلامية” لأؤكد على هذا المعنى، ولأدعو إلى أن يكون الدين محورًا لتكوين هذه الأمة، ولن يكون هذا الدين – في نظري – الدين السياسي الذي يتواجد في وقتنا المعاصر؛ بل لا بد أن تظهر نسخة جديدة مستقبلاً، يمكن أن يقبل عليها الجميع بصدق وولاء حقيقي.
- التعقيب الثاني: أ. يحيى الأمير
(في ظلِّ هذا التخبط الفكري والتيه الإستراتيجي والتشرذُم المدمر الذي يعيشه معظم العرب في الوقت الراهن….) أتصورُ أن السبب في هذا الاستهلال هو بسبب أن الورقة الرئيسة تتناول قضية مصطلحاتها غير مُحرَّرة، ولم يتم امتحانها، فاتجهت الورقة لتلك التوصيفات العاطفية التي لا يمكن قياسها. وهذا طبيعي إذا أدركنا حجم الالتباس في مصطلح الأمة. إنني لا أتفق مع هذه التوصيفات لواقع البلدان العربية اليومَ بهذا التعميم.
إن تناول مثل هذه القضايا يحتاج أولًا إلى تحرير المصطلحات تحريرًا علميًّا، ومن ثَمَّ البناء عليها. ومصطلح الأمة أحد هذه المصطلحات الشائكة والملتبسة نوعًا ما، وهو في الثقافة العربية مصطلح تحيطه الكثير من العاطفة والوجدانية أكثر من كونه مصطلحًا محدَّدًا واضحَ المعالم.
ذكر كاتب الورقة: لا شك أن هناك أمة… إلى أن قال: تنطبق عليها كل تعريفات الأمة.. وبما أن هناك تعريفات للأمة، فأتصور أن النقاش والبحث في هذه القضية يجعلنا أحوج ما نكون لإيراد أيٍّ منها حتى يتضح جليًّا المراد بالأمة التي نحن بصدد نقاش ثوابتها.
سأتجه إلى الروابط الثمانية الشهيرة كما جاءت في الورقة، وهي: الأصل العرقي، الدين الواحد، اللُّغة الواحدة، التقاليد المشتركة، التاريخ المشترك، الجغرافيا، إضافة إلى المصالح والأخطار المشتركة.
جاء أيضًا: ولا توجد الآن مجموعة كبيرة من البشر على وجه البسيطة، تربط فيما بين أطرافها وعناصرها كلُّ هذه الروابط والوشائج، ويبقى هذا حالها.
من وجهة نظري، الواقع مختلف تمامًا عن النص السابق؛ فمثلاً الروابط الثمانية لا تجمع بين أبناء (الأمة)، والجامع الوحيد الواقعي بينهم هو اللُّغة الواحدة؛ أما الأصل العرقي والدين والتاريخ وحتى الجغرافيا فليست واحدةً، ناهيك عن الأخطار والمصالح.
لكن وفي المقابل، فإن تلك الروابط السابقة باستثناء رابط اللُّغة تتحقَّق مثلاً في دول الاتحاد الأوروبي، ومع ذلك فلا يصح مثلاً أن نُسمِّيه: الأمة الأوربية.
الرابط الوحيد الواقعي بين أبناء (الأمة العربية) هو اللُّغة. وهذا من وجهة نظري، هو أساس المشكلة وليس الحل. اللُّغة لا تبني نسيجًا وحدويًّا، ذلك أن الناطقين باللُّغة الإنجليزية مثلًا لا يمكن وصفهم بالأمة الإنجليزية.
الدين ليس واحدًا في المنطقة العربية، وإن اتحد الدين اختلفت الطوائف وتقاتلت، والجغرافيا ليست واحدةً، ومفهوم الجغرافيا أصبح مختلفًا في ظل الدولة الوطنية، وكذلك الأخطار والتحديات؛ إيران خِصم وخطر على الخليج لكنها ليست كذلك بالنسبة لسوريا مثلاً (أتحدث انطلاقًا من الواقع، وليس المأمول والمفروض)، النظام التركي خطر على مصر وليبيا، ولكنه ليس كذلك في قطر مثلاً، وهكذا.
إذًا، الجامع الوحيد هو اللُّغة، ومن وجهة نظري، إنْ أمكن الحديث عن أمة واحدة انطلاقًا من الرابط اللغوي، فقد يكون ذلك ممكنًا قبل بدء زمن الدولة الوطنية، والتي اعتبرها أعظم منجز حضاري وصلت إليه البشرية.
الدولة الوطنية في المنطقة العربية متنوعة ومختلفة، ولكل منها واقعها وتحدياتها المختلفة، وبالتالي إذا كانت هناك دولة عربية تعيش التخبط والتيه والتشرذم، فإن ثمةَ دولةً عربية أخرى تعيش الرفاه والتنمية والحريات وسيادة القانون ووضوح الرؤية.
حتى ما يمكن وصفه بالحدود الجغرافية للأمة، هذه حدود لأوطان ودول، ولا يوجد شيء اليوم اسمه حدود الأمة.
الخلاصة: مصطلح الأمة مصطلح مُلتبس وبحاجة إلى تحرير، ومن وجهة نظري فإن هذا التوصيف (الأمة العربية) مرتبط فقط بعامل مشترك واحد وهو اللُّغة، واللُّغة وحدها لا تصنع أمةً، نعم، قد تصنع قوميةً ووطنًا ما كالفرنسية والإيطالية والتركية وغيرها، لكنها لا تصنع أمةً.
أما على مستوى الثقافة العربية، فإن توصيف (الأمة العربية) توصيفًا عاطفيًّا شاعريًّا ولكنه غير واقعي، وقد انتهى تمامًا بمجرد ظهور الدولة الوطنية الحديثة.
أيضًا، فقد جاء في الورقة: (وبصرف النظر عن الوضع الراهن لهذه الأمة، وتباين وتناقض علاقاتها البينية، وواقعها الحالي (السياسي والاقتصادي والاجتماعي) المتدهور أو الضعيف؛ فإنهــــــا تظــــــل – كبقـــية الأمم – لهـــــــا “ثـــوابت” (Core Principles/Objectives) يلتزم ويتمسك بها الشرفاء بالأمة، ويتطلعون لتحقيقها مهما حُوربوا من هذا الطرف المتنفذ).
طبعًا من واقع رأيي السابق، فالحكم العام على أن ثمة أمةً عربية لديها واقع متدهور أو ضعيف، فهذا تعميم غير واقعي؛ لأن الواقع يضمُّ دولاً عربية واقعها مزدهر وتنموي وقوي، وأخرى ليست كذلك.
والقول (الأمة العربية) بأنها تظل كبقية الأمم لها ثوابت… فلعله من المناسب أن يتم استعراض بعض الأمم القائمة اليوم في العالم، وبعض الثوابت التي لديها.
في الواقع، إن ما أعقب الحديث السابق في الورقة هو أمر لعلِّي لم أستطع استيعابه؛ فمَن هم الشرفاء؟ وما معايير الشرف، وما مفهومه، وما مكانته؟ وكم تبلغ نسبة الشرفاء في الأمة، وهل يتركزون في منطقة واحدة، وكيف يمكن معرفتهم؟ ثانيًا، مَن هو الطرف المتنفذ في الأمة، ولماذا يحارب شرفاء الأمة، وكيف أصبح متنفذًا؟
هذه النقاط لم أستطع نقاشها، ولم أجد إجابات عن تلك الأسئلة. اتجه الكاتب إلى تعريف الثوابت، حيث قال: (والمقصود بالثوابت هو: أهم المبادئ والأهداف العامة التي يحرص عليها المنتمون المخلصون في الأمة، مهما كان وضع أمتهم، ومهما كانت العوائق أمام هذه الثوابت، التي هي – في نهاية الأمر- آمال وتطلعات وأحلام عربية، يُعتقد بضرورة السعي لتحقيقها وبلوغها ذات يوم).
في الواقع أن هذا التعريف لا علاقة له بالتعريف اللغوي لأصل (ث ب ت)، والذي منه الثابت والثوابت، فالثابت هو الذي لا يتغير ولا يتبدل، ولا يختلف ولا ينتهي لأنه ثابت.
وإذا كانت الثوابت مبادئ وأهدافًا يحرص عليها فقط المنتمون المخلصون في الأمة.. فهي في الواقع لا علاقة لها بالثوابت، ومن الخطأ المعرفي أن تُوصف بأنها ثوابت، يمكن (تجاوزًا) أن تُوصف بأنها: قِيم الأمة، مُثُل الأمة، ولكن لا يمكن أبدًا وصفها بالثوابت، فالثوابت ليست اختيارية وخاصة بالمخلصين، لكن هذا يحدث ويتكرر أثناء الاستخدام الوعظي والعاطفي الذي استخدم كلمة الثوابت بكل مجانية حتى أصبحت أكثر المصطلحات عموميةً وشعبويةً.
(الآمال والتطلعات والأحلام) هذه لا علاقة لها بالثوابت. الآمال متغيرة متحولة، والتطلعات تختلف باختلاف المراحل، والأحلام تظلُّ أحلاما، هل لمَن يحلم مثلاً بالوحدة العربية أن نُسمِّي حُلمَه ثابتًا؟
أيضًا، سيكون من المناسب لو تمَّ طرح أمثلة على الآمال والتطلعات والأحلام التي أشارت الورقة أنها من (ثوابت) (الأمة).
الخلاصة: من وجهة نظري، أن القضية كانت بحاجة إلى تعريف (الثابت)، والتفريق بينه وبين (القيم) مثلاً، وبحاجة أيضًا لطرح مزيد من الأمثلة التي ستسهم بالتأكيد في إثراء الطرح.
بعد ذلك، قدَّمت الورقة خمسَ نقاط على أنها ثوابت، بينما هي خليط من الآمال والمواعظ والعموميات التي لا علاقة لها بالواقع، ولا يمكن قياسها.
إليكم أول الثوابت: (ضرورة التضامن الحقيقي، والسعي لاتحاد عربي قوي يعمل على تحقيق المصالح المشتركة، ودرء الأخطار المشتركة بالفعالية السليمة المطلوبة).
والسؤال، هل هذا من الثوابت؟ إنه من الآمال والطموحات والتطلعات المشروعة، ولكنه ليس من الثوابت على الإطلاق.
جاء في (الثوابت) أيضًا: (عدم التفريط في مقدسات الأمة وحقوقها المشروعة، وخاصة تجاه الحركتين الاستعمارية والصهيونية، ومكافحة أطماعهما في الأرض العربية عبر مناصرة القضية الفلسطينية بخاصة. فقيام دولة فلسطينية مستقلة يحمي الأمن القومي العربي، ويقيــــــه من مخاطرَ لا حصر لها).
الواقع يشير إلى أن ثمة أخطارًا جديدة تواجه المنطقة (وليس الأمة) أكبر من الخطر الاستعماري والصهيوني، كالخطر الفارسي الإيراني، والخطر التركي العثماني، وغيرها…، أتصور أن الاستعمار وفق نموذجه القديم انتهى، أليس كذلك؟
بقية النقاط الخمس هي أيضًا يمكن وصف بعضها بالأماني، وبعضها بالقيم؛ ولكن لا أراها من الثوابت.
- المداخلات حول القضية:
- ثوابت الأمة والقضايا الإشكالية ذات الصلة:
أشار د. زياد الدريس إلى أن قضية ثوابت الأمة إحدى القضايا المثيرة للجدل والقلق، وهو ما يمكن توضيحه في النقاط التالية:
- لماذا (القلق)؟ لأن هذه القضية تؤول حتمًا إلى نقاش حول الهويات، ونقاش الهويات عادةً ما يكون حدّيًّا ومتوترًا. نقاش الهوية يحدث الآن في كثير من دول العالم. فرنسا فتحت قبل سنوات نقاشًا شعبيًّا حول الهوية الفرنسية: هل نحن فرنسيون فقط؟ هل نحن أوروبيون؟ هل المهاجرون المجنَّسون فرنسيون مثلنا؟ هل نحن دولة علمانية أم دولة لادينية؟ وهل للإسلام وطقوسه وأتباعه حقوقٌ مثل حقوق المسيحية التي (كانت) دين فرنسا والفرنسيين؟ هذا النقاش (الهوياتي) لم يقتصر على فرنسا وحدها، بل وغيرها من الدول والشعوب في الغرب والشرق. فلا حاجة أن نُردد أو نظن أن المسلمين وحدهم أو العرب وحدهم أو السعوديين وحدهم هم الذين تشغلهم مسألة الهوية!
- إن هيمنة القيم الرأسمالية على عالم اليوم قد فعلت فعلها على كل ما سواها من قيم دينية أو قومية أو إنسانية، حيث أصبح يُشاع ويُعمَّم أن (المصلحة) هي قيمة العيش الإنساني المشترك اليوم وأهم (ثوابته)! والحقيقة أن ادعاء القول بأن (المصلحة) لم تكن طوال تاريخ البشرية إحدى أهم قيم العيش المشترك هو من المثالية المزيفة أو الساذجة، في أحسن الأحوال. لكن الذي يحاربه دعاة (الإنسانية) الآن هو المحاولات المستميتة لجَعْل (المصلحة) هي القيمة الوحيدة والمطلقة لإنسانية اليوم. هذا التفكير الرأسمالي يريد أن يصنع للناس “وجدانًا” بديلًا غير الذي تعارفوا عليه طوال قرون.
- ظلت الشعوب الإنسانية دومًا موسومةً فيما بينها بهويات كبرى وهويات صغرى، ولا تعارض بين هذه وتلك، بل تكامل. وغالبًا ما ترتبط الهويات الكبرى بالقيم والهويات الصغرى بالمصالح، في حالة الأمن والسلام. أما في حالة الحرب أو الخصام فيحدث العكس؛ إذ تُصبح الهويات الكبرى للمصالح، والصغرى للقيم. لكن الذي لم يحدث قط أن يصبح شعب أو دولة لأمدٍ طويل، غير مؤقت، مُنكفئًا على نفسه، منغمسًا في هوياته الصغرى، مُنكرًا أيَّ ارتباط لثوابته وقيمه ومصالحه مع هوياته الكبرى!
- اصطبغ اليمين المتطرف طوال عقود ماضية بالنزعة القومية. ويبدو الآن أننا أمام مولد (يمين متطرف جديد) مرتبط بالمفهوم الخاطئ للوطنية الذي يستند على مبدأ: الحب لوطني والكراهية لكل ما سواه! وهو توجُّه يتمدد ليس في العالم العربي فقط، بل وفي بعض دول العالم المتحضر. (الوطنية) هوية أساسية لا يمكن تهميشها مع نشوء الدولة الوطنية الحديثة، بل لا ينبغي التخلي عنها، بوصفها مرتكزًا أساسيًّا في حماية مصالح الفرد في العالم الجديد. وليس سرًّا أن المبالغة في تعميم الخطاب الوطني الآن هو رد فعل طبيعي مضاد للتهميش الذي لقته الوطنية طوال عقود مضت إزاء هيمنة الخطابين؛ الأممي والقومي. والمأمول ألا يطول رد الفعل (المبرَّر) هذا، فنعود إلى استنبات صيغة متوازنة من الترابط الوطني والقومي والأممي، بالحجم الذي نحتاجه من كلٍّ منها لتثبيت قيمنا وخدمة مصالحنا.
ويرى م. إبراهيم ناظر أن الاهتمام بتحديد وتحديث ثوابت الأمة هي مسألة تراود الكثيرين من أبناء العرب على اختلاف مشاربهم السياسية ومعتقداتهم ومذاهبهم. وفي تصوُّر م. فاضل القرني، فإن الثوابت لا بد أن تكون قويةً وراسخةً وشاملةً، لا تصطدم مع تطور الحياة وتعقيداتها. وتكون كافيةً لتكون مرجعًا للإنسان يستقي منها الرُّشد والقيم الإنسانية. وأيضًا لا تكون كثيرةً تجعله مقيدًا ومؤطَّرًا في السعي. ولا يمكن للإنسان أن يحدِّد الثوابت من تلقاء نفسه.
من ناحيته أشار د. فهد الحارثي إلى أن عروبتنا هي هذا الامتداد الجغرافي من المحيط إلى الخليج، وهي تلك المشاعر التي تمدُّنا بطاقات من السمو. ومن المهم التفرقة بين العروبة كتاريخ وتراث، وبالتالي هوية كبرى كما وصفها د. زياد الدريس، وبين “القومية” التي تأدلجت ففسدت وأفسدت. والسؤال: هل فساد بعض المسلمين في تفكيرهم وسلوكهم يمكن بأي حال أن يعني فساد الإسلام؟! بالطبع، لا. وهل فساد العرب في نزاعاتهم وخصوماتهم ومكائدهم يمكن أن يُؤخذ بالتالي دليلًا على فساد العروبة؟
إن إنكار العروبة هو إنكار للتاريخ والتراث اللذين صنعتهما هذه العروبة. صحيحٌ أن العرب اليوم أصبحوا شعوبًا متفرقة، وقبائل متناحرة، هم فسدوا ولكن فسادهم لا يعني فسادَ العروبة. وهم على الرغم من كل ذلك شركاء في التاريخ والتراث، والأوضاع المتردية التي تغمرهم اليوم هي خراب بالتأكيد، ولكنهم في يوم ما كانوا يعيشون في جغرافيا واحدة، وفضاء جيوسياسي واحد، وينضوون تحت لواء واحد. ولنتذكر حوار الخليفة هارون الرشيد مع السحابة التي كان لها أن تمطر حيثما تشاء، فخراجها لن يتجاوز مملكته. وهل تشتت العرب وتشرذمهم لعيب في عروبتهم (التراث والتاريخ) أم لعيب فيهم هم أنفسهم؟!
وأضاف د. فهد الحارثي قولَه: “لأول مرة أسمعُ أن هناك مثقفين يدفعون إلى التخلص من هويتهم الكبرى (وهي العروبة في هذه الحالة؟!) وتزداد دهشتي عندما يكون بينهم سعوديون؟! لماذا؟! لأنني أتذكر صيحة للملك سلمان – حفظه الله – في أحد المحافل، بعد أن سمع ما لم يعجبه، قال: نحن السعوديون لا يحقُّ لأحد أن يُزايد علينا، فنحن أصل العروبة وأصحابها، ونحن أهلُ الإسلام وحاملو رسالته”. إذًا كيف أفهمُ أن يكون هناك سعوديون يريدون أن ينزعوا عنَّا شرف العروبة، ومنهم مَن تراوده نفسه للتهوين حتى من موقعنا من رسالة محمد! عجيب! كيف تريد أن تخلع عن رأسك ” التاج ” الذي لا يشبهه أي تاج؟ قد أفهم ذلك من غير السعوديين ممن نقول إن أرومتهم البعيدة غير عربية، أما السعوديون فلا، وألف لا! مرة أخرى، الحديث ليس عن القومية التي أفسدتها الأيديولوجيا، وإنما الحديث عن ” أمة ” العرب، أي العروبة. أقول هذا وأنا من غير المؤمنين بالوحدة العربية، فذلك شأن آخر، ومَن الذي يفكر اليوم في الوحدة؟! نحن ندعو الله صباح مساء أن يكفي العرب شرَّ الاحتراب والاقتتال، فذلك يكفينا في المِحن التي نعيشها.
سؤال ثالث: لماذا هذه الحساسية عند البعض من مصطلح” الأمة”؟ صحيحٌ أنه لوَّثته عندنا بعض الأيديولوجيات المتطرفة، ولكنه جميل ونقي لدى أمم كثيرة أخرى: فهناك الأمة الفرنسية، وهناك الأمة الأمريكية American Nation. ، وهم يعتدون ويفخرون بذلك، ويعملون على ترسيخه. والأمة في هذا السياق ليست نقيضًا للدولة الوطنية، بل هي امتداد لها، ودعم لتاريخها ووجودها ومستقبلها، وخصوصًا بالنسبة إلى السعوديين. نعم، السعوديين، وكل أهل الجزيرة العربية. (إذا أنت كبير في المخيال التاريخي والثقافي، فلماذا تسعى إلى تقزيم نفسك، وتتخلص من الجناحين اللذين يجعلانك في موقع الريادة والقيادة؟ أمر غريب!).
سؤال رابع: لماذا عندما نغضب من العرب، أو نتضجر من واقعهم، تكون ردة الفعل أننا نتنصل أو نتبرأ من عروبتنا، بل نعتبرها أحيانًا “تهمة” يجب أن نتفانى في دحضها وردها؟! العرب عرب، هم وشأنهم، أما العروبة فهي تجلياتنا التاريخية والتراثية الضخمة. والغضب من العرب لا ينبغي أن يدفعنا إلى التهوين من رابطة “اللُّغة”، وما هي اللُّغة إنْ لم تكن الفكرَ نفسه، وهي “جوهرة التاج” في ثقافة جامعة مثل الثقافة العربية، واللُّغة العربية هي اللُّغة الوحيدة في التاريخ الإنساني كله التي يسندها “كتاب” هو القرآن، الذي هو في لوح محفوظ. واللُّغة جمعت العرب، والقرآن جمَع المسلمين. اللُّغة لغتكم أيها السعوديون، والكتاب كتابكم، فاتقوا الله في أنفسكم، ولا ترموا هذا الإرثَ العظيمَ خلفَكم! نعم، الوطنية عاطفة وانتماء ومشاعر، والعروبة أيضًا عاطفة وانتماء ومشاعر! وأين الخلل في ذلك؟! وإذا فشلت الشعارات “العروبية” عند القومجية، فذلك لا يعني فشل “العروبة” عند مَن يريد الحفاظ على الهوية الجامعة التي نحن في ذؤابتها وذروتها، ونحن أصلها وفصلها. فشلت الوحدة العربية، ولكن العروبة لم تفشل.
بينما أشارت د. وفاء طيبة فيما يخص ثوابت الأمة، إلى أن الثوابت أقرب ما تكون إلى مبادئ وقيم مشتركة منها إلى أي مجال آخر متغير بتغيير الظروف السريع، فلا الأحلام ولا الآمال ثوابت، بل هي أسرع المتغيرات. وفي هذا الإطار، يمكن التأكيد على أهمية اللُّغة كثابت للأمة، وهي اللُّغة العربية، وبمنظور (نظرية المؤامرة!). وأشارت إلى أنه يؤلمنا كثير من المعاول التي تعمل لهدم هذه أيضًا؛ فبينما نرى لغتنا تُهمل وتُهدم من الداخل والخارج؛ نجد أن اللُّغة كانت رابطًا بين بعض الشعوب التي لا ترتبط ببعضها بأي رابط آخر؛ بل يُفترض أن تجمعها مشاعر عدائية، كالفرنسية التي ربطت بين فرنسا وكل مستعمراتها السابقة لكون الاستعمار الفرنسي كان استعمارًا ثقافيًّا، وتعلَّم كلُّ من كان في هذه المستعمرات اللُّغة الفرنسية، فكانت فرنسا هي الوجهة الأولى للهجرة لهذه الشعوب مثل لبنان وسوريا وبعض المستعمرات في شمال إفريقيا ووسطها. والتصوُّر أن اللُّغة والدين هما العاملان أو الثابتان الأساسيان لأي أمة؛ ففي اجتماعهما نجد الأمة العربية وإنْ كان بيننا مَن هم من غير المسلمين، لكننا في غالبيتنا يجمع بيننا الإسلام واللُّغة العربية (ويُفترض شرعًا أن يضبط الدين تعاملاتنا داخل الأمة مع المسلمين وغير المسلمين)، وهذه الأمة هي من ضمن أمة أكبر هي الأمة الإسلامية، والتي نتحد معها في الدين ونختلف في اللُّغة.
في حين اتفق م. سالم المري مع ما ذهب إليه د. صدقة فاضل في الورقة الرئيسة من أن هناك حاجة ملحة للمراجعة النظرية والفكرية للرؤية العربية المستقبلية، فنحن عرب قبل كل شيء، ولنا هوية ومصالح وأهداف، ويجب أن نبرزها ونتفق عليها إذا أردنا دولةً قوية تُحقِّق التنمية، وتضمن العيشَ بعزة وكرامة. وعلينا أن نقف ضد مَن يحاربنا من الداخل، ويريد هدم ما نُريد بناءَه تحت شعارات مختلفة “حق أريد به باطل”. والأمة العربية موجودة، والعرب يعبرون عن أنفسهم من المحيط إلى الخليج، ولا ينكر ذلك إلا مكابر.
وأضاف م. سالم المري أن د. محمد الملحم لا يرى إبراز الحفاظ على المقدسات والقضية الفلسطينية والسلم العالمي كثوابت منفصلة، مع أن التضامن الذي أشار إليه في تعقيبه والوارد في الاتحاد لا يغطي أيًّا من البندين، ويمكن تكوين اتحاد تضامني لا يلتزم بأيٍّ منهما. والتفريط في أيٍّ منهما سيؤدي إلى نتائج كارثية على روابط الأمة العربية ووجودها. أيضًا، فقد أشار د. الملحم إلى أن تعبير “العالم العربي” أو “القومية العربية” لم يتم تداوله، وأن مفهوم “العالم الإسلامي” فجَّر الأساس الذي قامت عليه العروبية، والرأي أن الإسلام – كما أوضح د. صدقة – ظلَّ داعمًا للأمة العربية، ولكن الإسلام السياسي الأممي بشقيه السني والشيعي استُخدم من قِبل القوى الاستعمارية لمحاربة الدولة الوطنية العربية؛ لتلافي قيام أي دولة عربية قوية في المنطقة، وتم توجيه هذه الحرب على كل الأصعدة، بما في ذلك اللفظ نفسه أيضًا، فتجد تركيزًا شديدا من قبل الإعلام الغربي والإسرائيلي على الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وتغييبًا متعمدًا لأي كلمة فيها عرب أو العالم العربي. والهدف إدخال إسرائيل وتضييع الهوية العربية، وهذا منحى أيضًا يتبعه المستعمرون الإقليميون الجُدد (تركيا وإيران)، ويردده عملاؤهم من الإسلاميين الأمميين من السنة والشيعة. كيف يمكن لمواطن عربي في الدولة الوطنية أن يبايع الوليَّ الفقيه في إيران أو يبايع مُرشدًا أو خليفةً، ويكون لبنةً صالحة لبناء دولة عربية موحدة قوية؟ لقد استُخدم الدينُ الإسلامي السياسي لتحطيم آمال العرب في الوحدة والتنمية والتقدم. وأُرسِل المجاهدون لحرب السوفييت في أفغانستان، ولم يذهبوا يومًا للجهاد في فلسطين. وحتى يومنا هذا، لم يكن للدول الإسلامية أيُّ حضور أو دعم حقيقي للمملكة، والتي هي المؤسس والداعم لهذا المفهوم، بل ويتضح التأثير السلبي لذلك المفهوم السياسي للدين الإسلامي في مواقف تركيا وإيران من العالم العربي؛ فهاتان الدولتان تماثلان في خطرهما على العرب إسرائيل. لقد كان العرب ولقرونٍ ضحيةَ دينهم، وافترستهم الأمم باسم الدين الإسلامي. وهذا ليس لعيب في الدين، ولكن في سذاجة العرب بقبول غيرهم من المسلمين، وعدم إصرارهم على ثوابت تبرز هويتهم ومصالحهم وأهدافهم، وتبقي عليها.
ومن وجهة نظر م. خالد العثمان، فإننا يجب أن نُركِّز الحديث على ما يمكن أن يجمعنا بدلًا من البحث عن أسباب الفُرْقة وتسليط الضوء عليها. ومن الضروري أيضًا أن نعيَ أن الأدوات السابقة قد فشلت أيما فشل، ولم تفلح في تحقيق أيِّ شكل من التجمعات الإقليمية ناهيك عن لمِّ الشمل وتوحيد الكلمة على مستوى الأمة العربية جمعاء. إن الاقتصاد قد يكون هو الورقة المتبقية لجَمْع كلمة العرب، وهو الأداة التي أفلحت في جَمْع الأوروبيين والآسيويين وربما أمم أخرى. علينا أن نعمل بكد على تفعيل الشراكات الاقتصادية وإعادة إحياء مشروع السوق العربية المشتركة، فهي السبيل الوحيد لمعالجة هذا الشتات، وإزالة ما تجذَّر في نفوس بعض العرب من حسد وأحقاد وتنافسية سلبية. الرخاء الاقتصادي الشامل هو سبيل الوحدة، ولا بد من التركيز على تنمية المصالح الشمولية والبينية بخُطة واضحة المعالم. مع ضرورة التنبيه إلى أن الجامعة العربية ليست هي أبدًا الحاضن المناسب لإحياء هذا المشروع.
وأكَّد د. عبد الإله الصالح على أن من المهمِّ إعادة النظر في “المقدمات” التي تخلص بالشاب العربي والمسلم إلى الإحساس بالهزيمة والتخلف؛ وهو أمرٌ غير مُبرَّر بناءً على النظرة الواقعية للتاريخ الحديث والواقع على الأرض أيًّا كان، وما هو عليه الآن والممكن، حيث إنَّ العكس هو الصحيح. وقد يكون هذا الإحساس الانهزامي ميراث (إحساس ومصطلحات) من تجارب لبعض الشرائح العربية في مجالات القومية والثورة (وطبيعة تكوين فلسفتها التاريخية) التي كانت في سياق واسع للحراك التاريخي العام إلى الإمام، والتي تجاوزتها المجتمعات العربية كلٌّ بحسبه. والحقيقة أن اللُّغة الانهزامية لغة أجيال سابقة تفرضها على أجيال اليوم.
وفي اعتقاد د. راشد العبد الكريم، فإننا بحاجة إلى ثوابت تنظر إلى (الأمة) بمنظار مختلف عما سبق، منظار يتوسط بين المفهوم السابق، الذي يذوب مفهوم الدولة القطرية، وبين الدولة الوطنية الحديثة، ولا يلغي أحدهما على حساب الآخر. نحن بحاجة إلى الأمة/ الوطن، وأيضًا بحاجة إلى الأمة/ المحيط والامتداد والعمق. وقد لا يكون من المناسب استعمال كلمة (الخليج) للتعبير عن تكتُّل شعوبي، حيث تنطوي – مهما حسنت النوايا – على نوع من (النبز) والانتقاص إذا جاءت من الخارج، وأيضًا قد يكون فيها نوعٌ من تقزيم (السعودية)، بقياسها على بقية دول الخليج الصغيرة، والاكتفاء بالإشارة إليها بـ (الخليج).
والتصوُّر أنه ليس كل الثوابت ثوابت، وإنما المقصود بالثوابت المرتكزات والأصول (وهذه ثوابت حقيقية)، وأيضًا المكونات الأساسية، وهذه قد تكون مكونات رئيسية لكن قد تتغير مع الزمن، بما لا يهدم المرتكزات والأصول. ومن أهم الثوابت (الإسلام)؛ لأنه مكون حضاري صار مكونًا أساسيًّا للحضارة العربية. فالغرب رغم علمانيته وربما إلحاده، قليل مَن يُجادل بأن الدين اليهودي المسيحي Judi- Christian مكون حضاري أساسي فيه، وإنْ أنكرته بعض العقول، لكنه راسخ في الوجدان الغربي. هذا المكون يصبُّ في صالح المملكة العربية السعودية، فهي منبع الإسلام وموطن الحرمين. وهذه نقطة قوة، لم تُستغَل كما ينبغي. والإسلام في سياق الأمة قد يُنظر إليه على أنه دين، وقد يُنظر إليه على أنه (حضارة وثقافة).
وفي السياق ذاته يرى د. محمد الملحم أن التعويل على العروبة كأساس جامع يضرُّ بالعرب أكثر مما ينفعهم، وتجربة الدولة الأموية التي قامت على العروبة كأساس لقيادة الدولة دليلٌ بارز. ففي حين استفاد عمر بن الخطاب من حضارة فارس وثقافتها التدوينية لشؤون الدولة واستعمَل خبراءهم وموظفيهم في تأسيس دواوين “وزارات” دولته، وظلت الدواوين تُكتب بالفارسية حتى عهد علي، فإن الأمويين فيما بعدُ عرَّبوها، وهذا جيدٌ ولكنهم حين سحبوا البِساط من خبراء الفارسية لم يعطوهم بديلاً، مع أن هوية الدولة “الإسلام”، بل بدأت الدولة الأموية شيئًا فشيئًا تُمعن في هذا “التعريب” حتى أصبح الولاة العرب مثل الحجاج بن يوسف لديهم سلطات استثنائية.. فقط لأنهم عرب، كما فرَّقوا بين العرب وغير العرب (الموالي) تفرقةً أدت إلى تفاقُم الحقد، لينضم هؤلاء الموالي مع الحركات المناوئة للدولة سواء الخزر أو الخوارج، وأخيرًا حركة الدعوة العباسية، وتصاعدت حدة هذه السياسة حتى احترب القيسيون واليمانيون في آخر عهد الدولة، وبدأ الضعف. وقامت الدولة الثورية العباسية في الخفاء على أنقاض هذا المفهوم “الفاشل” والبعيد عن منهج الدولة الأساس، فضمَّ الثوريون إليهم العجمَ، بل كانت حركة أبي مسلم الخراساني أول شرارة عباسية لخلع الدولة الأموية “العروبية” (إنْ أردنا قولَ ذلك)، وكان المبرر الشرعي legitimate لهذه الدعوة هو العودة للدولة القائمة على الإسلام: الحكم لبني هاشم، نبذ التفرقة العنصرية، حرب الفساد. لذلك، فإن شرف العرب انطلق من رسالة الإسلام، ولم يكونوا شيئًا قبلها، بل كانوا بادية وفلاحين وتجارًا يتوددون إلى غساسنة الشام ومناذرة العرق ليشفعوا لهم عند الفرس والروم، فيأمنوهم ويتعاملوا معهم بما يقيم حالهم. الفتوحات الإسلامية هي التي رفعت لهم رأسًا، وكوَّنت قيمتهم التاريخية. ولذلك، فإن اجتماعهم حول رابطة العروبة اللُّغة والجغرافيا وحدها لا قيمة لها، وإنْ أضاف العروبي البحت “التاريخ” سيظهر له “الإسلام” الذي هرب منه!
- مدى وجود “أمة” عربية، بالمعنى الحديث للأمة:
يرى د. صدقة فاضل أن الحقيقة الساطعة هي أنه توجد أمة عربية، ولا توجد أمة أوروبية أو إفريقية؛ لأن عناصر الربط الجماعي الثمانية، وليس عنصر اللُّغة وحسب، مُتحقِّقة في العرب. ولا يمكن إنكار أن هناك جانبًا عاطفيًّا للانتماء؛ فالهوية هي أصلاً مسألة تفضيل شخصي عاطفي. ويمكن لأي شخص أن يُحدِّد هويته بناءً على معطيات الواقع الفعلي أينما كان. والاعتقاد أن من الضروري استحضار اختطاف بعض البلاد العربية، في المراحل المختلفة، من قبل ديكتاتوريات (صدام حسين، الأسد) لها حساباتها الخاصة المختلفة عن حسابات الأقطار التي تحكمها، ناهيك عن حسابات الأمة ومصلحتها العليا. وهذه الديكتاتوريات لها أبواقها التي تُزين ما تريده، وتُسِّفه ما تسفهه. ومن الأمثلة على ذلك أن ما يعتبر خطرًا مشتركًا على الأمة ككل (إيران، مثلًا) قد لا يعتبر كذلك بالنسبة لتلك الأنظمة ومَن يسير في ركابها.
في حين أكَّد أ. محمد الدندني على أنه حتى وإنْ كان ثمة أمة عربية واحدة، فمن المهم الوضع في الاعتبار ما يلي:
- من غير الصحيح مقارنتها بأُمم أو قوميات أخرى؛ لاختلاف التاريخ والتطور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، والأهم أن ولادة التاريخ العربي المكتوب للمنطقة ارتبطت بالدين الإسلامي، وهذا أقل العوامل التي يجب أن تكون عائقًا لوجود أمة عربية إذا ما فُهم الدينُ الفهمَ الصحيح فكرًا؛ أي فقهًا وتطبيقًا.
- العروبة ليست أيديولوجية، وإنما هي شعور يمكن أن يتعايش هذا الشعور مع أي فكر أو أيديولوجية إسلامية أو وضعية.
- عودة على ظروف المنطقة وللتوضيح، من الخطأ مقارنة المنطقة عروبيًّا مع قوميات تُشكِّل الدولة الوطنية فيها ذات القومية، والأمثلة كثيرة.
- محاربة العروبة عمومًا بلا بديل يملأ الفراغ ولا عاطفة هنا. والحديث هنا عن اكتمال السيادة بمعناها الحقيقي في الدولة الوطنية أو بكل قُطر عربي.
من جانبه، لخَّص د. عبد الإله الصالح القضيةَ في الشكل التالي، والذي يتضمن مجموعةً من الدوائر التي يأخذ كلٌّ منها حيزًا معينًا، وأضاف أنه لنا أن نتصور الوضعَ لو توسَّعت دائرة على حساب أخرى، أو ألغت دائرة دائرة أخرى، ولكن توازن تلك الدوائر مثل توازن الأفلاك السابحة بأمر الله.
وتعقيبًا على ما ورَد في الشكل السابق، تساءل أ. محمد الدندني: ما الذي يجعل الخليج في دائرة مستقلة؟ وبدوره أوضح د. عبد الإله الصالح أن باعتقاده أن العرب ليسوا بمزاج واحد أو نظرة واحدة. والخليج تجمعهم أمور معينة؛ بعضها ملموس، والبعض الآخر محسوس، ويختلفون في المزاج عن بقية العرب.
وذكر د. عبد الله بن صالح الحمود أنه إذا تحدَّثنا عن الأمتين العربية والإسلامية وما يعتريهما – للأسف الشديد – من إشكاليات مفتعلة، في الوقت الذي لم يعرف التاريخ قط أيَّ نوع من أنواع الفصل بين العروبة والإسلام، أو حتى بين الانتماء إلى أيٍّ منهما من دون الآخر، ذلك أنهما شيء واحد لا يفترقان، حتى لو لم يعتنق بعضُ العرب الديانة الإسلامية، فهم وبما أنهم عاشوا ولا يزالون يعيشون على أرض عربية وبين غالبية إسلامية؛ فهم أبناء الثقافة الإسلامية، فالعروبة هي موئل الإسلام، وهي نواة ازدهاره، والإسلام بدوره هو من تبنَّى إيجابيات الثقافة العربية، ورسَّخها، وحافظ عليها من الاندثار، فاختار الله تعالى الأمة العربيَّة من دون باقي الأمم، واختصَّها بأن حمَّلها أمانة الإسلام التي لا تعدلها أمانة، ولطالما كان العرب أوفياءَ لهذا الحمل الثقيل، ابتداءً من الرسول العربي الكريم صلى الله عليه وسلم إلى الصحابة، فالتابعين، فعلماء الدين، فالمجاهدين، فعامة الناس؛ ومن هنا فقد بات واضحًا أن الخصومة بينهما هي خصومة مفتعلة، لا وجود لها إذا ما نزلنا إلى أرض الميدان ورأينا التآزر العجيب بينهما.
بينما يرى د. محمد الثقفي أنه وفيما يتعلق بوجود أمة عربية حقيقية، فهي موجودة بدليل العناصر الثمانية المبينة بالورقة الرئيسة، والأبرز أن من أهمها في تكوين وتركيب الأمة – أي أمة – هي (الدين، واللُّغة، والعرق)، والتي تعَدُّ المملكة العربية حاضنةً لها، ومتمسكةً ببقية العناصر الأخرى؛ بمعنى أنها فرص متاحة للمملكة، وهي مجال الاهتمام في برامج سياستها الخارجية، وهي موجودة في الهدف الأول للرؤية وفروعه، الذي ينصُّ على تعزيز القيم الإسلامية والهوية الوطنية.
أما د. رياض نجم فيرى أنه في عالمنا الحالي، فإن التجارب الناجحة لتحالفات الدول هي المبنية على المصالح المشتركة بينها، مع احترام خصوصيات أفرادها ومبادئها الداخلية سواء كانت قومية أو دينية، وليس بالضرورة الأخذ بها أو الاعتراف لها.
وفي ظن د. عبد الله بن ناصر الحمود، فإن العامل الناجع في صناعة وِحدة متينة هو العامل الجغرافي فقط. وأي عامل غيره، سيؤول بالمتوحدين لأن يبغي بعضهم على بعض. الفطرة تقول ذلك، والتاريخ أيضًا، كما أن متانة العامل الجغرافي ليست ثابتةً ولا دائمة أيضًا، حيث تتحكم فيها عوامل أخرى؛ أظهرها “مستوى الندية بين الكيانات المتوحدة”، و”شفافية المصالح البينية ومع الآخرين”، و”قوة التقنين والتنظيم لكل ما تحتاجه هذه الوحدة من مُعزِّزات”. وحتى مع ذلك، سيكون الأمر رهنًا بسنة المداولة، فلا بقاءَ لأي وحدة ولا ديمومة لها مُطلقًا، فهي زائلة يومًا ما.
- المملكة ومحيطها العربي: محاولة لاستشراف الفرص المتاحة:
يرى م. سالم المري أنه مما لا شك فيه أن تعزيز الانتماء العربي فرصة متاحة للمملكة بل وحق أصيل؛ كونها كبرى دول الجزيرة العربية والحاضنة الحقيقية للعروبة والإسلام، وسيكون من المستغرب أن نجد سعوديًّا ينفي عروبته أو إسلامه. ومن الممكن أن تستفيد المملكة من تعزيز الانتماء العربي في سياستها الخارجية، مع انتمائها الإسلامي الأصيل كمهبط الوحي، خاصة في ظل الهجمة الإقليمية الإيرانية والتركية على البلدان العربية ومحاولاتهم تفتيت الدول العربية باسم الدين، وتحويلها إلى دول فاشلة؛ كما هو الحال في سوريا وليبيا بالنسبة لتركيا، والعراق ولبنان واليمن بالنسبة لإيران. فدعم الانتماء العربي سيحدُّ من الأطماع الإقليمية لا سيما أن النتائج السلبية والأطماع الخفية لتدخلات الأتراك والإيرانيين أصبحت واضحةً للعيان. وكذلك ريادة المملكة للدول العربية والعالم الإسلامي في محاولة إيجاد حل سلمي عادل للقضية الفلسطينية سيكون له أثرٌ كبيرٌ في نفوس العرب والمسلمين، وله وَقْعه المؤثر في الرأي العام العربي والإسلامي. والاعتقاد أن الغرب يُدرك ذلك، ويعترف بحقِّ المملكة في ريادة العرب والمسلمين إذا أصرت عليه وأثبتت جديتها ورصانتها كما هو معروف عن السياسة الخارجية السعودية. ومع أن تجارب الوحدة العربية السابقة فشلت، إلا إن توحيد عناصر القوة في الدول المتجاورة والمتجانسة مثل دول الخليج مهمة جدًّا للبقاء في الوضع الإقليمي والعالمي الراهن. حتى ولو بعض دول الخليج، وليس من الضروري أن تكون جميعها؛ فأي وحدة يجب أن تكون بالتراضي والاتفاق قيادةً وشعبًا.
وأما داخليًّا فهناك حاجة لإعادة مراجعة إستراتيجيات المملكة وتمكين رؤية مستقبلية إيجابية تتماشى مع رؤية 2030، تُعزِّز المواطنة والانتماء العربي، ومن الضروري تعزيز الانتماء الوطني أولاً؛ فليس من المقبول أو المعقول الانتماء أو الاعتقاد بعقائد تعطي الولاءَ لدول أجنبية أو لغير الوطن مهما اختلفنا فيما بيننا في المذهب أو النظرة السياسية، فالاستقواء بالأجنبي مفتاح التدخلات الأجنبية وذنبٌ لا يُغتفَر ومعول هدم يقضي على الدول، وقد رأينا أثره المدمِّر بوضوح في المشرق العربي.
وركَّز د. محمد الملحم على أن تعمل المملكة على تعزيز دورها العربي من خلال المراكز الثقافية السعودية التي تخدم اللُّغةَ العربية والتاريخ العربي والآداب والدارسات المرتبطة، بحيث تفعِّل دورها خارج المملكة لمزيد من تسليط الضوء والاهتمام بالدور السعودي العربي، ودعمها لقيمة العرب الثقافية، ودور ذلك في توحيد الرؤى على المستويات الإستراتيجية كنتيجة حتمية للتقارُب الثقافي. أيضًا، فمن المهم أن تنظِّم المملكة منتديات عربية سنوية في كل المجالات، لتكون قبلةَ المفكرين العرب بكل اختصاصاتهم، فتجذب كل الفرص الممكنة، وعلى الرغم من تواجد مثل هذا النشاط لكنَّه عفوي غير إستراتيجي النزعة، والمطلوب إعادة تنظيمه بخُطط مدروسة تستهدف تعزيز قيمة المملكة عربيًّا وجَعْلها مركزًا ومحورًا للفكر العربي.
واهتم م. خالد العثمان بأن تُبادر السعودية وعدد من الدول العربية الحليفة ما أمكن بإعلان تأسيس السوق العربية المشتركة وإطلاقها رسميًّا خلال سنتين، ودعوة الدول العربية للانضمام إليها وَفْق معايير والتزامات حاكمة تصيغها لجنة تأسيسية من الدول المؤسِّسة.
في حين يرى أ. جمال ملائكة أنه في خِضمِّ التحديات الضخمة التي يواجهها العالم العربي، فإن الحديث عن ثوابت الأمة العربية وأمل الوحدة والعوامل المشتركة… إلخ – هو كلام عاطفي وإنشائي لا طائل منه. وعليه، فإن الأنسب التفكير في الحلول، ومن ذلك على سبيل المثال:
- إيجاد تحالف سياسي بين دول مُحدَّدة، مثل السعودية ومصر والإمارات والبحرين.
- تأسيس تحالف عسكري بين هذه الدول، وإنشاء قوة تدخل سريع من هذه الدول حال تعرُّض إحداها للعدوان.
- إيجاد تعاون اقتصادي “فعَّال” بين هذه الدول.
- الاستفادة البينية بين هذه الدول لما نجحت فيه الأخرى.
ولا شك أن تحقيق المشار إليه أعلاه ليس سهلًا، ولو كان سهلًا لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليومَ؛ ولكنه ممكن بسبب تقارُب مصالح الدول المحدَّدة. ولعل نجاح هذا التعاون يكون عاملًا جاذبًا لدول عربية أخرى في المستقبل؛ وهو ما قد يساعد على تحقيق تعاون عربي واسع أساسه المصالح المشتركة، بما من شأنه الحفاظ على الهوية العربية.
وبدوره عقَّب د. فهد الحارثي بأهمية التحالف السعودي المصري، وأن يتبنى هذا التحالف ملء الفرغات التي توغَّل منها الأتراك والإيرانيون والإسرائيليون، وهذا لن يتحقَّق إلا بالتأسيس لرؤية شاملة لمستقبل “الأمة” برمتها. أما إذا تركنا الفراغات شاغرةً (كما حدث في العراق)، فالمشكلة لم تُحَل! قد تكون هناك صعوبات كبيرة، ولكن دور الدول القيادية التغلُّب عليها.
وترى د. فايزة الحربي أن حقيقة اجتماع ثوابت وأهداف الأمة العربية الإسلامية قد يكون شبه معجزة ما دامت بعض الدول تنعم بالرخاء الأمني والاقتصادي، والبعض يفقدها. وبالرغم من الجهود الكبيرة التي تبذلها المملكة العربية السعودية لتوحيد هذه الأمة إلا أنها تجد جحودًا وخذلانًا من البعض. والتصور أن الجهود التي تبذلها المملكة كبيرة، وتستحق أن تُجمَع وتأخذ حيزها من التاريخ والإعلام على مرِّ العصور.
ومن جانبه يرى د. مساعد المحيا أن الوطن في جغرافيته وهويته ومصالحه يظل هو الصيغة الجديدة في عالم الأمة الواسع. والتحوُّل في الانتماء الوطني بدلاً من البعد الأممي تقتضيه مصالح وطنية، وتُحفِّزه مواقف إقليمية ودولية. وهذا البعد الوطني هو الإطار الأول والأهم، ثم بعد ذلك يأتي وفقًا للمصالح الإستراتيجية البحثُ عن تحالف إقليمي أو أممي. إنها لغة المصالح التي تبحث عن أطرها المشتركة؛ فقد يتم تغليب البُعد المحلي أحيانًا، وقد يتم توظيف البعد الإقليمي والأممي أحيانًا. مثلاً، ذات يوم كادت أن تكون الأردن والمغرب ضمن دول الخليج وفقًا لنمط الحكم الملكي في كلٍّ منهما. أيضًا، عملت المملكة على إقامة تحالف إسلامي عسكري لمحاربة الإرهاب، أُعلن عنه في 3 ربيع الأول 1437هـ، الموافق 15 ديسمبر 2015 بقيادة المملكة العربية السعودية، واستهدف محاربة الإرهاب بجميع أشكاله ومظاهره أيًّا كان مذهبُه وتسميته حسب بيان إعلان التحالف. من جانب آخر، التحالف الإسلامي هو ما ترعاه منظمة مؤتمر العالم الإسلامي، وتقوده المملكة. هذا التحالف واجه قبل أيام تحالفًا إسلاميًّا سنيًّا جديدًا دعا له مهاتير محمد رئيس الوزراء الماليزي، واستجابت له تركيا وباكستان، قيل إن هدفه العمل على حلِّ القضايا الكبرى التي تتعرض لها الدول الإسلامية والتصدي لهجمة الإسلاموفوبيا، ركائزه الثلاث تركيا وماليزيا وباكستان. وهو تحالف شعرت المملكة بأن أحد مقاصده هو تهميش مواقف المملكة والوقوف ضدها، وبخاصة منظمة المؤتمر الإسلامي؛ فعملت على عدم نجاحه. لذا، من الخطأ النظر إلى أن الانكفاء على البُعد الجغرافي المحلي سيجعل خيارات الدولة أفضل لها، ومن الخطأ أن ترمي أي دولة أوراقها في أبعاد أممية لا تصمد سوى فترات زمنية ووفق مصالح مؤقتة.
وهذا لا يعني أيضًا أن ثمة ثوابت ينبغي أن تدور معها مصالح الدول وبخاصة المملكة؛ إذ إن قدرها في رعاية الحرمين جعَلها تلتزم في قيادة العالم الإسلامي، وتنفق من أجل ذلك الكثيرَ. ولذا، تتسم بيانات وخطابات المملكة بكثير من الجُمل التي تتسم بالثبات، مثل: (مواقف المملكة الثابتة، موقف المملكة ثابت…). الواقعية اليوم تتطلب ألا نُحلِّق في الخيال، فحتى دول الخليج لم تتفق على سوق مشتركة ولا بنك مركزي، وربما هي اليوم تتباعد أكثر وأكثر من تقاربها. آمالنا في أن يكون العرب في مستوى مسؤوليتهم هو طموح، لكن من حيث الواقع هو رمي للذات في أتون الفشل. لذا، يظل الانتماء للوطن في مقدمة الاهتمامات، وما بعده يمكن أن يأتي البحث عن تقارُب عربي أو أممي، وقد امتدح الله أمة الإسلام بقوله: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أمة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ (آل عمران: الآية 110). ولا يمنع ذلك أن يكون العالم العربي والإسلامي تجمعهم المصالح المشتركة بدلاً من التجمعات السياسية التي تقلق حين تتجه نحو تحقيق أضرار بمصالح آخرين.
بينما أكد أ. لاحم الناصر على أهمية تعزيز الانتماء العربي وإحياء القومية العربية وتوطيد أركانها، إذ إنَّ تقزيم الفكرة وتسخيفها ومحاولة إسقاطها يضرُّ بنا في المملكة العربية السعودية ودول الخليج؛ حيث إنَّ العالم العربي يُمثِّل عمقًا جغرافيًّا لنا وقوةً سياسيةً وعسكرية ومخزنًا بشريًّا، ومن الغباء هدم ذلك، إذ إنَّ الكثير من المؤسسات الغربية تحاول بشتى الطرق تقطيع الأواصر بين الأمة العربية عبر تبنِّي ودعم وإحياء ما اندثر ومات من ثقافة ولغة وعرق في هذه الدول؛ كإحياء القبطية في مصر، والأمازيغية في المغرب العربي، والثقافة الإفريقية في السودان والصومال وجيبوتي وتشاد وغيرها؛ لذا من المهم جدًّا توطيد العلاقات العربية، وإبقاء جذوة الانتماء العربي متوقدةً، وتعزيز الانتماء للعربية لغةً وأمةً وجغرافيا وتاريخًا وثقافةً ولحمةً.
وذهب د. محمد الثقفي فيما يتعلق بأهم ثوابت الأمة، سواء العربية أو انطلاقًا للأمة الإسلامية التي تستظل بها الأمة العربية، بأنه يمكن تأطيرها -اتساقًا مع ما ورد في الورقة الرئيسة – في الثوابت الثلاثة الأولى: (التضامن، التمسُّك بالدين الإسلامي، تطبيق العمل على استتباب الأمن والسلم)، فهي ثوابت أساسية في سياسة المملكة، بل مصدر قوة وفرص متاحة لها، بل وتتميز بها عن غيرها من بقية الدول العربية والإسلامية. أما مدى الانسجام أو التضارب بين الثوابت على المستوى الوطني والقومي والإسلامي أيضًا، فصحيح أن الواقع ينظر لأهمية المصلحة الوطنية أولًا، وهو اتجاه منطقي في حد ذاته رغم ميكافيليته؛ ومع ذلك فقليلٌ جدًّا ما يحدث، ولأن محاولة عدم الاختلاف، والتعاطي مع المصالح العليا للأمة (العربية أو الإسلامية) التي تعمل في إطاره المملكة يعطيها قوةً داخليةً مع قليل من التأثيرات السلبية في مصالحها الداخلية.
وبخصوص مَن لا يؤمن بأي انتماء عربي فهو أمرٌ يرفضه الواقع، وترفضه المصالح الكبرى للمملكة، بل إنها ربما تعَدُّ فرصًا وعوامل قوى إستراتيجية، للمملكة تحديدًا، وصحيح أن الوضع الراهن للأمة العربية قد لا يكون فاعلًا في الاضطلاع بأدوارها، وقد يُشكِّل تهديدًا، بل ويُشكِّل تهديدًا حقيقيًّا من بعض الدول للمملكة – كما هو الحال مع بعض منها؛ لكنه عامل وقتي، ويمكن العمل إستراتيجيًّا لتفعيل الانتماء العرقي العربي كفرص متاحة للمملكة تحديدًا.
ولعلَّ تحليل منظور سمو ولي العهد في جَعْل المملكة والخليج وشمال إفريقيا أوروبا الجديدة، والتحالف العربي إفريقي للدول المشاطِئة على البحر الأحمر وخليج عدن، ومبادرة خادم الحرمين العالمية للغة العربية، ورعاية المنظمات الإقليمية والإسلامية؛ تُعبِّر عن رؤية إستراتيجية تتطلب تنفيذ الأهداف الإستراتيجية لتحقيق هذا المآل، ومع ذلك فهي بحقٍّ تحتاج إلى إعادة مراجعة من أجل رؤية مستقبلية إيجابية.
- التوصيات:
- ضرورة إعداد رؤية أو إستراتيجية مرنة لإظهار موقع المملكة من تاريخ العرب وتراثهم، ما يؤكِّد ريادتها، وما يُعزِّز من موقعها في وجدانهم وضميرهم؛ وذلك يكون النواة لتأسيس عمق إستراتيجي حيوي لها في منطقتها، ومع الدول التي تجمعهم بها روابط كثيرة وعميقة.
- أن تعمل المملكة على مواجهة أطماع بعض الدول الإقليمية ذات الأطماع المريبة المهدِّدة لأمن المنطقة والساعية لتوسيع نفوذها في المنطقة، وأن ترتكز المواجهة على إستراتيجية قوية لتحالفات عربية واسعة تحدُّ من شراسة الأطماع المحيطة.
- تعزيز تحالف المملكة مع مصر لبثِّ الحياة في نوع من التحالفات العربية – العربية، كضرورة لا مفرَّ منها من أجل الأمن القومي للدولتين وللمنطقة برمتها.
- إعادة فكرة عروبة العرب لا تقتضي بالضرورة التفكير فعليًّا في مشاريع حالمة كالوحدة العربية (اندماجية كانت أو كونفدرالية)؛ بل تروم أقصى درجات التفاهم والتعاون بما يكفل الأمن والاستقرار والازدهار، وتحجيم فرص الطامعين، وملء الفراغات أمام المتربصين.
- إن دفع فكرة العروبة إلى الواجهة فيه حلٌّ مناسب ومواتٍ للولاءات العابرة للأوطان، مثل ولاءات الشيعة أو أكثرهم، لإيران. حيث إن تعزيز عروبة العرب الشيعة مفيد على المدى البعيد للاستقرار؛ من خلال حَشْد المشاعر للوطن وللانتماء التاريخي والثقافي بكل أبعاده إلى عروبتهم، مع الاحتفاظ بمذهبهم وبما لا يمس “مواطنتهم” من حيث الحقوق والواجبات. فقد نجحت هذه الفكرة في العراق أيام الحرب مع إيران، إذ كان الشباب الشيعة يموتون تحت علم الوطن (العربي).
- أن تُبادر السعودية وعدد من الدول العربية الحليفة – ما أمكن – بإعلان تأسيس السوق العربية المشتركة وإطلاقها رسميًّا خلال سنتين، ودعوة الدول العربية للانضمام إليها وفق معايير والتزامات حاكمة تصيغها لجنة تأسيسية من الدول المؤسِّسة.
القضية الثالثة
دور ريادة الأعمال والابتكار في تنمية المجتمعات
والتحديات التي يواجهها رواد الأعمال
(20/9/2020م)
- الورقة الرئيسة: د. أحمد الشميمري (ضيف الملتقى) (*)
- التعقيبات:
- التعقيب الأول: د. عبد العزيز الحرقان
- التعقيب الثاني: أ. لاحم الناصر
- إدارة الحوار: د. سعيد العامودي
- الملخص التنفيذي:
تناول د. أحمد الشميمري في الورقة الرئيسة دورَ ريادة الأعمال والابتكار في ترسيخ ثقافة العمل الحر والحد من مشكلة البطالة مُستدلًا في ذلك على تجارب عدد من الدول. وقد تمَّ استعراض دور ريادة الأعمال في بناء الاقتصاد المعرفي وزيادة الأصول المعرفية وتعزيز تنافسية الدول ودعم النمو الاقتصادي وغيرها من المكاسب الاقتصادية ذات الصلة بخلق الثروات المجتمعية، وتنمية مهارات الإبداع والابتكار، وتطوير منتجات جديدة، وامتصاص التكنولوجيات الحديثة، وغيرها. وقد تناول بالتحليل الأسس التي تقوم عليها منظومة ريادة الأعمال في الاقتصادات الوطنية، ودورها في إدراك منجزات رؤية المملكة 2030، وخاصة في ظل توجُّه المملكة لمواكبة التوجه العالمي في النمو المتسارع في أنشطة ريادة الأعمال. كما تمَّ استعراض العوامل المكونة لمنظومات ريادة الأعمال.
وأشار د. عبد العزيز الحرقان في التعقيب الأول إلى أن هناك عددًا من المعوقات التي يجب التأكيد عليها فيما يتعلق بريادة الأعمال والابتكار في المملكة، ومن أبرزها: ضعف الربط بين مخرجات العملية التعليمية ومتطلبات سوق العمل، بجانب الفجوات القانونية والتشريعية والتي قد تؤثر سلبًا على إنجاح خُطط دعم الأفكار الريادية. كما أوضح أنه ونظرًا لأن الابتكار هو عنصر أساسي للمشاريع الريادية المؤثرة، فمن الضروري تعزيز ممكنات منظومة الابتكار في المملكة، وخاصة في ظل المشاكل التي تعاني منها؛ وذلك بهدف تقديم خدمات لتطوير النماذج الأولية، وتمويل نشاطات الابتكار في المراحل الأولى للمشاريع.
وأوضح أ. لاحم الناصر في التعقيب الثاني أن ضعف البنية التحتية للائتمان والمخاطر، وكذلك عدم وجود سياسة تمويل للشركات الناشئة والصغيرة، تعَدُّ مشكلة حقيقة يعاني منها قطاع ريادة الأعمال وتعيق نموه، ولعل السبب في ضعف حصته التمويلية يرجع إلى عدم توفُّر الاشتراطات الائتمانية لعملية المنح؛ كعدم وجود قوائم مالية مدققة، وكذلك عدم قدرته على تقديم الضمانات، وحداثة إنشاء النشاط، وغيرها من الاشتراطات البنكية التي يصعب توفيرها لرواد الأعمال.
وتضمنت المداخلات حول القضية المحورين التاليين:
- واقع ريادة الأعمال والابتكار في المملكة والتحديات ذات الصلة.
- تصوُّرات مقترحة للنهوض بريادة الأعمال والابتكار في المملكة.
ومن أبرز التوصيات التي انتهى إليها المتحاورون في ملتقى أسبار حول القضية ما يلي:
- إيجاد إستراتيجية وطنية لريادة الأعمال بالتنسيق مع جميع الجهات الحكومية والخاصة ذات العلاقة، تشمل سياسات التمويل والمبادرات والبرامج اللازمة.
- تقوم هيئة المنشآت الصغيرة والمتوسطة (منشآت) بالتنسيق مع الجهات ذات العلاقة بإعداد قاعدة بيانات دقيقة وشاملة ومُصنَّفة عن ريادة الأعمال والمنشآت متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة، بحيث تصبح متوفرةً وجاهزةً لروَّاد الأعمال والمستثمرين والجهات البحثية.
- الورقة الرئيسة: د. أحمد الشميمري (ضيف الملتقى)
تحرص الدول على تحسين مستوى الناتج المحلي الإجمالي بعدة أدوات، ومنها زيادة عدد أفراد قوة العمل المالكين للمشروعات الصغيرة بما يقلل من معدلات البطالة. ومن الحلول الحديثة التي أقبلت عليها عدد من الدول المتقدمة والنامية على حد سواء، اللجوء إلى ريادة الأعمال بوصفها منبعًا كبيرًا لإنشاء الأعمال الناشئة، وترسيخ ثقافة العمل الحر في المجتمعات. وقد بينت عدد من الدراسات أن بعض الدول المتقدمة التي انخفض بها عدد مالكي المشروعات الصغيرة تتزايد بها معدلات البطالة بشكل متزايد في غالب الأحيان، هذا مع الإشارة إلى أن انخفاض عدد المشروعات الصغيرة قد ينتج عن قوة المنافسة بالسوق وتعدد الجهات المسؤولة عنها، إضافةً لتعدُّد وجهات نظر هذه الجهات.
- دور ريادة الأعمال:
أجرى الباحثون مثل أودريتش وآخرون (2007) Audretsch أبحاثًا للربط بين إحداث الوظائف وريادة الأعمال، وذلك بعد استعراض معدلات البطالة لكل من فرنسا وألمانيا ونيوزيلندا والمملكة المتحدة وأمريكا، إضافةً لاستعراض معدل ملكية المشروعات الصغيرة لنفس الدول؛ حيث اتضح أن انخفاض عدد مالكي المشروعات الصغيرة يؤدي إلى زيادة معدلات البطالة في غالب الأمر. وهذا ما يدفعنا للقول بأن الرغبة في تخفيض معدلات البطالة يستوجب زيادةَ المشروعات الصغيرة، التي هي جوهر وأساس فكر ريادة الأعمال.
كما يشير الباحثون إلى أن بعض الدول التي اهتمت بدرجة متميزة بريادة الأعمال أفرزت زيادةً ملحوظة في معدل امتلاك قوة العمل لمشروعات صغيرة؛ مما أسهم في معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي لهذه الدول (GDP)؛ فمثلًا لكلٍّ من اليونان وإيطاليا والبرتغال وإسبانيا تزايَد الناتج المحلي الإجمالي GDP بشكل ملحوظ في ظل الاهتمام بنَشْر ثقافة ريادة الأعمال وتعليم أسُسها، ومن ثَمَّ تبعها زيادة في عدد قوة العمل المالكين للمشروعات الصغيرة.
ولبيان مساهمة ترسيخ ثقافة ريادة الأعمال وتعليم أصولها لبناء الاقتصاد المعرفي، والمساهمة في نمو الاقتصاد المحلي؛ فإن هذه المساهمة يمكن أن تتمثل فيما يلي:
- غَرْس روح المبادرة وزيادة فرص نجاح الأعمال، وصناعة روَّاد المستقبل الذين يتمكنون من خلق فرص عمل لمواجهة البطالة والركود الاقتصادي.
- تنمية القدرات المتميزة لخلق الثروة من خلال التركيز على الفرص ذات العلاقة بالتوجُّه بالمعرفة على المستوى العالمي.
- تنمية مهارات الإبداع والابتكار لدى الشباب، بما يمكِّن من التحوُّل نحو إحداث طفرة في بناء الاقتصاد المعرفي من خلال الأفكار المتجددة ذات العلاقة بتنمية مجتمع المعرفة.
- زيادة الأصول المعرفية وتعظيم ثروة الأفراد بما يزيد من الثروة والتراكم الرأسمالي في مجال المعرفة على مستوى الوطن.
- تمكين الشباب من تطوير منتجات جديدة؛ نظرًا لأن الرياديين هم الأكثر إبداعًا؛ وهو ما يُكسبهم مهارات احترافية ومبتكرة تُمكِّنهم من زيادة معدل نمو المبيعات بنسبة تفوق قرناءَهم.
- تمكين الخريجين من امتلاك أفكار مشروعات الأعمال التجارية ذات التكنولوجيا العالية؛ التي تخدم التوجه نحو بناء مجتمع المعرفة، والمساهمة في خلق فرص عمل جديدة في السوق.
- تغيير هيكل تركُّز الثروة بما يُحقِّق الاستقرار الاقتصادي، والتحول من ارتكاز الاقتصاد على عدد محدود من أصحاب رؤوس الأموال إلى امتلاك أكبر عدد من أفراد المجتمع للثروة، بما يحقق الاستقرار وتحقيق التنوع في مجالات العمل.
من أجل ذلك، التفتت الدول الكبرى منذ بداية الألفية الجديدة لدور ريادة الأعمال كأداة جديدة ونافذة فاعلة لتنافسية الدول، تجمع بين تمكين التفكير الابتكاري ودعم المشروعات الصغيرة وإنمائها، فلم يعُد الحديث عن المنشآت الصغيرة لوحدها كافيًا بقدر ما أصبح التفكير الابتكاري طريقًا جديدًا لخلق الأعمال النامية بتسارع، والمنتهزة للفرص المتجددة بطموح.
- منظومة ريادة الأعمال Entrepreneurship Ecosystem :
عبر عقدين من الزمن، قام الباحثون والمفكرون والممارسون بوَضْع أطر متعددة لفهم ريادة الأعمال، وبالتالي وَضْع الإستراتيجيات لتمكين تطبيقاتها ومساهماتها في الاقتصادات الوطنية. وأدركت كثيرٌ من الدول أن مسابقات الموهبة والإبداع وتحديات الشركات الناشئة وهاكثونات الابتكار والحاضنات والمسرعات وشبكات رأس المال الجريء والعلاقات الشبكية والمسرعات لا تستطيع كلٌّ على حدة توفيرَ المناخ المناسب لنمو الابتكار وريادة الأعمال، وربما أدت جهودها الأحادية للفشل عندما تعمل في معزل عن نظام مُوحَّد. فهناك عناصر مختلفة يدفع كلٌّ منها الآخر في تحقيق بناء منظومة ريادة الأعمال المفيدة. هذه المنظومة من المتوقع أن تعمل في تناغم يساعد على تكوين دورة اقتصادية تُعطي تدفقًا سلسًا للأنشطة من أجل بناء العقلية الريادية والتفكير الابتكاري.
وفي المملكة العربية السعودية تبرز أنشطة ريادة الأعمال ودعم وإنماء المشروعات الصغيرة للمساهمة في الاقتصاد الوطني كمحور أساس للتنمية المستقبلية للوطن؛ إذ تعول رؤية المملكة 2030 على المشروعات الصغيرة والابتكار وريادة الأعمال للعب دور أساس في تنويع الدخل وتعزيز التنافسية وتمكين رأس المال البشري. وقد سنَّت الدولة خلال السنوات الخمس الماضية عددًا كبيرًا من التشريعات والإجراءات الممكنة لنمو ريادة الأعمال والمنشآت الصغيرة. ونصَّت رؤية المملكة 2030 بأن التأهيل والتدريب، وخلق فرص العمل، وريادة الأعمال ستكون مكونات أساسية للمساهمة في نمو الاقتصاد الوطني. وجعلت من أهدافها الإستراتيجية أن يصل نمو مساهمة قطاع المنشآت الصغيرة في الناتج المحلي الإجمالي من 20% إلى 35% بحلول 2030.
وقد أسهم عددٌ من الباحثين في وَضْع نماذج متنوعة لمنظومة ريادة الأعمال. ومن تلك النماذج التي وجدت قبولًا في أدبيات ريادة الأعمال ما قام به دانيال إيسينبرغ Daniel Isenberg, 2011 من كلية بابسون، وذلك بتطوير مقاربة مميزة للمنظومة. وأكَّد أن هذا النهج يحتمل أن يُصبح (شرطًا مسبقًا) للتوجُّه الناجح نحو الابتكار واقتصاد المعرفة والسياسات التنافسية الوطنية. وقد حدَّد إيسينبرغ ستة عوامل تُشكِّل منظومة ريادة الأعمال، هي: ثقافة مواتية، وسياسات ممكنة، وتوافر التمويل المناسب، ورأس المال البشري الجيد، والأسواق المتاحة، ومجموعة من المؤسسات الداعمة. وتضمُّ هذه العوامل الرئيسة عشرات العناصر التي تتفاعل بطُرق معقدة للغاية ومتكاملة Isenberg, (2011). من جانب آخر، فقد صنَّف الشميمري والمبيريك (2014) هذه العوامل المكونة لمنظومة ريادة الأعمال إلى قسمين، هما:
- أولًا: المنظومة الجزئية (Micro-Ecosystem)، وهي المنظومة المتصلة مباشرة بالابتكار وريادة الأعمال، وتدخل مع مكونات الأعمال الريادية أو تتفاعل معها، بحيث يعتبر وجودها أساسيًّا لنمو ريادة الأعمال وازدهاره. وتشمل المنظومة الجزئية العوامل التي تظهر في الشكل التالي:
- ثانيًا: المنظومة الكلية (Macro-Ecosystem)، وهي المنظومة المحيطة بريادة الأعمال، وتؤثر بطريقة غير مباشرة في نمو رواد الأعمال والأعمال الريادية. كما يعتبر توفرها أمرًا حاسمًا لتوفير البيئة الصحية، التي يمكن من خلالها دعم التوجُّه العام نحو التميُّز في الأعمال الريادية.
وتشمل المنظومة الكلية العوامل التي تظهر في الشكل التالي:
وللاطلاع على الوضع الحالي لبعض مكونات هذه المنظومة، فإننا سنستعرض على عجالة تتناسب مع مختصر هذه الورقة المقارنات الدولية لبعض هذه المكونات الجوهرية في بيئة الابتكار وريادة الأعمال في المملكة مقارنةً ببعض الدول الأخرى، والتي تمَّ رصدها في دراستين مهمتين، قام مُعِدُّ هذا الملخص بالإشراف عليهما: إحداهما دراسة أجرتها جمعية ريادة الأعمال عام 2014م، والأخرى لا تزال جارية.
فوفقًا للمرصد العالمي لريادة الأعمال (GEN) 2019، فإن المملكة تواكب التوجه العالمي في النمو المتسارع في أنشطة ريادة الأعمال أسوةً بما يشهده العالم من اتجاه الشباب نحو الأعمال الريادية والعمل الحر، إذ ﺗُﻌَدُّ اﻟﻣﻣﻠﻛﺔ اﻟﻌرﺑﯾﺔ اﻟﺳﻌودﯾﺔ، إﻟﻰ ﺟﺎﻧب اﻹﻣﺎرات اﻟﻌرﺑﯾﺔ اﻟﻣﺗﺣدة أحد أﺳرع اﻻﻗﺗﺻﺎدات اﻟرﯾﺎدﯾﺔ ﻧﻣوًّا ﻓﻲ اﻟﺷرق اﻷوﺳط ﻓﻲ اﻟﺳﻧوات اﻷﺧﯾرة، ﺣﯾث وﺻﻠت نسبة مجمل أنشطة ريادة الأعمال Total Entrepreneurship Activities (TEA) إﻟﻰ ﻣﺎ ﯾﻘرب ﻣن 15٪.
وفي المقابل، فعند النظر إلى مكونات منظومة ريادة الأعمال في المملكة مقارنةً بدول العالم، فقد احتلت المملكة المرتبة 86 في مؤشر الابتكار العالمي GII عام 2019، وتحسَّن قليلًا لتتقدم إلى المرتبة 66 عالميًا في عام 2020. أيضًا، فإن المملكة تقع في المرتبة 42 في مؤشر ريادة الأعمال العالمي، والمرتبة 62 في ممارسة الأعمال، والمرتبة 38 في بدء النشاط التجاري، كما تقع المملكة في المرتبة 38 في مؤشر التنافسية العالمية، والمرتبة 109 في ركيزة ديناميكية الأعمال.
وبالنظر إلى تلك المقارنات الدولية وغيرها من المؤشرات، أصبح لزامًا دراسة الوضع الراهن المحلي وإجراء تحليل إستراتيجي يُمهِّد لوضع المعالجات العاجلة لتعزيز البيئة والمبادرات المتكاملة لنمو ريادة الأعمال، والخطط الواقعية لتعزيز التنافسية العالمية للمملكة، وتعزيز جهود الدولة الكبيرة في هذا المجال. فقد خلص التحليل الإستراتيجي للوضع الراهن للابتكار وريادة الأعمال إلى عدة معوقات جوهرية تعيق هذا القطاع، وتحدُّ من أثره ومساهمته في التنمية، وتتلخص أبرز هذه المعوقات فيما يلي:
- ضعف ثقافة ريادة الأعمال.
- انتشار ثقافة الرعوية والاعتماد على المنح.
- الأثر السلبي للتفاوت الاجتماعي على إنشاء الأعمال الجديدة.
- تأثير إرث الرعاية الاجتماعية السلبي على طموح إنشاء الأعمال.
- لا توجد سياسة عامة لتمويل المشروعات الصغيرة والناشئة.
- عدم تطوير وتنظيم المشروعات متناهية الصغر.
- لا يتوفر في كل المدن مكان واحد لإنشاء الأعمال (محدودية تجربة مراس).
- عدم وجود إستراتيجية وطنية لريادة الأعمال.
- ضعف البنى التحتية في بعض مناطق المملكة.
- محدودية الوصول إلى معلومات السوق.
وتجدر الإشارة إلى أن شدة أثر هذه المعوقات على منظومة ريادة الأعمال تختلف من عامل إلى آخر، ففي حين أن ضعف ثقافة ريادة الأعمال تعتبر الأعلى تأثيرًا سلبيًّا على المنظومة، فإن ضعف التدريب التعاوني التطبيقي يعتبر الأقل تأثيرًا سلبيًّا على المنظومة. ومن جانب آخر، فإن التحليل قد قام بتصنيف هذه العوائق إلى ثلاث مجموعات؛ فالمجموعة A تشمل تلك العوائق التي سيكون حلُّها سريعًا وأقل تكلفة، أما المجموعة B فتشمل تلك العوائق التي سيتطلب حلُّها وقتًا وجهدًا وتكلفةً متوسطة، وأخيرًا المجموعة C التي تعتبر عوائق جوهرية وتتطلب تدخلاً عميقًا ووقتًا طويلًا لمعالجة أثرها السلبي على المنظومة.
أهم المراجع:
- Audretsch, D. (2007). Entrepreneurship capital and economic growth, Oxford Review of Economic Policy 23 (1) 63-78.
- Isenberg, D (2011). The entrepreneurship ecosystem strategy as a new paradigm for economy policy: principles for cultivating entrepreneurship, Babson Entrepreneurship Ecosystem Project, Babson College, Babson Park: MA
- جمعية ريادة الأعمال (2014). واقع المنشآت الصغيرة ودورها في توفير فرص عمل للمواطنين، الرياض.
- الشميمري أحمد، ووفاء المبيريك (2014). ريادة الأعمال. ط 3. العبيكان. الرياض.
- التعقيبات:
- التعقيب الأول: د. عبد العزيز الحرقان
بالرغم من أن المعوقات التي تمَّ ذكرها في الورقة الرئيسة والتي تواجه نمو ريادة الأعمال صائبة، إلا أنه يجب التأكيد على عدد من المعوقات الأخرى، والمتمثِّلة في النقاط التالية:
- ضعف الربط بين مخرجات العملية التعليمية ومتطلبات سوق العمل.
- نظرًا لأن الابتكار هو عنصر أساسي للمشاريع الريادية المؤثرة، فمن الضروري تعزيز ممكنات منظومة الابتكار بالمملكة، وخاصة في ظل المشاكل التي تعاني منها؛ وذلك بهدف تقديم خدمات لتطوير النماذج الأولية وتمويل نشاطات الابتكار في المراحل الأولى للمشاريع.
- الفجوات القانونية والتشريعية التي قد تؤثر سلبًا على إنجاح خطط دعم الأفكار الريادية.
لا أتفقُ كثيرًا مع ما ذُكر فيما يتعلق “بعدم وجود إستراتيجية وطنية لريادة الأعمال”، فأرى أن رؤية المملكة 2030 تعَدُّ الانطلاقة الجيدة والرؤية الأعم فيما يتعلق بدعم منظومة ريادة الأعمال، والتي أكدت في متنها على الآتي:
- تعَدُّ ريادة الأعمال أحد العناصر الرئيسة لرؤية 2030.
- تضمنت الرؤية في عدد من محاورها تطويرَ ممكنات التعليم بهدف سد الفجوة ما بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل.
يمكن تعزيز الورقة باستعراض النقاط التالية:
- المحفزات المالية وغير المالية، والتي يمكن تقديمها للمشروعات الريادية.
- توضيح للبرامج المساعدة لتحفيز أنشطة ريادة الأعمال التقنية في المملكة )مثال: برنامج بادر لحاضنات التقنية).
- تحليل المبادرات والبرامج التي تمَّ إطلاقها مؤخرًا ضمن رؤية المملكة 2030 لدعم العمل الريادي.
- دور ريادة الأعمال في تأسيس عدد من المشروعات الجديدة غير النمطية ذات الأثر البيئي الجيد.
- دور ريادة الأعمال في توطين الصناعات المحلية.
- تعريف للدور الذي يمكن أن يلعبه قطاع التعليم لدعم الأفكار الريادية في كافة المراحل )عام، جامعي، ومهني).
- بناء خُطط التواصل والربط بين مخرجات المؤسسات التعليمية ومتطلبات القطاع الصناعي.
- الكيفية التي يمكن من خلالها استغلال البحوث الجامعية المحلية وتحويلها إلى منتجات نهائية.
- اقتراحات بتطوير المحتوى التدريبي ذي الصلة بالابتكار، وريادة الأعمال داخل المؤسسات التعليمية.
- التعقيب الثاني: أ. لاحم الناصر
هناك عدة وقفات مع ما تضمنته الورقة الرئيسة كما يلي:
- أولًا: أن الورقة تميل للتنظير والعمومية كثيرًا، ومع خبرة كاتبها وتجاربه في هذا القطاع تمنيت لو أنه ركَّز على قطاع ريادة الأعمال في المملكة من حيث الإحصاءات أولاً؛ كحجم القطاع ماليًّا، وحجم مساهمته في الناتج المحلي، وعدد المؤسسات، ونسبة النمو، ونسبة نجاح المشروعات من حجم المشروعات في السوق، وكذلك التفصيل أكثر في المعوقات المحلية لهذا القطاع، والتحديات التي تواجهه. كما أنه لم يتطرق لأنواع الدعم الذي يتلقاه وحجمه.
- ثانيًا: أن الورقة خلت من طرح للحلول والتوصيات المتعلقة بالمشاكل التي يواجهها هذا القطاع في المملكة العربية السعودية، وهذا جانب مهم يجب ألا تخلو منه ورقة عمل تعالج مشكلة؛ فمثلاً ضعف البنية التحتية للائتمان والمخاطر، وكذلك عدم وجود سياسة تمويل للشركات الناشئة والصغيرة، تعَدُّ مشكلة حقيقة يعاني منها قطاع ريادة الأعمال وتعيق نموه؛ حيث لا تتجاوز نسبة تمويل هذا القطاع 6.2% من محفظة التمويل في المملكة مع وجود برنامج كفالة الحكومي. ولعل السبب في ضعف حصته التمويلية يرجع إلى عدم توفُّر الاشتراطات الائتمانية لعملية المنح؛ كعدم وجود قوائم مالية مدققة، وكذلك عدم قدرته على تقديم الضمانات، وحداثة إنشاء النشاط، وغيرها من الاشتراطات البنكية التي يصعب توفيرها لرواد الأعمال. وحل هذا الإشكال يتطلب العمل على عدة محاور: أولها أن تفرض مؤسسة النقد نسبة معينة من المحفظة التمويلية للبنوك، تكون مُخصَّصة لهذا القطاع، وهذا ممكن حيث إنَّ المؤسسة تفرض توزيعًا قطاعيًّا على محفظة التمويل للبنوك، وكذلك وجود شركات سجل ائتماني على غرار سمة لكن للشركات أو ما تُسمَّى Credit Scoring.
كذلك يعاني رواد الأعمال من البيروقراطية في الإجراءات، وتعدُّد الجهات المشرفة، وكثرة المتطلبات المرهقة وتعقيدها وكلفتها الباهظة؛ مما يؤدي إلى إحباط المتطلعين لإنشاء الأعمال الخاصة بهم نتيجة التجارب الفاشلة والمحبطة أمامهم. وحل هذا الإشكال هو في تطوير دور المنشآت المعنية بالإشراف على هذا القطاع، بحيث تكون هيئةً مستقلة تُعنَى بوَضْع اللوائح والأنظمة للقطاع والرقابة عليه، والتنسيق مع جميع القطاعات ذات العلاقة لتطبيقها، مع وضع تصنيف للمؤسسات والشركات والأعمال التي تدخل تحته ومتى تخرج من إشرافه إلى الإشراف الطبيعي. ولا يكفي وجود منصة واحدة لإطلاق المشروعات؛ لأن المهم الاستمرارية وتذليل العقبات.
- المداخلات حول القضية:
- واقع ريادة الأعمال والابتكار في المملكة والتحديات ذات الصلة:
سلَّط د. سلطان المورقي الضوءَ على نقطتين، يرى أهمية التطرق إليهما وتوضيحهما فيما يتعلق بريادة الأعمال والابتكار في المملكة:
- الأولى: انتشر لدينا مفهوم ريادة الأعمال باعتباره أيَّ نشاط أو عمل تجاري سواءً فتح مطعم أو حلويات أو غيرها من الأعمال التقليدية، ولا يوجد فيها أي ابتكار أو إبداع أو فكره جديدة أو تعديل على أعمال سابقة تحقِّق أرباحًا؛ في حين أن ريادة الأعمال تسهم في تحفيز دور الإبداع في المنشآت عن طريق خلق فرص جديدة، والحرص على تنفيذها من خلال الاستفادة من الموارد.
- الثانية: عندما نتحدث عن ريادة الأعمال فلا بد من الإشارة إلى أن الخيار الأمثل لتطوير ريادة الأعمال هو وجود رأس المال المخاطر/الجريء Venture Capital ، والذي يعتبر من أشهر طُرق التمويل التي قد يعتمد عليها رواد الأعمال أثناء سعيهم إلى تأسيس شركة جديدة، والتي تتميز بكونها تمتلك فرصةَ نجاح ونمو عالية، وفي الوقت نفسه يتسم الاستثمار فيها بمخاطرة عالية. والاعتقاد أن هذا ما تفتقده دول العالم العربي.
وعقَّب د. سعيد العمودي بأنه يلاحظ تطوُّر وجود كيانات لرأس المال الجريء في المملكة، والتي أثَّرت بشكل ملموس في زيادة رأس مال كثير من الكيانات الريادية، مثل: (نعناع، نون التعليمية، جاذر إن، وغيرها).
ومن جانبه أكد د. يوسف الرشيدي على أنه يتفق مع القول بأهمية المشاريع الريادية في تعزيز الابتكار؛ كونها تعتمد بشكل عام على التفرُّد في المنتجات والخدمات بشكل ابتكاري أو إبداعي. ونرى في العالم ولدينا في المملكة أن كثيرًا من المشاريع التي تُقدِّم تفرُّدًا تقنيًّا أو صناعيًّا تكون المشاريع الريادية الصغيرة لاعبًا فيه. فهناك في المجمل العام كثير من الشركات الصغيرة أصبحت شركات مليارية رائدة للقطاع العاملة فيه. ولكن بشكل عام، ريادة الأعمال في المملكة لا تسلك هذا المسلك، وفيها شيء من الضبابية خاصة إنْ كُنَّا نتحدث عن التفرُّد والابتكار والتطوير التقني والصناعي والخدمي بحلول متفردة تضيف للقطاع أيًّا كان سواء على الصعيد المحلي أو الدولي. والتصوُّر أن مشكلة قطاع ريادة الأعمال ليس وعيًا أو ثقافة من الناس، بل الإشكال يقع على عاتق المُشرِّع والقائم على الملف، كون فهم أن ما يحدث هو دعم قطاع المنشآت الصغيرة والمتوسطة لزيادة الإسهام في الناتج المحلي، وقد ركَّزت الرؤية على هذا القياس، ولم تُركِّز على الابتكار والتفرد من خلال هذه الفئة من الشركات.
ويعتقد أ. د أحمد الشميمري بخصوص تذبذب مؤشرات التنافسية فيما يتعلق بالمنشآت الصغيرة أن أحد أسبابه هو ما سبق إيضاحه في الورقة الرئيسة من ضرورة وجود خطة إستراتيجية بريادة الأعمال. كما يلاحظ أن مؤشرات التنافسية تتحسَّن باطراد ونمو إيجابي للقطاعات التي لديها خُطط منظمة واستدامة في المتابعة؛ وهذا مفقود حتى الآن في مجال ريادة الأعمال عمومًا، وقطاع المنشآت الصغيرة على وجه الخصوص.
وفي سياق متصل، فإن مفهوم المنشآت الصغيرة بلا شك أعم وأشمل من المشروعات الريادية وريادة الأعمال، وليس المطلوب من كل منشأة صغيرة أن تكون منشأةً ريادية. ولكن مشكلتنا أننا نُسمِّي كلَّ منشأة صغيرة منشأة ريادية، وكل صاحب منشأة ريادية (حتى لو كان محل تموينات أو صيدلة أو بيع جوالات أو بيع شاي وقهوة) بأنه رائد أعمال، وأن مشروعه مشروع ريادة أعمال. والجهات المنظِّمة والداعمة عليها مسؤولية كبيرة في نَشْر المفهوم الصحيح والتفريق بين ريادة الأعمال والمشروع الصغير. وقد ذكر العالم الشهير بيتر دراكر أربعة فروقات تُميِّز بين المنشأة الصغيرة وريادة الأعمال، هي: مقدار خلق الثروة، والابتكار، وسرعة بناء الثروة، والمخاطرة. فإنْ لم تتوفر تلك العناصر في المشروع، فليس مشروعًا رياديًّا.
أيضًا، يمكن الإشارة إلى أن هناك بالفعل عشرات المشروعات الريادية المبتكرة التي نجحت في السوق، فخلال السنوات السبع الماضية شهد السوق نهضةً في المشروعات الناشئة خاصةً تلك المتعلقة بالتقنية والتطبيقات؛ وقد ساعد على ذلك التطور في مجال الاتصالات وتقنية المعلومات في المملكة.
وذكر د. سعيد العمودي أنه بالفعل يعَدُّ من التحديات المهمة ركوبُ كل تاجر صغير موجة التسمية برائد أعمال للوجاهة بعيدًا عن الممارسة الفعلية للمفهوم الذي يزيد المجتمعات ابتكارًا وإنتاجيةً وتنافسيةً.
وأضافت د. وفاء طيبة أننا عادةً ما نسمع دائمًا بريادة الأعمال ورائد أعمال، ثم يكون المحل بسيطًا ومكررًا، ويبدو أن أهم الفروقات في الأساس هي الجِدة (أحد عناصر الابتكار) والمخاطرة، أما الأنشطة المأمونة فإنها قد تُوفِّر لصاحبها المالَ، ولكنها لا تؤثر في نمو البلد، وقد يكون هذا المفهوم غائبًا عن كثير ممَّن يدخلون مجال الأعمال؛ ومن جهة أخرى، هذان العاملان (الابتكار والمخاطرة) مغبونان في التربية، والمقصود هنا بالتربية النظام التعليمي والأسرة، وأحيانًا يتم تثبيطهما من قِبل الكبار في حياة الأطفال، خاصة في بعض المجالات غير المرغوبة أو التي ينظر لها الكبار نظرةً سلبيةً.
ويرى م. فاضل القرني أنه يصعب جدًّا على المجتمع الاقتناع في الظروف الصحية والاقتصادية التي تعيشها المملكة والعالم، بأن البيئة لريادة الأعمال متوفرة، إذا ما قارنا الورقة مع التعقيب الأول الذي أورده د. الحرقان، وخاصةً في المعوقات التي وردت، وأهمها جانبان مُهيِّئان للبيئة المعقولة والعملية لريادة الأعمال، وهما (الربط بين مخرجات العملية التعليمية ومتطلبات السوق)، و(الفجوات القانونية والتشريعية والتي قد تؤثِّر سلبًا على إنجاح خطط دعم الأفكار الريادية) كما ورد في التعقيب. والتصوُّر أن اعتلاء بقية المعوقات ممكن جدًّا بعدهما. بالإضافة إلى العوائق المضمَّنة التي وردت في تعقيب أ. لاحم، والأهم فيها ما يخصُّ الجانبَ البيروقراطي، وتعدُّد الجهات المشرفة. وربما التوقع هنا أن الصورة النمطية عن البيروقراطية قد اختلفت بسبب التطور المميز في مجال التقنية، وشيوع (e-government) في المملكة، وأمن وأمان المعلومات وتفاعليتها.
وثمةَ سؤالٌ مهمٌّ مطروح هنا مفاده: مَن المسؤول الرئيس في المساهمة لترسيخ ثقافة ريادة الأعمال والنقاط السبع التي وردت في الورقة؟ هل هي الحكومة (وهي متشعبة ومتداخلة)؟ هل هي ثقافة مجتمع (رأس المال جبان)؟ هل غياب الجانب القانوني والقضائي، أو موارد بشرية وما يندرج تحتها من تدريب، من حد أدنى للراتب، وعمالة منافسة؟ أيضًا، هناك نقطة جانبية لكنها مركز جاذبية ريادة الأعمال، وزيادة الناتج الإجمالي المحلي والتحول في الاقتصاد، وهي الرؤية: ما تحقَّق وما هو في الطريق والقادم الواعد بمشيئة الله، ومدى جهود العام والخاص وأيضًا التطوعي في تحقيق أكثر وفي زمن أقل.
وذكر م. إبراهيم ناظر أن من أبرز الملاحظات عدم وجود إستراتيجية شاملة وخاصة بريادة الأعمال، ويُضاف إليها كذلك المنشآت الصغيرة لو أن هدف ريادة الأعمال يركز على الإبداع والابتكار. لكنَّ الممكنات لكل منهم تقريبًا واحدة، ومساهماتهم تصب في خدمة الاقتصاد الوطني من حيث زيادة GDP، وزيادة وتنوع القاعدة الإنتاجية، ونواة لشركات كبيرة وعملاقة، والمساهمة في خلق وتوليد الوظائف في سوق العمل. لكن اللافت للنظر أن بعض ما ورد في الورقة الرئيسة قد سبقت الإشارة إليه قبل عدة سنوات، ومع هذا فلا يزال قائمًا كأحد أهم تحديات أو معوقات ريادة الأعمال والمنشآت الصغيرة والمتوسطة، وهو عدم وجود إستراتيجية تُنظِّم ريادة الأعمال والمنشآت الصغيرة. والواقع أن رؤية ٢٠٣٠ ليست إستراتيجية تفصيلية خاصة بالأنشطة الاقتصادية؛ وإنما إستراتيجية وطنية تعَدُّ بموجبها الإستراتيجيات لكل نشاط.
وركَّز م. خالد العثمان في تناول واقع ريادة الأعمال والابتكار في المملكة والتحديات المتعلقة بذلك على ما توضِّحه النقاط التالية:
- أن هناك حاجة ماسَّة لتفكيك المصطلحات المرتبطة بهذا المجال، فهناك خلط كبير بين مفاهيم ريادة الأعمال والإبداع والابتكار والاختراع والمنشآت الصغيرة والمتوسطة. وكان المأمول أن تُبادر هيئة المنشآت الصغيرة والمتوسطة إلى معالجة هذا الخلط عبر تحرير المصطلحات، ووضع التعريفات التي يمكن بناءً عليها تمكين سياسات التعامل والتطوير والتمكين لكل مجال من هذه المجالات، بما فيها من تتابُع وتكامل.
- يعاني موضوع ريادة الأعمال وكذلك الإبداع والابتكار من غياب تحديد واضح لحدود الصلاحيات في تكرار للنمط المعهود من تنازع الاختصاص بين عدد من الجهات الحكومية ذات العلاقة بمجال ما. ومع أن هيئة المنشآت الصغيرة والمتوسطة تقود فيما يبدو الحراكَ الأكثر وضوحًا في مجال ريادة الأعمال، إلا أنني الاعتقاد أن هذا هو أحد أسباب قصور الأداء في هذا المجال؛ بسبب الخلط الحاصل بين مفهوم ريادة الأعمال الذي يتكِئ على الإبداع والابتكار، ومفهوم المنشآت الصغيرة والمتوسطة الذي يتناول هذا القطاع من ناحية قدراته التمويلية والتنظيمية والبشرية؛ فليس كل منشأة صغيرة أو ناشئة هي منشأة رائدة، ولا كل منشأة ريادية تنحصر لزامًا في تحديد حجمي أو مالي محدَّد.
- عند الحديث عن ريادة الأعمال وخصوصًا في المجالات التقنية والعلمية، ولا سيما ما يتعلق منها بالمسار الصناعي على وجه التحديد؛ تبرز أزمة عميقة في واقع غياب منظومة متكاملة وفعَّالة لتتجير وتطوير المنشآت الريادية. هناك على أرض الواقع عددٌ من مكونات هذه المنظومة، لكنها مشتتة ومتفرقة بل ومتعارضة أحيانًا، علاوةً على غياب تام لبعض المكونات المهمة والأساسية، وهي التي أشار إليها د. الحرقان في تعقيبه؛ وهي تحديدًا مراكز ومعامل الإبداع التي تدعم تطويرَ نماذج المنتجات الأولية ووسائل التمويل المغامر لمرحلة تطوير المنتجات والأفكار. من الضروري التنبيه إلى أن صناديق رأس المال المغامر لا تستثمر إلا في منتجات وصلت مرحلة متقدمة من النضج وليست في مرحلة الابتكار والتطوير الأولي؛ وهذا هو السبب في موت كثير من محاولات تتجير أفكار وابتكارات واختراعات واعدة، بما في ذلك كل تلك القائمة الطويلة من براءات الاختراعات التي نُهلل فرحًا بتزايد أعدادها دون أن تجد طريقًا للتتجير الفعال الذي يحوِّلها إلى أدوات إنتاجية ومصانع ومراكز ربح. كما أن غياب الجهة القيادية المسؤولة عن قيادة وتشغيل وتفعيل هذه المنظومة في ظل تنازع الاختصاص المشار إليه سابقًا يُفاقَم من ضعف أداء هذه المنظومة، ويُفقدها الأثرَ المأمول. والمعلوم أن مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية تملك تفويضًا خالصًا واضحًا صريحًا من المقام السامي بالمسؤولية عن قيادة قطاع الابتكار في المملكة، إلا إنها عاجزة على أرض الواقع عن أداء هذا الدور بالاقتدار المأمول؛ بسبب تضارب الاختصاصات وتنازع الصلاحيات مع جهات أخرى، علاوة على غياب التمكين والدعم المؤسسي المالي للمدينة للقيام بهذه المهمة.
- إحدى العقبات التي تواجه تحفيز ريادة الأعمال خصوصًا وثقافة العمل الحر عمومًا، وتقف حجر عثرة في طريق تنمية قطاع المنشآت الصغيرة والمتوسطة وزيادة حصتها في الناتج المحلي بحسب مستهدفات الرؤية – هي مواصلة تكريس ثقافة الأمن الوظيفي وتمييز الموظفين في القطاع الحكومي خصوصًا، وكذلك في القطاع الخاص الأكثر استقرارًا بمميزات نوعية، على سبيل النفاذ للحصول على القروض التمويلية الاستهلاكية، وتمويل العقار والإسكان والتأمين الطبي، وغير ذلك من المميزات، ناهيك عن ظروف الإجازات في مقابل تحمُّل صنوف المعاناة من أعباء ومتطلبات العمل الحر ومكتب العمل والتأمينات الاجتماعية والضرائب والزكاة، وغير ذلك الكثير من الأعباء التي لا تُميِّز بين مؤسسة صغيرة أو متوسطة أو كبيرة.. فكيف نريد للشباب أن يبتكر ويُبدع ويخوض غمارَ العمل الحر وريادة الأعمال، وهو يواجه مخاطر الاستقرار وفَقْد الحق في السكن والتمويل والمساندة؟
وتعقيبًا على ما أورده م. خالد العثمان، تساءل م. فاضل القرني: هل هناك تعاون حكومي مع البنوك فيما يخصُّ التمويل؟ وبدوره أوضح م. خالد العثمان أنه لا يوجد أيُّ وسيلة تمويل كانت في هذا المستوى من مراحل تطوير وتتجير الابتكار الذي يقود لخَلْق مؤسسات ريادية في المجال الصناعي والتقني. والبنوك طبعًا أبعد ما تكون عن هذا المجال بحكم نموذج عملها التجاري الربحي المتحفظ. أما الصناديق الحكومية وعلى رأسها صندوق التنمية الصناعي، فهي كذلك أكثر حرصًا وتحفُّظًا حتى من البنوك التجارية. كما أن صناديق رأس المال المغامر تستثمر في المراحل التي تلي هذه المرحلة بعد وصول المنتج الابتكاري إلى مستوى التسعير الترويجي وبدء التسويق والبيع.
وأشار د. سلطان المورقي إلى أنه قبل ٤ سنوات تقريبًا كان هناك مبادرة أطلقها بنك الرياض بالتعاون مع شركة تقنية ومدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية بخصوص صندوق استثماري لرأس المال الجريء بحجم نحو ١٠٠ مليون ريال سعودي تقريبًا.
وتساءلت د. الجازي الشبيكي: هل تُعَدُّ الاندماجات المتسارعة للشركات الكبرى والبنوك عائقًا أمام نجاح قطاع ريادة الأعمال المتركِّز على المشاريع الصغيرة المحدودة؟ وهل استحواذ صندوق الاستثمارات العامة للدولة على الكيانات الاقتصادية الكُبرى عائقٌ أيضًا أمام تطوُّر ريادة الأعمال؟
وفي هذا الإطار، ذكر أ. د أحمد الشميمري أن الاعتماد على الكيانات الكبرى تجربة تخلَّت عنها أوروبا بعد فشلها الذريع في نهوضها واستعادة توهُّجها، مقابل دول شرق آسيا التي أتاحت للمنشآت الصغيرة المساهمة الكبيرة في نواتجها المحلية. والتصوُّر أنه إذا لجأنا إلى الاندماجات والاعتماد على الكيانات الكبرى أو خصخصة القطاعات العامة الكبرى، فمن المهم أن يصاحب ذلك مشروع كبير لسلاسل القيمة المضافة بالتكامل مع المشروعات الصغرى. بحيث ترتقي الكيانات الكبرى بعشرات الكيانات الصغرى، وبذلك يرتقي الاقتصاد، وفي الوقت ذاته تنمو مساهمة المنشآت الصغيرة.
- تصورات مقترحة للنهوض بريادة الأعمال والابتكار في المملكة:
في تصوُّر د. يوسف الرشيدي، فإن النهوض بقطاع ريادة الأعمال والابتكار في المملكة يستلزم أن نُحدِّد ما الذي يُراد من هذا القطاع، ويتم توجيه قطاع ريادة الأعمال لخدمة صناعات بعينها تُعزِّز من تنافسيتنا عالميًّا؛ فالدعم المالي للمشاريع الصغيرة والخدمات الاستشارية والتدريبية يُقدَّم للجميع ولا يشترط تفردًا ولا ابتكارًا. كما أنه لا بد من تحديد واضح للصناعات والقطاعات المراد توجيه الدعم لها وتنميتها وتشجيع رواد الأعمال للدخول فيها؛ لنتمكن من تطوير الابتكار والتفرد، ومعها نُوجد وظائف جديدة في القطاعين الصناعي والخدمي.
وأكد د. سعيد العمودي على أهمية وجود ثقافة الريادة والابتكار في الأسرة والتعليم، والرفع من شأن المغامرين وأصحاب الأفكار. ومن ناحية أخرى، فالاعتقاد أن هيئة المنشآت الصغيرة والمتوسطة هي المسؤولة عن جانب ترسيخ ثقافة ريادة الأعمال، ولديها العديد من المبادرات منها صناعة الإعلامي الريادي؛ بهدف تجهيز إعلاميين مهتمين بريادة الأعمال تحديدًا ونَشْر المحتوى المتخصص بكافة أشكاله.
وفي اعتقاد أ. د أحمد الشميمري، فإننا يجب أن نُطوِّر ريادة الأعمال في الوطن وَفْق منظومة متكاملة على نحو ما تمَّ إيضاحه في الورقة الرئيسة، ولكن المقصود أن كلَّ جهة عليها دور في هذه المنظومة، وليس من المتوقع أن نُحمِّل جهة كلَّ شيء، فلا يمكن لجهة واحدة في الوطن أن تضطلع بكل هذه المنظومة. ومن هنا، فإن مراكز الابتكار وريادة الأعمال في الجامعات تعلم أن هناك مراحل لتحويل البحث العلمي من الفكرة إلى التتجير في السوق. والثغرة بين الأكاديميا والصناعة لا تزال كبيرة؛ فالأكاديميا لا تزال لم تفهم بشكل مُرضٍ ما تريده الصناعة؛ وفي المقابل، فإن الصناعة لا تزال لا تثق تجاريًّا فيما تنتجه الأكاديميا، وليس لديها الاستعداد للاستثمار والصبر الطويل. فبالتالي، نرى أثر هذه المراكز لا يزال متواضعًا. والاعتقاد أن المراكز والجامعات في الوقت الحالي تقوم بجهد مشكور جدًّا في حدود عنصر التعليم والتدريب، ونشر الثقافة كأحد عناصر المنظومة. والطموح أن تنتقل إلى المساهمة بعناصر أخرى.
وركَّز د. حمد البريثن على أهمية إدخال مفهوم ريادة الأعمال وما في حكمه ضمن العملية التعليمية في المراحل المبكرة والتعليم الجامعي، على ألا يكون تقليديًّا بحيث يكون عبئًا على الطالب، أو مادة لتحسين المعدل بقدر ما هو مهارة تُكتسَب بالممارسة أو التدريب. كما أن من الضروري أن يكون لهذا التدريب أو الممارسة صيغة شمولية، حيث تشمل جميع الطلاب والطالبات؛ لضمان تعرُّض الجميع لهذا الفكر النوعي.
وترى د. الجازي الشبيكي أنه مما يمكن أن يُسهم في تسريع نجاح دور ريادة الأعمال في السعودية إضافةً إلى الأنظمة والتشريعات والخُطط الإستراتيجية، ما يلي:
- مساهمة رجال الأعمال الناجحين في تبنِّي إرشاد رواد الأعمال الناشئين ومساندتهم المساندة الحقيقية المطلوبة إلى أن يطمئنوا على قدرتهم الاستقلالية في مجال مشاريعهم.
- يُفرض على البنوك من قِبل الدولة دعم رواد ورائدات الأعمال، وتحفيز البنوك على التنافسية في هذا المجال في إطار مسؤوليتها الوطنية والاجتماعية.
- من المهم أن تكون التشريعات في مجال ريادة الأعمال ذات منظومة متكاملة حتى تؤتي ثمارها، ولا يُترك لكل جهة ذات علاقة وَضْع أنظمتها وتشريعاتها بعيدًا عن التكامل والتنسيق مع باقي الجهات.
- على المؤسسات التعليمية العالية والمتخصِّصة دورٌ في تقديم الدعم والمساندة في مجال الاستشارات والتدريب على المهارات، وكذلك إصدار الأدلة والبرامج الإرشادية المطلوبة في إطار وظيفة تلك المؤسسات الثالثة (إلى جانب المعرفة العلمية والبحث العلمي)، وهي وظيفة خدمة المجتمع.
- التوصيات:
- إيجاد إستراتيجية وطنية لريادة الأعمال بالتنسيق مع جميع الجهات الحكومية والخاصة ذات العلاقة، تشمل سياسات التمويل والمبادرات والبرامج اللازمة.
- تعزيز ثقافة ريادة الأعمال والعمل الحر بإدخال مقررات ريادة الأعمال في المناهج المدرسية، وجَعْلها متطلبًا جامعيًّا وجزءًا لا يتجزأ من المنظومة التعليمية.
- تقوم هيئة المنشآت الصغيرة والمتوسطة (منشآت) بالتنسيق مع الجهات ذات العلاقة بإعداد قاعدة بيانات دقيقة وشاملة ومُصنَّفة عن ريادة الأعمال والمنشآت متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة، بحيث تصبح متوفرةً وجاهزةً لرواد الأعمال والمستثمرين والجهات البحثية.
- غَرْس روح المبادرة وزيادة فرص نجاح الأعمال، وصناعة رواد المستقبل الذين يتمكنون من خلق فرص عمل لمواجهة البطالة والركود الاقتصادي.
- تنمية القدرات المتميزة لخلق الثروة من خلال التركيز على الفرص ذات العلاقة بالتوجُّه بالمعرفة على المستوى العالمي.
- تنمية مهارات الإبداع والابتكار لدى الشباب، بما يُمكِّن من التحول نحو إحداث طفرة في بناء الاقتصاد المعرفي من خلال الأفكار المتجددة ذات العلاقة بتنمية مجتمع المعرفة.
- زيادة الأصول المعرفية وتعظيم ثروة الأفراد، بما يزيد من الثروة والتراكم الرأسمالي في مجال المعرفة على مستوى الوطن.
- تمكين الشباب من تطوير منتجات جديدة؛ نظرًا لأن الرياديين هم الأكثر إبداعًا؛ وهو ما يكسبهم مهارات احترافية ومبتكرة تُمكِّنهم من زيادة معدل نمو المبيعات بنسبة تفوق قرناءهم.
- تمكين الخريجين من امتلاك أفكار مشروعات الأعمال التجارية ذات التكنولوجيا العالية؛ التي تخدم التوجه نحو بناء مجتمع المعرفة، والمساهمة في خلق فرص عمل جديدة في السوق.
- تغيير هيكل تركُّز الثروة بما يحقق الاستقرار الاقتصادي، والتحول من ارتكاز الاقتصاد على عدد محدود من أصحاب رؤوس الأموال إلى امتلاك أكبر عدد من أفراد المجتمع للثروة بما يحقق الاستقرار وتحقيق التنوع في مجالات العمل.
القضية الرابعة
سوق العمل: المهارات أم الشهادات؟
(27/9/2020م)
- الورقة الرئيسة: م. إبراهيم ناظر
- التعقيبات:
- التعقيب الأول: د. عبد الله صالح الحمود
- التعقيب الثاني: أ. بسمة التويجري
- إدارة الحوار: د. وفاء طيبة
- الملخص التنفيذي:
أكد م. إبراهيم ناظر في الورقة الرئيسة على أنه لا يمكن التقليل من أهمية الشهادات الجامعية وما يسهم فيه أصحاب الشهادات من تقدُّم لمجتمعاتهم في شتى المجالات، ولكن لا يمكن أيضًا التقليل من أهمية المهارات والخبرات في سوق العمل، ولا بد من الاعتراف بأن هناك خللًا نتج عن تفضيل أصحاب الشهادات في أغلب مجالات العمل لأسباب تراكمية كثيرة. وفي هذا الإطار، فقد تضمَّنت الورقة عدةَ محاور أساسية سعت للإجابة عن السؤال الذي تطرحه القضية ومؤداه: سوق العمل: المهارات أم الشهادات؟ وقد تناولت تلك المحاور: ثورة المهارات، وتعريف مصطلح المهارة ذاته، وأيضًا ما يتعلق بفجوة المهارات، والمهارات المطلوبة للمستقبل.
بينما استهل د. عبد الله صالح الحمود التعقيبَ الأول بمقدمة موجزة عن مفهوم المؤهل العلمي، والمؤهل المهاري، والمهارة بالممارسة. وأكد في هذا السياق على وجوب التكامل بين الأمرين (التأهيل العلمي والتأهيل المهاري).
أما أ. بسمة التويجري فركزت في التعقيب الثاني على جانب التحديات التي يمكن أن تواجه التوجه المتنامي في العالم للاعتماد على المهارات بدلًا من الشهادات، وذلك من منظور سوق العمل السعودي.
وتضمَّنت المداخلات حول القضية المحورين التاليين:
- واقع التكامل بين المهارات والشهادات في سوق العمل السعودي.
- آليات مقترحة للإفادة المُثلى من المهارات والشهادات في سوق العمل.
ومن أبرز التوصيات التي انتهى إليها المتحاورون في ملتقى أسبار حول القضية ما يلي:
- بناء حاضنات ذات كيانات كبيرة ومتميزة العطاء، تخدم بالإضافة إلى رواد الأعمال حديثي التخرج من الجامعات والمعاهد المتخصصة ذات الأنشطة التدريبية، ينتج منها برامج مُصمَّمة لإنجاح وتطوير منشآت رواد الأعمال، وينتفع منها حديثو التخرج لاكتساب مهارات تؤهلهم في الدخول لسوق العمل بكل اقتدار. (جهة التنفيذ: وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية ومدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية – حاضنات بادر).
- تطوير أساليب التدريب العملي الجامعي وزيادته بشكل واسع في مراحل التعليم الجامعي، وليس فقط كمتطلب نهائي قبل التخرج، أسوةً بكليات الطب والهندسة. (جهة التنفيذ: وزارة التعليم والجامعات).
- الورقة الرئيسة: م. إبراهيم ناظر
لا يمكن التقليل من أهمية الشهادات الجامعية وما يسهم فيه أصحاب الشهادات من تقدُّم لمجتمعاتهم في شتى المجالات، ولكن لا يمكن أيضًا التقليل من أهمية المهارات والخبرات في سوق العمل. ولا بد من الاعتراف بأن هناك خللًا نتج عن تفضيل أصحاب الشهادات في أغلب مجالات العمل لأسباب تراكمية كثيرة؛ منها أن عدد حملة الشهادات كان في السابق قليلًا، ويعتبر مَن حصل على شهادة علمية أنه تحصَّل على تعليم متقدم يؤهله للقيام بالعمل بشكل أفضل من غيره، ومع تطوُّر هذا المفهوم ترسَّخت قناعة عند الغالبية أن الشهادة هي الضمانة الأولى للحصول على وظيفة، ولكن لم يتوقع الكثيرون أن الأثر الذي تسببت به هذه القناعة من عزوف الغالبية العظمى من أصحاب المهارات للعمل في مجالهم، إنما فضَّلوا مزاحمة الجميعَ في الحصول على الشهادة الجامعية «الضامنة» للوظيفة، فمن دونها لن يتم النظر إلى سيرتهم الذاتية وإعطاؤهم فرصة الحصول على مقابلة وظيفية.
يقول عالم الاجتماع الفرنسي «غوستاف لوبون» إن هناك مفهومًا خاطئًا انتشر عند الغالبية، يقوم على أساس أن التعليم بمراحله الأساسية من الابتدائية وحتى الحصول على الشهادات العليا يعني بالضرورة حصول الجميع على فرص متساوية؛ إنما واقع الحال هو أننا ظلمنا الحرفيين وأصحاب المهارات أو التعليم المهني من تطبيق مهاراتهم بشكل يعود عليهم وعلى مجتمعهم بالنفع؛ وبهذا لم نُحقِّق المساواة، إنما تم خَلْق خلل كبير بين الاحتياجات الفعلية للسوق والتنوع البشري في الإمكانيات والمجالات بحسب كلامه.
إنَّ الحديث عن التعليم والحاجة لتطويره هو الحديث الذي لا يختلف عليه اثنان، ولكن ما يجب الانتباه له هو الحاجة لإعادة النظر في النظام التعليمي بالكامل، وليس مجرد تطوير التعليم بناء على المنظومة التعليمية الحالية التي أسهمت عالميًّا في خلق هذا الخلل، وظلمت سوقَ العمل وأصحاب الأعمال الذين بدلًا من أن يتوفر لهم قوى عاملة ذات مهارات تتناسب مع احتياجاتهم وفَّرت لهم فائضًا من أصحاب الشهادات لا تتوفر فيهم متطلبات سوق العمل، وهو ما أحدثَ الفجوة بين متطلبات سوق العمل ومخرجات التعليم.
ثورة المهارات:
لتسليط الضوء على هذا الموضوع الحيوي والمهم، والذي يتعلق بفهم مستقبل التوظيف في العالم وكيفية التعامل مع المتغيرات في معايير التوظيف تماشيًا مع فلسفة الخروج من النمطية في قبول الشباب لدى الشركات عند التقديم على الوظائف، واعتماد آليات جديدة في البحث غير النمطي عن الموظف المناسب وذلك بناءً على المعارف والمهارات المكتسبة بدلًا من الشهادات، وأن أفضل أساليب التعيين أو التوظيف يجب أن تعتمد على تقييم عملي مبني على المهارة بغض النظر عن الشهادة التي حصل عليها وكيفية حصوله عليها؛ وذلك بتحديد قدرة المتقدم على تطبيق العلوم والمهارات المعرفية التي تلقَّاها في الجامعة أو من غيرها بدون الاعتماد فقط على الشهادات الجامعية في تقييم الفرد، والتركيز على تعزيز القدرات العملية في تطوير العاملين في المؤسسات الحكومية والشركات. كما يجب أن يُصنَّف الأفراد اجتماعيًّا (المكانة الاجتماعية)، ليس اعتمادًا على الشهادات التي يحملونها؛ بل على قدرتهم على العمل والإنتاجية والإبداع والابتكار، وهذا ما أكدت عليه وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية ضمن أهدافها في برنامج التحول الوطني 2030 (رفع المستوى المهاري للسعوديين بما يتلاءم مع احتياجات سوق العمل، ورفع كفاءة رأس المال البشري)، ومن خلال مبادراتها:
- تزويد المواطنين بالمعارف والمهارات اللازمة لمواءمة سوق العمل المستقبلية.
- تنمية مهارات الشباب وحُسن الاستفادة منها.
- إيجاد بيئة جاذبة للمستثمرين الدوليين والمحليين على حد سواء، وتعزيز ثقتهم باقتصادنا.
- رفع مستوى الوعي بأهمية المهارات اللازمة لسوق العمل، والحث على اكتسابها.
- رفع مستوى الشراكة الإستراتيجية بين الوزارة والجهات الحكومية والقطاع الخاص.
وكذلك وزارة التعليم ضمن أهدافها في برنامج التحول الوطني 2030 (تعزيز القيم والمهارات الأساسية للطلبة)، ومن خلال مبادراتها: تطوير مصفوفة متكاملة للمهارات الشخصية المتوائمة مع المهارات.
لذا، فإن مستقبل التعليم في المملكة العربية السعودية يحتاج إلى إعادة هيكلة وإصلاح جذري لتنفيذ تلك المبادرات، وثورة فكرية في الثقافة والمفاهيم الاجتماعية، وأن يرتقي مستوى التفكير لشباب المستقبل إلى أن مسؤولية التعلُّم والتأهيل واكتساب المعرفة مسؤولية شخصية، ومسؤولية الشخص نفسه بالدرجة الأولى، والتعليم والتعلُّم عمليتان مستمرتان في عصرنا الحاضر لا تتوقفان؛ إذ يتوجب على الفرد استثمار توفُّر المعلومة والتدريب عبر الوسائل والأدوات التعليمية التكنولوجية التفاعلية التي توفِّر الوقتَ والجهد، والمتعددة الأدوات والمتاحة لتطوير نفسه، والارتقاء بمستواه الفكري والمعرفي في ظل التسارع الكبير في توليد المعرفة والثورة الرقمية، وعليه تطبيق ذلك في الحياة العملية من منطلق تعزيز أهمية المهارات، وليس التقليل من أهمية الشهادات العلمية أو الدراسة في الجامعات.
إضافةً إلى ذلك لا بد من تغيير فلسفة التعليم وتقييم الطلبة على أساس قياس المهارات للتحوُّل من التلقين إلى الإبداع الفكري، والتسريع في الوصول إلى الغايات المرجوة وَفْق معايير جودة عالية، والتأكيد على أهمية الذكاء العاطفي، واعتماد علوم التوظيف الحديثة على الذكاء العاطفي (EQ) عوضًا عن الذكاء العقلي .(IQ)
كما أن الجامعات يجب أن تكون صرحًا علميًّا يسعى إلى تقديم المعرفة للشباب؛ بتدريبهم على اكتساب المهارات والمعرفة، وربط المؤهلات المهنية مع التعليم الجامعي ضمن منهج تعليمي واحد، والتحول من مفهوم الدرجات والشهادات إلى مفهوم المعرفة والتعليم العملي عن طريق التجارب والتطبيق العملي.
تعريف مصطلح المهارة:
يمكن تعريف المهارة على أنها:
- مجموعة من المعارف والخبرات والقدرات الشخصية التي يجب توفُّرها عند شخص ما لكي يتمكن من إنجاز عمل معين، ومن أبرز تلك المهارات التي يمكن أن تتوفَّر في الشخص: (البحث والتقصي عن المعلومة، والتخطيط، والإحصاء والتحليل، وبناء العلاقات مع الآخرين، والاتصاف بالقيادية، والإلمام بمهارات الحاسوب، والإدارة).
- المهارة هي التمكن من إنجاز مهمة بكيفية محددة وبدقة متناهية، وسرعة في التنفيذ.
- وتعني القدرة على أداء عمل بحذق وبراعة.
- أداء مهمة ما أو نشاط معين بصورة مقنعة، وبالأساليب والإجراءات الملائمة، وبطريقة صحيحة.
- التمكن من إنجاز مهمة معينة بكيفية محددة، وبدقة متناهية وسرعة في التنفيذ.
- الألفاظ ذات الصلة بمفهوم المهارة (الحذق، الإتقان، الإحكام، الإحسان، الإبداع، البراعة، الخبرة، التفوق، الإجادة).
يُطلَقُ لفظُ المهارة في اللُّغة العربيةِ ويُرادُ به الماهِر، وهو الحاذِق، كما ورد في الحديث الشَّريف قولُ الرَّسول عليه الصلاة والسلام: “الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ وَهُو ماهِرٌ بِهِ معَ السَّفَرةِ الكِرَامِ البَرَرَةِ” (متفق عليه).
من جهةٍ أخرى، فإنَّ المهارةَ ليست مقتصرةً على العمل المؤدَّى بشكلٍ مهني فقط، بل إنَّها تشمل أيضًا الكفاءةَ التي يمتلكها أيُّ شخصٍ في أيِّ مجال، سواء كانت كفاءةً عقليةَ أو بدنية أو اجتماعية؛ فعلى سبيل المثال، نجدُ أن بعضَ الأشخاص يتميَّزُ عن غيرِه بمهاراتِ القيادة، والآخر بمهاراتِ التفكير، وثالثٌ بمهاراتِ العلاقات الحسنة مع الآخرين، وغير ذلك في التمايز بين القدرات والملكات بين الأشخاص.
فجوة المهارات:
قدَّرت دراسة لجامعة “يل” أن 65% من الأطفال الملتحقين بالتعليم الابتدائي حاليًّا سيشغلون لدى انتهاء تعليمهم (سواء المرحلة الثانوية أو الجامعية) وظائف يقومون من خلالها بأعمال “غير موجودة” حاليًّا، ولمعرفة حجم هذه النسبة يكفي الإشارة إلى أن 15% فقط من العاملين حاليًّا يشغلون وظائف لم تكن موجودة لدى دخولهم المرحلة الابتدائية، بما يدل على تغيُّر كبير للغاية في الاقتصاد أولًا، ولطبيعة الوظائف ثانيًا، ويعطي انطباعًا بتغيُّر ما هو مطلوب من العاملين مستقبلًا.
وتُشير الدراسة إلى أن 93% من الأمريكيين الذين يحظون بشهادة جامعية أكدوا على أهمية برامج التدريب المهني التي تلقوها، في حين تصل النسبة إلى 79% فحسب لهؤلاء الذين يرون أهمية كبيرة للدراسة الجامعية التي حصلوا عليها.
ويُلاحظ زيادة أهمية التدريبات المهنية في ظل نمو الوظائف الحرة (freelancer)، إذ تلقَّى 70% من هؤلاء الذين يعملون بشكل حر دورات تدريبية خلال الستة الأشهر الأخيرة، مقابل نسبة لا تتعدى 50% خلال الفترة نفسها لهؤلاء الذين يعملون في وظائف دائمة.
عمالقة “بلا شهادات“:
وعلى سبيل المثال، أعلنت شركات مثل “أبل” و”جوجل” و”آي. بي. إم” وغيرها في الأشهر الماضية أن العمل لديها في مناصب تقنية وإدارية لم يعُد يتطلب بالضرورة الحصول على شهادة جامعية، لتكونَ من بين قائمة شملت أكبر 15 شركة في أمريكا غيَّرت سياساتها التوظيفية مؤخرًا نحو الاهتمام بالمهارات على حساب الشهادات.
بل ووصل الأمر بشركة كبيرة “برايس ووتر هاوس كوبرز” إلى الاعتماد على خريجي المدارس الثانوية في مجال المحاسبة والتحليل المالي وتقييم المخاطر، شريطةَ حصولهم على الدورات التدريبية الملائمة أو إثبات كفاءتهم، وذلك بعد أن كانت تلك الوظائف حصرًا على خريجي كليات التجارة وإدارة الأعمال لعقود، سواء في الشركات الكبيرة أو حتى الصغيرة.
ووفقًا لتقديرات المكتب الفيدرالي الأمريكي لإحصاءات الوظائف، فإن سبعة ملايين وظيفة لا تجد مَن يشغلها في الولايات المتحدة، في ديسمبر الماضي؛ وذلك بسبب معاناة البلاد مما يعرِّفه المكتب بـ”فجوة المهارات”، ويُقصَد بها الفرق بين المهارات التي يتمتع بها العمال والموظفون في مواجهة المهارات التي يحتاجها سوق العمل.
مهارات المستقبل (*):
“ووفقًا لموقع “لينكد إن”، فإن هناك 5 مهارات “ناعمة” (أو شخصية) هي الأكثر أهمية في عام 2019 للحصول على الوظائف: إدارة الوقت، والاعتمادية، التعاون والتنسيق، الإقناع، الروح الخلاقة، ويعطي الموقع دورات مجانية في تلك المجالات لضمان تأهيل العمالة لسوق العمل”.
في المقابل، يضيف الموقع أن هناك “5 مهارات عملية ستكون الأكثر طلبًا في 2019، وتشمل: “كلاود كومبيتينج” (شبكات وقياس رد فعل العميل)، والذكاء الاصطناعي، التحليل المنطقي (ويشمل حل المشكلات واتخاذ القرار وإستراتيجيات العمل)، إدارة الجمهور (وتشمل التحفيز وحل الصراعات في العمل)، والتصميم والجرافيك”.
وتُشير دراسة للموقع إلى “أن أولويات سوق العمل ستتغير بشكل متسارع وغير مسبوق خلال العقد المقبل، حيث قد تظهر وظائف جديدة تتطلب مهارات جديدة لتحتل القمة بشكل مفاجئ، بما يجعل المهارات أكثر أهميةً من الشهادات بشكل متزايد”.
“ولكن في الوقت نفسه لا شك أن ذلك يضع ضغوطًا متفاقمة على العاملين، الذين عليهم باستمرار تبنِّي مبدأ التعلُّم والتعليم المستمر، وليس فقط الاعتماد على مجموعة من المهارات التي يجيدونها ولكن تطويرها وتعلُّم مهارات جديدة تُبقيهم في خِضمِّ المنافسة باستمرار”.
ولا يشكل ذلك أزمةً فقط للعاملين وفقًا لـ “لينكد إن”، ولكن أيضًا لأصحاب العمل الذين قد لا يجدون ما يحتاجونه من مهارات متاحة في السوق خلال السنوات القادمة في ظل تطوُّر الاقتصاد بسرعة تفوق التعليم وبرامج التدريب، ليبقى الحلُّ الأكثر نجاعةً في تطوُّر الأخيرة بسرعة وتمتعها بمرونة و”تبصر” باحتياجات سوق العمل المستقبلية”.
كشف بيان لموقع “أب وورك” (upwork) المتخصص في العمل الحر على شبكة الإنترنت، أن أعلى 20 وظيفة مطلوبة على الموقع، مثل كتابة المحتوى وتصميم البرامج وأعمال الجرافيك والترجمة، لا تتطلب في الأساس شهادةً محددةً؛ بل تقوم على مهارات يجب على مَن يحصل على العمل أن يمتلكها.
ويقول براد سميث رئيس شركة مايكروسوفت: “نحن بحاجة لطرق توظيف جديدة، أو سنكون مُرغمين على ترك المزيد والمزيد من الناس بدون عمل”.
ولا يمكننا المراهنة على قدرة المبادرات القليلة للتوظيف وفقًا للمهارات على تدريب هذه الأعداد الكبيرة من الأشخاص وتغيير صورة التوظيف التقليدي، ولكن أظهرت طريقة التوظيف حسب المهارات نتائج مبكرة ومُشجِّعة في صناعة التكنولوجيا لتكون قدوةً تَحتذي بها بقية الصناعات.
حازت فكرة التوظيف حسب المهارات على الكثير من الاهتمام، وبدأت المنظمات غير الربحية والمدارس والمنشآت الحكومية والشركات بتبنِّي طريقة التوظيف هذه، وتدعم شركة مايكروسوفت هذه الطريقة بمبادرتها حيث أعلنت عن منحة تزيد عن خمسة وعشرين مليون دولار لدعم أصحاب المهارات عن طريق برنامج لتعزيز فرصة التوظيف وفقًا للمهارات والتدريب والتعليم، وقادت مؤسسة ماركل – والتي بدأت في كولورادو العام الماضي – هذه المبادرة، وستقوم منحة مايكروسوفت بالتوسع هناك، ومن ثَمَّ الانتشار لبقية الولايات الأخرى.
مصادر للاطلاع:
- المهارات قبل الشهادات؟ نعم حتى لا تجد نفسك عاطلًا رغم أنفك، موقع أرقام http://bit.ly/2MDlL6G
- المؤتمر الدولي لتقويم التعليم (CEE2018) تحت رعاية خادم الحرمين الملك سلمان بن عبد العزيز (بعنوان “الإطار العام لمهارات المستقبل”).
- منتدى الرياض الاقتصادي 2019 نحو تنمية اقتصادية مستدامة (دراسة وظائف المستقبل).
- مدونات البنك الدولي 1/8/2018.
- مركز دان للدراسات والأبحاث الإستراتيجية.
- شبكة جامعة بابل (التعليم الإلكتروني).
- التعقيبات:
- التعقيب الأول: د. عبد الله صالح الحمود
أبدأُ التعقيبَ بمقدمة موجزة عن مفهوم المؤهل العلمي والمؤهل المهاري والمهارة بالممارسة.
المؤهل العلمي: هو التحصيل التعليمي والدراسي الذي وصل إليه المرء بعد أن نال شهادةً دراسيةً مكَّنته من تفوُّق علمي.
المؤهل المهاري: هو اعتماد متخصص في مجالٍ ما، يحصل الدارس عليه نتيجة عملية تقييم لمدى الإتقان أو الكفاءة في إدراك المحتوى الذي تمَّ تصميمه بناءً على احتياجات سوق العمل المتخصِّصة في مجال الاعتماد لذلك، كما أنه يشترط جانبًا نظريًّا مع التركيز على الممارسة والخبرة العملية، ومنها يحصل المتدرب على شهادات مهنية تعتبر إحدى أهم الوسائل لقياس العائد على الاستثمار في رأس المال البشري، وتعطي لحاملها الثقةَ والفرصة لممارسة المهنة باحترافية عالية.
المهارة بالممارسة: المهارة هي مجموعة من المعارف والخبرات والقدرات الشخصية التي من المهم توافرها عند شخص معين حتى يستطيع إنجاز عمل ما، ومن أهم المهارات التي يمكن أن تتوافر في ذلك الشخص هي البحث والتقصي عن المعلومة بشكل مستمر؛ من خطوات عدة تتمثل في التخطيط، والعد والإحصاء، وبناء الكثير من العلاقات مع الآخرين، والقيادية، والإلمام بمهارات معينة مثل الحاسوب والإدارة وغيرها.
أشار م. إبراهيم إلى نقاط مهمة؛ منها أن التوظيف في العالم أضحى يُبنَى على متغيرات في معايير التوظيف تماشيًا مع فلسفة الخروج من النمطية في قبول طالبي العمل لدى منشآت القطاع الخاص عند التقديم على الوظائف، واعتماد آليات جديدة في البحث غير النمطي عن الموظف المناسب، وذلك بناءً على المعارف والمهارات المكتسبة، بدلًا من الشهادات العلمية وعلى الأقل الشهادات العليا من مرحلة البكالوريوس فما فوق، مُشيرًا في الوقت ذاته إلى أن التوظيف يجب أن يعتمد على تقييم عملي مبنيٍّ على المهارة بغض النظر عن الشهادة التي حصل عليها طالب العمل وكيفية حصوله عليها، وذلك بتحديد قدرة المتقدِّم على تطبيق العلوم والمهارات المعرفية التي تلقَّاها في مؤسسته التعليمية، مؤكِّدًا على ألا تكون الشهادة الدراسية خصوصًا الجامعية هي الأساس في تقييم الفرد، وأن يكون التركيز على تعزيز القدرات العملية.
هنا، أرى أن التأهيل العلمي والمهارات المكتسبة جراء الخبرات الحياتية هما أمران يصعب استقلال أحدهما عن الآخر، فمن حصل على مؤهل دراسي لا بد له أن يكتسب شيئًا من المهارات العملية، ليكتمل لديه ولو جزئيًّا التأهيل المناسب مرحليًّا للدخول إلى سوق العمل. وفي المقابل، لا يمكن لمالك المهارة أن يكون قد نال خبرات عملية دون أن يكون قد حصل على تأهيل علمي من خلال دراسة أقل ما يكون لمرحلة من مراحل التعليم العام.
هنا نتحدث عامةً عن وجوب تكامل بين الأمرين (التأهيل العلمي والتأهيل المهاري)؛ لهذا لا أعتقد أنه من الإنصاف بالكلية قبول طالبي العمل من أصحاب الخبرات العملية للانخراط في عالم الأعمال دون غيرهم من المؤهلين علميًّا، والعكس صحيح لا يمكن قبول الفريق الآخر من المؤهلين علميًّا دون غيرهم من أصحاب الخبرات العملية؛ لذا فإن من الصالح لبيئة العمل أن تتشارك الفرقتان معًا لتوافر إمكانات في تبادل المعلومات والخبرات؛ لرفع كفاءة الإنتاج من لدن الجميع، فضلاً عن أن هذا الأمر يعَدُّ شراكةً تُسفر عن نتاج منشود لصالح أي منظمة كانت.
ولهذا يزداد الأمر صعوبةً عندما ينضمُّ إلى أي بيئة عمل عاملون بخبرات عملية ذات مهارات محددة، دون مشاركة من لدن مؤهلين علميًّا. فالتكامل يُبنَى على توازن يضمن بناءَ قوى عاملة تنتظم فيها العملية الإنتاجية.
- التعقيب الثاني: أ. بسمة التويجري
سوف أُركِّز في تعقيبي على جانب التحديات التي يمكن أن تواجه التوجُّه المتنامي في العالم للاعتماد على المهارات بدلًا من الشهادات، وذلك من منظور سوق العمل السعودي.
أثار توقيعُ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على الأمر التنفيذي لفروع الحكومة الفيدرالية للتركيز على المهارات بدل الشهادات الجامعية في اختيار الموظفين الفيدراليين، الكثيرَ من الجدل حول أهمية الشهادات الجامعية مقابل المهارات المكتسبة من خلال التدريب أو التعليم القصير، وأثر ذلك على سوق العمل ومتطلبات الوظائف المستقبلية، وجعلنا نتساءل: هل من الممكن أن تحل المهارات بديلاً عن الشهادات الجامعية في سوق العمل السعودي؟
إنَّ الإجابة عن هذا التساؤل تستلزم مواجهة عدة تحديات:
- التحدي الأول يتمثل في نمط التعليم الجامعي التقليدي الذي لا يزال سائدًا في بعض جامعات المملكة، والذي يعتمد على التلقين في كثير من الأحيان، وأساليب التقييم التي تعتمد على حفظ معلومات معينة واسترجاعها وقت الامتحانات ونسيان معظمها بعد ذلك؛ مما ينتج عنه جيل من الخريجين الذين يحملون شهادات جامعية عليا ولكنهم يخفقون في اجتياز المقابلات الشخصية للتوظيف، وإن استطاعوا الحصول على وظيفة فإنهم إما أن يخسروها بعد فترة وجيزة، أو أنهم يضطرون للخضوع لبرامج تدريبية مكثفة لرفع قدراتهم ومهاراتهم.
- التحدي الثاني يتمثَّل في الثقافة المجتمعية السائدة، والتي توجب الحصول على شهادة جامعية للأفراد حتى وإنْ كانت في تخصصات لا يرغبونها، أو أثبتت التجارب أن سوق العمل لم يعُد يحتاجها. وهذا التحدي يستوجب تغيير هذه الثقافة وإقناع الآباء والمربين بأن حاجات سوق العمل تغيَّرت، وأن بعض الوظائف الجديدة تستلزم الحصول على مهارات قد لا يوفِّرها التعليم الجامعي التقليدي.
- التحدي الثالث يتمثَّل في تحديد بعض الجهات لمتطلبات شغل الوظائف، ومنها حصول المتقدم على شهادة جامعية إيمانًا منها بأن الشهادة الجامعية تمثِّل شكلًا من أشكال الخبرة، وأن حاملها يمتلك المعرفة الأساسية في تخصص معين، وهذا التوجه صحيح تمامًا في مِهن تتطلب معرفة أساسية كالطب والهندسة على سبيل المثال، ولكنها ليست متطلبًا أساسيًّا في مِهن أخرى يمكن اكتساب مهاراتها عن طريق التدريب كمهنة البيع مثلاً؛ وبالتالي اشتراط الحصول على شهادة جامعية لمثل هذه المهن يحرم شريحةً من الشباب من العمل فيها.
- التحدي الرابع يتمثَّل في توجُّه العالم نحو الثورة الصناعية الرابعة والاعتماد على الذكاء الصناعي في الكثير من الأمور، وهو ما يتطلب الحصول على مهارات عالية بالإضافة إلى التعليم الجامعي؛ مما يعطي هذه المهارات أهميةً عالية، ويدفعنا للقول إنه على جامعاتنا ومؤسساتنا التعليمية التنبُّه لهذا الأمر، واستحداث برامج تعليمية وتدريبية تستطيع مواكبة هذا التسارُع في العلوم الذي يتنامى بشكل غير مسبوق.
- التحدي الخامس يرتبط بمدى قدرة الشركات وجهات التوظيف على تحديد المهارات التي تتطلبها الوظائف المختلفة والإعلان عنها، بحيث يكون لدى الراغبين في العمل فكرة كاملة عن متطلبات الوظيفة، وبالتالي يستطيعون العمل على الحصول على تلك المهارات ويُسهمون في تحسين فرصهم في الحصول على عمل يتوافق مع ميولهم وقدراتهم ومهاراتهم المكتسبة.
- التحدي السادس يتمثَّل في قبول الشركات وأرباب العمل بتوظيف الشباب على أساس المهارات التي يمتلكونها وقدرتهم على الابتكار والإبداع بغض النظر عن حصولهم على شهادات جامعية. يمكن تحقيق ذلك من خلال إخضاع هؤلاء الشباب لعدد من الاختبارات والمقاييس؛ للتأكد من ملاءمتهم لشغل الوظائف، وهذا بدوره سيعطي الفرصة لشباب لم يحالفهم الحظ في الحصول على تعليم جامعي.
- التحدي الأخير يتمثَّل في تفضيل بعض الشركات للحاصلين على شهادات مهنية عالية، مثل شهادة المحلل المالي المعتمد ((CFA، وغيرها من الشهادات الدولية التي تتطلب استثمارًا ماليًّا وجهدًا كبيرًا في الإعداد والتحضير لها، والملاحظ توجُّه العديد من الشباب للحصول عليها رغبة في زيادة مهاراتهم من جهة، ولعلمهم بحرص جهات التوظيف على مَنْح فرص أكبر لحامليها.
- المداخلات حول القضية:
- واقع التكامل بين المهارات والشهادات في سوق العمل السعودي:
أوضح م. إبراهيم ناظر أنه يتفق تمامًا مع ما ذهب إليه د. عبد الله الحمود في تعقيبه، وأنه لم يقصد عند إعداد الورقة إلغاء هذا المفهوم قط؛ بدليل الإشارة منذ البداية إلى أنه لا يمكن التقليل من أهمية الشهادات الجامعية، وما يسهم فيه أصحاب الشهادات من تقدُّم لمجتمعاتهم في شتي المجالات. وأضاف أن لهذه القضية محورين مترابطين: المحور الأول احتياجات سوق العمل إلى تخصصات ومهارات معينة، والمحور الثاني هو مخرجات النظام التعليمي الجامعي الذي لا يزال يقوم على التلقين والدرجات والشهادات دون أن يوفِّر للخريجين اكتساب المهارات والمعرفة المطلوبة، وربط المؤهلات المهنية مع التعليم الجامعي ضمن منهج تعليمي واحد يتطابق مع متطلبات وتخصصات وحاجة سوق العمل؛ وهو ما تسبَّب في الفجوة بين مخرجات التعليم الجامعي، والتي أدت للبطالة التي يعاني منها سوق العمل اليوم في المملكة. وكمثال قطاع التجزئة في المملكة والمنشآت الصغيرة والمتوسطة يعمل به 1.5 مليون عامل، منهم ٣٠٠ ألف سعودي فقط علمًا بأن عدد السعوديين الباحثين عن العمل هو 1015820 فردًا (ذكورًا وإناثًا) حسب تقرير الهيئة العامة للإحصاءات في الربع الأول 2020. والتصوُّر أن جزءًا كبير من هذه البطالة التي تصل إلى 11.8٪ نتيجة عدم التوافق بين المخرجات ومتطلبات سوق العمل من التخصصات والمهارات المطلوبة.
وفي سياق متصل، فإن سوق العمل السعودي يشهد حاليًّا تغييرًا جذريًّا لنوعية التخصصات والوظائف المطلوبة، وهذا نتيجة للوظائف الناشئة عالميًّا حيث إنَّنا جزءٌ من هذا العالم، بالإضافة إلى أن رؤية ٢٠٣٠ أدت وستؤدي إلى ظهور العديد من الوظائف التي لم يعهدها سوق العمل، وحسب لينكد إن فإن أهم الوظائف الناشئة في المملكة هي: أخصائي أمن إلكتروني، أخصائي رقمي، باحث قانوني، مهندس بيانات ونظُم، كاتب إبداعي، أخصائي مشاريع، مدقق مالي، أخصائي شؤون عملاء، أخصائي تسويق رقمي، محلل بيانات، أخصائي تجارب العملاء، مدير محافظ استثمارية، أخصائي اتصال، أخصائي تطوير الأعمال، مدير تسويق رقمي (*). والمؤكد أن جميع جامعاتنا لا تُدرِّس هذه التخصصات، كما أن هذه التخصصات في الأساس لا تحتاج إلى شهادات جامعية. والواقع أن معدل انتقال الطلبة من التعليم الثانوي إلى التعليم الجامعي لدينا 99.8% حسب تقرير الهيئة العامة للإحصاءات، ويُستدل من هذا على أن مَن يتجه لغير التعليم الجامعي هم 0.02% فقط، أين الخلل؟ ولماذا هذه الفجوة بين مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل؟ وما هو الحل؟
ومن جانبه عرض د. محمد الثقفي لمستويات المهارة وفقًا لنظرية بلوم، التي حدَّدها في سبعة مستويات كما في الشكل التالي، والهدف من عرض المستويات – كما أوضح – يتمثل في معرفة المستوى المطلوب من المهارة المطلوبة للتوظيف، وأيضًا العلاقة بالشهادة (المؤهل الدراسي).
أيضًا، فقد سلَّط د. محمد الثقفي الضوءَ على النقاط المحددة التالية:
- هناك دراسات (مبكرة) منهجية عُرضت في منتدى الإدارة والتنمية، والجمعية السعودية للإدارة 2006؛ ووجدت أن التركيز على المهارات وتوفيرها لطالبي العمل أدَّى إلى تكريس البطالة، بمعنى أنه كلما حصل الطالب على مهارات، بدأ البحث عن عمل، وفي النهاية لا يجده، ولعل مخرجات التعليم الفني دليل على ذلك.
- لا يمكن الفصل بين الشهادة العلمية والمهارة، بل إن الارتقاء المعرفي ييسِّر الحصولَ على المهارة بسرعة وسهولة، بالإضافة إلى قضية الميل إلى موضوع المهارة المطلوب اكتسابها، والأهم أنه لا يمكن تحقيق المستويات العليا من المهارة دونما القدرة على الاستيعاب المعرفي والفلسفي، وكذلك الميل لموضوع المهارة، والذي تُوفِّره الدراسة النظرية المعرفية (الشهادة).
- ظهرت أطروحات عديدة ومبكرة في العالم وفي المملكة، على سبيل المثال؛ لعدم تناسب مخرجات مؤسسات التعليم العالي مع سوق العمل، وانبرت كثيرٌ من الجامعات لعلاج هذه المشكلة وفقًا لما هو ممكن، حيث ركَّزت على توفير دورات إثرائية ودورات تدريبية، ومنها شهادات مهنية عالمية؛ بغية تحقيق العوامل المساعدة للتوظيف، بل ودورات متخصصة ومراكز بحثية في مجال ريادة الأعمال.
- يوجد لدى صندوق الموارد البشرية برامج فعالة جدًّا لكسب المهارة، منها: برنامج (تمهير) للتدرُّب في الشركات على رأس العمل، وبرنامج الشهادات المهنية، وبرامج أخرى.
- ظهر في نهاية القرن الماضي مفهوم الجدارة الوظيفية؛ وهي نظرية جديدة في مجال الموارد البشرية، ظهرت في ثمانينيات القرن الماضي في أمريكا لماك ماكليلاند، وهي مجموعة من السمات والمؤهلات الشخصية والعلمية و(العملية) أي المهارية، التي تُمكِّن الموظف من تحقيق معدلات أداء متميزة وقياسية، تفوق المعدلات العادية. وتتكون الجدارة من خمسة عناصر، وهي: المعرفة، والصفات الشخصية، والاتجاهات، والمهارات، وأخيرًا الدافعية؛ بمعنى أن ما يملكه الشخص من “مهارات” سيكون أحد عوامل التفضيل عند البحث عن وظيفة، وأن الأهمية تكمن في الدافعية والرغبة للعمل.
وذكرت أ. فائزة العجروش أن التساؤل الذي مؤدَّاه: أيهما أهم المهارات أم الشهادات؟ قد يكون مستفزًا للبعض. وقد يجيب البعض فورًا ودون تردد: الشهادة طبعًا. إلا أن الواقع العملي يشهد خلاف ذلك، والتوجه العالمي الآن يعتبر المهارات ركيزةً من ركائز التوظيف والتعيين. وبلا شك، كلتاهما مهمة، وكل منهما مكملة للأخرى؛ فالمهارات تُصقل بعد خبرة في مجال التخصص لكن لا تحل محل الشهادة أبدًا، بينما العكس صحيح. والمهارات المكتسبة بعد الخبرة وإنْ كانت طويلة لن تُحوِّل الممرض إلى طبيب، ولا العامل إلى مهندس، وكذلك الشهادة دون خبرة لن تصنع موظفًا ناجحًا ومنتجًا وفعَّالًا ذا جودة وتميُّز في عمله.
لكن ما نراه في سوق العمل من ربط للأجور بالشهادات وحدها دون المهارات، أسهم في أن الشهادة أصبحت وسيلةً فقط للحصول على الوظيفة، ومجرد ورقة يُحضرها المُتقدِّم للعمل تُؤهِّله لدخول أي شركة أو جهة حكومية للعمل فيها؛ وليست غاية لحصول الطالب على خبرة في مجال التخصص الذي يدرسه. لذلك، ركَّز كثيرٌ من الطلبة على إحضار هذه الشهادة – المهم شهادة يحملونها وإنْ كانت في تخصص لا يرغبونه – وإكمال الدراسة للحصول عليها حتى لو كان عن طريق الحفظ ونَسْخ ولَصْق الإجابات، وليس عن فَهْم عميق وإدراك كامل، متجاهلينَ كثيرًا من المهارات التي يمكن تعلُّمها في الجامعة سواء من الدراسة الأكاديمية أو من خلال التعلم الذاتي والقراءة والبحث!
وحقيقةً، فإن أغلب المهارات والخبرات التي يتعلَّمها الطالب هي من الممارسة الفعلية في أجواء العمل؛ لذا فمن المهم أن تُركِّز الجهات التعليمية على إدخال التدريب والعمل الميداني بشكل أكبر وأوسع في كلِّ فصل أو سنة دراسية وليس كمتطلب نهائي فقط للتخرج، مع التنويه بأهمية ترغيب الطالب في أن يأخذ هذا التدريب على محمل الجد ولا يتساهل في إنجازه بالشكل المطلوب الذي يؤهِّله فعليًّا للعمل، ومعاقبة المتسبب فيما نراه يحدث في بعض الأماكن التي تتولى تدريب الطلاب، حيث تلجأ لإسناد ما يُطلق عليه (Dirty Work) للطالب المتدرب دون اهتمام بتأهيله فعليًّا للعمل من كافة النواحي.
وبالتأكيد، فإن التأهيل العلمي أو الشهادة وحدها دون مهارة عملية لا تفيد، ولا تكفي بدون خبرة وممارسة عملية؛ فهناك بعض الوظائف في سوق العمل السعودي وغيره لا يمكن ربطها بالخبرة أو ربطها بالشهادة؛ فعلى سبيل المثال: الشركات النفطية تهتم بالخبرة أكثر من الشهادة عند قبول الموظفين الجُدد. وينطبق هذا الحال أيضًا عند أي مستثمر، حيث يسعى نحو توظيف العمالة الماهرة والمؤهلة؛ فالمهارات مهمة له أكثر من الشهادات.
وأضافت أ. فائزة العجروش أننا في هذا الصدد لا نُشكِّك أبدًا في أهمية التحصيل العلمي والاحترام الكامل لأصحاب الشهادات العليا، لكن ما يحدث حاليًّا طامة كبرى ومُحبط جدًّا، ولا نُريد إحباطات أكثر لأولادنا في المستقبل؛ فالأرقام الفلكية التي حدَّدها السوق لأشخاص عاديين لا يحملون أيَّ شهادات علمية عليا (قد يكون إما لاعب كرة أو قد تكون خبيرةَ تجميل أو مشهورًا/مشهورة من مشاهير التواصل الاجتماعي، أو مطربًا/ مطربة، وغيرهم الكثير) – بسبب رَبْط الأجور بالمهارات فقط – مخيبة جدًّا لآمال حاملي الشهادات العليا؛ الأمر الذي سيؤدي مستقبلًا لتهميش التعليم، وزيادة حالات الجهل والفقر والطبقية، ويقتل حُلم وطموح الشباب بمستقبل واعد ومزدهر.
وحدَّدت أ. مها عقيل وجهةَ نظرها فيما يتعلق بالمهارات والشهادات في سوق العمل السعودي في النقاط التالية:
- إن المسألة برُمتها مرتبطة بنظام التعليم عندنا منذ الصغر؛ فمثلاً اللُّغة الأجنبية وخاصة الإنجليزية لا تدخل مناهجنا إلا في سن متقدمة، وتُقدَّم بأسلوب ضعيف. وماذا عن استخدام الكمبيوتر والبرمجة والأدوات الحديثة في التعليم؟ وبعد ذلك، يأتي الاختيار بين المسار الأدبي والعلمي، ويفرض على الطالب أن يسير في إطار محدود من المواد والمعرفة، وبعد ذلك يتحدد تخصصه الجامعي بناءً على المجموع واختبار القدرات وتوفُّر أماكن في الكلية التي يتقدم إليها، وهكذا لا يتم مراعاة ميول الطالب أو قدراته أو رغبته. وخلال مراحل الدراسة هذه وخاصة المرحلة الثانوية، لا يحصل الطالب على التوجيه من مختصين واختبارات الشخصية والميول والمهارات. كما أن المناهج لا تشمل تطوير مهارات، مثل: الخطابة والحوار، والعمل في فريق، وكتابة التقارير، والتحليل والنقد؛ ولا تضمُّ أيضًا التدريبَ على المهن اليدوية البسيطة، لينشأ الطالب مُقدِّرًا لمِثل هذه المهن وأهميتها.
- في الجامعة غالبًا ما يكون التركيز على النظريات، وليس على التطبيق العملي وتطوير المهارات الاجتماعية والتفكير النقدي والتحليل. وأيضًا، لا نعلم إنْ كان يوجد موجِّه أكاديمي يرشد الطالب في اختياراته، وهل هناك مساحة لاختيار مواد من تخصصات مختلفة أو للإبداع والمبادرة. كما أن الشهادات العليا أصبحت للوجاهة أو الحصول على مرتبة أعلى أكثرَ منها للفائدة.
- ليس من الضرورة أن يعمل خريج الجامعة في نفس مجال تخصُّصه، ولا يجب أن يكون هذا هو الهدف من التخصص الجامعي أو الشهادة الجامعية؛ وإنما الهدف من التعليم الجامعي هو إعداد الخريج ليصبح قادرًا على استخدام قدراته الفكرية ومهاراته العملية في أي مكان عمل، وربما لذلك نرى أن نسبة العاطلين من خريجي الجامعة عندنا كبيرة؛ لأن الجامعة تُقيدهم بمواد وأسلوب تعليم غير مُحفِّز للتفكير والإبداع.
- في التقدُّم للوظيفة ينظر للشهادة الجامعية على أنها أكثر أهميةً من الخبرة والموهبة والقدرات، ويُقيَّم الشخص ويُعطى راتبًا بناءً على شهادته بغض النظر عن كفاءته وإمكانياته؛ في حين قد يكون هناك شخص آخر بشهادة أقل ولكنه أكثر معرفة وقدرة وكفاءة، وربما هنا نحتاج تعريف للكفاءة: هل هي بالشهادة أم بالمهارة والقدرة؟
- من المهم أن يكون هناك تطوير مستمر للقدرات، لتواكبَ متغيرات مجال العمل ومتطلبات سوق العمل.
ومن ناحيته، أكد د. رياض نجم على ما أشارت إليه أ. بسمة في تعقيبها حول الصعوبات التي تواجه تطبيق المهارات بدل الشهادات في سوق العمل في المملكة، خصوصًا القناعة المجتمعية بضرورة الحصول على الشهادة الجامعية في أي اختصاص قبل التفكير في الحصول على المهارات. ويمكن الإشارة هنا – على سبيل المثال – لشابين تخرَّجا من الثانوية في نفس العام: الأول قرَّر الدخول لسوق العمل وحصل على مجموعة من المهارات المهنية خلال ٤ سنوات بعد تخرُّجه، والشاب الآخر التحق بالجامعة بعد تخرجه من الثانوية وحصل على مؤهل جامعي خلال نفس الفترة. فلو تقدَّم كلٌّ من الشابين لخطبة فتاة، فأيهما ستقبل معظم العائلات السعودية تزويجه؟ أيضًا، ثمةَ تحدٍ آخر يواجه تطبيق المهارات بدل الشهادات في توظيف العاملين في الشركات، هو صعوبة تحديد المهارات المطلوبة لشغل الوظيفة، وصعوبة تقييم الموظف للتأكُّد من إتقانه للمهارات المطلوبة. وليس المقصود هنا أننا ضد تطبيق المهارات في سوق العمل، فهذا هو الاتجاه الذي يسير فيه العالم شئنا أم أبينا؛ لكن المأمول هو التفكير في كيفية التغلب على العقبات التي تواجه تطبيق هذا المبدأ في المملكة، وليس في الدول الأخرى.
واتفق م. إبراهيم ناظر بأن القناعة أو الثقافة المجتمعية تعَدُّ أحد التحديات المهمة بدليل توجُّه 99.8% من خريجي الثانوية العامة للتعليم الجامعي، والمشكلة – من وجهة نظره – ليست التوجه للجامعة والحصول على شهادة جامعية؛ لكن المشكلة في نوعية المخرج من الشهادات التي يحملها الخريجون من الجامعات، والتي لا تتوافق مع متطلبات سوق العمل بشكل كبير جدًّا، خاصة بعد رؤية ٢٠٣٠ والتغير العالمي فيما يُسمَّى بالوظائف الناشئة، والهدف الأهم المفروض أن يخدمه التعليم هو تلبية متطلبات احتياجات سوق العمل والقطاع العام من القوة العاملة نوعًا وكمًّا.
ومن ناحية أخرى، يرى أ. محمد الدندني أنه فيما يتعلق بسوق العمل فالأمر لا يتعلق فقط بمخرجات تعليم وكسب المهارة والجدارة. وهذا ليس تشاؤمًا؛ فثمةَ إيمانٌ قوي بالقوة العاملة الوطنية شبابًا وشابات إذا ما أُحسِن التخطيط والتنظيم في أدق الأمور. والقول إنه لا غنى عن التعليم كقاعدة لكسب المهارات صحيح إلى حد كبير، ولكن ليس كلُّ المهن تحتاج إلى التعليم؛ فهناك شباب وشابات ليسوا خامة مناسبة للتعليم، هنا يأتي دور الأخصائيين لسبر مواهبهم وتدريبهم على تخصص يناسبهم، كذلك فثمة حاجة إلى التدريب في العمل in job training، وقد أفلحت الشركات الكبرى في هذا إلى حد جيد كما في أرامكو.
وفي تصوُّر م. سالم المري، فإن الافتقاد للمهارة والخبرة والكفاءة ليس المشكلة الوحيدة؛ والدليل أن السعوديين أثبتوا قدرتهم على أداء الأعمال الفنية والتقنية، وتميزوا فيها في شركات القطاع العام الكبرى ذات المتطلبات التقنية العالية، مثل أرامكو وسابك والكهرباء وغيرها. سوق العمل في المملكة ما زال بحاجة لشغل الوظائف الأساسية التقليدية في قطاع الخدمات والبنية التحتية مثل الإنشاءات والصناعات التقليدية التي لم تتغير متطلبات الوظائف فيها من حيث التعليم والمهارة. جُل المشكلة في سوق العمل السعودي إداريًّا وتنظيميًّا؛ فالوظائف متوفرة، والمهارات ممكن اكتسابها بالتدريب، والمعاهد والجامعات متوفرة.
وفي اعتقاد د. فوزية البكر، فإن من الأهمية بمكان إعادة التذكير ببعض الحقائق الأساسية ذات العلاقة بقضية المهارات أم الشهادات، وهي أن نقرأ موضع إثارتها من منطلق تعزيز أهمية المهارات وليس التقليل من شأن الدراسة الجامعية، والتي لا تُقدِّم لنا فقط مهارة: إنها أربع سنوات من البناء الذاتي والمنطقي والشخصي والمعرفي والمهاري معًا حتى يتخرج الدارس، وهذا يعيدنا للمربع الأول في مناقشة الكيفية التي يتم بها تعليمنا الجامعي في معظم التخصصات وخاصة الإنسانية والشرعية، ولِنرَ الفارق واضحًا، فلِنأخذْ نموذج أي جامعة أمريكية في الوقت الحاضر، وفي أي تخصص، إذ إنها تفرض على الطالب منذ سنته الثانية (لماذا الثانية؟ لأن السنة الأولى هي إعداد عام، يدرس فيها الطالب ما شاءَ حتى يُقرِّر ما هو الأصلح له، هل هو فعلاً ما اختاره من تخصص أم ينتقل إلى شيء آخر، ويمكنه ذلك أيضًا في سنته الثانية، وهكذا)، أنه لا بد أن يؤديَ ما يُسمَّى “الإنترنشيب” (التدريب على رأس العمل) في إحدى الشركات ذات العلاقة بتخصصه خلال الصيف، ومن السنة الثالثة تصبح فصلًا كاملًا، وهكذا. كما يُشترط على الطالب دراسة فصل أو سنة في جامعة أخرى خارج الولاية، ويُفضَّل اليومَ خارج أمريكا ككل ليتعرف على العالم الحقيقي: عالم العمل والخيارات الكثيرة المطروحة واحتياجات السوق، كما يهذب خصائصه الشخصية ويرقيها لتُصبح مناسبةً لمناخ العمل، فأين جامعاتنا من هذا كله؟ هنا، يصبح السؤال: هل نموذج تعليمنا الجامعي حاليًّا – وتحديدًا في التخصصات الإنسانية وحتى في إدارة الأعمال ودراسة القانون… إلخ، عدا عن التخصصات الشرعية الصرفة – يُؤهِّل أصلًا لدخول عالم أعمال يضجُّ بمتغيرات الذكاء الصناعي؟
وذهب د. نبيل المبارك فيما يتعلق بأولوية المهارات أم الشهادات بالنسبة لسوق العمل، إلى أن نسبة تدخل الحكومات ومؤسسات التعليم سوف تبقى محدودة بحدود، والنسبة الكبرى هي للشق الاجتماعي والظروف الإنسانية، ومستوى العدالة في توزيع الفرص؛ ففي أمريكا اليوم ورغم التكاليف العالية للدراسات الجامعية، يبقى الإقبال كبيرًا عليها، ووصلت الديون على الطلاب والأسر إلى أكثر من تريليون دولار؛ لأنها مفتاح اجتماعي واقتصادي للأسر التي تريد تغيير الواقع الذي تعيشه. وثمةَ عددٌ من التساؤلات والاعتبارات المطروحة في هذا السياق، منها:
- لماذا أصلاً وُجدت الشهادات بهذا الشكل التنظيمي الذي نعيشه اليوم؟ فهي لم تكن موجودةً في عابر الأزمان.
- ما الذي نعنيه بالمهارة؟ إنَّ شركةً معينة قد تحتاج إلى مهارات تختلف عن الشركة المنافسة رغم أنها في نفس النشاط مثلاً. كما أن المهارة مرتبطة بمهنة، في بعض الأحيان يتم رفض مرشَّح للعمل؛ لأنه مؤهل أكثر من الحاجة، وهذا واقع، مثلما أنه يُرفض لأنه أقل كفاءةً. المسألة ليست كميةً ولا موضوعية، المسألة واقع يعيش معنا في عملية الاختيار.
- هل لدينا اليوم مؤسسة تعليمية تعرف جيدًا احتياجات قطاع العمل (حكومي، وخاص)؟ أو تدعي أنها تعرف؟
- هل أصلاً قطاع العمل بشكل عام يعرف جيدًا احتياجاته؟
- هل التعيين اليومَ يتم بناءً على المهارة حتى نُطالب بالمهارة؟
- الموضوع له امتدادٌ اجتماعي بالدرجة الأولى، وثقافي واقتصادي. والكثير من الباحثين في أمريكا وبريطانيا من الخمسينيات من القرن الماضي تحدَّثوا عنه، وعن الامتدادات الطبقية في دخول الجامعات العريقة فيما ينازع الفقراء واليد العاملة، للخروج من هذا الوضع من خلال الديون لدخول أبنائهم الجامعات، ومن ثَمَّ الخروج إلى عالم المال والطبقات العليا. وعليه، يبدو أن الموضوع ذاته يتكرر لدينا اليوم؛ فالطبقة العليا تريد التشجيع على المهارات وتطوير اليد العاملة، فيما لا يزالون يحرصون على أن يحصل أبناؤهم على أعلى الشهادات بالدعم الشخصي والمادي.
- ماذا عن موضوع الكفاءة والجدارة، بحيث يتم توفير منظومة عادلة، يستطيع من لديه الكفاءة والجدارة إثبات نفسه بالشهادة أو المهارة أو التجربة أو النجاح الذاتي، فقط علينا توفير منظومة عادلة، وقد كان هذا هو مشروع المملكة قبل أربعين سنة، عندما فتحت الجامعات وقامت بدفع راتب تشجيعي لكل فئات المجتمع، لأَخْذ فرصة لتحقيق الذات وتكوين المهارة من خلال الحصول على الشهادات. وفعلاً، كان الحصاد وافرًا، ولله الحمد. نحتاج اليومَ إلى مشروع مختلف، مع ضرورة بقاء العدالة المجتمعية.
- سوف تظل الشهادةُ ضرورةً، وسوف تستمر لوقت طويل، وتبقى المهارة متطلبًا بحسب التخصص وطبيعة العمل؛ وبالتالي المهارة تأتي من الميدان، والشهادة تأتي تأسيسًا من مؤسسات التعليم المختلفة.
ويرى د. راشد العبد الكريم أن المفترض هو أن الشهادة علامة كاشفة عن امتلاك المهارة، وليست استحقاقًا مستقلًا أو منفصلاً. فهذا الانفصال – إنْ حدث – فهو يعبر عن خلل في متطلبات مَنْح الشهادة. فالمهارة هي المقصود الأول، وما الشهادة إلا “شهادة” بامتلاك المهارة. والتقليل من أمر (الشهادة) تحت أي مسوغ، يُؤثِّر على عنصر أساس من عناصر (التمهين) professionalization لأي عمل. فمن المعلوم أن من متطلبات أي عمل ليصبح مهنةً (توفُّر برنامج إعداد) يمنح شهادة بتلك المهنة، وبالتالي تفقد المهن عنصرًا مهمًّا من عناصرها. والأجدى بدلًا من التقليل من قيمة الشهادة لحساب المهارة، أن نُركِّز أكثر في التأكيد على ضرورة أن تكون الشهادة ذات مصداقية عملية، بحيث تعكس فعلاً مستوى المهارة التي يمتلكها صاحب الشهادة.
- آليات مقترحة للإفادة المُثلى من المهارات والشهادات في سوق العمل:
يرى د. محمد الثقفي أن ثمةَ حاجةً إلى دراسة إستراتيجية عميقة ومتأنية، ومرتبطة ببيئة العمل، مع ضرورة عدم الانسياق خلف بعض التوجهات، لا سيما فيما يتعلق ببرامج التعليم العالي وبرامج التعليم العام، ويمكن البحث عن محسنات تمكِّن من توفير الجدارات الوظيفية اللازمة، بشكل أشمل من مجرد المهارات، والتصوُّر أن موضوع ريادة الأعمال من أفضل الموضوعات التي تتطلب التركيز والتفعيل؛ كونه يساعد على التوطين، وتوظيف الآخرين.
وفي اعتقاد د. وفاء طيبة، فإن أهم المهارات التي نودُّ تشجيعَها في الفترة الحالية هي المهارات المهنية والتقنية، والتي لها ارتباط بقدرات لا يتم الاهتمام بها أو تنميتها في المراحل الدراسية؛ مثلاً القدرة المكانية، وهي النشاط العقلي المتضمَّن في إدراك وفَهْم العلاقات المكانية بسهولة، وهي قدرة مهمة في العمل في بعض المهن من اختصاص مؤسسة التدريب التقني والمهني، فأين وصلت مؤسسة التدريب المهني والتقني؟ وفيها تبرز المهارة أكثر من الشهادة، وما هو الجديد لديها؟
في حين أكد م. فاضل القرني
الوضع العالمي اقتصاديًّا واجتماعيًّا (وطبيعي السياسية دائمًا متواجدة) في تغير، ربما أسرع من المخططين. لذلك، من الأهمية بمكان أن يكون هذا الشأن – وهو التعليم، الذي أصلًا يُنشد لسوق العمل – أن يُنظر إليه بأنه بحاجة إلى إصلاحيات عميقة. لا بد للتعليم أن يوافق تربية ليست على المبادئ الوطنية والدينية والاجتماعية فقط، بل على حُبِّ العمل في فصول منهجية وغير منهجية، وهي الأهم؛ من معامل تُشوِّق الطالب للبحث والتجربة، وتأسيس مبادئ مهارات (إلكترونية، لغات، تشريحية، فيزيائية، ورش مجسمات، ابتكار برامج حاسوبية) صغيرة في مواردها كبيرة في نفوسهم، أيضًا ممارسات طبية بسيطة تؤسِّس رغبةً ومساعدة في التوجه…).
وفي تصوُّر د. صدقة فاضل، فإن سوق العمل نفسه يحتاج إلى إعادة نظر، وإلى إستراتيجية عملية جديدة، ومن المهم ألا نكتفي بترديد عبارة مخرجات الجامعات ومتطلبات سوق العمل… أي سوق عمل هذا؟ وفيه حوالي ١١ مليون وافد عامل، ونسبة بطالة مرتفعة نسبيًّا بين بني الوطن؟ من المؤسف أن نرى شبابًا وشاباتٍ ومواطنين ومواطنات وهم يبحثون عن عمل يعيشون من دَخْله، ويخدمون من خلاله مجتمعهم، ولا يجدونه إلا بالكاد. إنَّ مستقبل العمل والتنمية في بلادنا يعتمد على محوري: السياحة والصناعة. ويجب أن يُهيَّأ سوق العمل لذلك، فهل تتم هذه التهيئة الآن؟
وبدوره عقَّب م. إبراهيم ناظر على ما ذكره د. صدقة فاضل بأن سوق العمل هو سوق افتراضي اقتصادي، يجتمع فيه الأشخاص الذين يبحثون عن عمل أو وظائف مناسبة لهم، كما يوجد فيه أصحاب الأعمال والشركات المختلفة الذين يرغبون في توظيف الأشخاص المناسبين للقيام بأعمالهم. وحسب تقرير الهيئة العامة للإحصاءات في الربع الأول ٢٠٢٠، فإن عددَ العاملين فيه 13,635,323 فردًا، عدد السعوديين منهم 3,203,423 سعوديًّا وسعودية، ويشمل جميع القطاعات الاقتصادية: الصناعة، السياحة والاتصالات وتقنية المعلومات، التجزئة، النقل والإمداد، القطاع المالي، الطاقة، التعدين، الرياضة، الترفيه، الصحة، الصناعات العسكرية، القطاع العقاري، الثقافة والفنون، وغيرها. وعدد السعوديين العاطلين والباحثين عن العمل 1,015,820 سعوديًّا وسعودية، والاعتقاد أنه لا تتوفر فيهم المتطلبات لسوق العمل علمًا أن غالبيتهم جامعيون، وبعضهم يحملون PHD، وهنا يكون التساؤل: أين المشكلة؟
وأضافت د. وفاء طيبة أنه ومع كامل الاحترام لكلِّ مَن وفَد إلى المملكة للعمل الشريف، ولكن لم نكن نتوقع أن تكون نسبة غير السعوديين حوالي٤٠٪ والسعودي يبحث عن عمل! أولاً لأن هناك مَن يزاحمه، وثانيًا لأن هناك بعض الأعمال ما زال السعودي يأبى العمل بها (وهذه مهمة جدًّا)، وثالثا لأنه لم يُعَدُّ إعدادًا متنوعًا وجيدًا لمجالات كثيرة نحتاجها للتنمية.
ومن وجهة نظر أ. فائزة العجروش، فإنه وحتى نحفظ للتعليم مكانته، وللمواطن سُبل العيش الكريم بما يتناسب ومتطلبات سوق العمل؛ يمكن الآخذ بالمقترحات الآتية:
- ربط الأجور في سوق العمل بالمهارات إلى جانب الشهادة العلمية.
- دَمْج عنصري التعليم والمهارات في منظومة تعليمية متكاملة؛ فذلك سيشجِّع الطلبة على التنافس في التحصيل العلمي المقترن بالمهارات المطلوبة لسوق العمل.
- استشراف مجالات العمل المستقبلية والتخصصات والمهارات المطلوبة لها.
- التركيز على إجادة التقنية، من تصميم وتطوير وإنتاج، كمهارات أساسية؛ فهذا سيزيد من الطلب على الموظفين المؤهلين ذوي القيمة المضافة العالية.
- تعزيز تدريس المهارات التقنية مثل الرياضيات وعلوم الحاسب بمهارات التواصل، والمهارات الإنسانية كالابتكار، والقدرة على الإقناع لضمان القدرة على المنافسة في سوق العمل المستقبلية.
وأكد أ. محمد الدندني أنه لا يمكن الوصول لحلول ناجعة بدون تخطيط إستراتيجي يربط كلَّ هذه العناصر من التعليم بشقيه الأكاديمي والفني، وثقافة المجتمع وتغييرها بالإعلام والأنظمة الصارمة والمفعَّلة، والإحصائيات الدقيقة وربطها بحاجة السوق والموارد الطبيعية والخدمات تحت مظلة مشروع الدولة الوطني، وهو رؤية ٢٠٣٠.
وفي سياق متصل، ذهبت د. هند الخليفة إلى أن معايير التعليم الجامعي ومخرجاته يتم قياسها بالرجوع إلى مجالات التعلُّم، وتشمل: (المعارف النظرية، والمهارات الإدراكية، ومهارات التواصل، والمهارات النفس حركية). هذه المجالات إذا اعتمدت على معايير الجودة، فإن المناهج العلمية في الجامعات تصبح متكاملةً ومتجددةً، تتوافق مع متغيرات العصر واحتياجات المجتمع. وكذلك الأمر بالنسبة للتدريب لا بد أن يخضع لمعايير للجودة، ويتم مراجعته بشكل دوري لتحديث محتواه ومخرجاته. ولقد بدأت هيئة تقويم التعليم والتدريب في تنفيذ مشروع تقويم التدريب في المملكة، بينما يتولى مركز التقويم والاعتماد الأكاديمي متابعة جودة التعليم في الجامعات وتطبيق المعايير. وبالرغم من التقدُّم الذي حدث في مجال جودة التعليم والتدريب، إلا أن المشوار لا يزال طويلاً، وهناك العديد من العوامل المؤثرة عليه. ومن المهم تنويع الخيارات لطالبي العلم، وعدم حصرها في التعليم الجامعي أو التدريب المهني؛ لإتاحة الفرص للجميع بمختلف القدرات والإمكانيات، والمجتمع بإمكانه أن يحتوي الجميعَ ويستثمر علمهم ومهاراتهم.
بينما تطرق أ. فهد الأحمري إلى جانب مهم في رأيه، وهو الولاء والابتكار، وما سمَّاه الموظف الاستثنائي significant employee. فالموظف الاستثنائي هو الذي يشعر بالولاء والانتماء لجهة عمله، سواء وُجِدت المحفِّزات أو لم توجد، سيُقدِّم كلَّ ما لديه، وسيسعى شخصيًّا لكسب المهارات التي يحتاجها عمله؛ سواء وجَد التحصيل المهاري عن طريق عمله أو طلبه بطُرقه الشخصية، حتى لو دفع من جيبه الخاص لتحقيق المهارات الداعمة للإبداع في مجال عمله. والموظف الاستثنائي يقوده ولاؤه وعشقه لعمله إلى الابتكار فضلًا عن كسب المهارات كما سلف، فهو لا ينتظر أن يُوكل إليه من إدارته مهمات عمل معينة؛ بل هو يخلق العمل، ويبتكر الأفكار الجديدة لزيادة الإنتاجية أو لتخفيض التكاليف لصالح منظومته. وفي الواقع، فإن ثمةَ حاجةً لمعرفة كيفية زرع هذين المفهومين في النشء «الولاء والابتكار»؛ لأهميتهما القصوى.
وتساءل أ. عبد الرحمن باسلم: هل الإعلام مسؤولٌ عن تغيير ثقافة المجتمع السائدة، والتي توجب الحصول على شهادة جامعية حتى وإنْ كانت في تخصصات لا يرغبها الأفراد؟ وهذا التحدي يستوجب تغيير هذه الثقافة، وإقناع الآباء والمربين بأن حاجات سوق العمل تغيَّرت، وأن بعض الوظائف الجديدة تستلزم الحصولَ على مهارات مهمة جدًّا قد لا يوفِّرها التعليم الجامعي، وأن التعليم المهني أو الفني أفضل بكثير في المستقبل.
ومن جانبها أشارت د. الجازي الشبيكي إلى أن المجتمعات البشرية متجهةٌ في المرحلة القادمة نحو حقبة (الذكاء الاصطناعي)، الذي يعتمد على المهارة المستندة على المعرفة العلمية بشكل كبير؛ من خلال تمكين الشباب، وبناء الشراكات مع المؤسسات المتخصِّصة لتحقيق أهداف الإستراتيجيات المستقبلية المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، وتوظيف التقنيات الحديثة لتقديم الحلول الفعَّالة لمختلف قطاعات ومجالات التنمية. ونحتاج في هذا الشأن أن ندعم البنيةَ التحتية لتطوير المهارات، وتطوير ممارسات التوظيف الاعتيادية، وبناء سلسلة من الإجراءات التي تدعم هذا التوجُّه كي نصل إلى مستوى التوظيف المطلوب الذي يُعنى بالمهارة ويدعمها كمعيار أساسي ومهم من دون إهمال للمعرفة العلمية. أيضًا، فإن أقسام الموارد البشرية في كافة المنشآت الحكومية وغير الحكومية مُطالبةٌ بتطوير شروط وإجراءات التوظيف الخاصة بها، والنظر إلى المهارات كعامل أساسي في تقييم وقبول المرشحين، وليس فقط استنادًا إلى الشهادات التعليمية. وعليه، يستلزم الأمر التوجُّه نحو الأدوات والتقنيات المتطورة التي تساعد المنشآت في البحث عن أصحاب المهارات، والتأكُّد من مطابقتها لاحتياج المنشآت؛ لتسهيل عمليات التوظيف القائمة على المهارات. كذلك فثمة ضرورة للخُطط التكاملية السليمة من قِبل كلٍّ من منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الإعلامية والوزارات الحكومية ذات العلاقة؛ لدعم الصورة الإيجابية للعمل المهني بالتعاون والتنسيق البنَّاء مع الجامعات والشركات ومؤسسات القطاع الخاص.
وترى أ. منى أبو سليمان أهميةَ مساعدة الشركات والهيئات؛ بوضع القواعد الصحيحة والهيكل للتدريب الصيفي، ومن ضمن ذلك فيديوهات عن كيفية التقييم لكل مرحلة تدريب بما يتناسب مع نوعية عمل الطالب، وتوحيد الــــ forms لهم.
ومن وجهة نظر أ. جمال ملائكة، فإن التحدي الكبير لموضوع الشهادات العلمية والمهارات هو كيفية إصلاح وتطوير نظام التعليم منذ الحضانة وإلى المرحلة الجامعية، والمطلوب هو:
- التقليل إلى الحدود الدنيا من المواد النظرية التي تحتاج إلى حفظ.
- أن تكون معظم مناهج المراحل التعليمية “عمليةً”، ومنها تضمين مواد تعليمية يدوية ومهنية يستخدمها الطلاب، وتساعدهم على “الابتكار”.
- تضمين مواد فكرية تحتوي على “مشاكل أو عوائق… إلخ”، تتطلب حلولًا، فيقوم الطلبة بالتفكير في الحلول على شكل جماعات، ويطرحون أفكارهم.
- إيجاد برامج لاكتشاف مواهب الطلاب وإمكانياتهم منذ المرحلة الابتدائية، وتوجيههم في المرحلة الثانوية لدراسات ملائمة لمواهبهم.
- تنفيذ برامج عمل صيفية لطلاب المرحلة الثانوية.
- وجود مرشدين أكاديميين في المرحلة الثانوية؛ لفَهْم توجُّهات وإمكانيات كلِّ الطلاب وتوجيههم تبعًا لذلك.
- تضمين المناهج الجامعية جرعاتٍ عاليةً من دراسات الحالة والأبحاث.
- بداية من السنة الثانية الجامعية يعمل الطالب صيفًا في مجاله الدراسي مع الشركات والمؤسسات، بل ومع الهيئات الحكومية.
- إعادة النظر في مناهج المدارس والجامعات، وتضمينها الدراسات والمهارات المطلوبة في سوق العمل.
- دراسة كل الأعمال غير الدنيا المطلوبة للقطاع الخاص وتضمينها في الدراسة الجامعية، مثل التأمين والأعمال اللوجستية… إلخ.
وأكدت د. عبير برهمين على ما يلي:
- ضرورة إدخال الأنشطة اللاصفية المهارية والمهنية المختلفة منذ الصفوف الأولية؛ لتعزيز أهمية المهارات الحياتية المختلفة.
- إعادة النظر في مخرجات معهد الإدارة العامة ومعهد التدريب التقني والمهني وبرامجهما، وتقييم الواقع والمأمول مع حجم الإنفاق، وقياس الأثر الذي أحدثته برامجهما المختلفة ودوراتهما على الواقع.
- ضرورة استحداث مسار مهني في مرحلة الثانوية، يؤهل الراغبين في العمل مباشرةً بعد اكتساب المهارة دون دخول المرحلة الجامعية.
- إتاحة التعلُّم الأكاديمي أو المهني بدون شروط العمر، أو صلاحية الشهادة الثانوية لمَن يرغب في إكمال تعليمه أو تعلُّم مهارة أخرى.
- تحديد توصيف وظيفي محدَّد لكل وظيفة ومتطلباتها المهارية أو الأكاديمية.
- على المجتمع أن يعيَ أن الحصول على الشهادة الجامعية وما فوقها لا يعني بالضرورة الحصول على وظيفة مرموقة في نفس التخصص.
- الحرص على نوعية الدورات والمهارات خلال التدريب على رأس العمل بما يتناسب ومتطلبات الوظيفة.
- تحديد سقف الأجور لكل مهنة على نظام نقاط تُعطى في ضوء المعرفة (الشهادة) والمهارة والأخلاقيات والسلوكيات المصاحبة لها، وكذا بناءً على عدد سنوات الخبرة، ودرجة الإتقان، والقدرة على الإبداع والابتكار والشغف؛ وذلك لخلق نوع من التنافسية المحمودة على التميُّز والجودة وإتقان العمل، ومكافأة الشخصية المنتجة بشكل عادل وتمييزها عن غيرها.
- التوصيات:
- بناء حاضنات ذات كيانات كبيرة ومتميزة العطاء، تخدم بالإضافة إلى رواد الأعمال حديثي التخرج من الجامعات والمعاهد المتخصصة ذات الأنشطة التدريبية، ينتج منها برامج مُصمَّمة لإنجاح وتطوير منشآت رواد الأعمال، وينتفع منها حديثو التخرج لاكتساب مهارات تؤهلهم للدخول في سوق العمل بكل اقتدار. (جهة التنفيذ: وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، ومدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية – حاضنات بادر).
- تطوير أساليب التدريب العملي الجامعي وزيادته بشكل واسع في مراحل التعليم الجامعي، وليس فقط كمتطلب نهائي قبل التخرُّج أسوةً بكليات الطب والهندسة. (جهة التنفيذ: وزارة التعليم والجامعات).
- ضرورة التدريب على رأس العمل، حيث يدرس ويتدرب العامل السعودي في نصف الوقت في مراكز تدريب تابعة للشركة أو المؤسسة، والنصف الآخر من اليوم يعود لعمله، وذلك في بداية حياته المهنية. (جهة التنفيذ: صندوق الموارد البشرية).
- زيادة مقاعد التعليم الفني والعلمي في الجامعات، مثل الهندسة والطب والتخصصات العلمية الأخرى، وتطوير برامجها وتحديثها بحيث يستوفي الخريجون المتطلبات العالمية المتعارف عليها نظريًّا وَفق المعايير العالمية. (جهة التنفيذ: وزارة التعليم والجامعات).
- تطوير برامج التدريب المهني والتقني والفني بكليات ومعاهد التقنية وتحديثها وربطها بالتوظيف، بحيث تكون مخرجاتها تتواءم ومتطلبات سوق العمل. (جهة التنفيذ: المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني).
- يجب على الجامعات أن تسعى ضمن مناهجها في تقديم المعرفة للطلاب؛ بتدريبهم على اكتساب المهارات والمعارف، وربط المؤهلات المهنية مع التعليم الجامعي ضمن منهج تعليمي واحد، والتحوُّل إلى مفهوم المعرفة والتعليم العملي عن طريق التجارب والتطبيق العملي، وفتح قنوات اتصال مع الشركات وأصحاب العمل لمعرفة متطلباتهم من التخصصات والوظائف، والتنسيق في إقامة التدريب التعاوني للطلبة كمتطلب قبل التخرج، ومساعدتهم بوَضْع القواعد الصحيحة للتدريب الصيفي، والاستعانة بالوسائل الحديثة عن كيفية التقييم لكل مرحلة تدريب بما يتناسب مع نوعية عمل الطالب، ووَضْع قواعد منظِّمة لذلك. (جهة التنفيذ: الجامعات والقطاع الخاص (الشركات) والغرف التجارية ومجلس الغرف وصندوق الموارد البشرية).
- إيجاد برامج لاكتشاف مواهب الطلاب وإمكانياتهم خلال مراحل التعليم العام، وتوجيههم بعد الثانوية لدراسات ملائمة لمواهبهم وميولهم، ووجود مرشدين أكاديميين في المرحلة الثانوية لفَهْم توجهات وإمكانيات كل طالب وتوجيههم تبعًا لذلك، واستحداث مسار مهني في مرحلة الثانوية يؤهِّل الراغبين للعمل مباشرة بعد اكتساب المهارة دون دخول المرحلة الجامعية. (جهة التنفيذ: وزارة التعليم).
- إيجاد إستراتيجية وطنية أو لجنة عليا من وزارة الموارد البشرية ووزارة التعليم، لتنسق الجهود وربط الأهداف وتفعيل مبادرات التحول الوطني بموجب رؤية ٢٠٣٠ لكلٍّ من الوزارتين؛ لتوفير متطلبات سوق العمل من المخرجات الملائمة للتخصصات والوظائف الناشئة. (جهة التنفيذ: وزارة التعليم ووزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية).
- عمل حملات إعلامية بين المؤسسات الإعلامية ومنظمات المجتمع المدني بالتركيز على البرامج التوعوية الهادفة لتغيير ثقافة المجتمع إيجابًا نحو الوظائف المهنية، وتوعية المجتمع أن الحصول على الشهادة الجامعية وما فوقها لا يعني بالضرورة الحصول على وظيفة مرموقة في نفس التخصص أو أنها تضمن له الوظيفة، ونَشْر الوعي والإدراك عن أهمية تطوير المهارات بالتوازي مع المستوى التعليمي بسبب التحولات المحلية والعالمية في أسواق العمل. (جهة التنفيذ: وزارة الإعلام ومنظمات المجتمع المدني).
- المطلوب من الجامعات التي تمَّ اتخاذ القرار باستقلالها – بصفتها على أبواب وضع خططها الإستراتيجية التي من المفترض اتسامها بالمرونة والسرعة في التحرك – أن تتوجه ببرامجها التعليمية نحو الشراكة الفاعلة مع الشركات والمؤسسات وسوق العمل بشكل عام منذ بداية المرحلة الجامعية للتوأمة الحقيقية بين المعرفة والمهارة تطبيقًا عمليًّا، وإدخال ضمن مناهجها متطلبات الذكاء الصناعي والثورة الصناعية الرابعة. (جهة التنفيذ: الجامعات التي تمَّ اتخاذ القرار باستقلالها، والقطاع الخاص “الشركات”، والغرف التجارية، ووزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية).
- إعادة النظر في مخرجات معهد الإدارة العامة ومعاهد التدريب التقني والمهني وبرامجها، وتقييم الواقع والمأمول مع حجم الإنفاق، وقياس الأثر الذي أحدثته برامجها المختلفة ودوراتها على الواقع. (جهة التنفيذ: معهد الإدارة العامة والمؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني).
- إتاحة الفرصة للتعليم الأكاديمي أو المهني بدون شروط العمر، أو صلاحية الشهادة الثانوية لمَن يرغب في إكمال تعليمه أو تعلُّم مهارة أخرى. (جهة التنفيذ: الجامعات المستقلة، والمؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني، ومعهد الإدارة العامة).
- تحديد توصيف وظيفي مُحدَّد لكل وظيفة ومتطلباتها المهارية أو الأكاديمية للوظائف الناشئة في سوق، وأساليب وطُرق التقييم العلمي لكل منها ما أمكن؛ لأن التقييم العملي متروك في الأخير لأصحاب العمل. (جهة التنفيذ: وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، والشركات وأصحاب الأعمال).
- تعزيز الجهات المنظِّمة والمُشرفة على سوق العمل بالإمكانيات، وتحميلها مسؤوليات التنفيذ الكامل للبرامج، ومن ذلك: إحصاء جميع السعوديين القادرين والقابلين لأداء أعمال القطاعات المراد سعودتها، وتدريبهم بشكل تام، وتضمن لهم رواتب مجزية وأمنًا وظيفيًّا. وبعد ذلك، تقوم الجهة المنظِّمة بإحلال المتقدمين في تلك الوظائف، وتضمن لصاحب العمل البديل في حالة الفشل، وتكون مسؤولة عن المتابعة والتقويم لفترة محددة. جهة التنفيذ: (وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، والمؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني، والهيئات المهنية والغرف التجارية).
- تشجيع شركات القطاع العام ذات الإمكانيات الكبيرة على التدريب والتوظيف، وتكوين شركات مساندة تقوم بالإنشاءات والخدمات والأعمال ذات الصلة بنشاطاتها بدلاً من الاعتماد على الـ outsourcing أو الشركات الأجنبية والمقاولين الذين يستقدمون عمالة أجنبية. جهة التنفيذ (وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، والوزارات المؤسِّسة لتلك الشركات).
المشاركون في مناقشات هذا التقرير:
- قضية “توطين التقنية من منظور المحتوى المحلي- الصناعات العسكرية كمثال:
- د. حميد الشايجي
- د. عائشة الأحمدي
- أ. د. صدقة فاضل
- د. حمد البريثن
- أ. إبراهيم ناظر
- د. عبد الرحمن باسلم
- د. يوسف الرشيدي
- د. حامد الشراري
- قضية “تحديد “ثوابت الأمة” لرؤية مستقبلية إيجابية”:
- د. وفاء طيبة
- د. زياد الدريس
- أ. محمد الدندني
- د. عبد الإله الصالح
- م. فاضل القرني
- أ. سالم المري
- د. فهد الحارثي
- م. خالد العثمان
- د. عبد الله صالح الحمود
- م. إبراهيم ناظر
- د. عبد العزيز الحرقان
- د. فائزة الحربي
- أ. لاحم الناصر
- د. رياض نجم
- د. عبد الله ناصر الحمود
- د. مساعد المحيا
- د. محمد الثقفي
- أ. جمال ملائكة
- د. راشد عبد الكريم
- قضية “دور ريادة الأعمال والابتكار في تنمية المجتمعات، والتحديات التي يواجهها رواد الأعمال”:
- د. يوسف الرشيدي
- د. وفاء طيبة
- م. فاضل القرني
- أ. إبراهيم ناظر
- د. سلطان المورقي
- أ. خالد العثمان
- د. حمد البريثن
- د. الجازي الشبيكي
- قضية “سوق العمل: المهارات أم الشهادات؟”:
- د. محمد الثقفي
- م. فاضل القرني
- أ. فائزة العجروش
- د. صدقة فاضل
- أ. مها العقيل
- د. رياض نجم
- أ. محمد الدندني
- م. سالم المري
- د. فوزية البكر
- د. نبيل المبارك
- د. راشد العبد الكريم
- د. هند خليفة
- أ. فهد الأحمري
- د. عبد الرحمن باسلم
- د. الجازي الشبيكي
- أ. جمال ملائكة
- أ. منى أبو سليمان
- د. عبير برهيمن
(*) المشرف العام على الإدارة العامة للابتكار وريادة الأعمال، وزارة التعليم، 1441هـ – الآن.
(*) المصدر: موقع أرقام السعودي http://bit.ly/2MDlL6G
* المصدر: جريدة مكة، الأحد ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٠.