التقرير الشهري رقم (61)
1 مارس 2020

:تمهيد
:المحتويات
:الملخص التنفيذي
- الملخص التنفيذي:
ناقش م. أسامة كردي في الورقة الرئيسة العديدَ من الموضوعات، بدأها بتعريف الشركات الحكومية، ودور الحكومات التي يرى أنه يجب أن يكون تنظيميًّا وإشرافيًّا ورقابيًّا خصوصًا فيما يتعلق بحماية المستهلك. كما تناول أهداف مؤسسات الأعمال الحكومية ودور القطاع الخاص كمالك ومُشغِّل أساسي، وأيضًا تطرق إلى بعض التجارب والنجاحات للشركات الحكومية، بجانب المسؤولية الاجتماعية وفقدان مؤسسات الأعمال الحكومية لهذه الميزة، وبدائل مؤسسات الأعمال الحكومية، وأخيرًا ختم ورقته بموضوع الخصخصة والشراكة.
وأشار م. خالد العثمان في التعقيب الأول إلى أن الحراك الذي يقوم به صندوق الاستثمارات العامة سيكون له بالضرورة أثرٌ فاعلٌ في فتح عدد من القطاعات الجديدة التي تتطلب مبادرات ريادية تتحمل مخاطر التأسيس. كما ذهب إلى أن الموضوع الذي يخشى منه القطاع الخاص هو منافسة الشركات الحكومية له، ومدى تحقيق العدالة والتنافسية بين الشركات الحكومية والخاصة. وأكد على ضرورة أن لا ينحصر هذا التنافس فقط في الشركات الحكومية، بل أيضًا في مؤسسات حكومية بحتة تتمتع بامتيازات تضعها في موقع تنافسي غير عادل مع القطاع الخاص. واتفق م. خالد مع م. أسامة في تبني نماذج الشراكة بين القطاعين العام والخاص كبديل عن نموذج الشركات الحكومية الصرفة كحل مستدام لتحقيق التوازن والتكامل بين أدوات الدعم الحكومي وفكر القطاع الخاص. واختتم تعقيبه بتساؤل حول تسريع تفعيل برنامج الخصخصة الذي يُمثِّل أحد أهم برامج الرؤية دون أن نرى أيَّ مبادرات أو أطروحات حقيقية.
من جانبه رأى أ. فهد القاسم في التعقيب الثاني أن الورقة الرئيسة أسهبت حول الشركات الحكومية العاملة في قطاع الأعمال، ولكنها اختصرت الحديث عن الشركات الحكومية الأخرى ذات الغرض الخاص، وهي تلك التي تقوم حاليًّا بدور الخدمات المساندة للمؤسسات الحكومية التي أنشأتها. وفي تصوُّره فإن الشركات الحكومية يجب تقسيمها إلى قسمين رئيسين: الشركات الحكومية الهادفة للربح مثل الخطوط السعودية وسابك والاتصالات وشركات المشاريع الكبرى مثل القدية ونيوم والدرعية ووسط البلد، والشركات الحكومية للخدمات المساندة والتي تنقسم لفئتين: الأولى: تُؤسَّس لتنفيذ أغراض خاصة مثل: شركة علم التابعة لوزارة الداخلية، وشركة الشراء الموحد للأدوية التابعة لوزارة الصحة. والثانية: الشركات التي يرى – من وجهة نظره – أنها أصبحت “موضة” لمعظم المؤسسات الحكومية لتجاوز البيروقراطية الحكومية في الصرف والتعيينات وأنظمة الشراء.
وتضمنت المداخلات حول القضية المحورين التاليين:
- المآخذ على الشركات الحكومية في الواقع السعودي.
- وسائل تطوير الشركات الحكومية والنهوض بأدائها.
ومن أبرز التوصيات التي انتهى إليها المتحاورون في ملتقى أسبار حول قضية “الشركات الحكومية” ما يلي:
- تبني نماذج الشراكة بين القطاعين العام والخاص كبديل عن نموذج الشركات الحكومية الصرفة؛ لتحقيق التوازن والتكامل بين أدوات الدعم الحكومي وفكر القطاع الخاص.
- إيقاف أشكال المنافسة غير الصحية والضارة بالقطاع الخاص من قِبل المؤسسات الحكومية وشركاتها، وأن يكون تركيز الحكومة عند تأسيس الشركات الحكومية على المشاريع الكبرى التي لا يستطيع القطاع الخاص القيام بها.
- الورقة الرئيسة: م. أسامة كردي
مقدمة:
انتشرت مؤخرًا مبادرة إنشاء الشركات الحكومية في العديد من اقتصاديات العالم. وبغض النظر عن أسباب ذلك، فقد رأينا هذا الانتشارَ يشمل الصين والعديدَ من اقتصاديات الدول الناشئة بما في ذلك المملكة، والأمثلة على ذلك في المملكة عديدة، ليس هنا مجال لذكرها، ولكن قد ترد خلال هذه الورقة.
التعريف:
يمكن تعريف الشركات الحكومية – كما هي معرَّفةٌ دوليًّا- بأنها مؤسسات الأعمال التي تملكها الحكومة بالكامل أو تملك أغلبها أو حصة مؤثرة فيها، ويكون من ضمن أهدافها تحقيق الربح. ويرى البعض أن مجرد اتخاذ قرار إنشاء هذه المؤسسات في إحدى الدوائر الحكومية يجعل هذه المؤسسةَ مؤسسةَ أعمال حكومية ما دام تحقيق ربح وتقديم خدمة أو سلعة هي جزء من أهدافها.
دور الحكومات:
من المعروف اقتصاديًّا أن دور الحكومات يجب أن يكون تنظيميًّا وإشرافيًّا ورقابيًّا، وبالذات فيما يتعلق بحماية المستهلك؛ ولكن العديد من الحكومات تلجأ إلى إنشاء أو المشاركة في ملكية مؤسسات الأعمال لأهداف محددة، تشمل تحقيق الربح في أغلب الأحيان.
أهداف مؤسسات الأعمال الحكومية:
من ضمن أهداف مؤسسات الأعمال الحكومية: التعامل مع الارتفاع الكبير في رأس المال المطلوب لبعض القطاعات أو انخفاض عائده الربحي مع أهميته، أو الرغبة في تنمية قطاع جديد في الاقتصاد على أمل دخول القطاع الخاص لاحقًا في هذا القطاع، كما حصل في إنشاء شركة سابك منذ عدة عقود. ومن الأهداف المحتملة الدخول في تقنيات عالية قد يكون تطويرها يتطلب تكاليف عالية أو يرفض ملاكها استخدامها إلا بشروط صعبة، مثل شركة عِلم. ومن المعروف أن تحقيق الربح يجب ألا يكون من ضمن هذه الأهداف الحكومية، وفي حالات قليلة قد يكون القرار يهدف لأكثر من هدف في نفس الوقت؛ ولكن في نهاية الأمر يجب ألا تصبح هذه المؤسسات منافسة للقطاع الخاص ومُخِلةً بقواعد المنافسة العادلة مما يخل بالقواعد الاقتصادية المعروفة، ولا أن تصبح هذه المؤسسات حجر عثرة أمام نمو القطاع وتوسُّعه. ومن أمثلة ذلك شركة البلد الحرام في مكة المكرمة التي يبدو أنها ستنافس المطوفين والقطاع الخاص في تقديم الخدمات لحجاج بيت الله الحرام. وقد تكون هذه الشركات ذات هدف خاص ومحدد، مثل: شركات تطوير التعليم، وشركة ثِقة المرتبطة بوزارة التجارة. وعلى أي حال، فإن من المعروف أن دورة رأس المال في القطاع الخاص هي أسرع وأكثر فعاليةً من دورته في القطاع الحكومي. وفي بعض الأحيان، يكون أحد أهداف هذه الشركات تجنُّب الحاجة إلى الالتزام بأنظمة الأعمال والعمال الحكومية.
دور القطاع الخاص:
في ضوء التعريف أعلاه لدور الحكومة في الاقتصاد، فلا بد أن نُشير إلى دور القطاع الخاص. فمن المعروف أن دور القطاع الخاص لا بد أن يكون باعتباره المالك والمُشغِّل الأساسي لكافة مؤسسات الأعمال المُقدِّمة للسلع والخدمات والمنتجات للمستهلك؛ وبالتالي الموظف الرئيسي للقوى العاملة في الاقتصاد. كما أن من مسؤوليات القطاع الخاص العملَ في حدود الأنظمة والقوانين واللوائح الصادرة من الحكومة.
تجارب ونجاحات الشركات الحكومية:
يتضح من التجارب الاقتصادية في العديد من الدول حاليًّا وتاريخيًّا أن مؤسسات الأعمال الحكومية نادرًا ما تنجح في تنفيذ أهدافها ما لم يصاحب إنشاءَها نوعٌ من أنواع الاحتكار مع بعض المميزات الأخرى. كما أن هذه الشركات ينتج عنها منافسة غير عادلة في مناخ الأعمال عندما تتحصل هذه المؤسسات على إعفاءات من المتطلبات التي تُطبَّق على مؤسسات القطاع الخاص، مثل المناقصات العامة والضمانات المالية وغيرها. كما أن تسعير خدمات ومنتجات هذه الشركات كثيرًا ما يؤثِّر على القطاع المعنيّ، وسلبيًّا على نوعية وأسعار المنتجات والخدمات المقدَّمة فيه.
وكبديل عن إنشاء مؤسسات الأعمال الحكومية يمكن تطبيق مجموعة من القواعد التي تُحقِّق الأهدافَ الحكومية، مثل: الدعم الحكومي، وتسعير السلع والخدمات، وخلق مناخ تنافسي يدعم تقديم الخدمات والسلع بأسعار ونوعيات منافسة.
المسؤولية الاجتماعية:
يرى البعض أن مؤسسات الأعمال المملوكة للحكومة قد تتميز بإلزامها في بعض الأحيان بأن تُوجِّه جزءًا من أرباحها إلى تحقيق فوائد اجتماعية لخدمة المجتمع المحيط بها وغير المحيط بها؛ ولكن في ضوء انتشار ثقافة المسؤولية الاجتماعية في القطاع الخاص خلال العشرين سنة الماضية، فقد فقدت مؤسسات الأعمال الحكومية هذه الميزةَ.
بدائل مؤسسات الأعمال الحكومية:
إذًا، ما هو البديل لمؤسسات الأعمال؟ تحدَّثنا سابقًا عن أهداف مؤسسات الأعمال الحكومية، ومن المهم البحث عن بدائل لتحقيق هذه الأهداف. وفي هذا الإطار، يمكن الحديث عن مؤسسات أعمال يملكها ويديرها القطاع الخاص، ولكنها تعمل بقواعد تُحدِّدها الحكومة؛ منها المنافسة مع مؤسسات مشابهة، ومنها التسعير المُسبق للسلع وللخدمات.
التخصيص والشراكة:
يرى العديد من المختصين أن أفضل الوسائل لتحقيق الأهداف التي تسعى إليها الحكومات من مؤسسات الأعمال هي (الشراكة بين القطاع العام والخاص) شريطة تساوي الفرص. وهذه الشراكة يمكن أن تأخذ عدة أشكال؛ منها المشاركة في رأس المال، أو أن تُقدِّم الحكومة أصولًا تُدار بواسطة الشركة الجديدة بخبرة الشريك من القطاع الخاص، وذلك حسب ما ورد في (دليل الشراكة بين القطاعين العام والخاص) المتوفر من برنامج التعاملات الإلكترونية الحكومية (يسّر). وثمة شكل آخر من أشكال الشراكة هو تخصيص الشركات أو الهيئات الحكومية بعرض أسهمها أو جزء منها للبيع للقطاع الخاص؛ وهو ما يؤدي إلى ارتفاع فعالية أعمالها وارتفاع الشفافية في هذه الأعمال. ومن أمثلة ذلك، التخصيص الجزئي لشركة سابك والاتصالات السعودية. ولعل برنامج التخصيص يكون أحد أهم برامج رؤية المملكة ٢٠٣٠ على الرغم من تأخُّر البدء في تنفيذه حتى مع نجاح التخصيص الجزئي للخطوط السعودية.
- التعقيبات:
- التعقيب الأول: م. خالد العثمان
القضية التي تناقشها الورقة الرئيسة هي بحقٍّ قضية تؤرِّق مجتمعَ الأعمال في هذه الفترة بالذات، خصوصًا في ظلِّ الحراك العارم الذي يقوم به صندوق الاستثمارات العامة ومنظومة الشركات التي نراها تظهر تباعًا على الساحة في قطاعات متعددة تكاد تغطي مجمل الخارطة الاقتصادية. وعلى أية حال، فإن هذا الحراك سيكون له بالضرورة أثرٌ فاعل في فتح عدد من القطاعات الجديدة التي تتطلب مبادرات ريادية تتحمَّل مخاطر التأسيس على غرار نموذج شركة سابك، الذي أشار إليه كاتب الورقة الرئيسة، إلا إنه من الضروري بمكان العمل على تسريع إشراك القطاع الخاص في تتبُّع النموذج الريادي الذي يقوده صندوق الاستثمارات العامة؛ لتسريع قطف الثمار، وتعميم الأثر على كامل الرقعة الجغرافية الشاسعة للمملكة، علاوة على تمكين نقل المعرفة وتضافر الجهود والتكامل بين القطاعين العام والخاص لتأسيس نماذج عمل مستدامة في هذه القطاعات الجديدة.
الموضوع الذي يخشى منه القطاع الخاص في هذه القضية هو منافسة الشركات الحكومية له، ومدى تحقيق العدالة والتنافسية بين الشركات الحكومية والخاصة، وهي خشية مبنية على رواسب من تجارب سلبية سابقة ما زال كثيرٌ منها قائمًا على أرض الواقع. وفي الحقيقة، فإن بعض هذه الشركات الحكومية لا تقوم بدور تجاري أو اقتصادي حقيقي؛ بل هي مجرد وسيلة للخروج على أنظمة الدولة التي تُقيِّد بعضَ جوانب العمل الحكومي، والتي يرى المسؤول أنها تعيق أداء المؤسسة الحكومية لمهامها المنوطة به. بعض هذه الشركات هي مجرد منصات لعقود تجسيرية لتمويل استقطاب موظفين برواتب أعلى من رواتب سلم ديوان الخدمة المدنية، أو للحصول على خدمات أو مشتريات خارج قيود نظام المنافسات الحكومية. والمشكلة أن بعض هذه الحالات تفتقر إلى الحوكمة والرقابة الفاعلة بما يمكن أن يجعلها منافذ لفساد غير منظور، علاوة على أنها تحرم مثيلاتها من كيانات القطاع الخاص من المنافسة العادلة للفوز بهذه الخدمات أو التوريدات في الإطار النظامي المعتمد. وفي رأيي، فإن الأجدر هو مراجعة الأنظمة الحكومية التي اضطرت أولئك المسؤولين لاتباع هذا النموذج التجسيري طالما تكرَّست القناعة بجمود تلك الأنظمة وعدم قدرتها على تحقيق الفعالية والأثر المطلوب في منظومة التنمية.
من الضروري أيضًا لفت النظر إلى أن واقع منافسة الحكومة للقطاع الخاص لا ينحصر فقط في الشركات الحكومية، بل أيضًا في مؤسسات حكومية بحتة تتمتع بامتيازات تضعها في موقع تنافسي غير عادل مع القطاع الخاص. مثال ذلك، مراكز الأبحاث الجامعية التي تحصل على عقود استشارية بالتعميد المباشر أحيانًا لأداء مهام تجسيرية من قبيل توفير الموظفين أو شراء الخدمات والمعدات لجهات أخرى. والأسوأ أنها تقوم أيضًا بالدخول في منافسة مباشرة مع القطاع الخاص عبر دخول منافسات ومناقصات لعقود حكومية، متمتعةً بامتيازات خاصة تُعفيها من تقديم الضمانات البنكية والإيفاء بالتزامات التأمين والتوظيف والتأمينات الاجتماعية وغيرها من الأعباء التي يتحمَّلها منافسوها من كيانات القطاع الخاص. هذا الواقع يتطلب بالفعل تصحيحًا عاجلاً، إذ إنه يؤدي إلى تحجيم حصة ومساهمة القطاع الخاص في تقديم الخدمات والتعهدات، ويدفع الكثير من كياناته إلى الخروج من السوق؛ وبالتالي تقليل فرص العمل المعروضة على الشباب السعودي.
ختامًا.. أتفق مع مطالبة كاتب الورقة الرئيسة بتبني نماذج الشراكة بين القطاعين العام والخاص كبديل عن نموذج الشركات الحكومية الصرفة، فهي السبيل الأنجع والمستدام لتحقيق التوازن والتكامل بين أدوات الدعم الحكومي وفكر القطاع الخاص. ولربما تكون هذه مناسبة للتساؤل عن فرص تسريع تفعيل برنامج الخصخصة الذي يُمثِّل أحد أهم برامج رؤية السعودية 2030، والذي أُعلِن عنه منذ فترة دون أن نرى بعدُ أية مبادرات أو طروحات حقيقية جادة ضمن هذا المسار.
- التعقيب الثاني: أ. فهد القاسم
تطرَّقت الورقة الرئيسة لتعريف الشركات الحكومية، ودور الحكومات، وأهداف مؤسسات الأعمال الحكومية وبدائلها، ودور القطاع الخاص، وتجارب ونجاحات الشركات الحكومية، والمسؤولية الاجتماعية، والتخصيص والشراكة، وهي ورقة عمل مُلخِّصة للموضوع على نحو مُجمل.
أسهبت الورقة في الحديث حول الشركات الحكومية العاملة في قطاع الأعمال، ولكنها اختصرت في الحديث عن الشركات الحكومية الأخرى ذات الغرض الخاص، وهي الشركات التي تقوم غالبًا بدور الخدمات المساندة للمؤسسات الحكومية التي أنشأتها، وكان ودي لو استعرضت الورقة الشركات الحكومية العاملة في المملكة بشكل أكثر تفصيلًا، وفي رأيي أن الورقة مع تميُّزها إلا إنها ستكون أكثر تميزًا لو تعمَّقت في الغوص في بعض التطبيقات الحاصلة في السوق لهذه الممارسات.
أرى أن الشركات الحكومية يجب تقسميها إلى قسمين رئيسيين؛ الأول: وهو الشركات الحكومية الهادفة للربح، مثل الخطوط السعودية وسابك والاتصالات، ويُضاف لها الشركات القادمة للمشاريع الكبرى مثل الدرعية والقدية ونيوم ووسط جدة… إلخ. والثاني: الشركات الحكومية للخدمات المساندة، وهذه نوعان؛ الأول: هي الشركات التي تُؤسَّس لتنفيذ أغراض خاصة، مثل: شركة علم التابعة لوزارة الداخلية، وشركة الشراء الموحد للأدوية التابعة لوزارة الصحة. والنوع الثاني: هي الشركات التي أصبحت “موضة” لمعظم المؤسسات الحكومية، ووجدتها هذه المؤسسات جسرًا ملائمًا لتجاوز البيروقراطية الحكومية في الصرف والتعيينات وأنظمة الشراء… إلخ.
عند الحديث عن الشركات الحكومية من المهم التوقُّف عند برنامج التخصيص، والذي نجح نجاحًا باهرًا في شركة سابك والاتصالات وتموين السعودية، وتوقَّف بعد ذلك، ثم كثر الحديث عنه ولكن تنفيذه تأخَّر كثيرًا، وكانت مستهدفاته عالية جدًّا في برنامج التحوُّل؛ لتحويل بعض شركات ومؤسسات الدولة من الملكية الحكومية إلى الملكية الخاصة للأفراد، ومن أبرزها: الخطوط السعودية، والصوامع، والبريد، والموانئ، والقطارات، إلى آخره.
كنت أتمنى أن تضع الورقة بعضَ التوصيات المهمة ذات العلاقة بالموضوع، ولعلِّي أقترحُ بعضًا منها:
- إيقاف أشكال المنافسة غير الصحية والضارة بالقطاع الخاص من قِبل المؤسسات الحكومية وشركاتها.
- تركيز الحكومة عند تأسيس الشركات الحكومية على المشاريع الكبرى فقط، التي لا يستطيع القطاع الخاص القيام بها.
- وضع برنامج زمني صارم لمبادرات التخصيص المُعلَنة وتفعيله.
- إحالة برنامج التخصيص إلى وزارة الاستثمار.
- المداخلات حول القضية:
- المآخذ على الشركات الحكومية في الواقع السعودي:
في اعتقاد د. نوف الغامدي، فإن توجُّه بعض الوزارات والهيئات الحكومية إلى تأسيس شركات تابعة لها (كشركات حكومية 100 ٪) لتنفيذ أعمال لها طابع استثماري – يحتاج إلى ضوابط وتقنين لكيلا تتحول هذه الشركات التي تحظى غالبًا بدعم مالي وتشريعي إلى منافس للقطاع الخاص في المجالات ذاتها؛ وخصوصًا عندما تتجه تلك الشركات إلى الاستثمار خارج نطاق وحدود الجهات التي أنشأتها، مستفيدةً في كثير من الأحيان من الدعم الذي تلقاه من الجهاز الحكومي.
وعقَّب م. أسامة كردي بأن هذا التوجُّه للأسف انتشر! وهو يهدف إلى التخلص من أنظمة الخدمة المدنية في التوظيف، ويُستخدم في التوظيف بعد التقاعد، والخبرة العالمية تؤكد عدم نجاح هذا التوجه؛ لأنه يخلُّ بقواعد المنافسة الطبيعية، والصحيح هو أن يُفتح المجال للمنافسة بين مؤسسات القطاع الخاص لتقديم هذه الخدمات الاستثمارية، أو يتم استخدام أسلوب المشاركة بين القطاعين كما هو مُوضَّح في الورقة الرئيسة. ولعل توجُّه وزارة الثقافة لإنشاء هيئات بدل الشركات ينتشر لدى الدوائر الحكومية.
وأشارت د. نوف الغامدي إلى أن أ. فهد القاسم صنَّف في تعقيبه الشركات الحكومية إلى قسمين، والحقيقة نعرف أن معظم الوزارات اتبعت خطوات وزارة العمل ووزارة التجارة في إنشاء الشركات، ومن أهداف ذلك انعتاق المصروفات المالية لتلك الوزارات من البيروقراطية، حيث سمحت هذه الأذرع الاستثمارية للوزارات بالصرف بعيدًا عن تعقيدات البنود الرسمية التابعة لوزارة المالية؛ ولهذا شاهدنا كيف تدفع بعض الوزارات رواتب يتجاوز بعضها راتب الوزير نفسه، ولا اعتراض على ذلك من حيث المبدأ، إلا أن قفز تلك الشركات إلى خارج حدود نطاق الوزارات ودخولها في منافسات مع القطاع الخاص دون توفير البيئة التنافسية العادلة لكلا الطرفين يجب أن يُنظر فيه.
وبدوره يرى أ. فهد القاسم أن هذه محاولات من الوزارات بالطبع للتحرر من السياسات والإجراءات التي تُكبِّل العملَ الحكومي، خاصة أنَّ كثيرًا من الوزراء قدموا مؤخرًا لكرسي الوزارة من مقاعدهم في القطاع الخاص. فكانوا يرون هذا العائق معوقًا لإنجازاتهم. لاحقًا، ومع موكب الرؤية أصبح التعيين خارجَ إطار أنظمة الخدمة المدنية ممكنًا في الوزارات بضوابط معينة. وكان من نتائج تلك التحركات أن ارتفع معدل رواتب موظفي الحكومة الجُدد في الشركات وخارج نظام الخدمة إلى أرقام فلكية. الطريف في الأمر أن تزايد رواتب الموظفين أصبح تنافسيًّا بين الجهات الحكومية حتى صدر قرار يمنع المنافسة والمزايدات بين المؤسسات الحكومية.
وأوضح أ. نبيل المبارك أن هناك قرارًا رسميًّا بمَنْع الجهات الحكومية من إنشاء شركات منذ سنوات قليلة بعد انتشار الظاهرة. والآن، لم يعُد بإمكان الجهات والدوائر الحكومية تأسيس مثل تلك الشركات. وجميع الشركات التي أُنشئت سابقًا تمَّ تحويل ملكيتها إلى صندوق الاستثمارات العامة، مثل: شركة علم، وثقة، وتطوير التعليم؛ وتخضع حاليًّا لإعادة تقييم وخصخصة إذا وُجدت جدوى اقتصادية. كما أنها أصبحت تخضع لنظام المنافسات والمشتريات الحكومية مثلها مثل باقي القطاع الخاص.
وعقَّب م. أسامة كردي بأن هذا لا يبدو صحيحًا؛ حيث إنَّه لاحظ إنشاء بعض الشركات مؤخرًا، وأضاف أن تحويل الملكية من جهة حكومية إلى أخرى لا يُغيِّر من الأمر شيئًا.
وأضاف د. رياض نجم أنه وفقًا لما أُثير في ملتقى “فرص” الذي عُقِد مؤخرًا في الرياض، فإن شركات الأمانات (البلد الأمين، جدة للتعمير…) التي حوّلت ملكيتها لصندوق الاستثمارات العامة قبل ٣ سنوات ستعود للأمانات مرة أخرى، ولا توجد معلومات عن باقي الشركات الحكومية. وفي سياق متصل، من المهم التفرقة بين الشركات الحكومية التي يملكها ويُنشئها صندوق الاستثمارات العامة، وتلك التي تُنشئها الوزارات والهيئات الحكومية؛ فالأولى غرضها الأساسي هو تحقيق الربح لدعم موارد الدولة المالية، بالإضافة لتحفيز الحركة الاقتصادية وتشجيع الاستثمار في مجالات محددة، ولها آليات واضحة في الحوكمة. أما الثانية فإن ما نفهمه للغرض منها هو إيجاد المرونة في الإجراءات بغرض رفع الكفاءة في التشغيل وتخفيض الإنفاق. والسؤال الذي يطرحه الجميع: هل لهذه الشركات الحكومية حوكمة واضحة من حيث تحقيق الربحية وتخفيض النفقات، على الرغم من الميزات المُعطاة لها؟ أم أن لهذه الشركات جيوبًا عميقة (deep pockets) تصرف منها الأموال دون النظر إلى الربح أو الخسارة؟ وكأمثلة لهذه الشركات الحكومية: علم، ثقة، كفاءات، تقنية، تكامل، الشركات العقارية المملوكة للأمانات.
وعقَّب م. خالد العثمان بأن أبرز المشكلات هي المنافسة مع القطاع الخاص، وهذا أمر مشهود بشكل مخيف في حالة شركات صندوق الاستثمارات العامة. شركة استثمار إدارة النفايات مثلاً SIRC، تعمل بنموذج استحواذي احتكاري طارد للقطاع الخاص من كل قطاع. وقد وقَّعت الشركة مذكرات تفاهم لتولي إدارة كامل النفايات في الرياض والدمام، وهناك مدنٌ كبرى أخرى في الطريق. والسؤال: كيف يمكن لشركات القطاع الخاص التي تريد المساهمة في هذا الحراك أن تقف أمام منافس بهذا الحجم والسطوة، في حين أن الأمانات تخطب ودَّ هذه الشركة لإلقاء مسؤولية حل مشاكل هذا القطاع عليها؟ هذا مشهد ينبغي التوقُّف أمامه بتمعن؛ فشركات الصندوق ينبغي أن تدعم شركات القطاع الخاص بالمشاركة معها والاستثمار فيها وتأهيلها للعب أدوار فاعلة في المنظومة، وينبغي أن تكون قائدةً للسوق كما فعلت سابك، وليست مستحوذةً على السوق كما هو الحال في شركة الكهرباء.
ومن جديد، أوضح د. رياض نجم أن ما قصده من التفريق بين شركات الصندوق وشركات الأجهزة الحكومية هو في مسألة الربح والخسارة. فالصندوق حريصٌ على الربح (وفي أحيان كثيرة، في منافسة غير عادلة مع القطاع الخاص). أما الشركات الأخرى فلا أحد يعلم عن ربحيتها بالرغم من منافستها غير العادلة مع القطاع الخاص.
ويرى د. يوسف الرشيدي أن النماذج الكبرى الأولى والقديمة كسابك والخطوط السعودية لا مشكلة عليها، ولم تكن يومًا في دائرة المنافسة المحلية، ومع تزايد الحراك الصناعي والخدمي ما زالت هذه النماذج أعمدةً داعمة غير منافسة، ولكن مؤسسات كعلم وثقة وتمكين وغيرها وُجِدت لخدمة القطاع الحكومي لتجاوز البيروقراطية المالية والشرائية، فلم تقف عند هذا الحد، بل بدأت في عرض خدماتها للسوق كالخدمات التقنية والمهنية وغيرها من أعمال كانت تُقدَّم للقطاع الحكومي فقط؛ وهذا التحول يجعل المنافسة غير عادلة بين هذه الشركات.
وأوضح م. أسامة كردي أن إنشاء “سابك” منع مشاركة القطاع الخاص واستثماراته في هذا القطاع لسنين طويلة، وهذا مثال لما قصده في الورقة الرئيسة عندما تحدَّث عن مَنْح الشركات الحكومية نوعًا من الاحتكار. ومن ناحية أخرى، فقد حدث مؤخرًا أنْ أضاف صندوق الاستثمارات العامة السعودي جزءًا من شركة بتيل للتمور إلى محفظته!
وفي تصوُّر د. عبد الله بن صالح الحمود، فإن دخول صندوق الاستثمارات مشاركة مع القطاع الخاص هو لدعم الناتج المحلي، سواء مشاركة أو تأسيس كيانات خاصة به. وبدوره عقَّب م. أسامة كردي بأن ما يرى أنه مناسب هو اختيار الصندوق القطاعات المهمة للاقتصاد التي تتطلب رؤوس أموال كبيرة أو تقنية متقدمة أو مردود منخفض في البداية، كما هو مُفصَّل في الورقة الرئيسة. أما م. خالد العثمان فذهب إلى أن المشكلة ليست في الاستثمار، وإنما في الاحتكار والنزول إلى أدوار تنفيذية وتشغيلية.
ويرى أ. محمد الدندني أنه لا يوجد جديد في ذلك؛ فالقطاع الخاص ينعم بالاحتكار لعقود طويلة. الفتات تُرك للمنافسة، وهذا هو واقع الحال. بينما يرى م. أسامة كردي أن احتكار الكثرة ليس احتكارًا، المقصود هنا أن القطاعات كانت مفتوحة أمام آلاف الشركات من القطاع الخاص، وباب المنافسة كان مفتوحًا. ومن جديد ذهب أ. محمد الدندني إلى أن الوكالات العامة نوعٌ من الاحتكار، ولا مسؤولية اجتماعية أو مساهمة في الاقتصاد الوطني.
ولفت انتباه د. مها العيدان التفرقة بين شركات القطاع الحكومي والقطاع الخاص، وفي اعتقادها فإن أهمية كل قطاع ترتبط بالنظام الرأسمالي أو الاشتراكي، كما ترتبط أهمية كل قطاع بحجم النظام الاقتصادي للدولة. وفي دول العالم الثالث ما زال القطاع الحكومي هو محل الثقة للمستهلك؛ لعدم توفُّر آلية تطبيق القوانين والأنظمة التي تُنظِّم التعامل مع القطاع الخاص، وجهل الأفراد في التعامل ومعرفة ما لهم وما عليهم في تعامُلهم مع القطاع الخاص.
ومن ناحيته تساءل د. خالد الرديعان: هل يوجد جهة حكومية معنية بالخصخصة ومتابعتها؛ هيئة ما أو مؤسسة حكومية؟ وإنْ لم تكن موجودة، فهل هناك ضرورة لوجودها؟ وفي هذا السياق، أوضحت د. نوف الغامدي أن الجهة المعنية هي المركز الوطني للتخصيص، لكنَّ الحقيقة – كما ترى – أنه لا يقوم بدوره سوى في طرح الفرص التي ما زالت غير واضحة. لكن م. أسامة كردي يعتقد أن المركز الوطني للتخصيص يحاول جاهدًا؛ إلا أن ثمة تعقيدات قانونية مرتبطة بالتخصيص. بينما يرى م. خالد العثمان أن المشكلة ليست في المحاولة من عدمه، المشكلة أن النظام لا يمنحهم السلطة لإدارة ملف التخصيص؛ فكل الجهات الحكومية تدير هذا الملف داخليًّا بشكل مستقل، وهذا الأمر ليس خطرًا على مسألة العدالة والمنافسة فحسب، بل على تكامل منظومة التخصيص وطَرْح الفرص وتكديس الخبرات والتجارب في هذا المضمار. ومن جديد، ذكر م. أسامة كردي أن هذا الوضع كان في السابق، حيث كانت الدوائر الحكومية تُخصِّص نفسها! ولكن هذا توقَّف عند إنشاء المركز الوطني للتخصيص. واتفق د. رياض نجم مع ذلك، حيث كان هذا الأمر واضحًا في قطاع الإعلام في العامين الماضيين؛ الوزارة لم تلقِ بالا لما اقترحه مركز التخصيص. وأكد م. خالد العثمان مرة أخرى على أن المركز الوطني للتخصيص حاليًّا أقرب ما يكون إلى ممارسة دور استشاري يدقُّ أبوابَ الجهات الحكومية؛ يعرض عليها خدماته، ويقدِّم نماذج استرشادية غير ملزمة.
ومن جانبه رأى أ. محمد الدندني أن ما سبق يطرح تساؤلًا مهمًّا مفاده: هل ثمة عدم ثقة في القطاع الخاص ليكون أحد تروس التحول والتغيير حسب الرؤية؟ وأوضح م. أسامة كردي أن الثقة مهمة جدًّا، والاعتقاد أن مستوى عدم الثقة مرتفع جدًّا، والمشكلة أنه لا توجد هيئات تتعامل مع هذا الواقع، لا غرف تجارية ولا غيرها.
وبدوره أضاف أ. محمد الدندني أن هذا المستوى من عدم الثقة يقودنا لتساؤل آخر وهو: هل هناك خطة متوسطة إلى طويلة الأمد لخلق بيئة جديدة من القطاع الخاص، هذا إذا افترضنا أن هذه الشركات ستُطرح للاكتتاب العام كنوع من توزيع الثروة؟
وذكر م. سالم المري أن الخصخصة والدفع نحو تحويل القطاع العام والشركات المملوكة للدولة والمال العام إلى القطاع الخاص، في ظاهره إيجابي وهو تشجيع المنافسة والشفافية وتحسين الخدمات؛ لكن واقع السوق والمجتمع في بلدنا يختلف تمامًا، ولسنا في وضع يسمح بذلك حاليًّا، والتوسُّع السريع غير المحسوب في التخصيص قد ينتج عنه: ضياع المال العام، والفوضى، والفساد، وانتشار البطالة، وتخلُّف البلاد، وسيطرة الشركات الأجنبية، وإبقاء اعتمادنا على الغير في كل شيء، وعدم التوسُّع في الصناعة والتقنية. ولتوضيح ذلك، فلننظر في تجربتين رئيسيتين متقدمتين ناجحتين؛ إحداهما عن الخصخصة، والأخرى عن نجاح الشركات الحكومية ومنافستها محليًّا وعالميًّا.
- التجربة الأولى والرائدة عن الخصخصة في بريطانيا، بدأتها تاتشر في الثمانينيات، ولو قارنا أنفسنا ببريطانيا ذلك الوقت نجد أننا ما زلنا – للأسف – متخلفين عنها بعقود. فالخدمات والبنية التحتية في بريطانيا آنذاك مكتملة، والصناعة متقدمة، والقطاع الخاص في عمومه وطني، وله تجارب طويلة جدًّا ومحكوم بأنظمة ومواصفات ومقاييس ورقابة لها خبرة. وعندما تُخصخص الدولة قطاعًا ما، يأتي القطاع الخاص بموظفين محليين ويدير بكفاءة، ومع ذلك لم تنجح خصخصة جميع القطاعات. وبالنسبة لنا ماذا لدينا؟ تُسرِّح الشركة العامة موظفيها، وتعطي العمل لمقاول يجلب عمالةً قليلة الكلفة والخبرة من شرق آسيا، والفرق يذهب في جيوب قلة أو شركات، وأموال عابرة للقارات أصحابها مزدوجو الجنسية، وتتضاعف البطالة والنقمة السياسية.
- التجربة الثانية: تجربة الصين الشعبية والتي تعتبر شركاتها الحكومية من أكبر الشركات العالمية، وقفزت من بلد من بلدان العالم الثالث الفقير إلى بلد رائد في الصناعة والتقنية. والتقدُّم الصناعي والتقني ونقل التقنية والخبرات في مِثل وضعنا يصعب تحقيقه إلا بدعم وتخطيط قوي من الدولة، وهذا لن يحصل إلا من خلال شركات مملوكة للدولة تنال الدعمَ المادي والقدرة على اتخاذ القرارات الصعبة.
وأشار م. إبراهيم ناظر إلى أن القطاع الخاص ببساطة في اقتصاد أي دولة يتكون من مؤسسات وشركات خاصة لا تملكها الحكومة. وبالتطرق بشيء من التفصيل إلى قطاع التعدين كمثال، نجد أنه قد تدهورت حالته أكثر وأكثر، فقد كانت المملكة الثالثة عالميًّا في تصدير الجرانيت نوعًا وكمًّا، وهي الآن رقم ثلاثين عالميًّا، وكذلك تدهورت حصتها في الأسواق العالمية من الإسمنت، ووضع مواد البناء من الرمل والكسارات في الحضيض؛ ما عزَّز من ممارسات السوق السوداء السلبية، كما أن لنا أكثر من أربع سنوات ننتظر نظام التعدين، ووفق ما يتوافر من معلومات فسوف يتم إنشاء شركة حكومية للقيام بالمراقبة على المناجم، وكأنَّ “معادن” كشركة شبه حكومية محتكرة غير كافية، إنها تحتكر مئات رخص التعدين وآلاف الكيلومترات من الأراضي المخصَّصة للتعدين، وبعد هذا كله طبعًا تُسجِّل خسارة، وتكافِئ مجلس إدارتها على تحقيق الخسارة. طبعًا، الموضوع شائك وصعب اختصاره هنا، وأُوصي بالتخصيص للشركات الحكومية ولو بنسبة من رأس المال، وأن يتم الفصل التام بين الملكية والإدارة، وتُعامل بموجب نظام الشركات التجارية دون أي ميزات لها كملكية عامة، ولا يكون أعضاء مجلس إداراتها موظفين لهم مناصب في الدولة، ولو استدعى الأمر ذلك يُعار الموظف خلال مدة عمله في عضوية مجلس الإدارة.
وأكَّد أ. محمد الدندني أن المشكلة ليست في تأخُّر قانون التعدين، ولكن أيضًا في عدم وجود data base يستطيع المستثمر البناء عليها وتقييم الفرصة.
أما م. فاضل القرني فأوضح أن “الشركة الحكومية هي شركة مملوكة للحكومة، وتعمل بنفس استقلالية شركة خاصة، باستثناء أن المالك هو الحكومة. وعادةً ما يتم إنشاء الشركات الحكومية في الصناعات التي يوجد فيها احتكار طبيعي، وهي حيوية للبنية التحتية للبلد، أو الموارد الطبيعية القيمة على المحك، أو هناك فائدة عامة على المحك”. وبالبحث عن مفهوم وتطبيق الشركات الحكومية في أهم دول العالم في أقاليم وقارات مختلفة وبأنظمة سياسية واقتصادية مختلفة؛ نجد أن معظم دول العالم الصناعية و/أو الطامحة في النمو لديها أعداد كثيرة في الشركات الحكومية، ومنها: الصين، وألمانيا، والولايات المتحدة، والبرازيل، وتركيا. والشركات الحكومية جعلت الأنظمة الاقتصادية المختلفة متقاربة كمنتج للعملاء خارج أراضيها. بالإضافة إلى أنه ومن خلال خبرة وممارسات سابقة مع الصين وتركيا بشكل مكثف بالشراء ونقل التقنية؛ نلاحظ أن الشركات الحكومية في تلك الدول هي مؤثر قوي، وتُسهِّل الوصول إلى كامل القدرة المنشودة بدون أي تحفظات قانونية أو ضوابط حكومية معقدة، بل وأيضًا سلاسة التعامل والإجراءات، وتوفير كامل الخدمات الفنية واللوجستية. وفي بعض البرامج يكون لديها صلاحية وفسح للحصول عليها من شركات ومؤسسات حكومية خارج تلك الدول (مثل، قدرات رقابة وملاحظة لأغراض أمنية أو مناخية، يكون المصنع الأصلي OEM Original Equipment Manufacturer من أوروبا أو أمريكا) يكون أسهل ممَّا لو تمَّ عن طريق حكومة – حكومة بالأسلوب التقليدي (وبالطبع إلى سقف معين اعتمادًا على حساسية المنتج). إن الشركات الحكومية تتمتع بقوة الحكومة نظامًا وهيبةً، وبأسلوب قطاع خاص قوي في بحبوحة الموارد المالية في إطار عام ومرن نظاميًّا. وهذا يعتبر إيجابيًّا لفترة معينة وخاصةً في البلدان الغنية والطموحة مثل المملكة؛ لأنَّ ذلك سيكون موجِّهًا وفرة الموارد بأسلوب إداري متطور عن الأسلوب البيروقراطي المعروف عالميًّا (وبالطبع تختلف حجم البيروقراطية من بلد لآخر، وإنْ كانت أمريكا تحوي أكبر مخزون بيروقراطي متوازٍ مع الحمائية).
وأضاف م. فاضل القرني أن ثمة صورتين مختلفتين مرَّت بهما المملكة في توظيف مفهوم الشركات والمؤسسات الحكومية. كانت أرامكو منذ التأسيس الشركة الحكومية بدايةً بامتلاك أمريكي، وبعدها سعودي بأسلوب إداري متطور وسابق لعصره؛ لأنها تملك رافدًا حيويًّا للمملكة في التنمية والازدهار. ومنطقيًّا، تظل في يد الحكومة لخطورة إدراج القطاع الخاص في ذلك آنذاك. والصورة الأخرى طفرة أسعار البترول حتى أواخر السبعينيات أدخلت للمملكة مواردَ هائلة مالية، لكن لم يكن هناك ثقافة إدارة موارد متجددة تواكب العوائد واستثمارها في التنمية؛ وهو ما جعل الحكومة تديرها بالأسلوب الحكومي البيروقراطي والأقل فاعلية. وهناك استثناء. غير أنه فيما يُعرف بالطفرة الثانية في أوائل العقد الأول من الألفية، كان اقتراب الدولة أفضل بكثير من نهاية السبعينيات. ويُستدل من ذلك على أن الشركات الحكومية هي طريقة معاكسة للخصخصة والتخارج واللذين دافعهما هو حصول الحكومة للنقد أو التخلص من أعباء إدارة تلك الشركات سواء بامتلاكها كاملة أو النسبة الأعلى والتي جعلتها تكون المسؤولة عن إدارتها، أو التخلص من نسبة امتلاك ضئيلة ليس لها من جدوى اقتصادية. ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نغفل دور السياسة في ذلك؛ لما لها من اعتبار كبير ومؤثر، سواء سياسة داخلية أو خارجية. الوضع الطبيعي والمتزن والذي يجب أن يُسعى إليه هو استمرار المحافظة على الكيانين الطبيعيين (القطاع العام والخاص) لضمان الاستدامة في التنمية، وتحت الهيئات العليا من رقابة ونزاهة وكفاءة الإنفاق وشفافية الأنظمة ونظام قضائي مستقل ومتطور وواعٍ، ليس بتقنية المعلومات والتفاعلية وحسب؛ بل يكون غنيًّا بالمرجعيات الفنية في التحول الاقتصادي والتنمية وأسلوب إدارة الشركات بأنواعها في القطاعين، وكل ذلك – بمشيئة الله – يجعل الاستدامة التنموية في وجهتها وسرعتها الصحيحتين. وثمة مشكلة عملية تواجه القطاع العام ذاته، وهي أن القطاع يستدرر خبراءَه وكبار التنفيذين والفنيين المهنيين وبمزايا مالية مغرية، وستكون مشكلة (إدارة طاقة بشرية) مستمرة. والأثر الجانبي أن القطاع العام يمتلك قدرات بشرية عالية ولكنها بفكر خاص من حيث التنافس والمقارنة والتعامل بفكر الربحية أكثر من الخدمية.
وترى أ. علياء البازعي أن هناك عددًا من العوائق التي تؤثر على أداء بعض الشركات الحكومية، ومن أهمها ما يلي:
- عدم وضوح دور هذه الشركات بالنسبة لبعض المسؤولين وكثير من الموظفين في القطاع الحكومي الذي تعمل الشركة في مجاله، وهذا يعيق بشكل كبير تنفيذ المشاريع.
- أن الشركة الحكومية وإنْ كانت تنتمي للقطاع الخاص، فهو في الغالب انتماء شكلي يؤثر على أنظمة التوظيف والمنافسات وبعض أدوات التنفيذ، عدا ذلك فأعمال ومشاريع هذه الشركات تتأثر بشكل مباشر بكل ما يحدث في القطاع الحكومي التابعة له؛ فقد تتوقف مشاريع وتبدأ أخرى ثم تتوقف وهكذا؛ ويرجع ذلك لاختلاف توجهات المسؤولين في القطاع حيال مشروع معين.
- في الغالب ميزانيات الشركات وخططها مرتبطة بأعمال القطاعات الحكومية التابعة لها.
- أن الشركات الحكومية تنافس القطاع الخاص في المشاريع التي تخصُّ الدولة فقط، لكن ليس لديها القدرة على منافسة القطاع الخاص في المشاريع الأخرى.
وعقَّب م. إبراهيم ناظر بأن هذه الشركات بالذات، والتي أسستها الوزارات (أذرع للوزارات) مثل ثقة وتكامل وغيرها، وجميعها فيما عدا علم التي استثمرت في بيانات وزارة الداخلية، ليس لها أي قيمة مضافة للاقتصاد الوطني؛ فهي تقتات على الميزانية العامة للدولة عن طريق الترسية المباشرة لبعض مشاريع الوزارات عليها، وتُوفِّر للوزارة التوظيف والسيولة التي تحتاجها، وفي الغالب الوزير هو رئيس مجلس إدارتها، وهذا يذكرنا في السابق بأن بعض الشركات ذات الحظوة كانت تأخذ المشاريع مباشرة من وزارة المالية دون أن تخضع لنظام المنافسات بالسعر الذي تطلبه فيما يُسمَّى عقود cost plus contract حوالي ١٥٪ على سعر الفاتورة التي تُقدِّمها. ولا يمكن للقطاع الخاص أن يزدهر إذا لم يترك لآلية العرض والطلب العمل بحرية وشفافية، وطبعًا التنظيم اللازم الذي يُنظِّم ويدعم تكافؤ الفرص وعدالة المنافسة في السوق. ويمكن هنا التوصية بعدم أحقية الجهات الحكومية أو الشركات المملوكة بنسبة ٥٠٪ أو أكثر للدولة منافسة القطاع الخاص.
- وسائل تطوير الشركات الحكومية والنهوض بأدائها:
تساءلت د. نوف الغامدي في ضوء ما ورد في التعقيب الأول: كيف يمكن ألا يتحول القطاع الحكومي إلى منافس للقطاع الخاص؟ وهل يمكن في هذا الإطار إنشاء هيئات عوضًا عن الشركات كما في تجربة وزارة الثقافة التي أشار إليها م. أسامة كردي؟
وحول هذا التساؤل ذكر م. خالد العثمان أنه عندما تخوض الشركات والجهات الحكومية غمار المنافسات الحكومية أمام شركات القطاع الخاص، فإن هذه المنافسة غير عادلة بالمرة؛ فعلى سبيل المثال، تواجه المكاتب الاستشارية منافسة محمومة من مراكز الدراسات التابعة للجامعات، مثل مركز الملك عبد الله للبحوث والدراسات في جامعة الملك سعود، وهذه المراكز لا تُوظِّف موظفين بل تعمل من خلال مكاتب ومتعاقدين من الباطن، وبالتالي لا تتحمل أعباء رواتب وتأمينات اجتماعية وغير ذلك من أعباء التوظيف، كما أنها مُعفاة من تقديم الضمانات البنكية ولا تتكبَّد تكاليف رأسمالية؛ كونها تعمل من منشآت تابعة للجامعات وتستخدم مواردها، فهل هذه منافسة عادلة؟ وهل دور مراكز الأبحاث الجامعية تقديم دراسات وخدمات استشارية مدفوعة أو توفير موظفين عبر عقود تجسير وظيفي للجهات الحكومية؟ أما بخصوص توظيف الهيئات بديلاً عن الشركات كما يرى م. أسامة، فالاعتقاد أن هناك فارقًا بينهما في الإطار التشريعي والتنظيمي للهيئات، إذ إن الشركات ذات طابع تنفيذي استثماري وربحي في العموم. كما أن الشركات كانت أداة لتحقيق احتياجات قصيرة المدى للجهات الحكومية، لكن لا يجب أن تستمر بهذا النموذج، والواجب أن يكون التعويل على الخصخصة وتمكين القطاع الخاص من أداء هذه المهام في إطار تنافسي مستدام.
وتساءلت د. نوف الغامدي: هل التحوُّل إلى وزارة الموارد البشرية سَيُسهم في رفع المقاييس والمعايير للوظائف في القطاعين العام والخاص، وبالتالي رَفْع الكفاءة والإنتاجية، ويُعزِّز من مخرجات الخصخصة ومن ثَمَّ رفع التنافسية؟
وفي هذا الإطار، يرى د. عبد الله بن صالح الحمود أن توافر وظائف وطالبي العمل تحت مظلة واحدة، مؤدَّاه دعم للتشريعات ومرونة التطبيق، أيضًا الخصخصة هي الأخرى سيكون لها أثر إيجابي نحو الارتقاء بالإنتاجية، كون أن الخبرات تتلاقى في بيئة واحدة، حين تجتمع خبرات القطاعين العام والخاص في قطاع واحد يُوحِّد الأداء والجهود دون ذكر عام وخاص.
وتساءل أ. وليد الحارثي: ما النتائج المتوخاة من دمج وزارتي الخدمة المدنية والعمل، وما أثر ذلك على بيئة العمل المتباينة جدًّا بين الشركات الحكومية والخاصة؟ ففي تصوُّره، فإن جزءًا من ذلك هو محاولة المقاربة بين أهم عنصرين في تلك القطاعات: بين الأداء المرتفع والأمان المنخفض في الشركات، وبين الأداء المنخفض والأمان المرتفع في الوظائف الحكومية، وهو ما يؤكد أهمية التساؤل حول الوضع المتوقع في المستقبل القريب، وكيفية تعامل الجهات التشريعية والتنظيمية معه. وبدورها تعتقد د. نوف الغامدي أن الأمر سيتغير خصوصًا مع التحوُّل إلى نظام التأمينات في بعض الجهات.
ومن وجهة نظر د. رياض نجم، فإن إنشاء الشركات الحكومية لا بد أن يكون مُحددًا بمدة زمنية يتم بعدها نَقْل جزء من ملكيتها للقطاع الخاص، وأن لا تُعطى أي ميزات تنظيمية عن منافسيها في القطاع الخاص تحت أي مبرر. والبديل الأفضل للشركات الحكومية هو المشاركة مع القطاع الخاص PPP.
وفي تصوُّر د. يوسف الرشيدي، فإن الشراكة بين القطاع الخاص والعام مطلوبة، ولكن أيضًا من الممكن أن يتم تحديد نطاق أعمال هذه الشركات الحكومية في بعض الأعمال حتى لا تستأثر بالسوق، وتتسبب في إخراج بعض الشركات. صحيح هناك مَن سيقول الأسواق حرة، ولا يجب أن يُعاب على الشركات الحكومية البحث عن مصادر دخل أخرى خاصة، وأنها تملك من الكوادر والخبرة التي تجعلها قادرة على تقدير أفضل الحلول والخدمات، لكن يجب أن نعلم أن المنافسة بسبب الإمكانات والفروقات الظاهرة لن تكون عادلة؛ لذا الأفضل أن تُختصر أعمال الشركات كوكالات تعاقد، وتقديم خدمات خفيفة تُعزِّز من السوق وتزيد تنافسيتها.
وأكد م. أسامة كردي أن هناك حاجة إلى حماية المستهلك من ممارسات بعض الشركات عن طريق:
- إصدار قانون لهذا الغرض.
- تطوير مجهودات الحكومة في هذا الإطار.
- ترخيص جمعيات مجتمع مدني لحماية المستهلك.
وقد تأخرت الحكومة كثيرًا جدًّا حتى تمَّ ذلك.
ويعتقد د. عبد الله بن صالح الحمود أن القطاع الخاص السعودي، مهما نعتقد أنه وصل إلى النضج، إلا إنه لا يزال برؤوس أمواله لا يستطيع التوغل في مشاريع كبرى، وأغلب الثروات هي ثروات عائلية أو فردية، في حين أن أغلب أفرع القطاع الخاص لا تمتلك إلا النسبة المحدودة والمتدنية أمام تلك الثروات؛ لذا لا بد من الاعتراف بأن القطاع الخاص السعودي لا يزال يحتاج إلى الدعم والمساندة من خلال مشاركته الحكومية، واليوم مع ظهور صندوق الاستثمارات بثوب مغاير عن الماضي، اعتبره زميلًا وشريكًا لا يُستهان به، فلنكن شركاء اليوم، حتى نكون في تكامل نحو غدٍ أفضل. ومن ناحية أخرى، فإن هناك مشاريع ذات مخاطر عالية، وتحتاج إلى رؤوس أموال كبيرة تقوم بها الحكومة، وبعد فترة من الثبات وتحقيق أرباح تبيع جزءًا منها للمواطنين، إلى أن تعود في النهاية ملكيتها للمواطنين حسب طبيعة المشروع. وهناك مشاريع قليلة المخاطر وتحتاج إلى رؤوس أموال متوسطة أو عالية نسبيًّا يمكن القيام بها بالشراكة بين قطاع الأعمال والقطاع الحكومي أو القطاع الخاص والقطاع العام. وهناك مشاريع معدومة المخاطر أو قليلة، فهذه تُترك لقطاع الأعمال من شركات وأفراد، وعدم دخول الحكومة في المنافسة مع مَنْح قطاع الأعمال الفرص والمزايا التي للقطاع الحكومي أو القطاع العام. في النهاية، لا بد أن يتم دعم وتشجيع قطاع الأعمال والقطاع الخاص للمساهمة في التطوير والتنمية؛ لأن الدول المتقدمة تمَّ تطويرها من قِبل قطاع الأعمال. فرؤية المملكة 2030 تركِّز على قطاع الأعمال في تحقيق أهداف الرؤية، والوصول بالمملكة إلى الحالة والوضع المحدد في الرؤية بنهاية عام 2030. كما أن المملكة بصفتها رئيسة مجموعة العشرين G20 وضعت عنوانًا للقمة، وهو اغتنام فرص القرن الواحد والعشرين للجميع، وثلاثة محاور لأعمال القمة، وهي: تمكين الإنسان، والحفاظ على كوكب الأرض، وتشكيل آفاق جديدة. ومن أهدافها دعم قطاع الأعمال والخاص ومؤسسات المجتمع المدني لتنمية مستدامة شاملة.
وأضاف م. أسامة كردي أن القطاع الخاص في الكثير من الدول المتقدمة وغير المتقدمة يحصل على هذا الدعم والمساندة؛ فعلى سبيل المثال، فإن دولة كأمريكا تلجأ إلى رفع الرسوم الجمركية لحماية قطاعها الخاص.
أما د. خالد الرديعان فتساءل: بما أن اقتصاد الدولة حرٌّ والكل لديه فرصة، فأين المشكلة في تأسيس شركات وطنية تتعامل معها الجهات الحكومية مباشرة دون الدخول في مسألة المناقصات المعروفة التي يتم فيها عادة رفع الأسعار بصورة متفق عليها بين المتقدمين للمناقصة؟ فما هو شائع أنَّ شركةً كبيرة من القطاع الخاص تستحوذ على مناقصة ما بمبلغ فلكي لتفيد غيرَها، ثم تقوم بتجزئة المشروع الذي رسا عليها على شركات ومؤسسات صغرى sub-contract؛ لتخرج الشركة الأم بنصيبها من الصفقة دون أن تقوم بالعمل مباشرة. وقد يكون هذا أحد دوافع تأسيس هذه الشركات الجديدة، لكي يكون هناك أسعار معقولة للمشاريع بحيث تستفيد الشركة بما هو “معقول”، وفي الوقت نفسه تُنفِّذ المشروع الموكول إليها بكل دقة وفي الوقت المناسب.
وعقَّب م. أسامة كردي على ما طرحه د. خالد الرديعان بالإشارة إلى ما يلي:
١. الشركات الوطنية تخلُّ إخلالًا كبيرًا بمبدأ المنافسة.
٢. افتراض أن هذه الشركات تنفِّذ بدقة أكبر وبنجاح هو افتراض في غير محله.
٣. غياب المنافسة العادلة يجعل هذه الشركات تُنفِّذ العمل بمبلغ فلكي.
٤. التنفيذ بالمقاول من الباطن قاعدة أعمال عالمية؛ لأنه لا يوجد شركة متخصصة في صناعة الهواتف وصب الخرسانة في الوقت نفسه.
وأكد أ. محمد الدندني أننا نحتاج أن ننظر بشمولية إلى المصلحة العامة وإعادة تركيبة القطاع الخاص ليكون مُنتجًا ومواكبًا لطموح الرؤية والواقع. والاعتقاد أن صندوق الاستثمارات العامة ليس محتكرًا بل ربما مُفعِّل للاقتصاد؛ لاحتواء طبقات جديدة خارج القطاع الخاص التقليدي، وهذا موضوع يحتاج إلى إلمام بسياسة الصندوق.
ويرى م. سالم المري أن الطريق الذي يراه مناسبًا هو التوسُّع في الشركات الحكومية في المجالات الصعبة التي بحاجة لدعم الدولة وتسهيلاتها لكي تنطلق، وبعد النجاح تبيع الدولة بعضَ أسهمِها أو كلها، أو كما تمت الإشارة بالمشاركة مع القطاع الخاص.
واهتم د. علي الطخيس بتقييم الوضع الحالي الإداري والمالي للشركات الحكومية من حيث كفاءة الإنتاجية وتحقيق مصادر دخل للصرف على أنشطتها، على أن توكل عملية التقييم لمقيمين ومدققين معتمدين، ونشر النتائج كنوع من توفُّر الشفافية والثقة، والنظر في إمكانية التوسُّع في إنشاء مثل هذه الشركات من عدمه مستقبلًا. كما أكَّد على ضرورة التعرف على المعوقات التي تعترض شركات القطاع الخاص وحلها، وعدم السماح برؤيتها وهي تنكمش شيئًا فشيئًا؛ وهذا بالتالي سوف يتيح المجال أمام الشركات الحكومية للهيمنة بشكل كبير على معظم الفرص المتاحة، ومنافسة شركات القطاع الخاص والتضييق عليها.
- التوصيات:
- تبني نماذج الشراكة بين القطاعين العام والخاص كبديل عن نموذج الشركات الحكومية الصرفة؛ لتحقيق التوازن والتكامل بين أدوات الدعم الحكومي وفكر القطاع الخاص.
- إيقاف أشكال المنافسة غير الصحية والضارة بالقطاع الخاص من قِبل المؤسسات الحكومية وشركاتها، وأن يكون تركيز الحكومة عند تأسيس الشركات الحكومية على المشاريع الكبرى التي لا يستطيع القطاع الخاص القيام بها.
- تقييم الوضع الحالي الإداري والمالي للشركات الحكومية من حيث كفاءة الإنتاجية، وتحقيق مصادر دخل للصرف على أنشطتها؛ على أن تُوكل عملية التقييم لمقيمين ومدققين معتمدين، ونشر النتائج كنوع من توفُّر الشفافية والثقة، والنظر في إمكانية التوسُّع في إنشاء مثل هذه الشركات من عدمه مستقبلًا.
- إحالة برنامج التخصيص إلى وزارة الاستثمار، ووضع برنامج زمني صارم لمبادرات التخصيص المعلنة وتفعيله. وكذلك الحرص كل الحرص في عملية التخصيص على مراعاة الخدمات المقدَّمة من الدولة كالمستشفيات، بأن تعتمد التأمين التعاوني كي لا يتضرر أصحاب الدخول المتوسطة والضعيفة.
- الفصل التام بين الملكية والإدارة في الشركات الحكومية، وأن تُعامل بموجب نظام الشركات التجارية دون ميزات لها كملكية عامة، وأن تُحدَّد بمدة زمنية يتم بعدها نقل جزء من ملكيتها للقطاع الخاص، وأن لا يكون أعضاء مجلس إداراتها ممَّن لهم مناصب في الدولة.
- التفعيل الجدي لبرامج تمويل المشاريع أو المشاركة من البنوك التجارية وصندوق الاستثمارات العامة والصناديق الحكومية الأخرى المبنية على دراسات جادة تتميز بالابتكار، ينتج عنها صناعات أو خدمات جديدة مُقدَّمة من شباب وشابات الوطن المتخصصين علميًّا؛ أي تفعيل الـ small scale industry
- إنشاء مراكز حاضنات وطنية للطلبة المميزين والباحثين في الجامعات ومراكز البحث بالشراكة مع القطاع الخاص، وإعطاء نسبة مجزية لهؤلاء الباحثين من قيمة المُنتَج، خدميًّا كان أو صناعيًّا.
- تحقيقًا لتنفيذ أحد أهم أهداف الرؤية، وهو رفع مساهمة القطاع الخاص في الاقتصاد الوطني إلى ٦٥٪، ضرورة التعرُّف على المعوقات التي تعترض شركات القطاع الخاص وحلها، والتوقف تمامًا عن إنشاء الشركات الحكومية ما لم يكون هناك سببٌ قوي ومحدَد وواضح لذلك، وبالشراكة مع القطاع الخاص منذ البداية.
القضية الثانية
الأمن البيولوجي والكيميائي.. جزء لا يتجزأ من الأمن الوطني
(8/3/2020م)
- الورقة الرئيسة: د. وليد السالم (ضيف الملتقى)
- التعقيبات:
- التعقيب الأول: د. فاطمة الهملان (ضيفة الملتقى)
- التعقيب الثاني: د. عبد الله القيسي (ضيف الملتقى)
- إدارة الحوار: د. مها المنيف
- الملخص التنفيذي:
أشار د. وليد السالم في الورقة الرئيسة إلى أن الأمن ضد المخاطر البيولوجية والكيميائية يعتبر إحدى ركائز الأمن الوطني لكافة دول العالم. حيث تقوم الدول بإنشاء منظومتها الأمنية ضد مخاطر أسلحة الدمار الشامل (Mass Destruction Weapons)، والتي تضمُّ الأمنَ ضد الأسلحة الكيميائية والبيولوجية والإشعاعية والنووية (CBRN)، وتقوم وزارة الدفاع في الدول بدورها في الذود عن أمن دولها ضد تلك المخاطر تحت مظلة الأمن الوطني. ورغم الجهود الحثيثة التي تقوم بها المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى، إلا إن المخاطر البيولوجية والكيميائية تستمر وتُهدِّد الأمن الدولي. ثم استعرض بعض الأوبئة التي مرَّ بها العالم في السنوات الماضية، وذكر أن الثورة العلمية التي قادت إلى تطوُّر مذهل في الهندسة الوراثية قد تكون أحد المهددات للأمن الوطني والإقليمي والدولي. حيث تمَّ حصر المخاطر المتعلقة بتقنية الهندسة الوراثية، وتعَدُّ الأعلى خطورة بين مخاطر التنقية، مثل إعادة تصنيع الفيروسات المعدية.
وأوضحت د. فاطمة الهملان في التعقيب الأول أنه ومع ما نعيشه الآنَ من أحداث متسارعة مُهدِّدة لصحة الإنسان، مثل كورونا كوفيد ١٩، ترتفع الحاجة الماسَّة لوجود خطة وطنية لمواجهة الأمراض المعدية سواء التي نشأتها طبيعية أو عمل إرهابي. فبتقييم الوضع الحالي في المملكة العربية السعودية، نحن أمام مسارين، لكل مسار منهما خطة وتجهيزات مختلفة؛ فالمسار الأول هو مواجهة الإرهاب البيولوجي: حيث تفتقر المملكة لمعامل ومختبرات ذات أمان مرتفع Biosafety Level 3 and 4، وهي المُخصَّصة لمواجهة الأمراض المعدية الشديدة مثل: إيبولا، وبكتيريا الأنثراكس وكورونا سارس، وكورونا متلازمة الشرق الأوسط التنفسية، وغيرها من الميكروبات غير المعروفة النشأة Unknown. أما المسار الثاني فيتمثل في دعم الأبحاث والتقنيات وتطوير اللقاحات لمواجهة الأمراض المعدية، أيضًا تفتقر المملكة لمعامل ومختبرات ذات أمان مرتفع لعزل الميكروبات ودراستها جينيًّا ومعرفة نشأتها وتصنيع لقاحات وأدوية للقضاء عليها. حاليًّا في المملكة لا يوجد معامل بحثية ذات أمان مرتفع (رقم ٣ أو ٤). وأيضًا معامل بحثية لدراسة الحيوانات الصغيرة والكبيرة، والتي قد تكون هي الناقلة للمرض أو التي تُستخدم لتطوير اللقاحات.
في حين ركَّز د. عبد الله القيسي في التعقيب الثاني على أننا ما زلنا بحاجة لأن نستثمر في تدريب شبابنا وبناتنا في مجال الأمن البيولوجي والأوبئة، وأن نُوجد برامج دراسات عليا في جامعاتنا في مجال علم الأوبئة والفيروسات والصحة العامة وتطوير اللقاحات، أن نُجهِّز معامل بحثية على مستوى عالٍ، وأن نستقطب الكفاءات الوطنية في هذه المجالات ونُقدِّم لهم الدعم الكافي.
وتضمنت المداخلات حول القضية المحاور التالية:
- التحديات التي تواجه الدول في مجال الأمن البيولوجي والكيميائي.
- التأثيرات المتوقعة للتهديدات البيولوجية.
- آليات تعزيز الأمن البيولوجي والكيميائي.
ومن أبرز التوصيات التي انتهى إليها المتحاورون في ملتقى أسبار حول قضية “الأمن البيولوجي والكيميائي” ما يلي:
- تسريع وتيرة الجهود الرامية لوضع الإستراتيجية الوطنية للأمن البيولوجي، على أن تشمل تقوية الأساسيات الأربع للأمن البيولوجي، وهي: (Biosafety, Biosecurity, Biodefense, Bioterrorism detection).
- وجود مظلة وطنية للأمن البيولوجي تجمع تحتها جميع الجهات الوطنية ذات العلاقة، ومنها وحدة تختص بالأمن البيولوجي والكيميائي بها عدد من الخبراء والمتخصصين لوضع إستراتيجيات الردع والدفاع، وتُقدِّم المظلة التشريعات والآليات اللازمة لكيفية التعامل مع المخاطر البيولوجية والكيميائية.
- الورقة الرئيسة: د. وليد السالم (ضيف الملتقى) (*)
يعَدُّ الأمن ضد المخاطر البيولوجية والكيميائية إحدى ركائز الأمن الوطني لكافة دول العالم. حيث تقوم الدول بإنشاء منظومتها الأمنية ضد مخاطر أسلحة الدمار الشامل (Mass Destruction Weapons)، والتي تضمُّ الأمن ضد الأسلحة الكيميائية والبيولوجية والإشعاعية والنووية (CBRN)، وتقوم وزارة الدفاع في الدول بدورها في الذود عن أمن دولها ضد تلك المخاطر تحت مظلة الأمن الوطني. استنفرت دول العالم وأنشأت منظوماتها الأمنية بعد استخدام الألمان أسلحة الدمار الشامل لأول مرة في معركة جرافينستفيل بتاريخ فبراير 1915 ضد الجيش الفرنسي خلال الحرب العالمية الأولى. حيث أطلق الألمان حينها غاز الكلورين، وسجَّل التاريخ استخدام السلاح الكيميائي لأول مرة في النزاعات العسكرية. نتيجة الاستخدام المُفرط لأسلحة الدمار الشامل في النزاعات العسكرية خلال الحرب العالمية الأولى، استحدثت المنظومة الدولية بروتوكول جنيف لحظر استخدام الأسلحة الكيميائية والبيولوجية عام 1925 للحد من ذلك، إلا إن البروتوكول لم يحتوِ على ما ينصُّ على حظر تطوير أو حيازة السلاح الكيميائي؛ وهو ما أدى إلى سباق تسلح كيميائي بين الدول الأعضاء. أدى ذلك الانتشار إلى استحداث اتفاقية دولية بتاريخ يناير 1993 تحظر إنتاج أو حيازة أو تخزين أو الاحتفاظ بالأسلحة الكيميائية، وبدأت حيز التنفيذ في 29 إبريل 1997، تشرف على تنفيذها منظمة حظر الأسلحة الكيميائية (OPCW). أدت تلك الاتفاقية إلى نتائج إيجابية حيال نزع السلاح الكيميائي وتدميره. كما سبق ذلك التاريخ اتفاقية دولية لحظر الأسلحة البيولوجية بتاريخ إبريل 1972، ودخلت حيز التنفيذ بتاريخ 26 مارس 1975 لحظر تطوير أو حيازة أو تخزين الأسلحة البيولوجية، وتشرف على تنفيذ تلك الاتفاقية وحدة دعم التنفيذ التابعة للأمم المتحدة. ولتدعيم الأمن البيولوجي، تمَّ استحداث قانون الصحة الدولية (International Health Regulation) عام 2005؛ للحد من المخاطر البيولوجية بعد انتشار وباء متلازمة الالتهاب الرئوي الحاد (سارس). إضافةً إلى الجهود الدولية المبذولة من خلال مجموعة السبع (G7) ومجموعة العشرين (G20) للحد من انتشار المخاطر البيولوجية والأمراض المعدية، ودعم الخطط الدولية لمكافحة الأوبئة ومخاطرها. كما تمَّ استحداث أجندة الأمن الصحي الدولي عام 2014 بمبادرة تضمُّ سبعين دولة، للحدِّ من المخاطر المُهدِّدة للأمن الصحي الدولي.
ورغم الجهود الحثيثة التي تقوم بها المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى، إلا إن المخاطر البيولوجية والكيميائية تستمر وتُهدِّد الأمن الدولي، حيث تسببت المخاطر البيولوجية الميكروبية في تسجيل 1483 وباء في 172 دولة حول العالم في الفترة بين 2011 و2018. كما تمَّ إعلان حالة الطوارئ الدولية خلال وباء متلازمة الالتهاب الرئوي الحاد (سارس) عام 2003؛ وهو ما أدَّى إلى خسائر اقتصادية تصل إلى 40 مليار دولار (150 مليار ريال)، وبعد ذلك أُعلنت حالة الطوارئ عام 2009 بسبب وباء إنفلونزا الخنازير HINI، يلي ذلك وباء إيبولا في غرب إفريقيا عام 2014 والذي كلَّف دول غينيا وسيراليون وليبيريا قرابة 53 مليار دولار (200 مليار ريال) لعام 2014، وزاد الاستنزاف الاقتصادي لتلك الدول بخسائر اقتصادية عام 2015 تصل إلى 32 مليار دولار (122 مليار ريال). كما تمَّ قبل أربعة أعوام إعلان حالة الطوارئ الدولية بسبب وباء زيكا، ومؤخرًا بسبب وباء إيبولا في شرق إفريقيا. كما أن خطر الميكروبات المصنَّفة ضمن المخاطر البيولوجية العالية مستمرة رغم قانون حظر الأسلحة البيولوجية؛ بسبب استمرار إنتاج المختبرات لدى بعض الدول لتلك المخاطر البيولوجية مع القدرة على تحويلها إلى سلاح بيولوجي. كما أن الثورة العلمية التي قادت إلى تطوُّر مذهل في الهندسة الوراثية قد تكون أحد المهددات للأمن الوطني والإقليمي والدولي. حيث تمَّ حصر المخاطر المتعلقة بتقنية الهندسة الوراثية، وتعَدُّ الأعلى خطورةً بين مخاطر التنقية هي إعادة تصنيع الفيروسات المعدية، كما حصل في فيروس شلل الأطفال (Polio Virus)، وتحويل البكتيريا إلى كائن أكثر ضراوةً كما تمَّ في بكتيريا الفرانسيسيلا توليرينسيس (Francisella tularensis). كما أن الحروب الأهلية وأزمة اللاجئين تزيد من انتشار المخاطر البيولوجية حيث انتشر وباء الإيبولا في مناطق الصراعات الأهلية شرق الكونغو، كما انتقلت خطورة الوباء إلى أوغندا ورواندا وتنزانيا. كما انتشرت المخاطر الصحية البيولوجية كأوبئة الليشمانيا والملاريا والحميات الفيروسية والبكتيرية والأمراض المستهدفة بالتحصينات في مناطق الصراع في جنوب السودان والصومال وسوريا والعراق وأفغانستان.
كما أن المخاطر الكيميائية والتي قد ينجم عنها تلوث بيئي بسبب المركبات الكيميائية المحظورة كأسلحة كيميائية، مثل: الفوسفات العضوية (Organophosphate) أو الكلور العضوي (Organochlorine) وخلافها من المركبات لا تزال خطرًا أمنيًّا، تحتم علينا بناء نظام أمني على النطاق الوطني للحماية من تلك المخاطر الكيميائية والكشف عنها حال حدوثها، لا قدر الله. حيث ذكرت التقارير أن على المجتمع الدولي الاستعداد لما قد يكون الأسوأ من حيث الوبائية، وحثهم على بناء القدرات من حيث التصنيع الدوائي وإنتاج اللقاحات والأمصال والأدوية. كما ينصح خبراء منظمة الصحة العالمية ببناء منظومة وطنية لمراقبة المخاطر البيولوجية والكيميائية، وهو ما يتطلب خبراء محليين في علم السموم والكيمياء والأوبئة والأمراض المعدية والأحياء الدقيقة والطب البيطري والوبائية الجزيئية والجينوم والمعلوماتية الصحية والمعلوماتية البيولوجية. كما يتطلب ذلك النظام الوطني وجود مختبرات ذات كفاءة عالية لكشف المخاطر الصحية في الإنسان والحيوان والأغذية، وآلية متقدمة في رصد ونقل البيانات بين الجهات ذات العلاقة في المنظومة. كما تحثُّ المنظمة الدول الأعضاء على بناء القدرات الوطنية لتعزيز الأمن البيولوجي والكيميائي، وتفاديًا للمخاطر المحتملة.
التعقيبات:
- التعقيب الأول: د فاطمة الهملان (ضيفة الملتقى) (*)
مع ما نعيشه الآنَ من أحداث متسارعة مُهدِّدة لصحة الإنسان، مثل كورونا كوفيد ١٩، ترتفع الحاجة الماسَّة لوجود خطة وطنية لمواجهة الأمراض المعدية سواء التي نشأتها طبيعية أو عمل إرهابي.
فبتقييم الوضع الحالي في المملكة العربية السعودية، نحن أمام مسارين، لكل مسار منهما خطة وتجهيزات مختلفة؛ فالمسار الأول هو مواجهة الإرهاب البيولوجي: حيث تفتقر المملكة لمعامل ومختبرات ذات أمان مرتفع biosafety Level 3 and 4، وهي المُخصَّصة لمواجهة الأمراض المعدية الشديدة، مثل: إيبولا، بكتيريا الأنثراكس، وكورونا سارس، وكورونا متلازمة الشرق الأوسط التنفسية، وغيرها من الميكروبات غير معروفة النشأة .Unknown
المسار الثاني يتمثل في دعم الأبحاث والتقنيات وتطوير اللقاحات لمواجهة الأمراض المعدية، وأيضًا تفتقر المملكة لمعامل ومختبرات ذات أمان مرتفع لعزل الميكروبات ودراستها جينيًّا ومعرفة نشأتها وتصنيع لقاحات وأدوية للقضاء عليها. حاليًّا في المملكة، لا يوجد معامل بحثية ذات أمان مرتفع (رقم ٣ أو ٤). وأيضًا معامل بحثية لدراسة الحيوانات الصغيرة والكبيرة، والتي قد تكون هي الناقلة للمرض أو التي تُستخدم لتطوير اللقاحات.
فلنأخذ فيروس (MERS CoV متلازمة الشرق الأوسط التنفسي) والذي نشأ من المملكة العربية السعودية عام 2012. لم تكن المملكة مستعدةً لهذا الوباء من ناحية البنية التحتية البحثية، حيث تمَّ عزل الفيروس والتعرف عليه في معامل خارجية في هولندا (Erasmus Medical Center (EMC،
أيضًا لم تكن المعامل البحثية المحلية جاهزةً لعزل الفيروس ودراسته. حتى عندما توقَّع العلماء أن الجِمال هي الناقل، لم تكن هناك معامل مخصَّصة ذات أمان مرتفع لدراسة الحيوان وتتبُّع العدوى وطُرق الانتقال؛ لذلك أغلب الدراسات القيِّمة تمت خارج المملكة.
ختامًا، نحن بحاجة ماسَّة لتقييم جاهزيتنا لمواجهة الأسلحة البيولوجية أو الأوبئة المعدية؛ لأنها تهدد الأمن القومي والاقتصاد.
- التعقيب الثاني: د عبد الله القيسي (ضيف الملتقى) (*)
موضوع الأمن البيولوجي موضوع مهم جدًّا، وقد ازدادت أهميته في السنوات الأخيرة لأسباب عدة؛ لعل أهمها هو ازدياد ظهور أمراض جديدة خطيرة، وظهور تقنيات حيوية جديدة قد يُستغل استخدامها لجعل الميكروبات أشد ضراوةً ومن ثَمَّ استخدامها لأغراض سلبية.
تحدثت الورقة الرئيسة عن أهمية الأمن البيولوجي من جميع الجوانب، وعن الدور الدولي الكبير لتنظيم المخاطر البيولوجية لحماية العالم. كما أوصت بضرورة أن يتم تفعيل الأمن البيولوجي الوطني على كافة الأصعدة؛ لمنع أو الحد من أي خطر يُهدِّد وطننا الغالي.
لعلِّي أركز في تعليقي على ظهور الأوبئة الناشئة – ومنها فيروس كورونا الجديد المنتشر عالميًّا هذه الأيام- أو المتجددة (إما ظهورًا طبيعيًّا أو مقصودًا نتيجة عمل إرهابي بيولوجي)، وأهمية وجود أمن وطني بيولوجي متكامل لاكتشاف هذه التهديدات والاستجابة الفاعلة لها مبكرًا.
المملكة العربية السعودية هي إحدى دول مجموعة العشرين، ودولة تملك طموحًا عاليًا جدًّا لأنْ تكونَ في مصاف دول العالم في شتى المجالات. كما أنها قبلة المسلمين حيث يتوافد ملايين المسلمين إليها كل عام من شتى بقاع الأرض. وهذا الجانب بالذات بالغ الأهمية، حيث تزداد خطورة انتشار الأمراض مع قدوم زائرين من مختلف جنسيات العالم في منطقة محدودة جغرافيًّا، وكذلك خطر انتشاره بينهم وحَمْل هذه الأمراض معهم إلى دولهم عند عودتهم! وكما نشهد هذه الأيام مع انتشار وباء كورونا الجديد عالميًّا غير معترف بالحدود أو الجنسيات رغم ظهوره أولًا في إحدى مدن الصين؛ ما يعني أن الخطر البيولوجي في مكان ما في هذا العالم هو خطر على كل العالم. كل هذه الأسباب تدل على أهمية أن يكون لدى المملكة نظام أمن بيولوجي على مستوى عالٍ؛ للاستعداد لكل هذه المخاطر.
في الألفية الجديدة، ظهرت العديد من الأمراض والأوبئة، وسبَّبت رعبًا ونتائج وخيمة عالميًّا على مستوى الصحة والاقتصاد والمجتمع. لعل أهمها وباء فيروس سارس الذي بدأ في الصين، وانتشر في دول عديدة حول العالم، ثم تبعه ظهور وباء إنفلونزا الطيور وإنفلونزا الخنازير وفيروس إيبولا وزيكا، وغيرها من الأمراض والأوبئة التي سبَّبت خسائر بشرية واقتصادية هائلة. أحد هذه الأمراض وهو فيروس كورونا المسبِّب لمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية (يُعرف أيضًا بفيروس مرس) ظهر لدينا في المملكة العربية السعودية، ومنها انتشر لدول عديدة. قد نكون في السعودية محظوظين نوعًا ما – إن صح التعبير- لظهور الفيروس لدينا؛ لسببين: الأول أن الفيروس رغم تشابهه مع فيروس كورونا سارس وأيضًا فيروس كورونا الجديد المنتشر حاليًّا (جميعهم من نفس العائلة) إلا إنه – من حسن الحظ – لا يمتلك قدرة كبيرة على الانتشار بين البشر. فمنذ ظهوره في 2012، لم يتجاوز عدد المصابين الـ2400 شخص، مقارنة بـ ٨٠٠٠ حالة لفيروس سارس، وأكثر من 100 ألف حالة لفيروس كورونا الجديد. السبب الثاني هو أن ظهور الفيروس في المملكة كان اختبارًا حقيقيًّا لقدرات المملكة في مجال الأمن البيولوجي. لقد استطعنا التعرف على مكامن القوة ومكامن الضعف، والعمل على تطويرها. لقد كان تفشي فيروس مرس سببًا في حدوث تطوُّر كبير في المنظومة الصحية لدى المملكة بشكل عام، وفيما يخصُّ مكافحة الأمراض المعدية والوبائية. لعل كمية الاستعدادات التي شاهدناها منذ ظهور فيروس كورونا الجديد في الصين والقرارات الجريئة والسريعة التي اتخذت حتى الآن خير دليل على التطور الذي حصل في منظومة الأمن البيولوجي بشكل عام.
رغم هذا التطور الملحوظ، إلا إنه ما زال علينا العمل كثيرًا للاهتمام بملف الأمن الوطني حتى نُصبح أكثر استعدادًا واعتمادًا على أنفسننا مستقبلًا. فنحن ما زلنا بحاجة لأنْ نستثمر في تدريب شبابنا وبناتنا في مجال الأمن البيولوجي والأوبئة، وأن نُوجد برامج دراسات عليا في جامعاتنا في مجال علم الأوبئة والفيروسات والصحة العامة وتطوير اللقاحات، وأن نُجهِّز معامل بحثية على مستوى عالٍ، وأن نستقطب الكفاءات الوطنية في هذه المجالات ونُقدِّم لهم الدعمَ الكافي.
كورونا الجديد لن يكون آخر الأوبئة التي تُهدِّد العالم. فالعلماء يعلمون أن ظهور الفيروسات الخطيرة سيستمر وربما بوتيرة أعلى في السنوات القادمة. لكن الخبر الجيد هو أن الدول الأكثر استعدادًا والتي تملك نظامَ أمن بيولوجي عاليًا جدًّا ومتكاملًا سوف تكون قادرةً على الحد من خطورة الأوبئة، وربما أيضًا منع حدوثها! لعلنا ننظر لتأثير كورونا الجديد على الدولة الجارة للصين، كسنغافورة؛ لنفهم تعريف الأمن البيولوجي المتكامل.
- المداخلات حول القضية:
- التحديات التي تواجه الدول في مجال الأمن البيولوجي والكيميائي:
أشارت أ. فائزة العجروش إلى أن من أهم التحديات التي تواجه الدول في مجال الأمن البيولوجي ما يلي:
- عدم وجود إستراتيجية شاملة للأمن البيولوجي تعمل على سنِّ وتحديث القوانين والتشريعات وبناء الإمكانيات والخطط الكفيلة، التي تمنع تحوُّل العوامل البيولوجية لتهديدات لها تأثير سلبي على الدولة مجتمعيًّا أو سياسيًّا أو اقتصاديًّا أو سياحيًّا.
- انعدام الوعي بالأمن البيولوجي بين العاملين في الصحة والمجتمع.
- الافتقار لمعدات المختبرات المناسبة لتخزين العينات وغيرها من المواد البيولوجية، وكيفية التعامل الخاص معها.
- خطر عدم اكتشاف المرضى في وقت مبكر قبل تفشي الحالات، وهروب المرضى من المناطق المخصَّصة والخاضعة للحجر الصحي.
- الافتقار للوعي بين السكان المحليين بشأن المرض الوبائي ومتطلبات العلاج الملائمة.
- النقص المحتمل في عدد الأسرَّة والأدوية المعالجة في حال تزايد الإصابات لا قدر الله، ومن ثَمَّ تفاقم الحالة المرضية للمصابين، وقد تؤدي لارتفاع في عدد الوفيات.
- عدم وجود غُرف عمليات تعمل على مدار الساعة لتوثيق البلاغات الخاصة، ومشاركتها بين الجهات المختصة وصنَّاع القرار؛ بما يسهم في إعادة تقييم الوضع الحالي ووضع توقعات للوضع المستقبلي، ودراسة المخاطر ودعم اتخاذ القرارات المتعلقة بالأمن البيولوجي في الدولة.
من جانبه أوضح د. خالد بن دهيش، بالنسبة للنقطة رقم ٧ الواردة أعلاه، أنَّ هناك لجنة عُليا في السعودية مُشكَّلة من المقام السامي لموضوع وباء كورونا يرأسها وزير الصحة ومُمثِّلون من القطاعات المعنية هي المخولة باتخاذ القرارات التي تضمن الأمن الوقائي البيولوجي، وتعد غرفة عمليات على مدار الساعة.
وبدورها عقَّبت أ. فائزة العجروش بأن ما طرحته يتعلق بالتحديات التي تواجه الدول بشكل عام وليس عن المملكة بشكل خاص، وبالفعل طرحت وزارة الصحة مبادرة (المركز الوطني للوقاية من الأمراض)، في مسعى إستراتيجي لتفعيل وتعزيز جهود الحد من أعباء الأمراض المزمنة والمعدية، والعمل على رصدها ومتابعتها، واعتماد كافة الوسائل والإجراءات لدرء انتشارها، ورفع مستوى الصحة العامة، وذلك ضمن 40 مبادرة اعتمدتها (الصحة) في إطار برنامج التحول الوطني 2020.
بينما يرى د. وليد السالم أن التعامل مع المخاطر البيولوجية أشمل من التعامل مع الأوبئة، فوزارة الصحة والمركز الوطني لا يتجاوز عملهما في المنظومة البيولوجية حدود متابعة الأوبئة ورصدها، وهنالك مهام أخرى مرتبطة بالأمن البيولوجي ليست من مهام وزارة الصحة ولا المركز الوطني للوقاية من الأمراض ومكافحتها؛ ولذا يعد أحد أكبر العوائق الاعتقاد بأن الأمن البيولوجي يتعلق بوزارة الصحة أو المركز الوطني.
وذهب د. عبد العزيز الحرقان إلى أن قضية الأمن البيولوجي في المملكة قضية عايشها المواطنون على مراحل مختلفة من التاريخ، ابتداءً من وباء الجدري، الذي حصد حياة مئات الآلاف من الشعب السعودي، ثم الكوليرا التي كانت تزورنا كل سنة أثناء موسم الحج. وفي كل هذه الأوبئة استعانت الحكومة بمنظمة الصحة العالمية لمكافحتها. ولم توجد سياسة لتطوير صناعة دواء محلية. وبشكل عام، فإن سياسات وبرامج التعليم العلمي والتقني والفني كانت تستهدف بناء القدرات للتعامل مع منتجات التقنية التي نستوردها. وحينما ظهرت خُطط وبرامج الحكومة للإنتاج والتصنيع ظهرت بشكل محدود، ولم تؤد إلى ظهور قطاع صناعي فاعل ومتنامٍ ومزدهر. وتُرك المجال لرجال الأعمال للاستثمار الصناعي حسب قدراتهم الفنية، ومواردهم المالية، وحسب توفُّر برامج مناسبة في الدولة. ازدهرت صناعة البتروكيماويات – مثلًا – بسبب تأسيس الدولة لمدينتي الجبيل وينبع. واستثمار مؤسسات الدولة في شركة سابك. بينما بقيت قطاعات صناعية بدون تواجد استثمارات ذات أهمية إستراتيجية. والملاحظ في قطاعات الصيدلة أن استثمارات مؤسسات الدولة فيها محدودة، وتكاد تكون معدومة. قد يكون سبب تعقيد الاستثمار في هذا القطاع يعود إلى ارتفاع درجة المخاطرة. والواقع أن تطوير الأدوية يحتاج إلى بنية بحثية قوية تشمل البحوث الأساسية والتطبيقية. فمثلاً، معظم الأدوية التي ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية كانت مدعومةً أثناء تطويرها من صندوق مُخصَّص للبحوث الدوائية والطبية، وليس من ضمن صندوق البحث العلمي الوطني. في عام 2014، أنفق المعهد الوطني الأمريكي للبحوث الصحية 33 مليار دولار لدعم بحوث تطوير الأدوية في الجامعات والشركات، مقابل 57 مليارًا أنفقها القطاع الخاص. ولدى أوروبا واليابان برامج مماثلة. ومن ناحية أخرى، تكلفة تطوير الدواء عالية جدًّا، مع وجود مخاطرة عالية في الوصول إلى الدواء المطلوب. في المتوسط تفشل ٧٠% من محاولات تطوير الأدوية في مراحلها الأولية، و١٢% منها فقط يجتاز التجارب السريرية. ولوضع هذه النسب في منظور مالي، فإن تكلفة تطوير الدواء تصل إلى 2.6 مليار دولار حسب دراسة لجامعة تافت، وهي كلفة تزداد سنويًّا.
وذهب أ. عبد الله الضويحي إلى أن ما يلفت النظر أن مثل هذه الأوبئة تأخذ دورتها لدينا دون تحرُّك لافت للنظر من قِبل الجهات المسؤولة، ومنها على سبيل المثال: إنفلونزا الطيور، وكورونا الجمال، والكورونا الحالية، وغيرها الكثير. ويأتي الحدث ونتحرك؛ أي إننا لا نفعل بقدر ما نكون ردة فعل. والتساؤل المهم: هل لدينا خططٌ إستراتيجية للأمن البيولوجي؟ وهل لدينا دراسات عنه؟ ومتى نصنع الفعل بدلاً من ردة الفعل؟
وذكرت د. نورة الصويان أن قضية الأمن البيولوجي هي قضية الساعة، وهي مهمة جدًّا؛ لعلاقتها بإدارة المخاطر المحيطة بحياة كل الكائنات الحية، وما يرتبط بها من المخاطر المحيطة بالبيئة. وفي المؤتمر الطبي الذي عُقد في بداية هذا العام في جامعة الملك سعود بعنوان: (الملتقى العلمي الأول للأمن والسلامة البيولوجية)، أشار مدير مستشفيات القوات المسلحة بالطائف اللواء د. ياسر بابعير، إلى أن هناك مختبرات في الصين وأمريكا خارج منظومة “الكنترول” الدولي وخارج منظومة “كنترول” الحكومة، وقد تقوم هذه المختبرات التجارية بإنشاء بعض الميكروبات، وتكون محظورة في الاستخدام ضمن الأسلحة البيولوجية والكيميائية. وعليه، لا يُستبعد وجود نظرية مؤامرة تجارية في إنشاء بعض الكائنات الخطيرة.
وعقَّب د. عبد العزيز الحرقان بأن الأسلحة البيولوجية لا تُعلن عنها دول العالم. فمثلاً، يُقال إن الولايات المتحدة تختزن فيروسات مرض الجدري بعدما أعلنت منظمة الصحة العالمية عن انتهاء وجود الفيروس، ولا تقتصر الأسلحة البيولوجية على الأمراض التي تُصيب البشر، حيث تستهدف النباتات والحيوانات. أيضًا، الولايات المتحدة ألقت بمواد كيماوية على غابات فيتنام لمنع المقاتلين من الاختفاء فيها. وأضاف د. صدقة فاضل أن حظر الانتشار الرأسي تكتنفه صعوبات جمة، أما حظر الانتشار الأفقي فهو أسهل نسبيًّا.
وبدورها ذكرت د. فاطمة الهملان أن فيروس الجدري موجود في معملين فقط في العالم؛ واحد في روسيا، وواحد في أمريكا في مختبرات ذات معامل أمان مرتفع (٤)، والخوف ليس من هذه الفيروسات المخزَّنة؛ الخوف من التقنيات الحديثة التي تسمح للباحثين بإعادة تصنيع الفيروس باستخدام الشفرة الوراثية الموجودة أونلاين (سيكونس)، ففي عام ٢٠١٧ كان هناك عالم كندي قام بصنع فيروس جدري الحصان بسهولة في معمله وكلَّفه هذا العمل ١٠٠ ألف دولار فقط عن طريق طلب السيكونس أونلاين، وهذا العمل هو proof of concept ؛ إذا استطاع أن يعمله مع جدري الحصان، فيستطيع أن يعمله مع أي فيروس أو بكتيريا؛ لذلك الحذر واجب، والاستعداد مهمٌّ لهذا التهديد البيولوجي.
وفي السياق ذاته، ترى د. مها المنيف أن قضية الأمن البيولوجي هي قضية أمنية وطنية، ومع هذا لا يوجد لدينا إستراتيجية واضحة أو جهة مسؤولة عن هذا الملف في حالة وجود خطر بيولوجي عالٍ، كذلك نفتقر للمختبرات عالية الأمن بمستوى (٣،4) للبحث والتقصي عن الأخطار البيولوجية، هذا من ناحية. ومن ناحية انتشار الفيروسات والميكروبات في المجتمع كوباء أو جائحة، فإن المملكة قد تعرَّضت لهذا عدة مرات من إنفلونزا الطيور إلى ميرس كوفي، وغيرها من الجائحات، وقد تعاملت معها وزارة الصحة بمهنية عالية من خلال مركز القيادة والتحكم ومكافحة العدوى، ولنا عدة تجارب ناجحة في السيطرة على الجائحة أو ما يُسمَّى epidemics.
- التأثيرات المتوقعة للتهديدات البيولوجية:
من وجهة نظر م. فاضل القرني، فإن التهديد البيولوجي والكيميائي فرعان مكملان لمكونات أسلحة الدمار الشامل. وبالتركيز على الجانب البيولوجي، نجد أن البيولوجيا كانت سابقًا أرخص وأسرع الطرق ابتكارًا وتطبيقًا. وبعض المُنظِّرين والمؤرخين العسكريين يؤكد أن الحرب البيولوجية طُبِّقت لقرون عديدة من أساليب بدائية من تسميم منابع المياه والآبار، واستخدام النُّفايات الحيوانية والأطعمة في ذلك، إلى استخدامها أثناء الحرب العالمية الأولى مع استخدام السلاح الكيمائي أيضًا. وبعدها، بدأت المعاهدات الدولية لتحريمها. ومن كثرة المعاهدات وتحريم أسلحة الدمار الشامل، تكونت صورة أن العالم والغرب على وجه التحديد صارم في اتخاذ كل ما هو ضروري من إجراء للدول التي تُطوِّر وتُخزِّن الأسلحة الكيميائية والبيولوجية فضلًا عن النووية. ولكن لم يكن هناك تحريك ساكن أثناء قصف “حلبجة” عدا هجوم إعلامي على العراق، واختفت لسنين حتى هدَّد صدام حسين بتدمير إسرائيل بالكيماوي المزدوج، وبعدها تداعيات كوارث الخليج؛ مما أعاد الخوف والرهبة من ذلك النوع من الأسلحة، عدا برامج ذات إيقاع بطيء وسري في ليبيا وبعض الدول الشرقية المناوئة للولايات المتحدة. ولكن الصدمة العنيفة ضد الحزم من هذه الأسلحة عند استخدامها من بشار الأسد عدة مرات ضد السوريين، والتي بالتالي بعثت روحًا ورغبةً في تطوير أسلحة الدمار الشامل والتركيز على الحرب الجرثومية والكيمائية. بكل تأكيد كانت محكًّا بأنه لا يوجد تحريم مُطلق ولا إجازة مطلقة. بمعنى أن التهديد بتطويرها وإنتاجها واستخدامها في تطوُّر، وفي أطُر سياسية مرنة.
وأضافت أ. فائزة العجروش أن من المهم كذلك فَهْم التهديدات المحتملة للأمن البيولوجي الناشئة عن الحالات الطبيعية لتفشي بعض الفيروسات والأمراض، وفهم كيف يمكن مواجهة هذه التهديدات؟ وما هو الدور الذي يمكن أن يؤديه المجتمع العلمي لمنع هذه التهديدات؟ وكيف نستطيع معالجة نقاط الضعف لدينا؟ وبالمناسبة، فإن المبالغة في التهديد بالإرهاب البيولوجي في أوقات تفشي المرض تلعب دورًا إيجابيًّا وتساعد في جَعْل عامة المواطنين والمقيمين يقظين وأكثر وعيًا ومشاركةً في جهود التصدي للمرض.
ومن جديد، ذكر د. وليد السالم أن الأمن البيولوجي يشمل متابعة سلامة الأغذية بيولوجيًّا وكذلك سلامة الحيوانات life stock من كافة المخاطر البيولوجية، وهذا ما يُسمَّى بالصحة الشاملة one health approach؛ إضافةً إلى ذلك الحرب البيولوجية، وهي من مهام وزارات الدفاع في دول العالم المتقدمة بجانب الاستخبارات، وكذلك وزارات الخارجية في دول العالم حيال الحرب البيولوجية والمتابعة لتطبيق الاتفاقيات الدولية لحظر الأسلحة البيولوجية. خلاف ذلك، متابعة المراكز البحثية والرصد المستمر لكل أبحاث الميكروبات التي يتم البحث فيها، ونقاط عديدة أخرى هي منظومة متكاملة، وليست فقط متابعة أمراض معدية.
وترى أ. فائزة العجروش أن مؤشرات الوضع الحالي أكدت بما لا يدع مجالًا للشك، كيف يمكن لأي نقص أو خلل في منظومة الأمن البيولوجي من التأثير البالغ على الاقتصاد العالمي والأسواق المالية وأسواق النفط؛ وخاصة في الوقت الحالي بعد أن انتشر فيروس كورونا الجديد من دولة بحجم وأهمية الصين. ويأتي في وقت يتعاظم فيه تأثير الصين على الاقتصاد العالمي. ويتضح تأثير ذلك على الاقتصاد العالمي بشكل عام، وعلى الاقتصاد الوطني لأي دولة، في النقاط التالية:
- تراجع النشاط الاقتصادي بصورة عامة، حيث تنخفض مستويات الإنتاج؛ لساعات العمل الضائعة إما بفعل المرض أو بسبب الخفض الاحترازي لساعات العمل خشية انتشار المرض.
- انخفاض مستويات الإنفاق الاستهلاكي لتجنيب المستهلكين الذهاب إلى الأسواق أو السفر والاختلاط بغيرهم خوفًا من العدوى.
- تخوُّف المستهلكين من الإصابة بالفيروس، وأثر ذلك في تغير التوجهات الاستهلاكية، وهذا لا يقل خطرًا عن الأثر الاقتصادي المباشر للفيروس والناتج عن ارتفاع أعداد الإصابات والوفيات.
- القيمة الحالية لسنوات العمل المستقبلية المفقودة بسبب الوفيات المحتملة.
- تأخُّر السيطرة على الفيروس قد يؤثر بشكل جوهري على قطاع الأعمال والسياحة والسفر حول العالم خلال الصيف القادم.
- تأثير الفيروس على الصناعة وسلسلة الإمداد للصناعة حول العالم، وخاصة على الدول التي تعتمد في صناعاتها على الصين؛ نظرًا لموقعها الجوهري في سلسلة الإمداد. وقد يدفع المنتجين إلى نقل مصانعهم إلى بلدان أخرى.
وإلى جانب جميع ما سبق أعلاه، فثمة بعض العوامل المتوقعة على صعيد الاقتصاد السعودي، حال انتشار المرض على نطاق أوسع، ومنها:
- مزيد من التراجع في أسعار النفط.
- انخفاض أسعار البتروكيماويات.
- التراجع في قطاع الحج والعمرة في حال امتداد الفيروس إلى البلدان الإسلامية.
- تعليق الدراسة الفعلية والتحضير للدراسة عن بُعد.
- تعليق المزيد من الرحلات الجوية للدول الموبوءة.
من جهتها ترى د. عبير برهمين أن قضية الأمن الوطني البيولوجي والأمن القومي الكيميائي تعَدُّ من القضايا الحساسة التي لا يتم تداولها فقط من ناحية صحية، بل تتداخل فيها جهات عدة عسكرية وصحية وسياسية وتعليمية وصناعية ومالية وغيرها. وبناء الإستراتيجيات والقوانين والقرارات تحتاج إلى دعم عالي المستوى من قِبل الحكومة السعودية لتأخذ شكلها ودورها المأمول. قد لا يكون من المبالغة القول إن أي مختبر في أي جامعة مع وجود شخص له إلمام كافٍ بمبادئ الهندسة الوراثية الجزيئية وجهاز PCR ومبادئ بلمرة، يستطيع القيام بهندسة بعض الكائنات الحية الدقيقة وتحويلها إلى نمط مغاير قادر على إحداث أضرار بالإنسان أو الحيوان أو النبات. وبعض الدول كبريطانيا كانت الأجهزة الأمنية على علم بمَن يدرس فقط علم الكائنات الدقيقة، وفي أي منشأة تعليمية، وما إذا كان لهم سابق اتصال بالعمل في مجال التصنيع للأسلحة البيولوجية أو في مجال الأبحاث ذات العلاقة في بلدانهم، ووضعهم قيد المراقبة الفعلية. لذلك، فإن الحاجة ماسَّة جدًّا إلى مبادرات قوية لدعم وتعزيز مكانة الدولة رعاها الله، وخاصة خلال فترة رئاستها لدول G20 في الفترة الحالية.
بينما عبَّر د. خالد الرديعان عن شكوكه القوية بنظرية المؤامرة فيما يخص “تحضير الفيروسات”؛ فضررها يشمل الجميعَ بمَن فيهم مَن “يُتهمون” بتحضيرها، وبالتالي يمكننا استبعاد هذه النظرية تمامًا في هذا الصدد. دليل آخر على تهافت هذه النظرية هو أن وباء الكورونا الأخير (٢٠٢٠) وصل إلى عدد كبير من الدول شرقًا وغربًا ولم يعُد أحدٌ مُحصَّنًا من شره والأضرار الصحية والاقتصادية التي تلت انتشاره. صحيح أن هناك ما يُسمَّى بالحرب الجرثومية، لكن الاعتقاد أن جزءًا كبيرًا مما يُقال هو مجرد حرب نفسية لإعطاء إيحاء بقدرة غير موجودة، ومع ذلك لا يُستبعد “نشر وباء موجود وظاهر”؛ كنقل المصابين من بلد إلى آخر لحدوث العدوى، أو استخدام وسائل طبية لنقل المرض من شخص مصاب إلى شخص سليم؛ لكن القول بتحضير أو تخليق الفيروس نفسه يظلُّ مثارَ شكوك. ولا يغيب عن البال كذلك أن مافيا الدواء واللقاحات تعمل جاهدةً لجني ملايين الدولارات من انتشار الأمراض والأوبئة، وهو ما يعني وجود مستفيدين؛ الأمر الذي يعني ترويجهم لنظرية “تخليق الفيروسات” ليقولوا في النهاية إن لديهم قدرةً على إنتاج لقاح له طالما أنه إنتاج بشري. إنهم يُروِّجون لوهم القدرة البشرية الفائقة للانتفاع من الكارثة التي تحيق بالجميع. كلُّ ذلك يؤكِّد أن الرأسمالية الغربية قذرة، وغير منضبطة وتستمد قوتها من بؤس الشعوب وتخلُّفها، والدليل على ذلك إشعالها للحروب في كل مكان لغرض بيع السلاح والمتاجرة بالموت دون أدنى رحمة؛ في حين أن ما يُصرف على هذه الأسلحة والحروب كفيلٌ بإطعام وإيواء ملايين الجائعين والمشردين في جميع أنحاء العالم. نحن نعيش في عالم منحرف وغير منضبط، عالم بعيد عن الأخلاق والمُثل العليا، عالم يقتات على الخوف والأكاذيب، عالم خلا من القدوات التاريخية المؤثرة التي تُغيِّر مسارَ التاريخ وتصنع السلام في ربوع العالم. نحن نعيش في عالم متوحش ونَهِم يقوده الدولار واليورو بعد أن تقلَّص دور الدين والأخلاق بصورة مريعة وغير مسبوقة؛ فحتى القابض على “مسيحيته” في الغرب أصبح كالقابض على الجمر في ظل تناقص أعداد مرتادي الكنائس بل وبيعها في المزادات العلنية، أو تحويلها إلى مزارات سياحية كما يحدث في دول غرب أوروبا. عالم اليوم يسير من دون بوصلة، وبالتالي من الطبيعي أن تنتشر الأمراض والأوبئة، والحروب والصراعات طالما لم يتم عقلنة الرأسمالية وحقنها بجرعة كافية من الأخلاق والمُثل العليا لكي تعود إلى جذورها الأولى التي وردت في جميع الأديان.
- آليات تعزيز الأمن البيولوجي والكيميائي:
أكدت أ. فائزة العجروش على أن الأمن البيولوجي مسؤولية الجميع وليس مسؤولية الدولة فقط، ورغم ما شاهدناه من صرامة وجُرأة وحُسن توقيت في الإجراءات الاحترازية والوقائية التي قامت بها المملكة رغم الحساسيات الثقافية والدينية المحلية، والتي وإنْ دلَّت على شيء، فإنما تدل على الوعي والتطور الكبير في منظومة الأمن البيولوجي لدينا، وكان لهذه الإجراءات الفضل بعد الله في تأخير وصول الفيروس للأراضي السعودية مقارنة بغيرها من الدول الأخرى. كما ساعدت تلك الإجراءات في خفض عدد الحالات المصابة والمكتشفة حتى الآن، وهذا ما يُثير فخرنا بما وصلنا له، وإنْ كُنا نطمح في المزيد من خلال التأكيد على خلق ثقافة الأمن البيولوجي مسؤولية الجميع؛ لعلاقته بالسلامة الحيوية المرتبطة بحماية الناس والحيوانات والبيئة من التعرُّض للعوامل المعدية أو مخاطر حيوية أخرى. وبلا شك من دون التدريب والاحتياطات الاحترازية والاستعدادات اللازمة المتعلقة بالسلامة الحيوية، من غير المحتمل أن تكون جهود الأمن البيولوجي فعَّالة. وتعَدُّ السلامة الحيوية أو السلوك المسؤول من العاملين في المختبرات عنصراً حاسمًا في الأمن البيولوجي.
وذكر د. عبد العزيز الحرقان أن دخول المملكة لصناعة الدواء يتطلب استثمار رؤوس أموال ضخمة قادرة على تحمُّل درجة المخاطرة العالية في هذا المجال، ويبدو أن الخيار المتاح حاليًّا هو تجربة سابك في بناء شراكات عالمية تستثمر الموارد الاقتصادية السعودية من خلال مؤسسات الدولة التمويلية الاستثمارية ضمن إستراتيجية وطنية شاملة. فعلى سبيل المثال، أشهر شركات الدواء العالمية المتعددة التخصصات هي GlaxoSmithKline تُقدَّر قيمتها السوقية بـ 110 مليارات دولار، وشركة AstraZeneca بـ 124 مليار دولار، وهي شركات كبرى عالمية يمكن الاستحواذ على حصص عالية منها، تؤدي إلى تأسيس برامج نقل المعرفة والتقنية إلى المملكة.
وأشارت د. مها المنيف إلى أن من أساسيات بناء إستراتيجية صحية للأمن البيولوجي توافر مدخلات رئيسية، مثل: التمويل المالي، والبنية التحتية، والحوكمة، وغيرها من الأساسيات التي نتميز كدولة بوجودها لدينا.
وأكد د. عبد الله القيسي على أهمية إعطاء مزيدٍ من الاهتمام لموضوع الأمن البيولوجي والكيمائي خاصة مع زيادة المخاطر البيولوجية في الآونة الأخيرة، والتي لها تأثيرات ليست صحية فقط؛ بل اجتماعية واقتصادية، من شأنها أن تؤثر على خُطط نمو الدول والعالم. ومع الرؤية الطموحة لوطننا، بات لزامًا أن يواكب ملف الأمن البيولوجي الوطني التطورات الرائعة التي تحدث الآن في كل المجالات الأخرى.
ومن جانبها أشارت د. مها المنيف بدايةً إلى وباء سارس (كورونا ٢٠٠٣) في الصين، والذي انتقل إلى كندا وكثير من دول العالم، وأدَّى إلى إصابة نحو 8000 شخص، وبنسبة وفيات وصلت إلى 10%، وفي هذه الأثناء لم تُوفَّق الصين في منع انتشار الفيروس وفي إعطاء المعلومات الدقيقة لمنظمة الصحة العالمية؛ وبناءً على ما حصل تمَّ استحداث قانون الصحة الدوليةinternational health regulation عام 2005، الذي يُلزم الدول الأعضاء بمعالجة الحالات ومنع الانتشار، وتقديم المعلومات عن المرضى والوفيات بكل شفافية للعالم وللمنظمة. وقد وقَّعت معظم دول العالم على هذا القانون بما فيها الصين والمملكة. وبحدوث وباء كورونا المستجد 2019، نرى التحسُّن والتطوُّر الواضح في تعامل الصين مع الحالات، وتقديم المعلومات الصحيحة، فهناك عدة أبحاث تمَّ نشرها في مجلات طبية مهمة جدًّا (NEJM)، وتشرح أعراض المرض وطُرق الانتشار والفحص المخبري (PCR)، وعدد الحالات، ونسبة الوفيات في وقت قياسي؛ وهو ما ساعد الدول الأخرى في التعامل الأمثل عند انتقال الفيروس إلى مناطقها، وهذا التطور الواضح في تعامل الصين مع وباء كورونا المستجد خير دليل على التطور العالمي في الأمن البيولوجي. وهناك عدة معامل صينية أمريكية تعمل على تصنيع لقاحات ضد فيروس كورونا. أما تعامل المملكة مع فيروس الميرس كوفي MERS-CoV في عام 2014، فكان جيدًا من ناحية تقديم العلاج ومنع الانتشار (مع أن انتشاره أبطأ بكثير من الفيروس الحالي)، وتقديم الحقائق؛ ولكن لم يكن لدينا التجهيزات المخبرية الآمنة من مستوى 3 و4 لدراسة الفيروس ولمعرفة الشفرة الجينية له؛ مما اضطرنا إلى إرساله إلى مختبرات هولندية، وكذلك لم يكن لدينا بنية بحثية جيدة لعمل تجارب على الحيوانات أو عمل تجارب لإنتاج لقاحات وأمصال للوقاية من المرض.
وذكر د. حمد البريثن أن المملكة تمتلك عديدًا من المنشآت الصحية، ولديها مراكز مختصة بالدراسات؛ لكن دعم الجامعات وتخصصات الأساس (الفيزياء والكيمياء والأحياء والرياضيات) محدود جدًّا بحكم إيمان بعض القائمين على قطاعات الدعم البحثي بالمملكة بعدم أهمية تلك التخصصات، وأنها ترفٌ علمي وفائدتها للتدريس فقط. ومع الإيمان بأهمية الدعم للمستشفيات وجميع القطاعات البحثية، إلا إنه يوجد ضعف قوي في دعم التخصصات الأساسية مع أن تلك التخصصات لديها القدرة على التعامل مع المستجدات بشكل أسرع حال وجود البنية التحتية والكوادر البشرية والدعم المالي واللوجستي المستمر. ولذلك، فمن المهم رفع مستوى الدعم (المالي واللوجستي) للجامعات، وخصوصًا كليات العلوم؛ لما تُمثِّل من كونها بنوكًا للخبرات المتفاعلة مع المتغيرات السريعة.
وأكد د. وليد السالم على أهمية التفريق بين جزئية الأمراض المعدية التي تصيب الإنسان، ومخاطر الأمن البيولوجي الذي يتعاطى مع الأوبئة وخلافها من مخاطر بيولوجية. هنالك فجوة واضحة في الأمن البيولوجي الوطني؛ حيث يجب التعامل مع الأوبئة من خلال منظومة الأمن البيولوجي الوطنية بخلاف التعاطي مع المشكلة كرد فعل.
وانطلاقًا من التركيز على البُعد السياسي، فقد أكَّد د. صدقة فاضل على ضرورة مراجعة كل اتفاقيات حظر أسلحة الدمار الشامل. ومعروف أن أسلحة الدمار الشامل تنقسم إلى ثلاثة أقسام: البيولوجية، والكيميائية، والنووية. وهناك اتفاقية لكل سلاح تحظر انتشاره الأفقي والرأسي، ولكنها تستثني بعض الدول، ولا تؤكد كثيرًا على الانتشار الرأسي. وهذه الاتفاقيات تحتاج أن تُراجع لتُصبح أكثر حسمًا وحزمًا. وليس هذا فقط، بل لا بد من تطوير وتشديد وسائل الرقابة وحظر الانتشار. ولا بد أن يعمل على وجود مضادات لما تُسبِّبه هذه الأسلحة – بخاصة البيولوجية والكيميائية – من أمراض وأوبئة، سواء سُرِّبت بقصد أو بدون قصد. والاعتقاد أن الإجراءات الدولية يجب أن تسبق الإجراءات المحلية والإقليمية، حتى تتم محاصرة الانتشار المحتمل للفيروسات والغازات القاتلة. ومن واجب الدول والمنظمات الدولية أن تعمل على تحقيق هذا الهدف الذي يهمُّ كل البشر؛ لأنه يقيهم من خطر مشترك مميت.
في حين اهتم م. أسامة كردي بالتفكير والعمل في هذا المجال على المستوى الدولي (الخليجي أو العربي أو الإسلامي)؛ وذلك بهدف تكاتف الجهود والخبرات والقوى البشرية المتخصصة، كما أن التعاون بهذا الشكل يُحقِّق مبدأ الشفافية المفقودة في هذا المجال، والتي لا بد أنها متطلب مباشر أو غير مباشر للاتفاقيات الدولية المشار إليها في الورقة الرئيسة؛ خاصة مع ملاحظة صعوبة التحكم في التغطية الجغرافية للأسلحة البيولوجية وانتقالها عبر الحدود (كورونا المستجد كمثال).
وسلَّط م. إبراهيم ناظر الضوءَ على أنه يوجد البرنامج الوطني لتطوير التجمعات الصناعية تحت إشراف وزارة الصناعة والثروة الوطنية حاليًّا، وتتمثل مهمة البرنامج الوطني لتطوير التجمعات الصناعية في تنمية وتنويع الاقتصاد السعودي من خلال تطوير مجموعات صناعية مستهدفة تُعزِّز موارد المملكة من المستحضرات الدوائية والمستلزمات الطبية والآلات ومواد البناء والمواد الكيميائية المتخصصة. وتعد الصناعات الدوائية من الصناعات الإستراتيجية التي تعزز الأمن الدوائي الوطني حيث يتجاوز حجم السوق المحلي ٣٠ مليار ريال، وتسعى التجمعات الصناعية لتوطين الأدوية المبتكرة لتكون المملكة مركزًا إقليميًّا لتصنيعها وتصديرها، وتعمد التجمعات الصناعية إلى تنمية صناعة الأجهزة والمستلزمات الطبية من خلال تمكين المصانع القائمة والتي يتجاوز عددها ٤٥، والعمل على الفرص الاستثمارية في توطين صناعة المضخات الوريدية وأجهزة غسيل الكلى في سوق يبلغ حجمه ١٨ مليارًا. كما توجد إدارة رئيسة بوزارة الدفاع بمسمى الوقاية من أسلحة الدمار الشامل (كيمائية، بيولوجية وجرثومية، نووية)، ولها فروع بجميع أفرع القوات المسلحة البرية والجوية والبحرية والدفاع الجوي، مهمتها التعامل مع تلك التهديدات في حالة السلم أو الحروب.
وأضاف م. إبراهيم ناظر أنه قد تمَّ بالفعل تنفيذ الكثير من التجمعات الصناعية؛ وعلى سبيل المثال، هناك شركة كاد الشرق الأوسط للصناعات الدوائيةCAD ، وهي منشأة صناعية تعتمد أحدث النظُم التقنية في مجال تصنيع المنتجات الأعلى جودةً من المواد الدوائية الأولية الفعالة (APIs) وفق معايير ممارسات الصناعة الجيدة (cGMP) والمعتمدة عالميًّا. وقد تأسست الشركة في الرياض، بالمملكة العربية السعودية، وبدأت مرحلة الإنتاج التجاري في عام 2013. وتعمل “كاد” على الاستعانة بالبحوث العلمية والتطوير المتواصل بغيةَ تحقيق جودة عالية، مع مراعاة معايير ممارسات التصنيع الجيدة، والتصنيع منخفض التكلفة للمكونات الدوائية الأولية الفعالة.
أما أ. عبد الرحمن باسلم فتساءل: هل كل دول العالم لا بد أن يكون عندها مراكز أبحاث متقدِّمة ومعامل ومختبرات ذات أمان مرتفع biosafety Level 3 and 4؟ وفي هذا الإطار أوضح د. وليد السالم أن وجود مختبرات للأمن البيولوجي العالي لا يعني أننا سنعمل على حروب بيولوجية؛ فلدينا أربع أساسيات، وهي:
- Biosafety
- Biosecurity
- Biodefense
- Biological weapons/Bioterrorism
وبالنسبة للنقطة الأخيرة فهي محرمة دوليًّا، ولكن هنالك دول تعمل عليها وهي BIOLOGICAL WEAPONS على مستوى الدول أو كذلك ما يُسمَّى NON STATE ACTORS ممكن أن تعمل على Bioterrorism. ولذا، فما يجب العمل عليه هو تقوية المكونات الثلاثة: Biosafety، Biosecurity، Biodefense، وهذه لا يمكن تقويتها من خلال عدم وجود مختبرات أمن بيولوجي ثالث أو رابع. وعلى أقل تقدير، كيف نُشخِّصها؟ وماذا لو حدث وباء مفتعل أو غير مفتعل؟ وكيف ستكون آلية التجاوب؟ وهل نُجبر موظفي المختبرات بالعمل في بيئة غير صالحة، وننشر العدوى بينهم؟ وهذا أسوأ من الاستعانة بصديق خارجي لكي يكشف عن المرض. نحن في دولة عظيمة، ويجب أن تتواكب عظمة الدولة مع الاستعداد للمخاطر البيولوجية. وكسيناريو بسيط، فإن حمى القرم الكونجولية تُعدُّ أحد الفيروسات التي يتم التعامل معها في الأمن البيولوجي العالي، وتتواجد في بعض الدول الإسلامية، ماذا لو انتقلت إلى الوطن، كيف نفحصها؟ والسؤال الأهم ناقل المرض Disease Vector متواجد في إقليم Afrotropical Region حيث مكة وجدة والطائف حتى عسير وجازان جنوبًا. والسيناريو الآخر يتعلق بالتوليريما، وهي بكتيريا يمكن أن تُلوِّث المياه، وتُسبِّب مخاطر عالية ووفيات مرتفعة، ماذا لو لُوِّثت المياه بهذه البكتيريا؟ البكتيريا تُسجِّل حالات في الحدود التركية الإيرانية بسبب عوامل طبيعية، وتواجه الدولتان صعوبات كبيرة بسبب هذه البكتيريا. وثمة سيناريوهات أخرى عديدة.
وتطرَّق د. مساعد المحيا إلى التحدي المتعلق بندرة المختصين في مجال الأمن البيولوجي، بجانب عدم التمكين الكافي للقليلين الموجودين، كما أن من المهم تطوير النظام القائم حاليًّا للبلاغات عن حالات اشتباه لأي حالات وبائية مستحدثة متعلقة بالأمن البيولوجي، وربطها بين أقسام العدوى في المستشفيات بالاستفادة من تطبيقات الذكاء الاصطناعي، ليساهم في سرعة التنبه إلى الوباء في بدايته.
وأكد م. فاضل القرني على أنه لا بد من إستراتيجيات لردع ومَنْع ذلك التهديد البيولوجي والكيميائي وفق التالي:
- رفع المستوى الثقافي للشعوب بمخاطر هذه الأسلحة في المدارس، والإعلام، والمنتديات، والندوات… إلخ، بطريقة مناسبة لا تخلق حالة هلع لدى أفراد المجتمع.
- تطوير مفهوم إدارة الكوارث وفق مستجدات العالم التقنية والعلمية، والأهم من ذلك السياسية، وتصوُّر السيناريوهات التي قد تحدث؛ لأنها ستكون نبراسًا لتحديد قدرات ومتطلبات مركز إدارة الكوارث، وتحديث الإجراءات والتدريب. والعمل على زيادة مؤسسية المركز ودعمه بالموارد المالية والكوادر البشرية بمعظم التخصصات المطلوبة وفق سيناريوهات مختلفة وشاملة.
- وضع أولويات في حالة حدوث أي تهديد من ذلك النوع وفق أهميتها، والتي تكون عادةً في الجوانب المفصلية للدولة، والتي تحافظ على بقائها (مؤسسات، مستلزمات طبية، أمصال، قدرة المستشفيات في المناطق.. إلخ).
- استقطاب خبراء وعلماء في مجالي الأسلحة البيولوجية والكيمائية من دول العالم، ويكونون خليطًا من الغرب والشرق مع العلماء والخبراء الوطنين؛ لوضع إستراتيجيات الردع والدفاع.
- أن تُطرح مسودة خطوط عريضة كمقترح من المملكة على طاولة اجتماع (G20)، لتشمل ذلك النوع من الحروب البيولوجية والكيمائية؛ بتحريمها وتفكيكها والتخلص منها. وأيضًا، تشمل إجراءات للتعامل مع ما يحدث من كوارث بيولوجية طبيعية.
بينما يرى د. عبد الله القيسي أنه لا يوجد في المملكة مختبرات ذات مستوى أمان ٣ أو ٤ باستثناء مختبر واحد من نوع مستوى الأمان ٣ موجود في جامعة الملك عبد العزيز. والواقع أنه في حالة الأزمات أو الخطر البيولوجي، فإن وجود مثل هذه المختبرات يعَدُّ أمرًا مهمًّا جدًّا لكشف الخطر مبكرًا، وأيضًا من أجل التعرف على نوعه وإجراء الأبحاث عليه. لذا، فمن الضروري بناء مختبرات ذات مستوى عالٍ مع تنظيمها بأعلى المعايير الدولية في هذا الخصوص. وحث الجامعات والمراكز البحثية على الاهتمام بهذا الجانب، مع ضرورة الاهتمام بالعلماء السعوديين في مجال الفيروسات والأوبئة والأمن البيولوجي ودعمهم. وحث الجامعات على فتح برامج دراسات عليا تهتم بهذه الجوانب. ومن ناحية أخرى، فإن الخطر من الأوبئة الطبيعية في السنوات الأخيرة هو الخطر الحقيقي! وقد ذكرت د. فاطمة الهملان كيف كانت معاناة السعودية عند ظهور فيروس كورونا الأول، والذي ظهر عام 2012. حيث لم تكن تتوافر الإمكانيات لاكتشاف الخطر بأنفسنا بسبب قلة المختصين، وعدم وجود المعامل المختصة (معامل مستوى أمان ثالث). ورغم مرور نحو سبع سنوات الآن؛ إلا أن التطور في هذا الجانب ما زال دون المأمول. وهناك قصة أهم حدثت قبل ذلك، وهي ظهور حمى الوادي المتصدع في جنوب المملكة عام ٢٠٠٠. أيضًا، تم الاستعانة بمركز الأمراض في أمريكا لكشف المرض، ولنفس الأسباب المتمثلة في عدم وجود معامل مختصة وقلة العلماء. ولذا، من الممكن اختصار موضوع الأمن البيولوجي بشقيه الطبيعي أو المفتعل في ثلاث نقاط مهمة، وهي كما يلي:
- وجود جهة تنظيمية.
- الاهتمام بالعلماء في هذا المجال، وتدريب مزيد من الخريجين والخريجات للالتحاق بهذه المجالات.
- بناء مختبرات ذات مستوى عالٍ من شأنها كشف المخاطر البيولوجية أيًا كانت، وإجراء الأبحاث عليها من تطوير أدوات تشخيصية إلى لقاحات وأدوية، وهو ما يتماشى مع رؤية الوطن ٢٠٣٠.
وذكر م. خالد العثمان أن مشروع المختبر الصحي الوطني متعثر منذ فترة؛ بسبب نقص التمويل وقلة الخبرات، ويجب العمل على حله.
وأكدت د. فايزة الحربي على أهمية إنشاء مركز وطني متطور لإنتاج وابتكار الأمصال والأدوية المكافحة للأمراض المستعصية والحديثة. وعقَّب م. فاضل القرني بأنه إذا كان الأمر كذلك، فلا بد من توافر موارد مالية تتناسب وطبيعة العمل البحثي وتكلفته، كما أن من المهم تنوُّع المساهمين في هذه الموارد من القطاع العام وكذلك الخاص من خلال شركات الدواء والجهات الطبية الخاصة وأصحاب رؤوس الأموال. وهذه ثقافة غير عريقة عند القطاع الخاص في ظل تخوُّفه من الاستثمار في البحث والتطوير.
في حين أوضح د. عبد الله القيسي أنه قبل عام تمَّ وضع حجر الأساس لمركز وطني لإنتاج اللقاحات والأدوية ضد الأمراض المعدية، ومقره جامعة الملك عبد الله كاوست.
ولاحظ د. حميد الشايجي أن المعضلة المتكررة هي التمويل؛ لذلك من المقترحات المهمة إنشاء أوقاف وصندوق استثماري وطني لتوفير الاستدامة في تمويل المختبر الصحي الوطني.
واهتمت أ. فائزة العجروش بضرورة الاستفادة من مساعدات تكنولوجيا الخدمات الصحية لتشخيص الحالات الصعبة في المستشفيات المعزولة في مناطق المملكة المختلفة وكيفية علاجها، وكذلك لتوفير فرص التعلُّم عن بعد للعاملين والممارسين في القطاع الصحي. والتدخل العاجل من الجهات المختصة، وتفعيل دور جمعية حماية المستهلك، وتكثيف الرقابة لضبط المخالفين، وزيادة الحملات التفتيشية على منافذ البيع والصيدليات؛ للارتفاع الملحوظ في أسعار الكمامات الطبية ومواد التعقيم، على خلفية زيادة الطلب عليها في الفترة الحالية، بالتزامن مع ظهور فيروس كورونا المستجد، مع ضرورة توفيرها بكميات كافية وضبط أسعارها.
وبدورها أكدت د. عبير برهمين على أهمية ما يلي:
- إنشاء وحدة تختصُّ بالأمن البيولوجي والأمن الكيماوي ضمن منظومة الأمن القومي الخاص بالمملكة، وتضمُّ عددًا من العلماء المختصين في هذا المجال.
- عَقْد شراكات دولية لتطوير القدرات المعرفية الوطنية، ووضع خطة لتوطين المعرفة في هذا المجال.
- بناء بنية تحتية خاصة لتطوير مختبرات من نوع BSL3 and BSL4، تكون قادرة على فحص العينات ذات الخطورة العالية.
- تخصيص جزء مُحدَّد من ميزانية الدولة لتعزيز البحث العلمي المستمر لتطوير القدرات المعرفية، ومتابعة التطورات في مجالي الأمن البيولوجي والأمن الكيماوي.
- الاستفادة من الكوادر الوطنية ممَّن يحملون شهادات دكتوراه في تخصصات ذات العلاقة والكائنات الحية الدقيقة أو الكيمياء الحيوية والعضوية أو الهندسة الوراثية الجزيئية، بإيفادهم لدورات تدريبية متخصصة في الأمن البيولوجي والأمن الكيميائي.
- التوصيات:
- تسريع وتيرة الجهود الرامية لوضع الإستراتيجية الوطنية للأمن البيولوجي، على أن تشمل تقوية الأساسيات الأربع للأمن البيولوجي، وهي (Biosafety, Biosecurity, Biodefense, Bioterrorism detection).
- وجود مظلة وطنية للأمن البيولوجي تجمع تحتها جميعَ الجهات الوطنية ذات العلاقة، ومنها وحدة تختصُّ بالأمن البيولوجي والكيميائي بها عدد من الخبراء والمتخصصين لوضع إستراتيجيات الردع والدفاع، وتُقدِّم المظلة التشريعات والآليات اللازمة لكيفية التعامل مع المخاطر البيولوجية والكيميائية.
- ضرورة عَقْد شراكات دولية لتطوير القدرات المعرفية الوطنية، ووضع خطة بما يتناسب مع الإستراتيجية الوطنية للأمن البيولوجي لتوطين المعرفة في هذا المجال، والاستفادة من تجارب الدول المختلفة في هذا الشأن، وتشمل استقطاب خبراء وعلماء في مجالي الأسلحة البيولوجية والكيمائية من دول العالم.
- ضرورة بناء بنية تحتية خاصة لتطوير مختبرات من نوع BSL4-BSL3- ، والتي تقلل خطر الإصابة بالعدوى عند التعامل مع العينات؛ للتعامل مع الفيروسات المستجدة، والتصدي للأوبئة والأمراض المعدية بكافة أنواعها، ودعمها ماديًّا لتوفير الاستدامة، وتأهيل الكوادر الوطنية المدربة للتعامل بأمان عالٍ مع المواد الخطرة بيولوجيًّا، ورفع المستوى الثقافي للشعوب عامة بمخاطر الأسلحة البيولوجية والكيمائية.
- طرح قضية الأمن البيولوجي على طاولة الـ G20، لتشمل كلَّ أنواع الحروب البيولوجية والكيميائية وتفكيكها والتخلص منها؛ بهدف عمل فريق محلي- دولي لصياغة إستراتيجية وطنية ممكن أن تُعرض في هذا المحفل العالمي.
- تطوير مفهوم إدارة الكوارث وانتشار الأوبئة وفق مستجدات العالم التقنية والعلمية، والأهم من ذلك السياسية، وتصوُّر السيناريوهات التي قد تحدث؛ لأنها ستكون نبراسًا لتحديد قدرات ومتطلبات مركز القيادة والتحكم في الأمراض المعدية في وزارة الصحة، وتحديث الإجراءات والتدريب.
- أهمية وجود خطة دفاعية واستباقية في المملكة لتقليل مخاطر استخدام التقنيات الحيوية الحديثة؛ من خلال استعراض مستجدات الوضع العالمي والإقليمي فيما يتعلق بالأمراض المعدية ومكافحة الآفات والأوبئة في المجالين الزراعي والحيواني، ووضع أولويات في حالة حدوث انتشار أي وباء أو جائحة وفق أهميتها، والتي تكون عادةً في الجوانب المفصلية للدولة، والتي تحافظ على بقائها (مؤسسات، مستلزمات طبية، أمصال، قدرة المستشفيات في المناطق… إلخ).
- أهمية التعاون بين المملكة والدول الغربية والمنظمات العالمية كمنظمة الصحة العالمية؛ لتقوية الاستعداد للأوبئة Pandemic preparedness والتكامل في تطبيق اللوائح الصحية السعودية مع مثيلاتها الدولية لمواجهة تحديات الأمراض المعدية، بما فيها العمل على تجارب تصنيع لقاحات مع مختبرات عالمية.
- بناء قاعدة بيانات لتوثيق البلاغات الخاصة بالأمراض الحيوانية والآفات الزراعية والأخطار الغذائية وتوفيرها ومشاركتها بين الجهات المختصة وصناع القرار، بما يسهم في إعادة تقييم الوضع الحالي، ووَضْع توقعات للوضع المستقبلي، ودراسة المخاطر ودعم اتخاذ القرارات المتعلقة بالتحكم في الأمراض المعدية والأوبئة المستجدة.
القضية الثالثة
نموذج الاقتصاد الدائري والصناعة بالمملكة
(15/3/2020م)
- الورقة الرئيسة: م. إبراهيم ناظر
- التعقيبات:
- التعقيب الأول: د. نوف الغامدي
- التعقيب الثاني: م. خالد العثمان
- إدارة الحوار: أ. جمال ملائكة
- الملخص التنفيذي:
أوضح م. إبراهيم ناظر في الورقة الرئيسة أن الاقتصاد الدائري يُقدِّم نموذجًا اقتصاديًّا جديدًا، يهتم بتغيير كلِّ أساليب الإنتاج وأنماط الاستهلاك غير المستدامة؛ حيث يهدف إلى الاستغلال الأمثل للثروات الطبيعية والتنمية المستدامة، وحفظ قيمة المنتجات والمواد والموارد في الاقتصاد لأطول فترة ممكنة من عمر الاستخدام، وتقليل النُّفايات بشكل كبير. وكذلك يساهم في تعزيز الكفاءة وخفض استهلاك الطاقة الكهربائية وانبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون؛ إضافةً إلى تحديث النظام الاقتصادي القائم، وخلق فرص عمل مستدامة، والمحافظة على الموارد الطبيعية وحماية البيئة، والمسؤولية تجاه المكان الذي يستثمر فيه بتحقيق الاستدامة البيئية وتقليل استغلال الموارد الطبيعية ومن تأثيرها على ظاهرة التغيُّر المناخي. كما أنه يؤدي إلى النمو المستدام للاقتصاد الوطني (من حيث تحقيق التكافل بين الصناعات، وتوفير وحماية الموارد الطبيعية)، وتصميم نموذج أكثر استدامةً على المدى البعيد، وخلق فرص وظيفية جديدة. فضلاً عن أنه يقوم على إعادة التدوير للنفايات، والتصميم الدائري والمستدام لتطوير المنتجات بإطالة عمر الاستخدام والقابلية لإعادة التدوير، والتقليل من المخلفات بكل أنواعها والتعدينية والصناعية خاصة والتلوث الناتج عنهما، وتوطين التقنيات اللازمة، وتحفيز البحث العلمي والابتكار، والتخلص من المرادم (على المدى البعيد)، وتعظيم الفائدة (الاستفادة للمستثمر والمستهلك) بدل تعظيم الربح. كما يُعزِّز قيم الاستدامة والشفافية عن طريق المزيد من الشراكات في سلاسل التوريد والقيمة. كما أضاف م. إبراهيم ناظر أنَّ هناك العديد من المبادرات والشركات التي أطلقتها الحكومة وكذلك خُطط الاستدامة والمحافظة على البيئة، وبدأت بتطبيقها الشركات الكبيرة كأرامكو وسابك ومعادن وبعض شركات الإسمنت، ولكنها تظلُّ خُططًا وجهودًا متفرقة لا يربط بينهما رابط أو إستراتيجية موحدة. والاقتصاد الدائري نموذج عمل شمولي يحتاج إلى بنى تحتية وتقنيات وخُطط للتطبيق طويلة الأجل وتضافُر الجهود والمسؤولية من جميع أصحاب المصلحة من مستثمرين ومورِّدين ومستهلكين ومشرِّعين، فهو مُحفِّز للابتكار، ومُشجِّع على الإنتاج الصديق للبيئة، والاستهلاك الرشيد، وإعادة التدوير لكل أنواع النفايات البلدية والصناعية والطبية والزراعية، بما في ذلك انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.
أما د. نوف الغامدي فأكدت في التعقيب الأول على أنه لا بد من العمل على خطة وطنية لزيادة كفاءة استخدام الموارد في الصناعة، كما لا بد من الدعوة إلى إعادة تشكيل وتحديث الثقافة السعودية والخليجية عمومًا فيما يتصل بالاقتصاد الدائري عمومًا، والنظر إليه باعتباره فرعًا جديدًا من فروع علم الاقتصاد، ورديفًا للاقتصاد البيئي، وداعمًا لاستدامة البيئة، والتعامل مع مخرجاته كما نتعامل مع الاقتصاد الصناعي أو الاقتصاد العقاري متجاوزين عُقدة الدونية في العمل في قطاعاته والاستثمار في مشروعاته ولا سيما في ظل حالة التشبُّع والركود التي تشهدها القطاعات الاستثمارية الأخرى.
- من ناحيته ذكر م. خالد العثمان في التعقيب الثاني أنَّ هناك غيابًا شبه تام لفهم فكرة الاقتصاد الدائري ناهيك عن تبني تطبيقه واحتضانه عند إعداد خطط التنمية وبرامجها، عدا بعض العبارات المتناثرات هنا وهناك، التي تتبنى مصطلحات (مثل، الاستدامة والقيمة والكفاءة) دون انعكاس حقيقي على البرامج والخطط التنفيذية. وأوضح أن دائرة تأثير تطبيقات الاقتصاد الدائري تتسع باتساع دائرة التطبيق، وتتكامل هذه الدوائر مع دوائر أخرى في قطاعات أخرى تتواصل وتتشابك لتُحقِّق أوسعَ أثر ممكن على كامل خارطة التنمية وقطاعاتها المختلفة؛ لذا فإن بتر دوائر التأثير وفصلها عن بعضها البعض يُقلِّل بل وينتقص من الأثر المأمول من تطبيق مبدأ الاقتصاد الدائري.
وتضمنت المداخلات حول القضية المحاور التالية:
- التعريف بالاقتصاد الدائري وأبعاده.
- السلوك الاجتماعي والاقتصاد الدائري.
- السياسات والإجراءات الواجب اتخاذها لتنمية الاقتصاد الدائري.
ومن أبرز التوصيات التي انتهى إليها المتحاورون في ملتقى أسبار حول قضية “نموذج الاقتصاد الدائري والصناعة بالمملكة” ما يلي:
- إصدار إعلان رسمي من (وزارة الاقتصاد والتخطيط) بتبني الاقتصاد الدائري كأحد مبادئ التنمية الأساسية، واعتماده كأحد محاور رؤية السعودية ٢٠٣٠.
- تشكيل مجلس أعلى أو لجنة عليا للإشراف على تطبيق مبادئ الاقتصاد الدائري في مجمل برامج الرؤية ومبادراتها المختلفة.
- إعداد إستراتيجية وطنية للاقتصاد الدائري، وإناطة الإشراف على تطبيقها بالمجلس الأعلى المشار إليه سابقًا.
- الورقة الرئيسة: م. إبراهيم ناظر
يُقدِّم الاقتصاد الدائري نموذجًا اقتصاديًّا جديدًا، يهتم بتغيير كل أساليب الإنتاج وأنماط الاستهلاك غير المستدامة، حيث يهدف إلى الاستغلال الأمثل للثروات الطبيعية والتنمية المستدامة، وحفظ قيمة المنتجات والمواد والموارد في الاقتصاد لأطول فترة ممكنة من عمر الاستخدام، وتقليل النُّفايات بشكل كبير. وكذلك يساهم في تعزيز الكفاءة وخفض استهلاك الطاقة الكهربائية وانبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون؛ إضافةً إلى تحديث النظام الاقتصادي القائم، وخلق فرص عمل مستدامة، والمحافظة على الموارد الطبيعية وحماية البيئة، والمسؤولية تجاه المكان الذي يستثمر فيه بتحقيق الاستدامة البيئية وتقليل استغلال الموارد الطبيعية ومن تأثيرها على ظاهرة التغير المناخي. كما أنه يؤدي إلى النمو المستدام للاقتصاد الوطني (من حيث تحقيق التكافل بين الصناعات، وتوفير وحماية الموارد الطبيعية)، وتصميم نموذج أكثر استدامةً على المدى البعيد، وخلق فرص وظيفية جديدة. فضلاً عن أنه يقوم على إعادة التدوير للنفايات، والتصميم الدائري والمستدام لتطوير المنتجات بإطالة عمر الاستخدام والقابلية لإعادة التدوير، والتقليل من المخلفات بكل أنواعها والتعدينية والصناعية خاصة والتلوث الناتج عنهما، وتوطين التقنيات اللازمة، وتحفيز البحث العلمي والابتكار، والتخلص من المرادم (على المدى البعيد)، وتعظيم الفائدة (الاستفادة للمستثمر والمستهلك) بدل تعظيم الربح. كما يُعزِّز قيم الاستدامة والشفافية عن طريق المزيد من الشراكات في سلاسل التوريد والقيمة.
وقد اعتمدت جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة في عام 2015 أهداف التنمية المستدامة (SDGs) الشكل رقم (1)، والمعروفة أيضًا باسم الأهداف العالمية، باعتبارها دعوة عالمية للعمل على إنهاء الفقر وحماية الكوكب، وضمان تمتُّع جميع الناس بالسلام والازدهار بحلول عام 2030؛ مما أوجب على العالم إعادة التفكير في كل ما هو حاصل، وإعادة النظر في تغيير أساليب الإنتاج وأنماط الاستهلاك غير المستدامة، وطرح نماذج عمل اقتصادية وصناعية جديدة من الاقتصاد الأزرق والأخضر والتشاركي واقتصاد الخدمات والاقتصاد الدائري، ولكل منها مجال عمله؛ ولكن جميعها تتكامل وتتمحور حول المحافظة على الموارد الطبيعية، وحماية البيئة والتنمية المستدامة. ولعل نموذج الاقتصاد الدائري يقدِّم المساهمات الأكبر في التنمية الاقتصادية المستدامة لجميع الأنشطة الاقتصادية والصناعات، والتي يمكن أن تُترجم إلى فوائد اقتصادية واجتماعية وبيئية، وخلق فرص العمل المستدام، وحماية الموارد الطبيعية، وإعادة بناء رأس المال البشري؛ ويشمل كذلك الموارد المالية والطبيعية والاجتماعية بهدف تعزيز تدفق السلع والخدمات وتطوير الصناعات لتصبح قابلة لإعادة التدوير والوصول إلى صفر من المخلفات والتلوث الناتج عنهما، والحد من البصمة البيئية وبصمة الكربون، وتوطين التقنيات اللازمة، وتحفيز البحث العلمي، ويُمهِّد الإمكانية لتطبيق الثورة الصناعية الرابعة.
لذا، فإن نموذج الاقتصاد الدائري هو إطار شامل؛ حيث يُصمم المنتج أو الخدمة وعملية الإنتاج وقناة التوزيع وكل جانب من جوانب أنشطة الشركة حول استخدام الحد الأدنى والأمثل من الموارد الجديدة وإعادة استخدام الموارد المتوفرة، ويحاول النموذج الدائري محاكاة سلوك الطبيعة الأم في كفاءتها وقدرتها على التكيُّف مع الظروف البيئية الجديدة. وتتلخص الفرضية البسيطة للاقتصاد الدائري في أن (كلَّ ما يُستخرج من الطبيعة يعود إلى الطبيعة لتتم إعادة تدويره إلى ما لا نهاية)، ويُعنَى بتناول حياة المنتج كما يُعرف بمصطلح “من المهد إلى المهد”، من التصميم والإنتاج والاستهلاك، ومن ثَمَّ إدارة النفايات وإعادة استخدامها.
ويظلُّ التطبيق هو الأساس لتحويل الأفكار والأهداف إلى واقع عن طريق سنِّ التشريعات ومراقبة تنفيذها، وإعداد البرامج وآليات التنفيذ؛ وهي التشريعات والسياسات والإجراءات الحكومية والبنى التحتية والتقنيات الذكية، والوعي الكافي باتجاهات السوق والتعديلات ذات الصلة بتوقعات الطلب على المدى البعيد، ومواصلة التحسينات في عمليات التصنيع والإنتاج، والمزيد من البيانات حول تدفقات المواد (إنترنت الأشياءI.O.T)، وتعزيز البنية التحتية اللازمة لإعادة التدوير والانتعاش، والمزيد من الشراكات في سلاسل التوريد والقيمة، وفهم أفضل للتطبيقات، وتصميم المنتجات المناسبة، واستكشاف نماذج الأعمال الجديدة. وكذلك تطبيق مبدأ التكافل الصناعي بين الصناعيين والموردين، والحفاظ على الموارد الشحيحة على المدى الطويل، وخفض تكلفة ممارسة الأعمال التجارية في عالم مطلوب فيه التوازن البيئي والمحافظة على البيئة.
ويتجلى اهتمام المملكة بهذا التحول الاقتصادي والتنموي في رؤاها الوطنية وإستراتيجياتها الاقتصادية الطموحة؛ كرؤية المملكة العربية السعودية 2030، والخطة المستقبلية لاعتماد البصمة الكربونية في سلسلة إمدادات الطاقة، في خطوة تعكس اهتمام أكبر مُنتِج للنفط الخام في العالم بمسائل المناخ كونها تتماشى و”رؤية 2030″؛ بالتحول إلى استخدام التكنولوجيا بما ينسجم مع البيئة، وتنويع مصادر الدخل على أسس واقعية ومستدامة.
وقد أوضح الأمير عبد العزيز بن سلمان في جلسة حول «مستقبل قطاع الطاقة»، أن قضايا التغيير المناخي من أبرز القضايا في الساحة الدولية، مُشدِّدًا على ضرورة معالجة هذه القضايا، والعمل على تعزيز استدامة الطاقة رغم التحديات التي نواجهها.
وهناك العديد من المبادرات والشركات التي أطلقتها الحكومة، وكذلك خطط الاستدامة والمحافظة على البيئة التي أطلقتها، وبدأت في تطبيقها الشركات الكبيرة كأرامكو وسابك ومعادن وبعض شركات الإسمنت، ومن تلك البرامج الحكومية والشركات:
-NIDLP program (National Industrial Development Program)
-the Saudi Energy Efficiency Program (SEEP)
-National Industrial Clusters Development
Program (NICDP)
-National Energy Service Company
-SIRC company (Saudi Investment Recycling Company)
-circular carbon economy initiative
ولكنها تظلُّ خُططًا وجهودًا متفرقةً لا يربط بينهما رابط أو إستراتيجية موحدة. والاقتصاد الدائري نموذج عمل شمولي يحتاج إلى بنى تحتية وتقنيات وخُطط للتطبيق طويلة الأجل، وتضافر الجهود والمسؤولية من جميع أصحاب المصلحة من مستثمرين ومورِّدين ومستهلكين ومُشرِّعين، فهو مُحفِّز للابتكار، ومُشجِّع على الإنتاج الصديق للبيئة والاستهلاك الرشيد، وإعادة التدوير لكل أنواع النفايات البلدية والصناعية والطبية والزراعية، بما في ذلك انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.
شكل رقم (1): The Sustainable Development Goals (SDGs)
شكل رقم (2)
- التعقيبات:
- التعقيب الأول: د. نوف الغامدي
تشهد المملكة العربية السعودية طفرةً صناعيةً، وزيادةً في النمو السكاني، وزيادة في عدد المدن الجديدة؛ وهو ما أدى إلى زيادة في معدلات التلوث والنفايات. لقد أصبحت إدارة النُّفايات الصلبة تشكل تحديًا كبيرًا يوميًّا للحكومة، مع تعداد سكاني يقارب الـ 29 مليون نسمة، حيث تنتج السعودية أكثر من 15 مليون طن نُفايات صلبة سنويًّا، والمعدل التقديري لنصيب الفرد يوميًّا في إنتاج النفايات 1.5- 1.8 كجم. أما معدل النفايات الصلبة للمدن الثلاث الكبرى (الرياض، جدة، الدمام) فهي تزيد على 6 ملايين طن في السنة؛ وهو ما يعطي تصوُّرًا عن حجم المشكلة التي تواجهها، فأكثر من 75% من السكان يسكنون المناطق الحضرية، مما يوجب على الحكومة أن تستحدث معايير لتحسين إعادة التدوير والتعامل مع النفايات الصلبة في المملكة.
ماذا نعني بالاقتصاد الدائري؟ وما الفرق بينه وبين الاقتصاد الصناعي التقليدي؟ وما هي أهميته الاقتصادية والاجتماعية؟ وما هو موقعه في الثقافة الخليجية والسعودية على وجه خاص؟ يُعرف الاقتصاد الدائري Circular Economy بأنه الاقتصاد الصناعي الذي لا يُنتِج نُفايات أو الذي لا يُسبِّب تلوُّثًا في البيئة، منذ بدء التفكير في إنشائه، مرورًا بتصميمه وتصنيعه، ويحتوي على نمطين من تدفق المادة: الأول مغذيات بيولوجية مُصمَّمة لكي تعود للدخول في المجال الحيوي بأمان، والثاني مغذيات تقنية وهي مُصمَّمة للتدوير بجودة عالية داخل منظومة الإنتاج دون أن تدخل المجال الحيوي، فضلًا عن أن تكون قابلةً للإصلاح والتجديد منذ تصميمها؛ الأمر الذي يقود إلى استخدام أكثر فاعليةً للمواد.
وبمعنى آخر، يُعرف الاقتصاد الدائري بأنه استخدام موارد أقل في عمليات التصنيع، وتغيير الممارسات السائدة في التخلُّص من المنتج لاحقًا كالنفايات، والتحوُّل إلى إعادة استخدامه من جديد، مثل: إعادة إصلاحه، أو إعادة التصنيع، أو إعادة التدوير للمنتج (بمعنى أن المنتجات ومكوناتها يمكن إصلاحها وإعادة تصنيعها، ومن ثَمَّ استعادتها كمادة خام للبدء في عملية تصنيع أخرى). وقد استُخدم مصطلح الاقتصاد الدائري للمرة الأولى من قِبل اثنين من خبراء الاقتصاد البيئي البريطانيين؛ ديفيد بيرس، وآركيري تيرمز في كتابهما: “اقتصاديات الموارد الطبيعية والبيئة” الصادر عام 1989 عن جامعة «جونز هوبكنز» الأمريكية، حيث أشارا إلى أن الاقتصاد الشائع في العالم هو اقتصاد خطي linear Economy تطوَّر دون أن يتضمن في بنيته الأساسية فكرة إعادة التدوير؛ الأمر الذي انعكس في التعامل الجائر مع البيئة باعتبارها مستودعًا للنُّفايات؛ بينما الاقتصاد الدائري (غير الخطي) يرتكز على دراسة الأنظمة الغنية بردود الأفعال، وبشكل خاص المنظومات الحيوية، وإحدى النتائج الرئيسية لذلك هي بروز مفهوم تحسين النظُم بدلًا من المكونات، ومفهوم التصميم للملاءمة، وصولًا إلى تحقيق مبادئ الاستدامة الاقتصادية.
وعمومًا يقوم الاقتصاد الدائري على عدة أسس، منها:
- أولًا: لا وجودَ للنُّفايات، فجميع المكونات يتم تدويرها وإعادة استخدامها.
- ثانيًا: التنوُّع قوة، إذ إن المنتجات والمواد والأنظمة المتنوعة أكثر مرونةً في مواجهة الصدمات الخارجية.
- ثالثًا: الطاقة يجب أن تأتيَ من مصادر متجددة.
- رابعًا: سيادة التفكير المنظومي، أي النظر للأشياء على أنها تؤثر في بعضها البعض في إطار كل متكامل، واعتبار العناصر مناسبة في إطار سياقات البنية التحتية والبيئة والمجتمع.
- خامسًا: الأسعار ينبغي أن تعكس الكلفة الحقيقية من أجل أن تكون فعَّالة.
الاقتصاد الدائري سيُحدث ثورةً في مجال استغلال الموارد الضخمة من النُّفايات التي لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات، وسيجعل منها واحدًا من أهم القطاعات ذات القيمة المضافة للكثير من الاقتصادات الوطنية، وخاصة أنها القطاع الإنتاجي الوحيد الذي توجد وفرة في مدخلاته وبكُلف منخفضة، فقد أشار تقرير صادر عن «المنتدى الاقتصادي العالمي» و«مؤسسة إلين ماك آرثر» عام 2015 إلى أن الاقتصاد الدائري سيُوفِّر على العالم تريليون دولار بحلول عام 2025، وسيُولِّد مئة ألف وظيفة جديدة خلال خمس سنوات. علاوة على ذلك، تبرز أهمية الاقتصاد الدائري في أنه يحافظ على ديمومة الموارد الاقتصادية المتاحة والمحدودة أصلاً عبر الاقتصاد في استخدامها، وبالتالي يُمثِّل عاملَ دفع نحو الابتكار في مجالات إعادة استخدام المواد والمكونات والمنتجات وتقليص الهدر والضياعات سواء في مرحلة تصنيعها أو في عمليات ما بعد التصنيع.
ويعود الفضل في تعزيز القاعدة التطبيقية للاقتصاد الدائري والمتعلقة بإعادة استخدام المنتجات إلى المهندس المعماري والبيئي السويسري “والتر ستاهيل”، الذي ابتكر قاعدة «من المهد إلى المهد» عام 1976 – أي قبل (13) سنة من الظهور الأيديولوجي والأكاديمي للاقتصاد الدائري في كتاب “اقتصاديات الموارد الطبيعية والبيئة” الصادر عام 1989، لمؤلفيه البريطانيين؛ ديفيد بيرس، وآركيري تيرمز – والتي تركز على إمكانية تجديد الاستفادة من المنتجات عبر تدويرها وإعادة إخراجها في أشكال واستعمالات جديدة لخدمة الاقتصاد والبيئة. ووفقًا لقاعدة من “المهد إلى المهد”، فإن الأنشطة الاقتصادية الدائرية تنقسم إلى مجموعتين؛ الأولى: تلك الأعمال والممارسات الوقائية التي تُعزِّز إمكانية إعادة الاستخدام للآلات والمكائن والأبنية والجسور التي تجاوزت عمرها الإنتاجي، وتمديد فترة خدمتها إلى آجال أخرى بدلاً من إخراجها من الخدمة وفقاً لمبادئ الاقتصاد الخطي (التقليدي)؛ وذلك من خلال الصيانة والإصلاح وإعادة التصنيع والترقيات والتحسينات التقنية. أما الثانية فهي مجموعة الأنشطة التي تحول البضائع القديمة إلى موارد جديدة عن طريق إعادة تدوير المواد للاستخدام في نشاطات جديدة.
وبذلك، فإن الاقتصاد الدائري سيُولِّد فرصَ عمل جديدة في قطاعات إعادة تصنيع وإصلاح السلع القديمة وصيانة المباني والجسور وغيرها من منشآت البنية التحتية، مثلما سيؤدي إلى المحافظة على رأس المال الطبيعي والمالي، ويخفض تكاليف الإنشاء والتطوير والاستثمار، ويساعد على الابتكار في مجالات الاستدامة والحفاظ على الموارد. ويشير تقرير صادر عن المفوضية الأوروبية إلى أن عوائد الاقتصاد الدائري في الاتحاد الأوروبي تصل إلى نحو (14) تريليون يورو بحلول عام 2030، علاوة على أنه سيحدُّ من انبعاثات الكربون بما يقارب (450) مليون طن سنويًّا.
وعمومًا، فقد اهتمت المؤسسات الصناعية الكبرى في العالم بتطبيقات الاقتصاد الدائري ولا سيما في مجال تحويل النفايات إلى طاقة، حيث يوجد في الوقت الحاضر نحو (700) مصنع حول العالم يعمل في هذا الميدان، كما بادرت العديد من الشركات الأخرى إلى استخدام النُّفايات في صناعات أخرى جديدة، مثلاً استخدام نفايات زيوت الطبخ بعد تصنيعها كزيوت للسيارات. فيما استخدمت شركات أخرى منتجات النُّفايات الصناعية مثل خراطيم المياه والمظلات وإعادة تدويرها على هيئة أحزمة وحقائب ومحافظ. كما تقوم شركات أخرى بإعادة تدوير فضلات الورق والأخشاب في تصنيع الورق المقوى والكرتون. فيما تقوم المئات من الشركات الصينية بإعادة تصنيع فضلات الأقمشة والجلود في صناعة الملابس الرخيصة الثمن، كما تقوم بإعادة صهر وتصنيع الزجاج والبلاستك لصناعة الأواني والعلب الزجاجية والبلاستيكية وغيرها، كما أنها منذ سنوات وهي تسعى لإطلاق سبع صناعات جديدة اعتمادًا على الاقتصاد الدائري، وهي: صناعة البيئة، وإعادة تدوير المخلفات، وتوفير الطاقة وخفض استهلاكها، والطاقة المتجددة، والصحة، والاقتصاد الخدماتي، والتصاميم والتصورات الإبداعية، وفقًا لتقرير صادر عن مجلس الجمعية الصينية لبحوث التنمية المستدامة عام 2014. ويمكن القول إنَّ أغلب إنْ لم يكن جميع السلع التي نجدها تُباع في الأسواق بأسعار متدنية جدًّا (محلات كل شيء بريال وبخمسة) وتجعلنا نتساءل عن كُلف تصنيعها، هي سلع مُعاد تدويرها.
ومن الأمور المثيرة للانتباه ما تقوم به شركة فورد وهاينز من أبحاث في إمكانية استخدام قشرة الطماطم كأساس لمواد تركيبية جديدة لقطع غيار السيارات واستخدامها كبلاستيك حيوي. ويبقى السؤال: أين موقع وطننا العربي من الاقتصاد الدائري؟ وعلى الأخص، أين موقع الاقتصاد الدائري في الثقافة الخليجية المعاصرة؟ لقد أشارت العديد من الدراسات الاقتصادية المعاصرة إلى أن الاقتصاد الدائري Circular Economy سيُحدِث ثورةً في مجال استغلال الموارد الضخمة من النفايات والضياعات التي لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات، وأعدته واحدًا من القطاعات المستقبلية النهمة ذات القيمة المضافة الكبيرة للكثير من الاقتصادات الوطنية، وخاصة أنه القطاع الإنتاجي الوحيد الذي توجد وفرة متراكمة في مدخلاته وبكُلف منخفضة. وقد بادرت شركات الدول الصناعية المتقدمة بشكل مبكر في استثماره، ليكون خزينًا للقيمة المضافة، ومصدرًا ديناميكيًّا للتشغيل، ورافدًا جديدًا للابتكار، ووسيلة جديدة لحماية البيئة واستثمارها بشكل متواصل، ومن دون استهلاك جائر لمواردها الطبيعية غير المتجددة، وأسلوبًا اقتصاديًّا للتخلص من النفايات، والاقتصاد في استهلاك الطاقة.
ويبقى السؤال: أين موقع وطننا العربي من الاقتصاد الدائري؟ وعلى الأخص، أين موقع الاقتصاد الدائري في الثقافة الخليجية المعاصرة؟ إننا نلاحظ عدم وضوح إنْ لم يكن غياب الرؤية الاستثمارية للاقتصاد الدائري في الوطن العربي عمومًا، بالرغم من أن قسمًا من تطبيقات الاقتصاد الدائري ظهرت أثناء الحربين العالميتين الأولى والثانية، حيث كانت الدول تعاني من نقص شديد في بعض المواد الأساسية مثل المطاط؛ مما دفعها إلى تجميع تلك المواد من المخلفات لإعادة استخدامها. وبعد سنوات أصبحت عملية إعادة التدوير من أهم أساليب إدارة التخلص من المخلفات في الدول المتقدمة؛ وذلك لفوائدها البيئية والاقتصادية.
وكانت عملية إعادة التدوير المباشر لسنوات عديدة عن طريق مُنتجي مواد المخلفات (الخردة)، وهو الشكل الأساسي لإعادة التدوير، ولكن مع بداية التسعينيات من القرن العشرين، ومع بروز الاقتصاد الدائري كفرع جديد لعلم الاقتصاد؛ بدأ التركيز على إعادة التدوير غير المباشر، أي تصنيع مواد المخلفات لإنتاج منتجات أخرى تعتمد على المادة الخام نفسها، مثل إعادة تدوير الزجاج والورق والبلاستيك والألمنيوم وغيرها من المواد التي يتم الآن إعادة تدويرها.
وتشير دراسة اقتصادية صادرة عن جامعة الدول العربية إلى أن حجم خسائر الدول العربية بسبب تجاهلها إعادة تدوير المخلفات تُقدَّر بنحو (5) مليارات دولار أمريكي سنويًّا، وأن كميتها تبلغ نحو (89.6) مليون طن سنويًّا، وتكفي لتصنيع نحو (14.3) مليون طن ورق بقيمة (2145) مليون دولار، وإنتاج (1.8) مليون طن حديد بقيمة (135) مليون دولار، بالإضافة إلى حوالي (75) ألف طن بلاستيك قيمتها (1.4) مليار دولار، وكذلك نحو (202) مليون طن قماش. وتُوضِّح الدراسة آنفة الذكر أن الخسائر العربية لا تقتصر على قيمة المنتجات التي يمكن الحصول عليها من عمليات إعادة التدوير، وإنما تمتد إلى الكلفة الباهظة التي تدفعها الدول العربية للتخلص من المخلفات ومعالجة الأضرار الناتجة عنها، حيث تنفق الدول العربية على ذلك نحو (2.5) مليار دولار سنويًّا.
وتشير الدراسة أيضًا إلى أن الاستثمارات العربية الموظَّفة في مجال تدوير المخلفات بصفة عامة والصلبة بصفة خاصة – متواضعة ومحدودة، ولا تتجاوز (200) مليون دولار أمريكي، وأن معظم هذه المشروعات فردية وبإمكانات محدودة، وبتقنيات قديمة؛ في الوقت الذي ينبغي فيه إنشاء صناعات متكاملة وبتقنيات جديدة قادرة على إعادة تدوير المخلفات والاستفادة مما تنتجه من حديد ومعادن أخرى، وأسمدة وبلاستيك وورق وزجاج ومواد أخرى يمكن إدخالها كمستلزمات إنتاج في صناعات عديدة. لكن ذلك لا ينفي وجود بعض التجارب العربية الناجحة، كجمهورية مصر العربية حيث كانت السباقة عربيًّا في جَمْع وتصنيف وتدوير وإعادة تصنيع النفايات ولا سيما في مجال مخلفات القطاع الزراعي نظرًا إلى كثرتها (وخاصة قش الأرز)، حيث يؤدي عدم الاستفادة منها إلى أضرار بيئية وصحية واقتصادية، فبعد أن كان المزارعون يتخلصون من هذه المخلفات بصورة خاطئة ومضرة وأغلبها يكون عن طريق الحرق، قامت الحكومة المصرية بدعم وتحفيز القطاع الخاص لتدوير المخلفات الزراعية بعدة طرق واستخدامها في عدة صناعات مهمة، مثلاً لإنتاج أعلاف غير تقليدية، وإنتاج السماد العضوي، وكذلك الدخول في إنتاج الورق وصناعة الخشب وتنقية مياه الصرف الصحي، وغيرها من الصناعات التي حقَّقت عوائد إيجابية للاقتصاد الوطني فضلاً عن تشغيل الأيدي العاملة، والحفاظ على البيئة من التلوث، كما كانت جمهورية مصر العربية السبَّاقة في إعادة تدوير المخلفات المنزلية.
أما دول الخليج العربي فإن من تداعيات الطفرة النفطية في منتصف عقد السبعينيات من القرن الماضي أن خلقت ثقافة لدى شعوب دولها تعد صناعة التدوير صناعة دونية لا تليق بمواطنيها، ما قادَ إلى عزوف شبه تام من المواطنين للعمل فيها، وأنها إنْ وُجدت هنا أو هناك فهي مقتصرة على الوافدين، على الرغم من أنها تُمثِّل ثروات وموارد ضخمة لو تمَّ استثمارها بشكل إيجابي، حيث يشير بحث صادر عن (تدوير المخلفات) في المملكة العربية السعودية مطلع عام 2016 إلى أن المملكة تنتج نحو (15) مليون طن من النُّفايات البلدية الصلبة سنويًّا، وبمعدل (1.4) كيلو جرام لكل شخص، ومن المتوقع أن يتضاعف هذا العدد ويبلغ نحو (30) مليون طن، مع زيادة عدد السكان في المملكة بنسبة (3.4%) بحلول عام 2033.
وتتألف مصادر النفايات في المملكة من نفايات بقايا الطعام؛ حيث تُمثِّل نسبة (40% إلى 51%)، وتليها النُّفايات البلاستيكية (5-17)%، والنفايات الورقية والورق المقوى، والنُّفايات من بقايا الزجاج (3-5)%، وبقايا الخشب (2-8)%، وبقايا الأقمشة (2-6)%، وبقايا الحديد (2-8)%. ومما ينبغي ذكره أن الجهات الحكومية المختصة سواء البلدية أو وزارة التجارة منحت تراخيص لنحو (500) شركة للاستثمار في هذا المجال خلال السنوات الثلاث الماضية، إلا أن الذي باشر العمل فعلاً لم يتجاوز الـ (200) شركة، ولم تزل تستخدم الأساليب التقليدية في جمع وفرز وإعادة تدوير النفايات، بحيث إنَّ ما يتم تدويره من نفايات لا يتجاوز نسبة (20%) من إجمالي النفايات المتاحة، ويذهب الباقي إلى الحرق أو الردم، وتُخطِّط شركة “سابك” لبناء مصنع تجريبي في أوروبا لتحويل النفايات البلاستيكية إلى مواد خام لوحداتها للتكسير، وذلك كجزء من إستراتيجية الشركة لمواصلة تطوير نموذجها الاقتصادي الدائري في هذا المجال، ومن المقرر أن يتم بناء المصنع الجديد في موقع صناعات خليين الهولندية التي تضمُّ أكبر وأغلب مصانع “سابك” في أوروبا.
أما دولة الإمارات العربية المتحدة فقد باشرت منذ مطلع عام 2008 إنشاء مركز إدارة النفايات «تدوير» كشركة مسؤولة عن السياسات والإستراتيجيات والنظُم التعاقدية لإدارة الفضلات والنفايات في إمارة أبو ظبي، فيما قامت شركة أبو ظبي الوطنية للطاقة ش.م.ع (طاقة) وبالتنسيق مع مركز تدوير، ببناء محطة لتحويل النفايات إلى طاقة بالقرب من ميناء المصفح في إمارة أبو ظبي بكلفة (850) مليون دولار أمريكي؛ وذلك لتوليد كمية من الكهرباء تكفي لسد احتياجات أكثر من (20) ألف منزل، إضافةً إلى إنتاج كميات كبيرة من الأسمدة العضوية والمنتجات الأخرى بقيمة تتجاوز (1225) مليون دولار. فيما تعتزم بلدية دبي إنشاء أكبر محطة لتحويل النفايات الصلبة إلى طاقة في منطقة (الورسان 2)، وبكلفة نحو ملياري درهم إماراتي، ويهدف المشروع إلى أن تكون دبي أكثر المدن استدامةً وذكاءً بحلول عام 2021، تحقيقًا للأجندة الوطنية بتقليل طمر النفايات بنسبة (75%) بحلول 2021، وتوفير مساحة الأراضي المهدرة في مكبِّ النفايات، علاوة على حماية البيئة من غاز الميثان، المنبعث من مكبَّات النفايات، بالإضافة إلى العديد من مشروعات إعادة التدوير التي أنشأها القطاع الخاص، مثل مصانع تدوير زيت الطعام المستخدَم وتحويله إلى زيوت للسيارات. وأسَّست إمارة الشارقة مركز شركة الشارقة للبيئة «بيئة»، الذي يُعَدُّ أكبر مركز في منطقة الشرق الأوسط والثالث من نوعه على مستوى العالم، والذي يضمُّ العديدَ من المرافق الحيوية كمنشآت تحويل النفايات إلى طاقة، وأخرى لصناعة الأسمدة العضوية من النفايات، إلى جانب مرافق متطورة لإعادة تدوير المعادن وغيرها.
أما مملكة البحرين فإنها لا تزال تعالج النفايات بالطرق التقليدية المضرة بالبيئة، والتي تؤدي إلى هدر كبير في الفرص الضائعة لاستثمارها، حيث ينقصها وجود مشروع إستراتيجي لتدوير النفايات، وأما ما هو موجود حاليًّا فهو عدد قليل من المشروعات الخاصة الصغيرة والمتوسطة التي تعتمد على الأيدي العاملة الوافدة في جمع وفرز النفايات بأساليب بدائية.
ولقد ظهر لنا اليوم مفهوم جديد للاقتصاد الدائري تحت اسم “اقتصاد الخدمات”، بمعنى أنه يوجد توجُّه عالمي للتحوُّل من الملكية الفردية إلى فكرة “رخصة الاستخدام وتقاسم الخدمات”، فعلى سبيل المثال: بدلًا من امتلاك سيارة يتم تقاسم السيارات، كبديل عن الملكية الفردية؛ للتكيُّف مع ضغط قضية تغيُّر المناخ، والنمو السكاني العالمي المطرد، ومحدودية الموارد في الطبيعة. وسيكون الاقتصاد الدائري واحدًا من أكثر القضايا الإستراتيجية في السنوات المقبلة ويُهيِّئ للاعتماد على الابتكار ونشر النماذج الاقتصادية المرنة للاستجابة المباشرة لمعالجة قضايا ندرة الموارد وضرورة تقليل النفايات.
وأخيرًا، لا بد من العمل على خطة وطنية لزيادة كفاءة استخدام الموارد في الصناعة، كما لا بد من الدعوة إلى إعادة تشكيل وتحديث الثقافة السعودية والخليجية عمومًا فيما يتصل بالاقتصاد الدائري عمومًا، والنظر إليه باعتباره فرعًا جديدًا من فروع علم الاقتصاد، ورديفًا للاقتصاد البيئي، وداعمًا لاستدامة البيئة، والتعامل مع مخرجاته كما نتعامل مع الاقتصاد الصناعي أو الاقتصاد العقاري متجاوزين عقدة الدونية في العمل في قطاعاته والاستثمار في مشروعاته ولا سيما في ظل حالة التشبُّع والركود التي تشهدها القطاعات الاستثمارية الأخرى.
- التعقيب الثاني: م. خالد العثمان
هناك غيابٌ شبه تام لفهم فكرة الاقتصاد الدائري ناهيك عن تبني تطبيقه واحتضانه عند إعداد خُطط التنمية وبرامجها، عدا بعض العبارات المتناثرات هنا وهناك، التي تتبنى مصطلحات (مثل، الاستدامة والقيمة والكفاءة) دون انعكاس حقيقي على البرامج والخُطط التنفيذية.
ليس لديَّ الكثير في الحقيقة أُضيفه على ما قاله كاتب الورقة الرئيسة، عدا التعريج على بعض النقاط على سبيل المساهمة في إتمام الرؤية:
- الاقتصاد الدائري مبدأٌ تنموي اقتصادي شامل يجب تبنِّيه في كامل منظومة وهياكل التنمية من رأسها إلى أخمص قدميها. وتطبيقاته هي أقرب ما تكون إلى مبدأ ومنطلق لكل وسائل التفكير والبناء والإنتاج، تنعكس على كافة مناحي العملية الاقتصادية والتنموية.
- كما هي دوائر الموجات التي تنشأ عندما يسقط حجر في مسطح مائي، فإن دائرة تأثير تطبيقات الاقتصاد الدائري تتسع باتساع دائرة التطبيق، وتتكامل هذه الدوائر مع دوائر أخرى في قطاعات أخرى تتواصل وتتشابك لتُحقِّق أوسع أثر ممكن على كامل خارطة التنمية وقطاعاتها المختلفة.
- إن بتر دوائر التأثير وفصلها عن بعضها البعض يُقلِّل بل وينتقص من الأثر المأمول من تطبيق مبدأ الاقتصاد الدائري. فلا يصح – مثلاً – الحديث عن اقتصاد دائري في مجال الطاقة دون التفكير في ربطه بدوائر قطاعية أخرى، مثل الصناعة والخدمات وغيرها.
- في الوقت الذي نُنادي فيه بتبني مفهوم الاقتصاد الدائري على المستوى التخطيطي التنموي الشامل، إلا إن هذا لا يمنع من تبني تأسيس دوائر على أساس قطاعي ومكاني؛ على سبيل المثال، شرط السعي لربط هذه الدوائر بالخارطة الشاملة للاقتصاد الدائري.
- يوضِّح الشكل التالي الدوائر القطاعية والمناطقية والفرعية التي تُشكِّل بتكاملها منظومة الاقتصاد الدائري:
- القضية تتطلب تأسيس وعي شامل على كافة المستويات، وهي بالتأكيد تتطلب إدراج هذا المفهوم بدءًا من مستويات التعليم الأولية، صعودًا إلى برامج التعليم العام والعالي والمهني والتقني وأخلاقيات العمل والثقافة العامة في المجتمع. وعلى المدى القريب، نحن بحاجة إلى كثير من التأهيل والتدريب والمؤتمرات والفعاليات التي تسهم في التوعية بهذا المفهوم وتوسيع دائرة الاهتمام به، وإطلاق مبادرات نموذجية تسهم في خلق حراك تغيير إيجابي تجاهه.
- المداخلات حول القضية:
- التعريف بالاقتصاد الدائري وأبعاده:
ذكر م. خالد العثمان أن أحد مبادئ الاقتصاد الدائري والتعامل مع النفايات هو ما يُدعَى بـ 5R’s، وهي بالإنجليزية تعني:
- Reduce
- Reuse
- Recover
- Recycle
- Residual management
وتعني بالعربية:
- التقليل من النفايات.
- إعادة استخدام المخلفات.
- الاستخلاص من النفايات.
- تدوير النفايات.
- التخلص الآمن من البقايا النهائية.
والاقتصاد الدائري بمنتهى البساطة يعني أن كلَّ مُخرَج من دورة إنتاجية يُصبح مُدخلاً في دورة إنتاجية أخرى. المحصلة النهائية “لا توجد نفايات بتاتًا”، أو ما يُسمَّى Zero waste. ولا توجد دولة في العالم حقَّقت مستوى الصفر من النفايات. وهو عمليًّا غير ممكن بالموارد والتقنيات الحالية. لكننا نريد أن نصل لمستوى معقول من هذا المسعى. حاليًّا، نحن نعيش في مجتمع ذي اقتصاد خطي بالكامل.
وتطرَّق م. خالد العثمان إلى بعض الأمثلة العملية في هذا الشأن، ومنها أن شركة فرنسية متخصصة في جَمْع قشر البيض والبيض التالف من مزارع الدواجن، تقوم بعد ذلك باستخلاص القشرة الرقيقة التي تُبطِّن قشر البيض وتبيعها لشركات صناعة مواد التجميل، حيث تدخل هذه المادة التي نعدُّها نفايات في صناعة مواد التجميل وبتكاليف كبيرة. نحتاج أن ننقل هذه الفكرة لشركات الدواجن في السعودية. أيضًا، فإنه وبينما نقوم في المجازر والمسالخ برمي مخلفات الذبح في النفايات، بما فيها أكثر من مليون رأس تُذبح في أيام الحج في منى فقط، فإن أمعاء البهائم هي المصدر الأفضل لصناعة الخيوط الجراحية. كذلك فإن كمية الذهب والبالاديوم الموجودة في هواتفنا الذكية التي نستبدلها كل سنة يمكن أن تكون ثروةً تسدُّ حاجة الكثير من الأسر في منظومة الضمان الاجتماعي.
وعقَّب م. إبراهيم ناظر بأن الاقتصاد الدائري يعني الاستثمار المتواصل في سلاسل القيمة وكذلك سلاسل التوريد بين الصناعات والتكافل بين الصناعات، بمعني ما هو مُخرَج ثانوي لصناعة معينة يكون مُدخلًا لصناعة أخرى؛ لذلك التدوير للنفايات في حد ذاته لا يكفي، ولا بد أن تكون مخرجات التدوير لنفاية معينة هي مُدخل لصناعة أخرى، فمثلاً: ما يُنتَج من نفاية من صناعة البلاستك يُصبح مدخلًا لصناعة مصنع آخر، ويوجد حاليًّا في العالم حوالي ٥٠٠.٠٠٠ مركز خدمة لسلاسل التوريد يربط نحو عشرة ملايين مصنع في العالم عن طريق إنترنت الأشياء، وسوف يتضاعف هذا العدد مع عام ٢٠٣٠م. وكذلك يُمهِّد نموذج الاقتصاد الدائري لتطبيق الثورة الصناعية الرابعة التي تصل فيها الأتمتة إلى حد كبير؛ ما يعني أن نموذج الاقتصاد الدائري كنموذج صناعي يحتاج إلى تقنيات عالية وبحث علمي وابتكار.
ويرى د. حمد البريثن أن الأفضل استخدام أي دورة لها علاقة بالمناخ والشمس والبكتيريا للحصول على نظام شبيه بالنظام البيئي المتوازن. وبدوره اتفق م. إبراهيم ناظر مع هذا الرأي، لكنه أضاف أن السؤال المهم هو: كيف لنا أن نجعل من المُخرجات التي تُولِّد كمًّا كبيرًا من النُّفايات والتلوث فوائد اقتصادية واجتماعية وبيئية؛ فنحن نتعامل مع ملايين الأطنان من النفايات البلدية والتعدينية وغاز ثاني أكسيد الكربون وغيرها، ونحتاج إلى أن نستثمرها لتكونَ فرصًا استثمارية واقتصادية واجتماعية، كما تُحقِّق التوازنَ البيئي في الوقت ذاته، وهذا هو ما يبحثه الاقتصاد الدائري.
ومن جانبها تساءلت د. عائشة الأحمدي: ألا يوجد مراحل يمرُّ بها النظام الاقتصادي طالت أم قصرت في المجتمعات الحديثة؟ وأين نحن فيها؟ أيضًا، فإن المملكة كبلد نامٍ، يلتهم النمو السكاني في معدلاته الحالية كثيرًا من موارده، وفي الوقت نفسه، تقذف مشكلات هذا النمو بتحدياتها على كافة النظُم الاجتماعية، وأكثرها تأثُّرًا هو النظام الاقتصادي. ففي ضوء هذا النمو السكاني، هناك حاجة ملحة تتطلب نموًّا اقتصاديًّا مُضاعفًا لمرتين حتى نضمن استمرار رفاهية المجتمع السعودي، والسؤال هنا: هل هذه القضية بلغت لدينا من الدرجة التي يعدُّ طرحها أولوية؟
وبدوره أوضح م. إبراهيم ناظر أن فكرة المحافظة على الكوكب والموارد الطبيعية من الاستنزاف، والتنمية المستدامة – كانت البداية للاهتمام بمفهوم الاقتصاد الدائري. وكانت حركة من (المهد إلى المهد) التي تتبناها “مؤسسة إلين ماك آرثر” هي الرائدة في الاهتمام بندرة الموارد وضرورة تقليل النفايات، والاهتمام ببناء سلاسل التوريد لزيادة معدل إعادة التدوير وإعادة الاستخدام وإعادة التصنيع، وهذا الطرح لهذه الأفكار بدأ في منتصف الثمانينيات الميلادية؛ ولكن في عام ٢٠٠٦ كانت “مؤسسة إلين ماك آرثر” قد أطَّرت الفكر والمفهوم الشامل للاقتصاد الدائري. وبدأت الدول الأوروبية في التطبيق التدريجي وإيجاد البنية اللازمة للاقتصاد من حيث البحث العلمي والابتكار والتقنيات اللازمة للتنفيذ، ووصلت الآن دولة مثل السويد التي تستنفد جميعَ المخلفات لديها، وتستورد من مخلفات الدول المجاورة ٨٠٠.٠٠٠ طن نفايات، وتُولِّد من كل ٣ أطنان نفايات طنًّا واحدًا من الوقود، وكذلك هولندا والنرويج قد بلغتا مستويات متقدمة في خفض الكربون وتحويله إلى منتجات نافعة، وكذلك خفض البصمة البيئية حيث لا يمكن تسويق المنتجات بدون البصمة البيئية والبصمة الكربونية، وحتى الزبون في تلك الدول ينظر باهتمام إلى تلك المعايير البيئية، وهذا ما فرض على أرامكو مبادرة الاقتصاد الدائري لخفض الكربون، وقامت بمشروع ضخم في التقاط ٥٠٠.٠٠٠ طن سنويًّا، وتحويلها إلى منتجات مثل الأسمدة والميثانول وبعض المنتجات الغازية، كما قامت أرامكو باختزان ٨٠٠.٠٠٠ طن لاستخدامها في E.O.R enhanced oil recovery plants. والواقع أن نموذج الاقتصاد الدائري يخلق تنميةً مستدامةً ووظائف جديدة في المملكة، ولو طبقنا هذا النموذج الصناعي بشكل شامل، فسوف يضخُّ في الاقتصاد الوطني ١٢٠ مليارًا و٧٧٠٠٠ وظيفة حتى عام ٢٠٣٥، هذا فقط من تدوير النفايات، أما مناخية المقارنة المرجعية فهي أهداف الأمم المتحدة للتنمية العالمية، وهي ١٧ هدفًا وضعتها في عام ٢٠١٥ واعتمدتها جميع الدول، ويجب أن تتعاون الحكومات والقطاع الخاص لتنفيذها حتى عام ٢٠٣٠. والمؤكد أن تطبيق نموذج الاقتصاد الدائري أصبح أولوية، وسوف يؤدي تطبيقه بشكل وإطار شامل إلى حلِّ كثير من مشاكل التنمية، كما يُحقِّق التنمية المستدامة كما صرَّح بذلك سمو الأمير عبد العزيز بن سلمان في مؤتمر مستقبل الطاقة.
أما د. حميد الشايجي فأشار إلى ما استخلصه من قراءته لأحد التقارير بعنوان “ألمانيا تعلن أنها فارغة من القمامة”، حيث ذكر التقرير أن ألمانيا تجني ١٠٠ مليار دولار سنويًّا من إعادة تدوير النفايات، وأنها أصبحت تحتاج إلى نفايات وبدأت تستوردها من الدول المجاورة لإعادة تدويرها، وفي ضوء ذلك يُصبح من المهم التساؤل حول ما مدى صحة ذلك، والأهم العائد المادي منه؟ وبدوره أكد م. إبراهيم ناظر أن هذا صحيحٌ ١٠٠٪، وليس فقط ألمانيا بمفردها، بل أغلب دول الاتحاد الأوروبي وفي مقدمتها: هولندا، والسويد والنرويج.
واستوضحت د. وفاء طيبة المقصود بالنمطين المشار إليهما في التعقيب الأول والمتعلقين بتدفق المادة، وكذلك شرح جملة: “بينما الاقتصاد الدائري (غير الخطي) يرتكز على دراسة الأنظمة الغنية بردود الأفعال، وبشكل خاص المنظومات الحيوية، وإحدى النتائج الرئيسية لذلك هي بروز مفهوم تحسين النظُم بدلًا من المكونات، ومفهوم التصميم للملاءمة”.
ومن جانبه ذكر م. إبراهيم ناظر أن هناك النموذج التقليدي في الصناعة الذي يُطلق عليه الخطي linear ، وهو يعتمد استخراج وأَخْذ الموارد الطبيعية ثم تصنيعها منتجات واستخدامها والتخلص منها على شكل نفايات، وبذلك تنتهي حياة المنتج؛ أما الأسلوب الحديث الذي أُطلق عليه الدائري فهو يقوم بإعادة التدوير للنفايات وإعادة تصنيعها واستخدامها، فيتم بذلك تحويل النفايات إلى مواد أولية كما يتم تصميم المنتجات لتكون قابلةً لإعادة الإصلاح أو إعادة التدوير، وتصميمها لتخدم فترة أطول؛ وبذلك نتفادى الاستنزاف للموارد الطبيعية. والنموذج الدائري يحاول محاكاة الطبيعة في كفاءتها وقدرتها على التكيُّف مع الظروف البيئية الجديدة، مثال: الشجرة تأخذ من الطبيعة لتثمر، ثم تعيد ثمارها وأوراقها للأرض التي أخذتها منها، وهكذا تستمر هذه الدورة إلى ما لا نهاية. والاقتصاد الدائري – ببساطة – يحاول أن يُعيد تدويرَ كلِّ ما يُستخرَج من الطبيعة إلى ما لا نهاية، ويتناول حياة المنتج بما يُعرف بمصطلح من المهد إلى المهد من التصميم والإنتاج والاستهلاك، ومن ثَمَّ إدارة النفايات وإعادة استخدامها؛ وكمثال: فإن ما يعادل ٤٠٪ من قطع غيار “شركة رينو” يُعاد إصلاحها لأنها مُصَّممة بحيث تكون قابلةً للإعادة والإصلاح. والاقتصاد الدائري يعتمد سلاسل التوريد المتواصل circular supply chains وكذلك سلاسل القيمة؛ أي كل مُخرج من صناعة هو مُدخل لصناعة أخرى، وكمثال على ذلك: الاستثمار في الصناعات التحويلية فيما يُطلَق عليه down stream.
وأكد م. سالم المري على أن الاقتصاد الدائري مسألة مهمة عُنيت بها الدول المتقدمة من أجل الاستخدام الأمثل للموارد في ظل نضوبها المتوقع، والازدياد المطرد في السكان، والتأثير السلبي لبعض الصناعات على المناخ والصحة. وكما أشارت الورقة الرئيسة، فإن هناك العديد من المبادرات ولكنَّها جهود متفرقة لا يربط بينها رابط أو إستراتيجية موحدة، كما تفتقد للجدية عند التنفيذ، وللتشريعات التي يمكن أن يتم الاستناد إليها.
- السلوك الاجتماعي والاقتصاد الدائري:
ركَّز د. خالد الرديعان على السلوك الاجتماعي في التعامل مع القضايا ذات البعد الاقتصادي كما هو الحال مع موضوع الاقتصاد الدائري. حيث يرى أن من الواضح جدًّا أن كثيرًا من ممارساتنا اليومية لا تدخل ضمن “ترشيد الاستهلاك” فيما يتعلق بما نستخدمه من مواد ومنتجات معظمها قابلة للتدوير والإفادة منها فيما لو اتبعنا خطوات بسيطة وغير مكلفة؛ إلا إن العملية برمتها ترتبط بمدى وعينا بما نستهلكه وما نستخدمه في حياتنا اليومية، ومدى وعينا كذلك بضرورة حماية البيئة وصيانتها من التلوث. والوفر الاقتصادي والبحبوحة التي عشناها منذ سبعينيات القرن العشرين أفرزت بعضَ السلبيات، ومنها هدر الموارد وشراء سلع يمكن الاستغناء عنها أو الاستعاضة عنها ببدائل غير مكلفة ويمكن استخدامها عدة مرات. لعلَّ أكثر ما نشاهده بهذا الخصوص منتجات البلاستيك والورق والإسراف في استخدامها؛ وهو ما يعود في الغالب إلى رخص ثمنها وتوفُّرها، وكثرة المحلات التجارية ذات البضائع المخفضة التي يقوم عليها أشخاص وعيهم البيئي منخفض، فهم يريدون بيع وتصريف منتجاتهم دون أدنى اعتبار للبيئة واستدامتها وترشيد الاستهلاك، بل إن ترشيد الجمهور للاستهلاك لن يكون مجديًا لهؤلاء الباعة، فالأولوية لديهم هي البيع، والبيع فقط. ويكفي دليلاً على عدم مبالاتهم وفوضويتهم أنهم أحيانًا يبيعون سلعهم دون أن تكون ضمن النظام المحاسبي للمحل التجاري (نقدًا وربما من دون فاتورة). يقابل هؤلاء زبون غير ملم بحقوقه عند الشراء؛ وذلك فيما يتعلق بالضمان واسترجاع ثمن البضاعة عند عدم صلاحيتها، ومتى وكيف يُعيدها. وعملية الوعي برمتها سلسلة مترابطة لا تنفصل، فهي تبدأ من المصنع أو المورد ثم تاجر الجملة ثم الموزع، وتنتهي بالمستهلك. لا ننسى كذلك دور الجهات الحكومية ذات العلاقة كوزارة التجارة، والبلديات، وحماية المستهلكين وتقصيرها في كل ما يساعد على الاستدامة والترشيد والتدوير. ولا نجد في مدننا مثلاً حاويات قمامة متنوعة (للبلاستيك، والورق، والزجاج… إلخ) بل صندوق كبير يُلقى فيه بكل شيء، بما في ذلك بقايا الأطعمة وأحيانًا المفروشات القديمة والأخشاب والمعادن والأجهزة الكهربائية وهكذا… وفي كل ذلك هدرٌ لا مبرر له، بل إنه كمن يُلقي بنقوده في سلة المهملات بحكم أن معظم ما ذُكِر قابل للتدوير والإفادة منه صناعيًّا فيما لو اتبعنا خطوات بسيطة مع توفُّر ما يساعد على ذلك من قِبل البلديات وجهات الاختصاص.
وأشار م. إبراهيم ناظر إلى أن أنماطَ الاستهلاك غير المستدام أحد المبادئ المهمة في الاقتصاد الدائري، فهو إطار شامل يهتم بتغيير كل أساليب الإنتاج والاستهلاك والتفكير، ويهدف إلى الاستغلال الأمثل للثروات الطبيعية والتنمية المستدامة، وحفظ قيمة المنتجات والمواد والموارد في الاقتصاد لأطول فترة ممكنة من عمر الاستخدام، وتقليل النفايات. وكذلك يساهم في رفع كفاءة الإنتاج وخفض استهلاك الطاقة وانبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون، وتحديث النظام الاقتصادي القائم، والمحافظة على الموارد الطبيعية، وحماية البيئة والمسؤولية تجاه المكان الذي يستثمر فيه؛ وهذا كله يحتاج إلى سن القوانين والأنظمة والبنية التشريعية اللازمة للتنفيذ.
في حين أشارت د. عفاف الأنسي إلى أن المشكلة البيئية في العالم تتفاقم ويزداد خطرها مع التنامي المطرد في تعداد البشرية وتطرُّف المجتمعات المدنية والصناعية في ممارساتها الضارة بالبيئة، ويظلُّ دور الحكومات بتشريعاتها في التصدي لتفاقم المشكلة دورًا محوريًّا، حيث يظل دور الأفراد والمجتمعات مرهونًا بحجم ونجاح المبادرات والبرامج وجهود الناشطين التوعوية المكلفة وذات الأمد الطويل. بينما يقف رواد الأعمال المهتمون بالاستثمارات المرتبطة باقتصادات البيئة كالاقتصاد الدائري والاقتصاد الأخضر والاقتصاد الأزرق وغيرها، موقفًا مترقبًا لأنسب الفرص للدخول في استثمارات مجدية. إنَّ اتساق ثالوث التشريعات الحكومية والوعي الجمعي والجدوى الاقتصادية في مثلث قائم الزاوية، تشكل فيه التشريعات الحكومية الضلع القائم؛ من شأنه أن يدفع بعجلة الاقتصاد الدائري إلى الأمام، وبوتيرة متنامية ومتسقة. فالتشريعات الحكومية تدفع بالوعي المجتمعي إلى مستويات أعلى من الالتزام والتطبيق من خلال نقل المبادرات الشخصية إلى ممارسات عامة، كما أن الوعي المجتمعي يختزل الأمد والتكاليف اللازمة لإقرار وتأكيد الممارسات المنشودة؛ الأمر الذي يخلق فرصًا للمستثمر ناتجة عن تولد حاجات استهلاكية جديدة على نطاق تجاري مُجدٍ، وبالتالي تنتج عوامل المنافسة التجارية، وتقوم حينها أدوات التسويق التجاري الفعَّالة بنشر وعي أكبر وأوسع لتلك الممارسات المولِّدة للحاجة والطلب على منتجات وخدمات المستثمرين في قطاعات هذا الاقتصاد. ولتبيان مدى ارتباط التشريعات الحكومية بالوعي المجتمعي وعلاقتها بالجدوى الاقتصادية، يمكن التطرُّق للأمثلة الثلاثة التالية:
- المثال الأول: للحد من استنزاف الموارد المائية وتقنين التكاليف الباهظة لتوفير المياه المحلاة، تفرض البلديات وحدات معالجة مياه الصرف الصحي (الرمادية) على المنازل عند إنشائها، والتي تُعالج وتعيد تدوير ما لا يقل عن 50% من المياه للاستخدامات المنزلية؛ إن هذا التشريع من شأنه منح الجدوى للاستثمار في محطات معالجة المياه المنزلية وما يلتحق بها من قطع غيار ومركبات وخدمات. كما أن هذا التشريع من شأنه أيضًا أن يُرسِّخ مبادئ الاستدامة في استهلاك المياه.
- المثال الثاني: تُشكِّل النُّفايات المنزلية هاجسًا وعبئًا على البلديات المختلفة من حيث كونها مشكلة بيئية ذات أبعاد صحية واجتماعية واقتصادية، وبحسب التقديرات في هذا المجال، فإن 60% من مكونات النفايات المنزلية هي من مخلفات عضوية (أي مخلفات الأطعمة)، في حين أن الـ 40% الأخرى هي للمواد المصنعة والقابلة للتدوير كالبلاستيك والورق والمعادن وحتى الزجاج، وهي أغلبها من مخلفات مواد التعبئة ونحوها. في الولايات المتحدة الأمريكية كما في عدد من الدول الأوروبية، تفرض البلديات على الأهالي عند بناء المنازل تركيب أجهزة (فرم) مخلفات الأغذية تُركَّب في مغاسل المطابخ، وترتبط بنظام الصرف الصحي للتصريف الآمن لهذه المخلفات العضوية؛ مما يُقلِّل من حجم المشكلة المتعلقة بجَمْع ومعالجة النفايات المنزلية، ويتيح الإفادة القصوى من النفايات المتبقية القابلة للتدوير، وبجدوى اقتصادية أكبر. حيث إنَّ مخلفات الأغذية من شأنها عند اختلاطها بالنفايات الأخرى أن تُتلف أغلبها، أو تستدعي مزيدًا من الجهد والتكلفة للاستفادة منها.
- المثال الثالث: فرض الحكومة لضريبة إنتاج رمزية على المصانع التي تنتج العبوات البلاستيكية أو حتى المعدنية تُحمَّل على سعر المنتج كضريبة مضافة، يتم منح قيمة هذه الضريبة المضافة (بآلية معينة) للمستهلك حال تخلُّصه من العبوة عبر وسائل التخلص الآمن للمواد القابلة للتدوير. وهذا النموذج من شأنه أن يمنح حافزًا ودافعًا ذاتيًّا لدى أفراد المجتمع للتخلُّص السليم من المخلفات، كما يتيح للمستثمرين في تدوير النفايات فرصة الحصول على أكبر قدر من الخامات النظيفة بأقل الأسعار.
ومن الأمثلة الثلاثة السابقة، يتضح دور التشريعات الحكومية في تعزيز ممارسات الاستدامة في المجتمع، وتأثير ذلك على خلق فرص أكثر تنوعًا وجدوى للمستثمرين.
وأضاف م. فاضل القرني أن من المهم كذلك تشجيع السكان والأسر، وهم يُعتبرون في تصوُّره أكبر مصدر للنفايات العضوية.
ومن وجهة نظر د. مجيدة الناجم، فإن موضوع الاقتصاد الدائري موضوع مهمٌّ، وإنْ كانْ في ظاهره هو قضية اقتصادية ولكنها مرتبطة بالنواحي الاجتماعية خصوصًا ما يتعلق منها بالاستدامة؛ فالتحدي الأكبر الذي أدركه العالم هو أن الثورة الصناعية والتقدُّم الحاصل في القرنين الأخيرين أدَّى إلى استهلاك موارد الطبيعة، وأحدث خللًا في التوازن، مظاهره ألقت بظلالها على حياة الإنسان في كلِّ نواحيها؛ لذا فإن تدوير الصناعات والاستفادة من كل المخرجات وإعادة تصنيعها سواء كانت نفايات أو حتى منتجات مستهلكة، هو وسيلة للحفاظ على البيئة والاستدامة. وحاليًّا، أصبح هناك مفهوم الريادة الاجتماعية، والتي تعَدُّ مظهرًا من مظاهر الاستدامة والحفاظ على البيئة من خلال إنتاج منتجات تعتمد على منتجات سابقة؛ بهدف حل مشاكل اقتصادية لها تأثير على الجانب الاجتماعي، وعلى الوصول للاستدامة. وهناك مساعٍ حثيثة نحو إصدار إستراتيجية في هذا الشأن، يُتوقَّع أن تُساهم في حال اعتمادها في دعم الاقتصاد الدائري. والواقع أن شركات مثل التصنيع الوطنية وغيرها من شركات البتروكيماوية، هي شركات في الأصل معنيةٌ بالاقتصاد الدائري، وتحويل بقايا النفط لمنتجات يمكن الاستفادة منها، ويجب أن يكون هناك استمرار لهذه الدائرة في إعادة التصنيع حتى نصل لنقطة الصفر في النفايات، كما أن من المهم وجود إستراتيجية مرسومة لتبني هذا المفهوم في جميع الصناعات، وفي كل صور الإنتاج.
- السياسات والإجراءات الواجب اتخاذها لتنمية الاقتصاد الدائري:
أشارت أ. فائزة العجروش إلى أنه بلا شك، فإن الاقتصاد الدائري يعَدُّ هدفًا عالميًّا: إنسانيًّا، واقتصاديًّا، وبيئيًّا. وتتمثل مسؤولية المملكة في خلق منظومة واحدة وإستراتيجية متكاملة له؛ تسعى لإيجاد الحلول ووضع السياسات والآليات لإنشاء إطار مستدام للنمو من خلال اقتصاد دائري، والابتكار والتعاون لتطبيقه بالشكل الذي يُسهم في تحقيق الأهداف المأمولة التالية:
- الأهداف الاقتصادية:
- رَفْع الوعي بأهمية تطبيق مفهوم الاقتصاد الدائري في جميع القطاعات الصناعية، وتوسيع دائرة نطاقه لتعظيم المنفعة الكلية على الاقتصاد الوطني، وتحقيق أهداف رؤية 2030 الخاصة بالتنمية المستدامة.
- تحسين استغلال الطاقات الإنتاجية المتاحة بما يتواءم مع أهداف التنمية المستدامة. مع الحرص في الوقت ذاته على زيادة الإنتاج، والتميُّز في المنتجات.
- تخفيض الفاقد والضائع باستخدامه في تصنيع منتجات أخرى.
- استغلال الميزة النسبية التي تتمتع بها أي منطقة من مناطق المملكة، بإقامة الصناعات التي تعمل على تطبيق الاقتصاد الدائري في جميع مراحلها.
- رفع نسبة السعودة، بالعمل على تأهيل الشباب لدخول سوق العمل في هذا المجال، ورَفْع نسبة مشاركة المرأة العاملة فيه.
- توفير فرص واعدة للمستثمرين، وجذبهم من داخل المملكة وخارجها للاستثمار في هذا المجال.
- الأهداف البيئية:
- تسليط المزيد من الضوء على الرؤية التي تطرحها المملكة في كيفية تخفيض الكربون في الطبيعة، والمعروفة بـ “الاقتصاد الكربوني مكتمل الدائرة”، وتقديمها إلى قمة قادة مجموعة العشرين في اجتماعها القادم على أرض المملكة، بعد أن حظيت هذه الرؤية بالإشادة والترحيب من جانب كثير من الدول والمنظمات.
- التأكيد على أن المبادرات السعودية في مجالات حماية البيئة والمحافظة على الموارد الطبيعية وحماية حقوق الأجيال القادمة في هذه الموارد والثروات، مبادرات جديرة بالاهتمام والدعم لتحويلها إلى سياسات وإجراءات عملية تنقذ الإنسانية جمعاء من دمار مُحقَّق ما لم يستوعب الجميع ذلك.
- الأهداف المجتمعية:
- الارتقاء بتدريب وتأهيل المجتمع بشكل عام، وفئة الشباب بشكل خاص على تطبيق مفهوم الاقتصاد الدائري في جميع مشاريعهم التجارية والصناعية المستقبلية، وفي أمورهم الحياتية اليومية.
- بناء قدرات بشرية وطنية متميزة متمكنة من المهارات العملية والتطبيقية للاقتصاد الدائري التي يتطلبها السوق السعودي.
- الأهداف التقنية:
- تشجيع الابتكار والمبتكرين في هذا المجال.
- الحرص على استخدام التقنيات الجديدة الصديقة للبيئة، وحل مشكلات توفيرها ودمجها في الحزمة التقنية بالمناطق الصناعية.
- الأهداف السلوكية:
- تنمية القيم المجتمعية التي تتعلق بترشيد الاستهلاك، وإعادة التدوير، وحسن استغلال الموارد المتاحة.
- تعميق الإحساس بأهداف التنمية المستدامة لدى جميع فئات المجتمع.
- رفع الوعي بأهمية تطبيق مفهوم الاقتصاد الدائري لدى جميع العاملين في جميع القطاعات ذات العلاقة.
- نَشْر ثقافة الجودة والمعرفة والتميُّز في الأداء وتطبيق فلسفتها وأدواتها وآليات تنفيذها عند تطبيق مفهوم الاقتصاد الدائري في الصناعة ووحداتها المختلفة؛ من أجل تحسين البيئة التدريبية والتثقيفية.
وأكَّد د. خالد الرديعان على ضرورة نَشْر الوعي الاجتماعي بفكرة “الاقتصاد الدائري” وجدواه على المستوى الوطني، والفرص التي يخلقها، وكمية الوفر المالي الذي سنجنيه من ورائه. ومن المهم جدًّا إحداث تغيير نوعي في السلوك الاجتماعي الذي يتعلق بالاستهلاك؛ وذلك للحد من الأضرار الناجمة عن بعض أنماطه، وفي الوقت نفسه تعظيم فوائد الاقتصاد الدائري وترويج هذا المفهوم لخلق الاستدامة المطلوبة ولوقف الهدر. وقد يكون من المفيد إيجاد جهة حكومية معنية بالاقتصاد الدائري، تُخطِّط له بشكل جيد ومدروس، وتُبيِّن الفرص المتاحة فيه وذلك بالتنسيق مع جهات حكومية أخرى.
وذكر أ. جمال ملائكة أن هناك أمرًا يدعو للاستغراب بالرغم من أن كلفته ليست عالية، وهو عدم قيام البلديات بفرض وضع سلات مهملات للأنواع المختلفة للنُّفايات، مثل البلاستيك والورق والألمونيوم والمخلفات الأخرى، وذلك في المدارس والجامعات والأسواق ومراكز التسوُّق والشركات والمطارات… إلخ. كما يمكن تحفيز المواطنين بفرز هذه المخلفات في بيوتهم، وهو ما يساعد في تشجيع شركات إعادة التدوير في جمعها، وهو كما يبدو أصعب أمر في سلسلة التوريد. وأوضح م. خالد العثمان أن الفرز وسيلة وليس هدفًا؛ فهناك دولٌ في العالم بدأت تتراجع عن تطبيق الفرز أو التقليل من درجات الفرز، فأحد أعباء الفرز مثلاً هي مُعضلة النقل؛ لذلك هناك تقنيات للمعالجة لا تتطلب الفرز، أو أنها تُمارس الفرز في موقع المعالجة.
أما د. وفاء طيبة فأشارت إلى أنه في الواقع وحتى عهد قريب، وقد يكون إلى الآن، كان تعطُّل أي جهاز كهربائي مهما كان حجمه لبعض الأسر يعني نهاية حياته بدون محاولة إصلاحه، علاوةً على تدويره. نحن مجتمعٌ سلوكه استهلاكي للأسف، مَنْ منَّا يُصلح أجهزة الخلط blenders أو الطحن أو التسخين للخبز toaster؟ لكن الحقيقة أن المجتمع مُطالَب بما لم يتم العمل عليه من قِبل المسؤولين، الفرد والمجتمع مسؤولان لكن الحلقة ناقصة، وهذه العملية لها عدة أبعاد:
- الفرد وسلوكه.
- التوعية.
- توفُّر الحاويات والأدوات الضرورية مما يساعد على عملية التدوير.
- توفُّر المصنع أو الجهة التي سيرى المواطن من خلالها نتيجة سلوكه الحضاري.
- توافر القوانين التي تُحيط بالمنظومة كاملة.
بينما يرى م. خالد العثمان أنه وقبل القوانين، فإننا بحاجة إلى الوعي والفهم والتبني؛ فالاقتصاد الدائري مبدأٌ أصيل يُوجِّه كلَّ منظومة التنمية، ويجب أن تترسخ القناعة به من قمة الهرم.
ومن جديد، تساءلت د. عائشة الأحمدي: كيف لنا أن نُفعِّل القيمَ التشاركية بين كافة قطاعات الدولة الاقتصادية والخدمية لخدمة الاقتصاد الدائري؟ وكيف يمكن لأرامكو خصيصًا من خلال امتلاكها لميزات تنافسية أن تتحول من شركة تعتمد على استنضاب المورد، إلى شركة مُولِّدة للموارد؟ وهل هناك مؤسسات، على نفس الثقل الاقتصادي من أرامكو تتكامل مع الجهود التي تقوم بها في بناء هذا الاقتصاد؟
وفي هذا الإطار، أبدى م. خالد العثمان بعضَ التحفُّظ على سياسة الاقتصاد الدائري في قطاع النفط بأرامكو، وأشار إلى أن تحفُّظه نابع من أن هذه السياسة مبتورة عن كامل المنظومة، ولا يمكن تحقيق الحد الأقصى من الإفادة من قيمة عوادم صناعة النفط إلا بنقلها إلى صناعات وقطاعات أخرى؛ لذلك فمن المهم توسيع نطاق دائرية الاقتصاد لتعظيم الفائدة والقيمة والجدوى على المستوى الكلي.
وأشار م. إبراهيم ناظر إلى أن هذا الفكر الذي يرتكز عليه الاقتصاد الدائري بأرامكو وسابك وشركة التعدين يُطبِّق كثيرًا من مبادئ الاقتصاد الدائري، لكنه ليس ضمن الإطار الشامل الذي يربط بينها في شكل تكاملي وتكافلي وبموجب خطة موحدة، والترابط في سلاسل التوريد في الاقتصاد الدائري ليس مسؤولية شركة أو منظمة واحدة ولكنه مسؤولية جميع stakeholders in the supply chain industries.
وتساءلت أ. هيلة المكيرش: ما جدوى استثمار مباني المدارس والجامعات واستغلال بعض المنشآت كالملاعب كأندية للأحياء وأماكن لعرض المنتجات المحلية للأسر، وهل هذا يعَدُّ ضمن الاقتصاد الدائري إذا اعتبرنا هذا النوع من الاستغلال للمباني نوعًا من خفض تكلفتها وتقليل الهدر المالي؟ واتفق م. خالد العثمان مع هذه الفكرة، وأضاف أن إعادة توظيف واستخدام المباني هو بالتأكيد أحد عناصر الاقتصاد الدائري. وذكرت أ. منى أبو سليمان أنها ترى مناسبة الفكرة المشار إليها، وأضافت إليها الحاجة إلى استثمار المدارس والجامعات كذلك كمراكز لتعليم وتدريب الكبار، واستخدام الصالات الرياضية لإقامة بعض الفعاليات. وأضافت د. وفاء طيبة أيضًا إمكانية إعادة استخدام المباني القديمة والأثرية من باب التدوير ومن باب المحافظة عليها، مثل بعض الجامعات في الخارج والتي هي قصور قديمة، ومثل مبنى الإدارة في جامعة الفيصل في الرياض.
أما د. خالد بن دهيش فأوضح أن من ضمن مشروع الملك عبد الله لتطوير التعليم، إنشاء صالات متعددة الأغراض في جميع المدارس وفق خطة للمدارس القائمة، وبالطبع المدارس الجديدة. وهذه الصالات يتم تجهيزها بما يلزم للتثقيف والترفيه والأنشطة الرياضية، على أن تُستغل بعد نهاية دوام المدارس لأبناء وبنات الحي (حسب نوع المدرسة)، بحيث تُدار كمركز للحي، ويمكن تشغيلها من قِبل مستثمر من القطاع الخاص، وهذا هو الوضع الحالي.
ومن جانبها تساءلت د. وفاء طيبة: كيف يتم ضمان أن المنتج الجديد ليس ضارًّا بالإنسان؟ وهل هناك معايير لذلك؟ وأضافت أنه من المؤكد أن النفايات الطبية من أكثر النفايات لفتًا لأنظار المسؤولين في طريقة التخلص منها، وما نقصده يتعلق بنفايات البلاستيك والنفايات الإلكترونية والكهربائية والانبعاثات التي قد تصدر عن تحويلها أو أي مواد مضرة، فهل كل هذا له قوانين مدروسة وثابتة لمَن أراد تصنيع أو جَمْع هذه المخلفات، هل لها معايير متعارف عليها بحيث لا يصيب الشخص الذي يجمعها أو يصنِّعها أو يستخدمها كمنتج جديد بعد ذلك أيُّ ضرر؟ وهل لدينا قوانين ومتابعة من جهة معينة حتى لا يحدث أيُّ ضرر؟
وفي هذا السياق، عقَّب م. إبراهيم ناظر بأن كل دولة تُطبِّق شروط السلامة ومواصفات جودة المنتجات حسب أنظمتها. وبالإشارة إلى ما ذكره المهندس “جیرون فنسنت”، الرئيس التنفيذي للشركة السعودية الاستثمارية لإعادة التدوير بتاريخ 23/1/2020م، فإن إجمالي النفايات المتولدة في المملكة حاليًّا يبلغ نحو 130 مليون طن سنويًّا. كما أوضح حسبما نقلت صحيفة “الاقتصادية”، أن معظم النفايات البلدية الصلبة ينتهي في المكبِّ مع إعادة تدوير أقل من 1% منها، في حين أن نحو 22 % من النُّفايات الصناعية الخطرة يُعاد تدويرها حاليًّا. وفي يوم الخميس 24 أكتوبر 2019، أعلنت الشركة السعودية الاستثمارية لإعادة التدوير، إحدى الشركات المملوكة لصندوق الاستثمارات العامة، عزمها إعادة تدوير 85 في المئة من النفايات الصناعية والخطرة في المملكة، ونحو 15 في المئة من مدافن النفايات المتبقية بحلول عام 2035م، وذلك عقب استكمالها جميع إجراءات الاستحواذ النهائي على كامل أسهم شركة إدارة الخدمات البيئية العالمية (GEMS) المملوكة بالكامل لصندوق جدوى للفرص الاستثمارية في إدارة النفايات الصناعية، والمُدار من قِبل شركة جدوى للاستثمار. والمعلومات المتوفرة أنه يوجد حاليًّا حوالي ٢٨٨ مردمًا بالمملكة، يُكلِّف المردم الواحد حسب حجمه من ٣٠ -٧٠ مليون ريال، ويكلف تشغليها والإشراف عليها ثلاثة مليارات ونصف المليار سنويًّا. وفي البلدان التي تُطبِّق مبادئ الاقتصاد الدائري تجني أضعاف هذه المبالغ، ففي دراسة أجرتها مكنزي عن مستقبل تطبيق الاقتصاد الدائري بتمويل من “مؤسسة إلين ماك آرثر” في دول الاتحاد الأوروبي بحلول عام ٢٠٣٠، سيوفر مبلغ 1.8 تريليون دولار وحوالي ٨٠٠،٠٠٠ فرصة عمل مقارنة، وللأسف شؤون الثروة المعدنية بوزارة الصناعة غير متحمسة للاقتصاد الدائري.
وبدوره يرى أ. جمال ملائكة أنه ربما لهذا يتحتم إنشاء هيئة مستقلة وذات صلاحيات لتُشرف على إستراتيجية متكاملة و”مُلزمة” لجميع القطاعات. ومن السهل جعلها هيئة لها موارد من هذه الصناعة، بحيث لا تُكلِّف الدولة. كما أن التعامل مع النفايات بصفة عامة ومع العادات الاستهلاكية واحترام القوانين من الأمور التي تحتاج إلى توعية النشء منذ الصغر، وفي المراحل ما قبل المرحلة الابتدائية وخلالها، ومن المهم أن تعمل وزارة التعليم على تضمين المناهج هذه الأمور ليتم “غرسها” في عقلية وضمير أطفالنا؛ ليشبوا ولديهم وعي بها.
وفي اعتقاد د. وفاء طيبة، فإنه لو تحوَّل تعليمنا من التلقين إلى أن يكون منهج حياة، سنتمكن من تعليم الأطفال أشياء مثل هذه! كما أنه يجب أن يرى الطفل القدوةَ في والده ووالدته ومُعلِّمه ومديره حتى يُطبِّق ذلك.
وفي تصوُّر م. فاضل القرني، فإنه لو قارنا بين الوضع الحالي والوضع منذ ما يقارب ٤٠ سنة مضت؛ فإننا نجد أن ثمة فارقًا شاسعًا بين الإدراك والوعي البيئي والمحافظة على النظافة؛ لأسباب عدة منها: المستوى التعليمي، والانفتاح الإعلامي، وثقافة السياحية. والمقصود هنا أن المجتمع في وضع أفضل من السابق فيما يتعلق بتفهُّم وتقبُّل تغيير السلوك والعادات، والعمل على رفع جودة الحياة، ولكن ذلك يبقى بحاجة كذلك إلى قانون وأنظمة. قانون يُكسبها الشرعية ويُخرجها من دائرة المبادرة والخُلق الذاتي إلى النظام العام. والأنظمة التي تُبيِّن الإجراءات المطلوب من المجتمع القيام بها (مسؤولين، سكان، مقيمين، زائرين…) للتقيُّد بها. وكمثال: تصنيف النفايات، وتهيئة أماكنها، ومعايير ونوع حاوياتها. إن الحاويات وأكياس النفايات التي تختلف وفق دورها، والمحددة بالألوان وفق ما يجب أن تحتويه ستكون حافزًا لضبط السلوك والتعاون. والاعتقاد أن هذا يُشكِّل على مستوى المجتمع الخطوةَ الأولى لتبني هذا المفهوم الكبير (إعادة التدوير). وستكون عبارة عن محاضرات ودروس – على سبيل المثال – عن مخاطر البلاستيك والأدوات الطبية والمواد السامة والقابلة للحريق. ومن ناحية أخرى، فإن تطوير الاقتصاد وإدارة الموارد ليست موضة عالمية وتقليدًا للدول المتقدمة؛ بل هي حاجة ماسَّة لاستمرار الأجيال القادمة.
وفي تصوُّر أ. جمال ملائكة، فإن ما تقدَّم يؤكِّد على وجوب توحيد الجهود تحت مظلة واحدة، وضمن إستراتيجية موحدة.
وفي سياق متصل، ذكر م. إبراهيم ناظر أنه مما يُبشِّر بالخير أن نائب وزير الصناعة المهندس أسامة الزامل من المتحمسين لموضوع الاقتصاد الدائري، وقد تمَّ عقد اجتماع بين هيئة مدن وفريق البيئة من اللجنة الوطنية للتعدين، وتمَّ رفع تصوُّر أو خارطة طريق تتضمن أن تقوم الهيئة من خلال مدنها الصناعية التي تشمل ٣٦٠٠ مصنع بالتشجيع على تطبيق مبادئ الاقتصاد الدائري، والموضوع ينطوي دون شك على تحدٍ كبير من حيث تطبيق الاقتصاد الرقمي وشبكات التواصل للحصول على البيانات وتبادلها بين المصانع والخدمات داخليًّا وعالميًّا، حيث يتطلب بنيةً تقنية متقدِّمة، مثل (I.O.T) ومدنًا وخدماتٍ ذكيةً، كما يحتاج إلى الالتزام بالمعايير البيئية والتشريعات والشفافية والإفصاح البيئي؛ وباختصار، فإن التطبيق يحتاج إلى وقت غير قصير، لكن ما يدعو إلى التفاؤل هو أن لدينا شركات ومبادرات ومصانع – بالذات في مجال الإسمنت – طبَّقت خُطط التنمية المستدامة، والتي تشمل كثيرًا من مبادئ الاقتصاد؛ بعضها برغبة ذاتية، وبعضها إجبارًا؛ لأن الدول الأوروبية تمنع المنتجات التي لا تُفصح عن البصمة البيئية وبصمة الكربون. وتجدر الإشارة إلى أنه عندما بدأت الدول الأوروبية تفرض ضريبة الكربون قبل عدة سنوات على الوقود الأحفوري غضبت دول الخليج واعتبرته مُوجَّهًا ضد صادراتها من الطاقة، ولكن اليوم تسعى جاهدةً لتطبيق الاقتصاد الدائري على CO2، وبالذات الإمارات والسعودية. والإمارات تحديدًا لديها مشروع تسريع الاقتصاد الدائري 360، الذي تهدف منه إلى توظيف الثورة الصناعية الرابعة في الإنتاج الصناعي، وكذلك تشارك في مبادرة الإشراف البيئي على الألمنيوم، وهو برنامج عالمي يهدف إلى تعزيز قيم الاستدامة والشفافية في صناعة الألمنيوم. وشركة سابك تقوم في مدينة رأس الخير بإعادة تدوير١٢٠,٠٠٠ طن من مخلفات صناعة الألمنيوم، وشركة معادن لها مبادرات في الاستفادة من المياه المعالجة في الصناعة في مدينة رأس الخير وفي منجم الدويحي ٤٥٠ كم شرق الطائف حيث سحبت المياه المعالجة من الطائف للمنجم. وتجدر الإشارة إلى أن أهداف الأمم المتحدة SDGs17 مُلزِمة للدول وللشركات، ويجب تنفيذها بنهاية 2030؛ مما يستدعي تطبيق مبادئ الاقتصاد الدائري.
واقترح د. حمد البريثن أن يُوضع لكل مجموعة من المواد المستخدمة من قِبل العامة طريقة تدوير مع رفع مستوى الوعي الاجتماعي بذلك؛ أما بالنسبة للمواد المحصورة بجهات معينة مثل المواد المشعة والمواد البيولوجية، فالأمثل التشديد على الممارسين باتباع ما هو معهود دوليًّا مع تحفيز القطاع الخاص بالدخول في هذا المجال. وبالإمكان كذلك الاستفادة من الصرف الصحي بشكل متكامل يعود على المملكة بالنفع في مجالات كثيرة؛ وعلى سبيل المثال، بالإمكان الاستفادة من المياه المعالجة من الدرجة الرابعة لاستزراع منطقة الربع الخالي حيث تنتقل المياه طبيعيًّا بحكم الفرق في الارتفاع من مدينة الرياض للربع الخالي، وتتم الاستفادة من المعالجة الطبيعية لإنتاج غاز الميثان واستخدامه لإنتاج الكهرباء (يوجد شركة بكاليفورنيا تقوم بذلك عن طريق خلايا الوقود)، بالإضافة للاستزراع والذي يمكن تحويله لمنتجات مهمة للسعودية، مثل الأعلاف. ولدى المملكة تميُّز إقليمي في مجال إنتاج الحليب ومشتقاته وكذلك الدواجن؛ لذلك يلزم دخول تلك الشركات في هذه المبادرة للحصول على حاجتها من الأعلاف محليًّا بأن تتبنى طُرقًا لإعادة استخدامها في أسمدة عضوية للنباتات المنزلية، كما أن هناك أجهزةً تحوِّل مخلفات الأطعمة إلى أسمدة.
وبدورها أوضحت د. عفاف الأنسي أن وزارة الشؤون البلدية والقروية لديها عدد من الأنظمة الخاصة بالنفايات البلدية، لكن الاعتقاد أنه ليس من ضمنها النفايات الصناعية للمصانع الكبرى خارج المدن؛ لذلك فإن تأسيس مركز وطني للنفايات هو أمر مطلوب، ليكونَ المظلة للأنظمة المتعلقة بالنفايات بجميع أنواعها.
وذكر م. خالد العثمان أنه ليس هناك أي بنية تشريعية سابقًا لقطاع النفايات، ولا حتى جهة مسؤولة عنه؛ لذلك يأتي تأسيس المركز الوطني للنفايات كخطوة مهمة لتوحيد جهة الاختصاص للإشراف على هذا القطاع وتنظيمه. وهناك أنظمة متناثرة لكنها لا تُشكِّل بنيةً تشريعية، وأكثر الأنظمة ذات العلاقة فعاليةً في هذا المجال هي تلك المتعلقة بالنفايات الطبية؛ لكنَّ بقية الأنظمة وإنْ وُجِدت فلا تجد أي تفعيل حقيقي في غياب السلطة المركزية المسؤولة عن تنظيم القطاع (Regulator). وفي الحقيقة، وزارة البلديات مسؤولة عن كل الخلل الحاصل في هذا القطاع، والتحوُّل الجيد حاليًّا هو نَقْل هذا الاختصاص إلى وزارة البيئة والزراعة والمياه، وتحديدًا إلى المركز الوطني للنفايات.
وفي ضوء هذا، تعتقد د. وفاء طيبة أن وجود التشريع المحلي سوف يُنظِّم عمليًّا سلوك الفرد، وعملية التدوير ومعاييرها المرتبطة بصحة الإنسان، وعملية التصنيع والتوعية، وغير ذلك. وعليه، فمن الضروري العمل على إصدار نظام للنفايات أو نظام الاقتصاد الدائري، والذي من خلاله يمكن أن يكون تحفيزًا لبرامج توعية الإنسان بأهميته وآليات التعامل مع النفايات على مستوى الأسرة والعمل والدولة، والإسراع في توفير المعدات التي نحتاجها للتعامل بهذه الطريقة الحضارية الجديدة. وبالطبع، يمكن الاستفادة من التجارب التي سبقتنا في هذا المجال. والسؤال هنا: هل لا يوجد نظام يُناقش حاليًّا على مستوى مجلس الشورى أو مجلس الوزراء ما دام هذا هدفًا من أهداف الرؤية؟
ومن ناحيته، أوضح م. خالد العثمان أن وزارة البيئة والزراعة والمياه أصدرت المسودة النهائية لمشروع نظام إدارة النفايات في المملكة المتوقع صدوره الفترة القادمة، وهذا النظام يُمثِّل اللبنةَ التنظيمية الأولى في بناء هذا القطاع الحيوي المهم، ومن الضروري أن تتلوه منظومة متكاملة من الإجراءات والبرامج والتطبيقات لتكريس مفهوم الاقتصاد الدائري على كل المستويات.
ومن جديد، تساءلت د. وفاء طيبة: هل الأنسب أن يكون النظام شاملاً للاقتصاد الدائري أم يكفي التعامل مع النفايات؟ وبدوره ذكر م. خالد العثمان أن من أهمِّ النقاط في النظام تكريس وترسيخ مسؤولية منتج النفايات عنها؛ فهذا يُؤسِّس لفرض الرسوم بمختلف صورها على مُنتِجي النفايات، وهي أداة مهمة لتقليل الهدر الاستهلاكي المُنتِج للنفايات والمُحفِّز للجَمْع والاستخلاص والتدوير بتوفير مصادر تمويل لها. وذكرت د. وفاء طيبة أنه في اليابان وباعتبارها دولة صناعية، فإن المصنع المُنتِج للجهاز الكهربائي مثلاً مسؤول عن تدويره.
وتطرَّق م. خالد العثمان للقضية من زاوية أخرى، وهي منافسة الدولة للقطاع الخاص من خلال الشركات الحكومية؛ فالمشهد الراهن تتسيد فيه الساحة شركة الاستثمار في تدوير النفايات التابعة لصندوق الاستثمارات العامة “سرك”، وهي تمارس نمطًا احتكاريًّا ملحوظًا في السيطرة على قطاع إدارة النفايات البلدية تحديدًا، حيث وقَّعت الشركة مذكرات تفاهم لتولي معالجة النفايات البلدية في الرياض والشرقية، ويجري إعداد مذكرات مماثلة في جدة ومكة المكرمة والمدينة المنورة، ويبدو أنها تسعى للسيطرة على كل قطاع النفايات البلدية في المملكة، وهو بالطبع حلٌّ مُريح للأمانات والبلديات بأن تُلقي المسؤولية على الشركة وتتخلص من عبء المسؤولية واللوم، وهذا الواقع خطيرٌ جدًّا، ومن الضروري التنبيه له ومعالجته معالجةً جذرية.
ومن وجهة نظر م. فاضل القرني، فإن الارتقاء بجودة الحياة والمساهمة في جَعْل العالم أكثر مناسبةً للعيش فيه في أمن وسلامة، هي مسؤولية ثابتة وتطلُّع حقيقي ينظر إليه قادة هذا الوطن وشعبه، استنادًا إلى القيم الإسلامية والإنسانية. والمملكة عضو في هيئات ومنتديات عالمية تُعنى بالبيئة وسلامتها. والاقتصاد الدائري بمفهومه العام هو غاية يسعى للوصول إليه. ويبدو من خلال الاطلاع على ما تقدَّم من مداخلات وكذلك ما جاء في الورقة الرئيسة والتعقيبين عليها أنَّ الجميع معنيون بتحقيقه (السلطات بمستوياتها الثلاثة، إضافةً للسلطة الرابعة التي تراقب وتكشف الإيجابي والسلبي، بجانب مؤسسات القطاع العام والخاص، والمشاريع الصغيرة، والسكان والأسر، والوافدين…)؛ وخاصة أن أي تغيير في السلوك بحاجة إلى بيئة تهيئة، والاعتقاد أن البيئة حاليًّا وقادمًا هي في أقوى وضع منذ تأسيس المملكة من حيث المستوى العلمي والوعي الديني، والانفتاح بشتى صوره، ورسوخ وإصرار القيادة على التحول الوطني من خلال مجتمع حيوي. ولتفعيل وتطبيق الاقتصاد الدائري، يمكن تصنيفه وفق خطوط رئيسة وحسب الأولويات من حيث التنفيذ والميزانيات المطلوبة. وبالطبع، تقييم أماكن ومكامن الهدر عبر السنين الماضية، حتى ولو تكون البداية اقتصادًا دائريًّا. ولعل الأولويات الملحة في هذا الصدد:
- الهدر في الطعام (ويشمل الماء)؛ لأنهما يمسان أهم عنصرين بعد الهواء، فلا بد أن يُوضع حد لتشذيب التقاليد في الحفلات والمناسبات (القبيلة، الشخصية، الفئوية، وأيضًا الحكومية).
- معالجة نُفايات الأطعمة، وهي يبدو أنها الأسهل لإعادة التدوير في صور مختلفة. فقط هي بحاجة للتحفيز والوعي.
- البحث والتطوير في (الوقود النظيف)، وهو ببساطة يوازي وربما يفوق استهلاكَ الطعام والماء.
ويرى د. خالد بن دهيش أن طُرق الزراعة العضوية هي الحل الأمثل لسلامة الإنسان عند تناوله المحاصيل الزراعية العضوية، ويُعَدُّ السماد العضوي المُنتَج من النُّفايات الصلبة العضوية القابلة للتحلل الحيوي هو العنصر الأساس لهذه المحاصيل الزراعية العضوية، حيث إنَّ النُّفايات تُنتج بكميات كبيرة من مخلفات منزلية وزراعية وحيوانية في جميع أرجاء المعمورة؛ فمن الملاحظ تزايد نمو هذه النفايات الصلبة عالميًّا نتيجة لزيادة النمو السكاني والتحضر المدني والنمو الاقتصادي، بالإضافة إلى تغيُّر سلوك الإنتاج والاستهلاك. ومن واقع ما يُنشر من إحصاءات تُقدَّر كمية النفايات الصلبة ما بين (3.1) و(1.9) مليار طن سنويًّا، ويُتوقَّع أن تصل إلى (2.2) مليار طن سنويًّا تقريبًا بحلول عام 2050م. ولكون التخلُّص من النفايات الصلبة يُعَدُّ معضلة كبيرة تواجه معظم دول العالم، خاصة ما يُشكِّله هذا الفاقد من النفايات الغذائية من خسائر اقتصادية كبيرة بسبب الهدر الهائل الذي يصل إلى نصف المحاصيل الغذائية قبل وصولها إلى المستهلكين بسبب إهمالها أو إصابتها بالآفات والأمراض. ولكون إدارة النفايات الصلبة العضوية (القابلة للتحلل الحيوي) عنصرًا أساسيًّا في التنمية الزراعية المستدامة، وجزءًا مهمًّا في النظام المتكامل لإدارة النفايات من خلال الحد منها عن طريق إعادة التدوير. وهذه النفايات ليست من النفايات التي تعمل عليها شركات تدوير النفايات حاليًّا. لذلك، لا بد من دعم إنتاج هذا النوع من السماد لنتمكّن من توفير المحاصيل الغذائية العضوية وتوفيرها بأسعار تقارب غير العضوية.
وأوضح م. خالد العثمان أن تحويل النفايات العضوية إلى مُحسِّنات تربة (compost) عملية سهلة ولها تقنيات متعددة، وستكون ضمن خُطط المعالجة القادمة، لكن يجب أن تُحسن الشركات اختيار التقنيات الأكثر كفاءةً والأقل تكلفةً.
وأضاف م. فاضل القرني أن هناك حلولًا على مختلف المستويات: المنزلية، والأحياء، والكيانات في القطاعين الحكومي والخاص. وأكد م. إبراهيم ناظر أنه بالفعل، فإن التقنيات والمعالجات قد تكون كثيرةً ومتعددةً حسب المطلوب للاستخدام، فمثلًا الـ CO2 ممكن استخدامه كمادة في المشروبات الغازية أو كسماد أو كوقود حسب المعالجة وماذا نريد منه، لكن الأهم تطبيق مفهوم الاستثمار في المخلفات والنفايات وتحويلها إلى فرص اقتصادية ومنافع بيئية واجتماعية؛ أما التقنيات والمعالجات فهي وسائل متغيرة ومتعددة، وتخضع للطلب والإمكانيات المتوفرة.
وتساءل أ. جمال ملائكة: ما المقترحات العملية لإعادة تشكيل وتحديث الثقافة السعودية فيما يخص الاقتصاد الدائري؟ وفي هذا الشأن، أوضحت د. نوف الغامدي أن إعادة تشكيل وتحديث الثقافة السعودية أمرٌ ضروريٌّ، فـ”الاقتصاد الدائري” الذي تطرحه السعودية، يقوم على أربع إستراتيجيات، هي: الخفض، وإعادة الاستخدام، والتدوير، والتخلص. وتحقيق الاقتصاد الدائري يحتاج إلى اتخاذ إجراءات متضافرة على عدة جبهات، منها:
- البحث والابتكار في المجالات الاجتماعية، والتكنولوجية، والتجارية والصناعية.
- تقييم للآثار البيئية، وتكاليف المنتجات.
- أن يصبح مفهوم تصميم المنتجات لإعادة استخدامها مجددًا قاعدة تمكِّننا من الاستفادة من نظُم الوحدات والمكونات القياسية مثلًا.
- في الاقتصاد الصناعي نحتاج لدمج المفاهيم الثلاثة: الاقتصاد الخطي، والاقتصاد الدائري، واقتصاد الأداء.
- لا يوجد اقتصاد دائري مئة في المئة؛ إلا أن ذلك لا يعني أن الاقتصاد يجب أن يستمر خطيًّا! نموذج الاقتصاد الخطي الحالي تحوَّل في كثير من العناصر إلى الدائرية، بما في ذلك التقليل من استخراج المواد الخام، وزيادة إعادة التدوير، وتغيير نماذج الأعمال من الإنتاج إلى الخدمة وغيرها من وسائل التمويل.
- يسهم تدوير المادة والطاقة من خلال الاقتصاد في تقليل الطلب على المدخلات “الجديدة”.
- العمل على خطة وطنية “قد يكون برنامجًا وطنيًّا” لزيادة كفاءة استخدام الموارد في الصناعة، والنظر إلى الاقتصاد الدائري باعتباره فرعًا جديدًا من فروع علم الاقتصاد، ورديفًا للاقتصاد البيئي، وداعمًا لاستدامة البيئة، والتعامل مع مخرجاته كما نتعامل مع الاقتصاد الصناعي أو الاقتصاد العقاري وغيره.
- التوصيات:
- إصدار إعلان رسمي من (وزارة الاقتصاد والتخطيط) بتبني الاقتصاد الدائري كأحد مبادئ التنمية الأساسية، واعتماده كأحد محاور رؤية السعودية ٢٠٣٠.
- تشكيل مجلس أعلى أو لجنة عليا للإشراف على تطبيق مبادئ الاقتصاد الدائري في مجمل برامج الرؤية ومبادراتها المختلفة.
- إعداد إستراتيجية وطنية للاقتصاد الدائري، وإناطة الإشراف على تطبيقها بالمجلس الأعلى المشار إليه سابقًا، على أن تعمل الإستراتيجية على تحقيق الأهداف التالية:
- تطبيق حوافز للمساعدة في تحويل سوق المنتجات والخدمات إلى اقتصاد دائري.
- تطوير معايير الاقتصاد الدائري المحلي للصناعات، وتشجيع المصانع على التقدُّم للتسجيل من أجل بناء البيانات للأنشطة الصناعية.
- تضمين مناهج التعليم برامج تتعلق بمبادئ الاقتصاد الدائري ضمن مراحل التعليم مع مراعاة المرحلة العمرية.
- تعزيز توعية المجتمع بممارسات الاستدامة البيئية، على أن يشمل ذلك: القطاع الحكومي، ومؤسسات المجتمع المدني، والقطاع الخاص، وقد يكون تشجيع التجار على تبني المنتجات التي تدعم الاقتصاد الدائري وتسويقها مفيدًا في خلق الطلب على منتجات وخدمات الاستدامة البيئية.
- تطبيق الجائزة السنوية للصناعات التي يُمكنها تحقيق 80٪ من النفايات والمنتجات الثانوية في الاقتصاد الدائري (مثل، جائزة العصر الأخضر).
- تطوير برنامج جرد النفايات الصناعية لبناء قاعدة بيانات لفرص العمل الجديد.
- بناء شراكة مع الشركات الرائدة في الاقتصاد الدائري الموجودة في المدن الصناعية في هيئة مدن، لرعاية المصانع المحلية في سلاسل القيمة الدائرية.
- إستراتيجية الشبكات الذكية للمملكة العربية السعودية.
- التشريعات والسياسات والإجراءات الحكومية الممكنة للتنفيذ.
- الوعي الكافي باتجاهات السوق وتعديلاته المتعلقة بتوقعات الطلب على المدى الطويل، والتحسينات المستمرة في التعدين وإنتاج المعادن.
- المزيد من البيانات حول تدفقات المواد باستخدام البصمة الرقمية (إنترنت الأشياء).
- تعزيز البنية التحتية لإعادة التدوير والاستعادة.
- المزيد من الشراكات في سلاسل التوريد الدائري.
- فهم أفضل للتطبيقات والتصميم المستدام والتصميم الدائري للمنتجات.
- الالتزام بالمعيار البيئي (مثل، البصمة البيئية والإفصاح البيئي).
- يجب على الحكومة تطوير مفاتيح التمكين؛ بما في ذلك تطوير السياسات والتنظيم، والتمكين المالي، والبنية التحتية والأراضي الصناعية، والمناطق الاقتصادية الخاصة (SEZ)، والبحث والتطوير والابتكار (RDI).
- تسريع إصدار وتفعيل النظام الشامل لإدارة النفايات ولوائحه التنفيذية مع تطوير وتضمين الأنظمة الحالية ذات العلاقة ببعض فئات النفايات، ويشرف على تطبيق النظام الجهة العليا المذكورة في (2).
- تسريع تفعيل المركز الوطني لإدارة النفايات وتدعيمه بالموارد والقدرات البشرية والفنية اللازمة.
- تأسيس صندوق للاقتصاد الدائري لتمويل مبادرات البحث والتطوير والابتكار والتحول، المتعلقة بتفعيل مبادئ الاقتصاد الدائري في المشاريع المختلفة.
القضية الرابعة
كورونا (كوفيد – 19).. فيروس صغير يُربك عالمًا كبيرًا
(22/3/2020م)
- الورقة الرئيسة: أ. فائزة بنت أحمد العجروش
- إدارة الحوار: د. خالد بن دهيش
- الملخص التنفيذي:
ذكرت أ. فائزة بنت أحمد العجروش في الورقة الرئيسة أنه لم يعُد هناك حديث لدى الرأي العام سوى فيروس كورونا (كوفيد-19) رغم أن ضحاياه لا تزال بالآلاف، مقارنةً بضحايا الأوبئة والحروب سابقًا التي بلغت الملايين، لكنها لم تنتشر في العالم كله وتقطع سُبل السفر والتواصل بين البلدان والقارات. ومن المؤكد أن مرحلة العزل بين دول العالم، وداخل كل دولة، تُنبِئ عن ولادة مرحلة جديدة، ستُغيِّر مسارات حياتنا، وتجعلنا أمام اختبار حقيقي للتكيُّف مع هذه التطورات المتسارعة والبحث عن سُبل النجاح بكل قوة.
ومن هذا المنطلق، فإن ملتقى أسبار تناول بالنقاش أبعادَ الأزمة العالمية التي تسبَّب فيها ذلك الفيروس الوبائي، والذي جعَل العالم بأسره في سباق مع الزمن لمُكافحته، والذي أعطى درسًا لجميع الدول بأن الحل الوحيد للتغلب عليه لن يكون إلا باجتماع العقول واتحاد القوى وتكامل الجهات بدلًا من العمل الفردي الذي لن ينجح مهما كان مداه. مع التأكيد على أن الحكومة السعودية لا تزال تُواجه بكل قوة فيروس كورونا (كوفيد-19) حتى لا ينتشر، وما زالت – ولله الحمد – مُسيطرةً على هذا الوباء، والحالات التي تمَّ الإعلان عنها وكذلك الحالات التي تمَّ الشفاء منها، ما زالت بسيطة، ويمكن السيطرة عليها في حالة التعاون من قِبل الجميع. لكن هناك مُؤشرات مُقلقة في حالة عدم ضبط انتشاره، وندعو الله – عز وجل – ألا نصلَ إليها، وهذا لن يتأتى إلا إذا تفاعَل المواطن والمقيم مع الإرشادات والاحترازات، وقامتْ كل جهة حكومية ورسمية بدورها كما يجب، وباتباع التعليمات الصريحة بعدم الاختلاط، والتقليل من الخروج إلا في الحالات الضرورية، وعدم المشاركة في نَشْر الإشاعات الكاذبة؛ لكي نكونَ جنودًا نقاوم انتشار هذا الفيروس.
وتضمنت المداخلات حول القضية المحاور التالية:
- حقائق علمية حول فيروس كورونا.
- القطاع الصحي ومواجهة تحديات كورونا.
- الوضع الاقتصادي والمالي أثناء وبعد جائحة كورونا.
- العمل عن بُعد في ظل جائحة كورونا.
- البعد البيئي في جائحة كورونا.
- منظمة التعاون الإسلامي ومواجهة جائحة كورونا.
- البُعد الإعلامي في مواجهة جائحة كورونا.
ومن أبرز التوصيات التي انتهى إليها المتحاورون في ملتقى أسبار حول القضية، ما يلي:
- فيما يتعلق بالجانب الصحي:
- وَضْع خطة طوارئ مستقبلية لمواجهة الكوارث الصحية من قِبل المركز الوطني لإدارة الأزمات والكوارث بوزارة الصحة، على أن تكون خطة وطنية يشارك فيها جميع الجهات الحكومية، ويتم دعمها بالموارد البشرية والمادية اللازمة؛ وتشمل رفع الطاقة الاستيعابية للقطاع الصحي في السنوات القادمة من ناحية رَفْع عدد الأطباء والممارسين الصحيين، الأسرَّة في المستشفيات، أسرَّة العناية المركزة، المعدات، أدوات التعقيم، والصناعات الضرورية. ووضع الميزانية الكافية لذلك.
- فيما يتعلق بالجانب الاجتماعي والنفسي:
- افتتاح عيادة نفسية خاصة بالممارسين الصحيين يعمل فيها أخصائيون نفسيون لمساعدة الطاقم الطبي على الحديث عن مخاوفهم والصعوبات التي يواجهونها، ومساعدتهم على التغلب على الضغوط.
- فيما يتعلق بالجانب الإعلامي:
- توجيه الرسائل بمختلف الطرق والمستويات المعرفية للوصول إلى كل طبقات وعينات المجتمع؛ صغارهم وكبارهم، المتعلم والجاهل.
- فيما يتعلق بالجانب التعليمي:
- مبادرة وزارة التعليم نحو تأدية جزء من مناشط التعليم عن بُعد بجانب الأداء على الواقع كل سنة دراسية وليس في حالات الأزمات فحسب؛ ضمانًا لنجاح وتفوق التطبيق الافتراضي للتعليم.
- الورقة الرئيسة: أ. فائزة بنت أحمد العجروش:
“خليك في البيت” شعارٌ عالمي مرفوع، ونداء تطلقه معظم الدول حاليًّا، بعدما غزا فيروسُ كورونا – الذي يُطلق عليه علميًّاCOVID- 19 – العالمَ كلَّه، وأُعلِن رسميًّا أنه أصبح جائحة عالمية؛ ولم يعُد هناك حديث لدى الرأي العام سوى هذا الفيروس رغم أن ضحاياه لا تزال بالآلاف، مقارنةً بضحايا الأوبئة والحروب سابقًا التي بلغت الملايين، لكنها لم تنتشر في العالم كله، وتقطع سبل السفر والتواصل بين البلدان والقارات. ومن المؤكد أن مرحلة العزل بين دول العالم، وداخل كل دولة، تُنبِئ عن ولادة مرحلة جديدة، ستُغيِّر مسارات حياتنا، وتجعلنا أمام اختبار حقيقي للتكيُّف مع هذه التطورات المتسارعة والبحث عن سُبل النجاح بكل قوة.
وعليه، فإن هذه القضية تتناول ذلك الفيروس الوبائي الذي جعَل العالم بأسره في سباق مع الزمن لمُكافحته، والذي أعطى درسًا لجميع الدول بأن الحل الوحيد للتغلب عليه لن يكون إلا باجتماع العقول واتحاد القوى وتكامل الجهات بدلاً من العمل الفردي الذي لن ينجح مهما كان مداه.
وهنا لن ندخل في تاريخ نشأته أو ما هي أعراضه أو كم عدد المصابين به عالميًّا، كونها معلومات باتت متوفرةً للجميع؛ وإنما سنفتح بابَ النقاش أمام جميع أعضاء ملتقى أسبار ليُدلي كلٌّ بدلوه في مجاله وتخصصه، فنحن بالفعل أمام اختبار فعلي لا تهاونَ فيه، وعلينا أن نتعامل مع كل التعليمات الاحترازية التي أعلنتها الدولة بكل جدية، وأن نُواجهه بعقول تتحدى وتقاوم تفشي هذا الوباءـ ربما لا تزال بلادنا – ولله الحمد – من أقلِّ الدول إصابةً بالفيروس وفق المُعلَن رسميًّا حتى الآن. وكلنا فخر بهذه الإجراءات والتعليمات القوية والسريعة وغير المسبوقة من حكومتنا، والتي تدل على نظرة ثاقبة وحُسن إدارة للأزمة؛ مما أثارَ إعجاب العالم بأسره. وسنتناول الوضعَ الاستثنائي الذي تمرُّ به بلادنا من عدة محاور، أهمها:
الوضع الحالي:
يواصل فيروس كورونا (كوفيد-19) المستجد تمدُّده واستفحاله في دول كثيرة في العالم، متخذًا منحنى وبائيًّا، للشهر الخامس على التوالي، ولم يكن أحدٌ يتصور العواقب الرهيبة وغير المتوقعة لهذا الوباء؛ من عدوى سريعة الانتشار، أرقام متزايدة للضحايا، عزل مدن كاملة، وَقْف أداء الفروض والشعائر الدينية الجماعية، تعليق خطوط جوية وبرية وسكك حديدية، إغلاق مدارس وجامعات، تقليص كُبريات الشركات لأعمالها، ملايين الوظائف في خطر، وخسائر مالية بالمليارات. وللأمانة، فإن هذا الفيروس كان عادلًا في توزيع الهلع والرعب، سواء هلع القلوب والخوف من الموت، والشعور العام بقُرب نهاية العالم من جهة! وهلع من نوع آخر، حيث تُسابق المختبرات العالمية الزمن بحثًا عن (سفينة نوح)، والسعي لاكتشاف لقاح وقائي في أسرع وقت ممكن؛ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه والحفاظ على الحياة في كوكبنا.. راجين أن يكون علماؤنا وباحثونا ومفكرِّونا- المعول عليهم في مجالات البحث والابتكار- ممَّن يتسابقون للظفر باكتشاف لقاح للفيروس ومزيد من الاختراعات المفيدة للبشرية، والقيام بالدراسات الواجب عملها لاستشراف عالم ما بعد كورونا.
ونُشير هنا بكل فخر إلى ما صرَّح به كلٌّ من د. أحمد العسكر المدير التنفيذي لمركز الملك عبد الله العالمي للأبحاث الطبية عن توصل (كيمارك) إلى تحديد تسلسل المادة الوراثية لفيروس كورونا (كوفيد-19) الجديد في المملكة، والعالم السعودي د. نايف الحربي عن مساهمة المملكة العربية السعودية في آخر الأبحاث الطبية حول الفيروس.
القمة الاستثنائية الافتراضية:
ما هي المقترحات والتوصيات برأيكم لإنجاح القمة – الاستثنائية الافتراضية – التي تعتزم المملكة عقدها بهدف بحث ودعم وتنسيق وتوحيد الجهود لمواجهة انتشار وباء كورونا (كوفيد-19)، الذي يتطلب استجابة دولية لمواجهة آثار الوباء على المستويات الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية، وتخفيف آثاره على اقتصاد وشعوب العالم؟
الجانب الصحي:
فيما لا يزال العالم ينتظر الأسوأ من هذا الفيروس، وخاصة بعد وصوله لبلدان كانت تُعدُّ نفسها بمنأى عن هذا الوباء، ولجوء دول عدة إلى إغلاق حدودها البرية والجوية والبحرية، ووضع بعض الدول الكبرى – كألمانيا وفرنسا – قيودًا على صادرات المعدات والمستلزمات الطبية، ضاربةً بالتنسيق مع منظمة الصحة العالمية عرض الحائط. وهذا ما دعا الجمارك السعودية أيضًا لإعلان إيقاف تصدير الأدوية والمستحضرات الصيدلانية والأجهزة الطبية توفيرًا لأقصى درجات الحماية لصحة وسلامة المواطنين والمقيمين، والتي تأتي في المرتبة الأولى لأولويات العمل الحكومي حاليًّا، وتأكيد الحكومة الاستمرار في توفير كافة الاعتمادات الإضافية المطلوبة لقطاع الصحة، وتوفير الخدمات الصحية اللازمة للوقاية والعلاج ومنع الانتشار. لكن يحقُّ لنا هنا أن نتساءل عن مدى قدرة القطاع الصحي في المملكة على الصمود والمواجهة بعد كل الجهود الكبيرة المبذولة والمبالغ الطائلة المصروفة (صرح وزير المالية أنه تمَّ تخصيص مبالغ إضافية لقطاع الصحة، وتخصيص ميزانية طوارئ لتغطية أي تكاليف قد تطرأ أثناء تطورات هذا الحدث العالمي)، وبعد أن أصبح على كل دولة أن تدبر أمورها بنفسها، والعمل على تكثيف الجهود لاحتواء انتشار الفيروس والاعتماد على إمكانياتها في إدارة شؤونها لمواجهة الأزمة في وقت لم تصل بعدُ التجارب السريرية إلى لقاحات فعالة للقضاء عليه. وهذه المخاوف ازدادت بشكل كبير بعد ما رأيناه من تفشي لكورونا (كوفيد-19) (وكأنه يسابق أيَّ تدابير وقائية وعلاجية غير قوية) في بعض الدول الصناعية، وأدَّى إلى استنفار القطاع الصحي فيها، وعجزه عن مواجهة تزايد الحالات المصابة وعدد الوفيات في إيطاليا، وإسبانيا، وألمانيا، والولايات المتحدة الأمريكية…!
الجانب الاقتصادي:
بعد أن تفشى فيروس كورونا في الأسابيع الماضية، وتحوَّل إلى “بُعبع” يُرعب الاقتصاد العالمي، ويصيبه بخسائر تُقدَّر بعشرات التريليونات من الدولارات في كل الدول وفي كل القطاعات. وطالما أن لا أحد يعرف متى ستعود الحياة إلى طبيعتها؛ يجب أن نجعل كورونا من أكبر الدروس وأهمها التي تمر على بلادنا خاصة وعلى العالم عامة، وآنَ الأوان لنُعيد ترتيبَ أوضاعنا الاقتصادية، وتوجيه البوصلة نحو الاكتفاء الذاتي أكثر من الاعتماد على الخارج.. وتشير التوقعات بأن الاقتصاد العالمي سيتلقى ضربة مؤقتةـ وكل أملنا أن يتعافى من أثرها بأسرع وقت. فحسب منظمة التجارة والتنمية، سوف يتكبد الاقتصاد العالمي ما قد يفوق ال 2 تريليون دولار هذا العام، ويمكن أن يفقد العمال في جميع أنحاء العالم ما يصل مجموعه إلى 3,4 تريليون دولار من دخلهم خلال العام الحالي، وكل ما نخشاه محليًّا أن نعجز عن التأقلم مع هذه الأزمة المستجدة التي أضافت إلى عذاباتنا قلق المصير، خاصة وأن الأمل في الحصول على حزمات إنقاذية بات ضئيلًا في المدى المنظور ما لم يكن هناك تنسيق دولي للإنقاذ الاقتصادي. قامت الحكومة مؤخرًا بتقديم مبادرات وتدابير عاجلة ب 120 مليار ريال لمساعدة الاقتصاد الوطني والقطاع الخاص الأكثر تأثرًا من تبعات هذا الوباء. ولتجنُّب المزيد من المفاجآت الاقتصادية غير السارة؛ يفرض علينا الوضع طرح عدة تساؤلات:
- هل من المتوقع نتيجة للتأثيرات المستمرة من تفشي فيروس كورونا إطلاق برنامج للتحفيز المالي؟
- ما الاحتياجات التي ننشدها في الجانب الاقتصادي بعد ظهور كورونا (كوفيد-19)، وكنا نغفل أو نتغافل عن أهميتها؟
- ما الدراسات التي يستلزم القيام بها، لتبيان الاحتياجات الفعلية وذات الأولوية التي تحتاجها دولتنا؛ لنكون قادرين على توفيرها، بل وتصديرها للخارج في حالة اكتفائنا في الأسواق المحلية؟
- كيف لنا أن نستفيد من هذه الأزمة، لتجنُّب الركود الاقتصادي المحتمل وقوعه، ونضمن الخروج بأقل خسائر ممكنة لتمضي الدولة قُدمًا في تحقيق مساراتها التنموية والاقتصادية الجديدة؟
- ما الركائز والإجراءات المهمة اللازمة لإنجاح تجربة (العمل عن بُعد) حتى انفراج الأزمة؟
- ما هي توصياتنا للحكومة لمساعدة الشركات والأشخاص الأكثر تضررًا من فيروس كورونا (كوفيد-19)؟
ثنائية النفط وكورونا (كوفيد-19):
من المتوقع أن تكون البلدان المُصدِّرة للنفط هي أكثر البلدان تأثُّرًا بكورونا، وأوضحت وكالة التصنيف الائتماني (فيتش) أن الآثار الاقتصادية لصدمة النفط ربما تدوم لفترة أطول من جائحة كورونا، ومع ذلك من المحتمل أن تستمر بعض الآثار الاقتصادية للفيروس، وخصوصًا في قطاعات مثل السفر والسياحة. وفي هذا السياق، يجدر بنا الإشارة بما قامت به المملكة من إجراءات اقتصادية ومالية سريعة تحوطية لمواجهة تباطؤ متزايد متوقع للاقتصاد الوطني نتيجة تبعات فيروس كورونا من جهة، وتدهور أسعار النفط من جهة أخرى. حيث ذكر وزير المالية أن مستوى العجز في ميزانية المملكة بكل تأكيد سيتأثر بانخفاض أسعار البترول، وأوضح أن لديها الاستعدادات الكافية لمواجهة هذا الانخفاض، ولديها المرونة الكافية لخفض النفقات غير الضرورية من جهة، ومن الجهة الأخرى القدرة على الاقتراض، وتوقَّع بأن لا يتجاوز عجز الميزانية بنهاية 2020م 7-9%، وهذا هو المستهدف حاليًّا، والسؤال هنا: ما هي الإجراءات الإضافية المتوقع أن تتخذها الحكومة فيما لو استمر هبوط سعر النفط؟
وهل سيتوقَّف مُستقبل سعر برميل النفط على مدى تطبيق الإجراءات الوقائية والاحترازية التي أعلنتها الحكومة لإدارة ملف كورونا؟ أم أن هناك تداعيات أخرى مرتبطة بنتائج الحرب الاقتصادية الحالية القائمة بين المملكة ودول الأوبك من جهة وبين روسيا من جهة أخرى، على خلفية رفض روسيا خفض الإنتاج لإبقاء أسعار النفط عند مستويات أعلى؟
الجانب المالي:
اقتصاديًّا، حمَّل كورونا أسواق المال والشركات حول العالم خسائر كبرى. وأولى ضحايا كورونا على هذا الصعيد كان قطاع السياحة، وما لحقه من خسائر كبيرة على شركات الطيران في كل أنحاء العالم.. والوضع الحالي يدفع باتجاه أن الأزمة الحالية بالفعل لا تختلف عن الأزمة المالية العالمية التي ضربت العالم خلال العقد الماضي.
ومن أهم الظواهر المُصَاحبة لأية أزمة، بغض النظر عن طبيعتها أو مدى انتشارها، ما يلي:
- الهلع الذي يجتاح أصحاب الأموال من أجل تحويلها إلى الخارج.. وبلا شك تلك الهجرة المفاجئة للأموال تُلحِق أسوأ الضرر بالاقتصاد الوطني.
- معاناة البنوك من حالة الذعر وتهافت الناس لسحب قسم من ودائعهم (كاش) بدلًا من استعمال بطاقات الائتمان؛ الأمر الذي جعل (ساما) ترفع الحد الأقصى للشراء عبر بطاقات مدى إلى 300 ريال دون الحاجة لإدخال رقم سري كنوع من الإجراءات الاحترازية لمنع نقل العدوى عبر الأوراق المالية.
- كثرة النصائح من الغير بضرورة الاحتفاظ بالأموال والتريث في أي قرارات استثمارية قادمة، وتعزيز الثقافة الادخارية سواء على مستوى الأفراد أو الشركات.
- الوضع النفسي والخوف والهلع لدى عددٍ كبيرٍ من الأشخاص والمستثمرين، الذي انعكس بشكل كبير على أداء السوق العالمية والمحلية، والتي تأثرت بشكل مباشر بانتشار فيروس كورونا وتداعياته على الاقتصاد العالمي.
كيف السبيل لطمأنة المواطنين والمقيمين بمتانة الاقتصاد السعودي وقوته؟ وما هي الطرق الواجب اتباعها لمَنْع هجرة الأموال السعودية، واستقرار السوق السعودية حال تفاقم الوضع أكثر؟ وما هي التطمينات اللازمة لدفع التجار لمزاولة مشاريعهم المتوقفة مرة أخرى؟
ولا بد هنا من الإشادة بإعلان (ساما) الداعم للقطاع الخاص ببرنامج قيمته 50 مليار ريال، واتخاذ عدد من التدابير التي تشمل: برنامج تأجيل الدفعات، برنامج تمويل الإقراض، برنامج دعم ضمانات التمويل؛ لمواجهة الآثار المالية والاقتصادية الناتجة من فيروس كورونا للمنشآت الصغيرة والمتوسطة التي يعمل 66% منها في قطاعات التجزئة والضيافة والصناعة غير النفطية؛ كونها الأكثر عُرضةً لاضطرابات التدفقات النقدية والتمويل التشغيلي.
الجانب التعليمي:
تجاوبًا مع قرارات الحكومة بتعليق العمل التعليمي والأكاديمي في جميع المؤسسات التعليمية، للحد من انتشار كورونا؛ تم التوجُّه إلى خيار التعليم عن بُعد.. وفي ظل هذا الخيار التعليمي الطارئ الذي لجأت له الدولة، ونحن لم نتهيأ له بشكل جيد سواء من جانب الطلاب أو الكادر التعليمي أو من المؤسسات التعليمية نفسها.. ماذا يلزمنا لتطوير البنية التحتية الرقمية وخوادم الإنترنت التي تدعم العملية التعليمية الإلكترونية بشكل خاص، وكافة القطاعات الأخرى بشكل عام؟
الجانب الإعلامي:
إنَّ الدور الإعلامي مهمٌّ وكبير، ومن الضروري استخدامه الاستخدام الأمثل لتجاوز هذا الوضع، خاصة بعدما تعاملت العديد من وسائل الإعلام مع فيروس كورونا (كوفيد-19) بأساليب مختلفة؛ فمنها مَا سعى لإثبات أنَّه مؤامرة، ومنها ما أخَذ المسار الصحيح بمتابعته خبريًّا بكل حياد وموضوعية، والبقية منها قامت بوضع خطة إعلامية للتعامل معه، ترتكز على الدقة في نَشْر المعلومة.. وترتكز تساؤلاتي في هذا الجانب على ما يلي:
- ما آليات الدور الإعلامي الإيجابي المصاحب، المطلوبة لإدارة فيروس كورونا؟
- ما وسائل التوجيه والنشر الإعلامي الصحيح الداعم لتوجهات الدولة وخططها؟
- ما سبل توجيه المواطنين، وحثهم للاستجابة الفورية للتعليمات بطريقة تُسهم بشكل كبير في الوقاية منه؟
الوعي الاجتماعي والأثر النفسي:
العزلة الإجبارية التي فرضها وباء كورونا علينا للوقاية من انتشار عدواه السريعة، لا تُشبه ألبتة العزلة الاختيارية التي نختارها بأنفسنا أحيانًا؛ إما لأسباب نفسية أو روحية أو تأملية.. ولكونها عُزلة مفروضةً فرضًا وانعزالًا عن الآخرين الذين يُمثِّلون خطرًا مُحدقًا علينا، فهي عزلة شائكة ومشوبة بحال من الخوف والحذر والترقُّب المصحوب بتساؤلات عدة: إلى متى سنبقى هكذا؟ وما الذي ينتظرنا؟ ومتى سنستعيد حريتنا؟
وكما يُحذِّر خبراء الاقتصاد من أن انتشار الأخبار الكاذبة والإشاعات المغرضة عبر وسائل التواصل الاجتماعي يؤديان إلى سرعة انتشار الخوف عبر العالم، والهلع من المرض؛ الأمر الذي قد يتسبب في أكبر الانعكاسات السلبية الاقتصادية. وأضيفُ أيضًا، أنه كما نحتاج في هذه الأزمة للأطباء والممارسين الصحيين، فإننا أيضًا وبسبب الإجراءات الاحترازية والحجر المنزلي وغيره؛ فإننا نحتاج للأخصائيين الاجتماعيين والنفسيين وعلماء الاجتماع لينشروا الوعي ويُقدِّموا النصيحةَ والمشورة للناس؛ فالخوف من المرض قد يساعد في ظهور بعض الأمراض النفسية في المجتمع، وخاصة بين الأطفال وكبار السن، والعُزلة قد تتسبب في معاناتنا من بعض الآثار الاجتماعية التي بدأت تظهر في تصرفاتنا، وأولها القلق والشعور بالضيق جراء القيود الاجتماعية؛ تباعد اجتماعي والتصاق أسري زائدـ
وحتى يهدأ جنون كورونا (كوفيد-19).. تقع المسؤولية على الفرد والجماعة والمؤسسات، طوال المدة الزمنية الطويلة المتوقعة لانحساره؛ الأمر الذي يتطلب تنفيذ وقاية قصوى للنجاة. وهنا، تتضح أن إشكاليتنا تكمُن في الوعي الاجتماعي، والتأكيد على أنَّه لا مجالَ للاستهتار أو التهاون في هذه المرحلة لمَنْع انتشار الفيروس، فكلما تقيَّدنا بالإرشادات، والتزمنا بالاحترازات، ستعبر دولتنا بمواطنيها ومقيميها إلى بر الأمان، وبأقل الخسائر إن شاء الله. وهذا ما أكَّده الملك سلمان – حفظه الله – في كلمته الضافية والمطمئنة حيث استمرار المملكة في مواصلة كافة الإجراءات والجهود الحمائية، وتشديده على ضرورة التعاون والتكاتف مع كافة أجهزة الدولة وخصوصًا الصحية حتى تنقضي هذه الفترة الصعبة.
وفي هذا الإطار، هذه بعض من تساؤلاتي:
- كيف نساعد المواطنين على تقبُّل العزلة وجَعْلهم يستفيدون من الجوانب الإيجابية لها؟
- كيف نمنع تهافت المواطنين لشراء السلع الضرورية وتخزينها بكميات كبيرة دون مبرر حقيقي؛ مما يضرُّ بالعرض والطلب في السوق المحلي؟
- كيف نتعاون ونجعل الخوف من عدوى انتشار الفيروس خوفًا صحيًّا، وليس مرضيًّا يصل لحد الوسوسة واتخاذ خطوات غير متزنة؟
- ما هو الدور المرجوّ من الأخصائيين الاجتماعيين والنفسيين وعلماء الاجتماع لنَشْر الوعي وتقديم النصيحة والمشورة للناس؟
- ما هي الآلية الفُضلَى للترغيب في عملية التطوع الفردي والمؤسساتي متى دعت الحاجة لذلك؟
حماية المستهلك:
في ظل هذه الظروف الطارئة والمستجدة، من الطبيعي أن يساورنا القلق تجاه مدى استعداد وزارة التجارة وجاهزية كوادرها للتعامل معها ضمن الجهود الرامية لحماية المستهلك؛ حيث متابعة الأسواق على مدار الساعة للتحقُّق من توفُّر السلع الأساسية، والتزام المزودين بعدم التلاعب أو المغالاة بالأسعار، وضمان وجود كميات كبيرة للسلع الطبية التي يكثر عليها الطلب للوقاية من فيروس كورونا كالمعقمات الطبية والكمامات في الصيدليات. وآخرها، بعد كمين مُحكم، تمكَّنت من ضبط عمالة وافدة بحوزتها 140 ألف كمامة لبيعها في السوق السوداء من خلال المواقع الإلكترونية.
ختامًا: يجب أن نتذكر أن حكومتنا لا تزال تُواجِه بكل قوة هذا الفيروس حتى لا ينتشر، وما زالت – ولله الحمد – مُسيطرةً على هذا الوباء، والحالات التي تمَّ الإعلان عنها وكذلك الحالات التي تمَّ الشفاء منها ما زالت بسيطة، ويمكن السيطرة عليها في حالة التعاون من قِبل الجميع. لكن هناك مُؤشرات مُقلقة في حالة عدم ضبط انتشاره، وندعو الله – عز وجل – ألا نصل إليها، وهذا لن يتأتى إلا إذا تفاعَل المواطن والمقيم مع الإرشادات والاحترازات، وقامتْ كلُّ جهة حكومية ورسمية بدورها كما يجب، وباتباع التعليمات الصريحة بعدم الاختلاط، والتقليل من الخروج إلا في الحالات الضرورية، وعدم المشاركة في نَشْر الإشاعات الكاذبة؛ لكي نكون جنودًا نقاوم انتشار هذا الفيروس.
- المداخلات حول القضية:
- حقائق علمية حول فيروس كورونا (كوفيد-19):
أشارت د. عبير برهمين إلى بعض الحقائق العلمية حول فيروس كورونا (كوفيد-19) التي يتأسس عليها تشخيص الوضع الراهن:
- الفيروسات هي كائنات مجهرية لا تُرى إلا بالمجاهر الإلكترونية عند قوة تكبير عالية.
- الفيروسات عمومًا هي كائنات متطفلة إجبارية تحتاج أن تتواجد داخل خلايا وأنسجة حية، سواء كانت خلايا إنسان أو حيوان أو نبات أو كائن آخر كالبكتيريا.
- الفيروسات تحتوي على نوع حمض نووي واحدRNA or DNA إضافةً إلى أغلفة بروتينية لحمايتها، وهي ذاتها التي تسحق جهاز المناعة لدى الإنسان لتكوين أجسام مضادة متخصِّصة.
- الفيروسات لها قدرة إمراضية للكائنات الحية؛ لأنها تحقن المادة الوراثية في الخلايا، وتتضاعف وتنقسم إلى آلاف الجزيئات الجديدة باستغلال تضاعف وانقسام الخلايا الحية التي تعيش فيها.
- الفيروسات عمومًا تعتبر Self-limited تعيش دورتها، ويتم القضاء عليها بواسطة الجهاز المناعي لجسم الإنسان دونما الحاجة إلى استخدام أدوية للعلاج ما عدا بعض الأنواع الفيروسية.
- كل فيروس له عائل متخصص يصيبه من الكائنات الحية الأخرى.
- تحدث الطفرات الجينية التلقائية في الفيروسات والبكتيريا طبيعيًّا بحوالي ١٠ آلاف ضعف حدوثها في خلايا جسم الإنسان.
- عائلة كورونا (كوفيد-19) الفيروسية عائلة كبيرة تضمُّ عددًا كبيرًا من الأنواع الفيروسية، أهمها: فيروس سارس، وفيروس ميرس، وفيروس كورونا (كوفيد-19) المستجد الحالي.
- فيروسات كورونا كبيرة الحجم، يتراوح جينومها كمتوسط بعدد ٤٠٠٠- ٥٠٠٠ قاعدة نيتروجينية؛ ولذلك فهو ينتقل عبر الرذاذ وليس عبر الهواء.
وتساءل د. رياض نجم: مَن يتم تشخيصه بفحص إيجابي للكورونا (كوفيد-19) ولم تظهر عليه أي أعراض، هل سيُصاب بها عاجلاً أم آجلاً؟ وهل سيستمر ناقلاً للمرض إلى أجل غير محدَّد؟ وما هي آلية الحجر الصحي لهؤلاء؟ وهل يجب أن يكونوا تحت الرقابة؟ وفي هذا الإطار، ذكرت د. مها المنيف أن نحو ٨٠٪ من المصابين بالفيروس إما ليس لديهم أي أعراض أو لديهم أعراض تنفسية بسيطة لا تحتاج إلى رعاية طبية، لكن الفيروس موجود في جهازهم التنفسي وينشرون المرض؛ فهم مصابون من غير أعراض؛ لأن جهازهم المناعي قد حارب الفيروس، وبالتالي تصبح لديهم مناعة ضده بعد ذلك؛ وهذا عادةً يحصل عند الأشخاص الأصحاء الذين ليس لديهم أي أمراض مزمنة وعمرهم أقل من ٦٠ سنة، أما بالنسبة إلى المخالطين لمصاب فيتم حجزهم مدة الحضانة وهي ما بين ٥-١٤ يومًا؛ لذلك يُوضعون في الحجر الصحي المدة القصوى وهي ١٤ يومًا، إلى أن تظهر عليهم الأعراض أو تحليلهم يُصبح إيجابيًّا، ويُحجزون إلى أن يكون لدينا تحليلان اثنان سلبيان بينهما على الأقل ٤٨ ساعة، ثم يخرجون من الحجر ويُحسبون كمتعافين. أما بخصوص التساؤل: هل يجب أن يكونوا تحت المراقبة؟ فالاعتقاد أن هذا ضروريٌّ إذا كانوا لا يحتاجون رعايةً صحية، ونتأكد من التزامهم بالحجر الصحي إلى أن يصبح تحليلهم سلبيًّا.
وتساءل د. حميد الشايجي: هل يمكن للمتعافي من كوفيد ١٩ أن يُصاب به مرة أخرى، أم تتكون لديه مناعة فلا يُصاب به؟ وفي اعتقاد د. مها المنيف، فإنه لا أحد يعرف هل المناعة وقتية أم أنها مدى الحياة.
وذكرت د. وفاء طيبة أن العامل المهم واللاعب الأول في المرض هو مناعة الإنسان، فكلما كانت أقوى قلَّت الأعراض، والتساؤل: هل يتعرض كبيرُ السن فوق الستين ومناعته قوية وصحته جيدة إلى احتمالية الإصابة بشكل أكبر من الأصغر سنًّا لأسباب أخرى غير المناعة؟ وبدورها ذكرت د. مها المنيف أن هناك عدة عوامل، فإذا كان كبير السن لديه أمراض مزمنة كالسكري تقل مناعته مقارنةً بكبير سن من غير سكري، وكذلك رئة مَن هم فوق الستين بصفة عامة بها بعض التليف مقارنة برئة شخص في العشرين، كما أن المدخنين تكون وظائف رئتهم متدنيةً، أيضًا فإن أَخْذ بعض الأدوية التي تُقلِّل المناعة قد تؤثر. وبالطبع، فإن العمر لوحده ليس سببًا للوفاة أو المضاعفات، فهناك أمور أخرى كثيرة.
وتطرَّق أ. فهد الأحمري إلى أن هناك جانبًا غائبًا فيما يخصُّ التصدي لانتشار فيروس كورونا، وهو العمالة المتكدِّسة في السكن؛ حيث يستأجر أحدهم شقةً بغُرفة واحدة أو اثنتين ويستقطب عددًا من العمال بمبلغ وقدره، ينطلقون صباحًا متفرقين في الأرجاء، ويجتمعون مساءً في غُرف تضيق بهم؛ فهذا الأمر خطيرٌ إلا إنه في وضع كورونا أشدُّ خطرًا.
وأوضحت د. عبير برهمين أن ثمة عدة أسباب تجعل فيروس كورونا (كوفيد-19) المستجد مشكلةً وبائية عالميةً، ومنها:
- قلة المعلومات المتوفِّرة عنه كونه فيروسًا متحورًا، عائله الرئيسي هو الخُفَّاش، وانتقل إلى الإنسان عبر وسيط (الثعبان)، وأثناء انتقاله تطوَّرت بعض أجزاء من حمضه النووي فأصبح الإنسان عائلًا له، وأصبح ينتقل من إنسان لآخر.
- يتابع هذا الفيروس تطوُّره في كلِّ مرة ينتقل فيها من شخص لآخر، وهذا يجعل انتشاره سريعًا جدًّا بين البشر.
- فكرة التلاعب ببعض الجينات عن طريق الهندسة الجينية في المختبرات هي فكرة قابلة للتصديق خاصةً مع النمط المتطوِّر، والفعل ورد الفعل الذي يُظهره البشر لدى إصابتهم به.
- في العالم الرأسمالي العالمي والجنوح لرغبة السيطرة على العالم اقتصاديًّا وسياسيًّا يجعل التسلُّح البيولوجي والحروب البيولوجية هي النمط المستقبلي لنوعية الحروب العالمية المقبلة.
- يُنصح باستخدام الكمامات من نوع N95 للمصابين؛ لضمان حجز الفيروس بعيدًا عن المخالطين من الفريق الطبي المُعالِج.
- يُنصَح بتنظيف الأسطح وغسل اليدين باستمرار؛ لضمان تقليل فُرص انتقال الفيروس.
- اتباع نظام غذائي متوازن وتغذية مُعزِّزة للمناعة الشخصية.
- القطاع الصحي ومواجهة تحديات كورونا (كوفيد-19):
- الوضع الحالي: ماذا يجب على القطاع الصحي عملُه لمواجهة جائحة كورونا؟
أشارت د. مها المنيف إلى أنه من المعروف أن كورونا سريع الانتشار من خلال الرذاذ، وأن شخصًا واحدًا ممكن أن يتسبب في نقل العدوى إلى 2-3 أشخاص، وهذه السرعة تؤدي إلى إصابة حالات كثيرة في وقت واحد؛ مما يؤدي إلى ضغط على القطاع الصحي، مع أن نسبة الحالات الشديدة (10-15%) أو الحرجة (5%) التي تحتاج إلى تنويم تُعتبر منخفضةً. تجدر الإشارة إلى أن نسبة أسرَّة المستشفيات في المملكة هي سرير لكل 445 شخصًا (إحصاءات الوزارة 1439)، وهذا يشمل أسرَّة وزارة الصحة والقطاعات الأخرى والقطاع الخاص. ولا توجد إحصائية حول عدد أسرَّة العناية المركزة (إيطاليا 37، وأمريكا 39 سريرًا لكل 10 آلاف مواطن). وبالتالي شِئنا أم أبينا، إذا انتشر الفيروس بين 60-70% (وهذا متوقع إذا تساهلنا في الاحترازات) بين الناس، واضطررنا إلى تنويم 10-15% في المستشفيات، فلن يستطيع أي قطاع صحي استيعاب هذه الحالات خاصة إذا قدمت الحالات للمستشفيات في مدة محدودة وقصيرة. لذلك، وضعت الدولة حلولًا لهذه المرحلة تتلخص في إستراتيجيتين لتخفيض المنحنى الوبائي، وهما:
- الإستراتيجية الأولى: توزيع الحالات على مدى عدة أشهر بدلاً من شهر واحد، وتقليل نسبة الانتشار قدر المستطاع بتطبيق الاحترازات التي اتخذتها الدولة، وتعتمد على (التباعد الاجتماعي، والحجر، وقفل المدن، ونظافة الأيدي والأسطح)؛ ولذلك فهذه الإستراتيجية تعتمد اعتمادًا كليًّا على مدى وعي والتزام الأشخاص بالاحترازات. لا نتوقع التزامًا طوعيًّا كاملًا من المواطنين والمقيمين؛ لأننا كمجتمع نلتزم بالعلاج بعد الإصابة ولكن لا نؤمن بأساليب الوقاية.
- الإستراتيجية الثانية: رفع الطاقة الاستيعابية للقطاع الصحي من ناحية رَفْع عدد الأطباء، الأسِرَّة في المستشفيات، أسِرَّة العناية المركزة، المعدات، أدوات التعقيم… إلخ. ويمكن عمل هذا بالطاقة الاستيعابية الحالية بوضع خطة طوارئ جاهزة للإطلاق فيما لو حدث ما حدث في إيطاليا. ومن أهم التوصيات لرَفْع الطاقة الاستيعابية للقطاع الصحي ما يلي:
- تدريب أطباء الباطنة والأطفال والتخصصات الأخرى ليعملوا في الإسعاف والعناية المركزة، وتجنيد أطباء وممرضي المناطق ليكونوا على استعداد للتحرُّك من منطقة لأخرى حسب الحاجة.
- السرعة في نقل طاقم التمريض من منطقة لأخرى حسب الحاجة، ورأينا ذلك في الصين.
- التأهُّب من جميع مستشفيات المملكة بما فيها القطاع الخاص لتستقبل الحالات.
- تحويل بعض الفنادق إلى مستشفيات تستوعب الحالات الأقل حدة، والذين يحتاجون حجرًا صحيًّا.
- التأكد من وجود معدات تعقيم وأجهزة تنفس تستوعب خطة الطوارئ.
- الحجر المؤقت على العاملين في القطاع الصحي ليكونوا قريبين من المنشأة وعدم اختلاطهم بأهلهم.
فالإستراتيجية الأولى تعتمد على الأفراد والمجتمع ككل، والثانية تعتمد على العاملين في القطاع الصحي، فهم جنود هذه الحرب.
- مستقبل كوفيد-19: المرحلة القادمة ما بعد المرحلة الحرجة، ومستقبل العالم بعد الجائحة:
أوضحت د. مها المنيف أن الاحترازات التي اتخذتها الدول لن تستمر لفترة طويلة، وسيرجع العالم إلى أسلوب الحياة العادية في الحركة والسفر والتجمعات والحفلات… إلخ، وسيبقى الفيروس معنا وسينتشر بين الناس 60-70%، بمعنى أن 60 – 70% سيكون لديهم مناعة أو مضادات حيوية بناها جسدهم تحميهم من الفيروس، وسيبقى كبار السن والمصابون بالأمراض المزمنة في مستوى الخطورة نفسه، لكن سنبتعد عن مرحلة الضغط على القطاع الصحي؛ فلن يكون هناك حالات كثيرة في وقت قصير. وستتحول الجائحة إلى وباء مستوطن، ومن الممكن أن يمرَّ الفيروس مثل الإنفلونزا بمواسم ينتشر فيها، ومواسم أخرى يضعف فيها.
إن ما حصل في الجائحة 2019-2020 إنما هو اختبار لكل دولة على الأمور الثلاثة التالية: 1- مدى جاهزية القطاع الصحي. 2- مستوى الحوكمة في الأجهزة الحكومية. 3- مدى وعي المواطنين والتماسك الاجتماعي. فإذا ضعف أحد هذه المحاور نتوقع استمرار الجائحة وحصول كارثة إنسانية، كما حصل في بعض الدول الأوروبية.
في المستقبل، سيكون التركيز على الجزء العلاجي والجزء الوقائي من المشكلة، مثله مثل أي مرض فيروسي آخر كالإنفلونزا، وهو ما يمكن توضيحه فيما يلي:
- بالنسبة للجزء العلاجي: فيتعلق بعلاج الحالات المصابة بالفيروس، والتي تكون حالتها حرجة، وتحتاج تنويمًا أو عنايةً مركزة، فهذه الحالات يمكن تجربة عدة أدوية معها، من أمثلة دواء الكلوروكوين المُستخدَم في حالات الملاريا، و(هناك دراسة صغيرة أثبتت فعاليته في تقليص مدة المرض). كما أن هناك مضادًّا حيويًّا آخر يُعطى مع الكلوروكوين اسمه زثروماكس، وهناك دواء ضد الفيروسات استُخدم في الصين (موجود بالصين)، وتم استخدام شبيه له في جائحة الإنفلونزا، ولا زلنا نستخدمه في المملكة وهو (تاميفلو). ولا ننسى أن دم المصابين المتعافين مليء بالمضادات الحيوية التي يمكن استخدامها لعلاج الحالات الحرجة فيما لو تمَّ التبرع بالدم من قِبل المتعافين. وقد قامت معظم المستشفيات الكبيرة بالمملكة بعمل قواعد إرشادية دوائية لعلاج الحالات، ووضعت عدة خيارات دوائية للعاملين بالعناية المركزة، ولدينا عددٌ لا بأس به من أطباء الأمراض المعدية لعلاج الحالات.
- بالنسبة للجزء الوقائي: العمل على لقاح هو الحل الأمثل للقضاء على هذا الفيروس. إن العمل على لقاح ضد كورونا (كوفيد-19) قد بدأ العمل به بعد الجائحة الأولى (سارس) في 2003، وبعد التحور الثاني (ميرس) الذي انتشر بالسعودية. إن التشابه الكبير بين هذه الفيروسات التي ترجع جميعها لفصيلة كورونا (كوفيد-19) ساعَد في نقل الأبحاث التي تمَّ العمل عليها في فيروس سارس إلى فيروس كوفيد-19. لكن الاعتقاد أن المراكز البحثية العالمية الكبرى الآنَ تتنافس بسرعة لإنتاج اللقاح بأسرع وقت، والتوقع هو ظهور لقاح في الشهور الستة القادمة، لكن الوقت وحده سوف يُخبرنا إذا كان هذا اللقاح فعّالًا، وهل له آثار جانبية؟ وهل سيتقبله العامة أم لا؟ سيُطرح اللقاح قبل أوانه وقبل تجربته بمدة كافية على الإنسان؛ لمعرفة مدى كفاءته وأعراضه الجانبية. ومن غير المتوقع أن يكون الإقبال عليه كبيرًا من خلال تجربتنا مع لقاح الإنفلونزا.
ومن جانبها، طرحت د. وفاء طيبة مجموعةً من التساؤلات والملاحظات في ضوء ما تضمنته مداخلة د. مها المنيف كما يلي:
- ما هي النسبة المقبولة عالميًّا فيما يتعلق بعدد الأسِرَّة لكل 10000 شخص في العادة؟ وما هو المطلوب في حالة الوباء؟
- وما هي أيضًا النسب الموجودة في المملكة للممرضين والأطباء وجميع التخصصات الطبية التي نحتاج لها عامة؟ وكيف هي هذه النسب بالنسبة للمفروض؟
- تم الإشارة إلى أنه لا يوجد إحصاء لأسرَّة العناية المركزة لدينا، والاعتقاد أن هذه الجائحة تستلزم وجود إحصاءً؛ لأننا نحتاج لهذا الرقم لتنظيم عملية مقابلة الوباء والحالات الحرجة.
- هل توجد تقارير عن مدى وعي المواطن والتزامه بالتعليمات، خاصة الشباب وكثير منهم مستهتر ومعتمد على قوة جهازه المناعي، ولديه اعتقاد أنه (زكام وينتهي)، ولا يفكر في تداعيات إصابته أو نقله للعدوى للآخرين؟
- ما مدى إنتاجنا الصناعي المحلي لما نحتاجه من الأدوات والمعدات، نعرف بوجود مصانع للأشياء البسيطة مثل المعقم والكمامات، ولكن ماذا عن أجهزة التنفس والمتخصصين في ذلك؟
- تمت الإشارة من ضمن التوصيات أن على الدولة أن تُطبِّق الحجر الصحي على القطاع الطبي، فهل تمَّ عمل ذلك في أي دولة؟ وهل سيتم ذلك في المملكة؟
- هل لدى الدولة برنامج للتبرع بالدم من المتعافين من أجل المضادات؟
- هل لدينا أجهزة تنفس تُغطي ما نتوقعه من حاجتنا لها؟ فأمريكا – على سبيل المثال- الآنَ تطلب من كلِّ مَن لديه جهاز تنفس أن يجعله متاحًا للدولة بالبيع أو الإيجار.
وبدورها أوضحت د. مها المنيف أنه وحسب منظمة الصحة العالمية، فإن المعدل العالمي للأسِرَّة بالنسبة للمواطنين هو ٣٦ لكل ١٠ آلاف مواطن، وبعض الدول المتقدِّمة يرتفع هذا المعدل عن ٣٦ بكثير. وعدد الأسِرَّة المطلوبة في الوباء يعتمد على المنحنى الوبائي؛ فإذا كان مرتفعًا وحصل انتشار كبير للفيروس فلن ينفع شيء، وإيطاليا خير مثال؛ فقد انهار القطاع الصحي مع أن نسبة أسِرَّة المستشفيات أعلى من المعدل. أما عن عدد أسِرَّة العناية المركزة – حسب إحصائيات غير مؤكدة – فتتراوح من ٣ إلى ٣٤ سريرًا لكل ١٠٠ ألف مواطن، وكانت أقل نسبة في الصين 3.5، وأعلى نسبه لأمريكا ٣٤، وكانت إيطاليا في الوسط 12.5. أما بخصوص الحجر على العاملين في القطاع الصحي، فقد طبَّقته الصين، وكان العاملون يسكنون فنادقَ قريبة من المستشفيات؛ لضمان عدم نشرهم للعدوى في المجتمع، وتسهيل انتقالهم للعمل. وفيما يخصُّ التبرع بالدم من المتعافين، فإن الصين الآنَ تدعو الأشخاص الذين أصابهم المرض بالتبرع بالدم وخاصة البلازما؛ لأخذ المضادات الحيوية منهم وإعطائها للمرضى، لكن هذه المضادات لم تصبح تجاريَّة بعدُ ولم تصدر، والتوقع أن تكون موجودةً في الشهور القادمة. وحول التساؤل المتعلق بمدى توافر أجهزة تنفس، أوضحت د. مها المنيف أنه من الصعب الإجابة عن هذا السؤال، لكن في ضوء المعلومات المتاحة فإن لدينا مستشفيات مستوى ثنائي وثلاثي secondary and tertiary care hospitals وبهما وحدات عناية مركزة نتمنى أن تكون كافية. وبصفة عامة، فإن وزارة الصحة تُمثِّل ٦٠٪ من المنشآت الصحية بالمملكة، والقطاع الخاص يُمثِّل ٢٠٪، والقطاعات الأخرى (الحرس، العسكري، أرامكو… إلخ) تُمثِّل تقريبا٢٠٪، فإذا تمَّ التعاضُد بين كل القطاعات الصحية فالظن أننا سنكون بخير، مع ملاحظة أن هذه النسب المئوية هي نسب تقريبية (+ أو -٥٪).
وتساءلت أ. هيلة المكيرش: ما مدى صحة أن مركز الملك عبد الله العالمي للأبحاث الطبية توصَّل إلى لقاح خاص بفيروس كورونا (كوفيد-19) الجديد، وأن النتائج إيجابية؟ وفي هذا الصدد ترى د. مها المنيف أن انتشار بعض الرسائل في شبكات التواصل الاجتماعي حول هذا الأمر دون تثبُّت يؤثر سلبًا على مركز الملك عبد الله للأبحاث الطبية، وعلى ثقة الجمهور به. فما تم في السنوات الماضية وما يتم الآن في مركز الملك عبد الله، هو أولًا بناء قاعدة بحثية infrastructures لعمل بحوث لإنتاج لقاح، وثانيًا بدأ العمل على لقاح لفيروس ميرس MERS أو متلازمة الشرق الأوسط التنفسية التي أصابتنا في ٢٠١٥ وتمَّ تجربته على الحيوانات، ولديهم نتائج جيدة، ولديهم العزم للبدء بفحصه على الإنسان، وهذه المرحلة بذاتها تأخذ عدة سنوات لمعرفة الجُرعة، ونسبة المناعة التي أحدثها اللقاح، والأعراض الجانبية وغيرها من الأمور الإكلينيكية المهمة. ولا يوجد أبحاث لإيجاد لقاح للفيروس الحالي Covid-19 في المملكة. والمراكز العالمية الآنَ تتسابق لإنتاج هذا اللقاح معتمدةً على دراسات السارس الذي انتشر في ٢٠٠٣، ومن الممكن أن يظهر اللقاح بعد عدة أشهر، وربما سنة.
وتساءل د. خالد بن دهيش عن واقع المستشفيات حاليًّا، هل هي قابلة – لا سمح الله – فيما لو زادت الأعداد المصابة بكورونا (كوفيد-19) من حيث الأسِرَّة ووحدات العناية المركزة والطاقم الطبي والمساعد، خاصةً في مدن الرياض ومكة وجدة ومدن الشرقية؟ وحول هذا التساؤل، أوضحت د. مها المنيف: أنه في المملكة وفي المدن الرئيسية – ولله الحمد – لدينا عددٌ لا بأس به من المستشفيات المهيَّأة لاستقبال أعداد كبيرة من المرضى فيما لو تفشى الفيروس، لا سمح الله. وللعلم، فإن نسبة كبار السن بالمملكة (فوق ٦٥ سنة) هي ٣. ٥ ٪ بينما في إيطاليا كانت ٢٣٪، فلا نتوقع سوء الحال بإذن الله تعالى. وكذلك لدينا الطب الميداني أو المستشفيات الميدانية المجهَّزة منذ سنين بعد حرب الخليج الأولى، والتي تتحرك لمكان الوباء بسرعة. أما فيما يخصُّ زيادة الحالات الآنَ عن ذي قبل، فهذا متوقع لأن الحالات الأولى كانت مرتبطةً بالسفر، أما الآنَ فقد انتشر بالمجتمع، وسوف يرتبط بمدى التزام المجتمع بالمباعدة الاجتماعية حتى نكسر الحلقة الأولى من انتشار الوباء.
ومن جديد، تساءلت د. وفاء طيبة: هل يؤثر الفيروس على فقدان حاستي الشم والذوق كعرض منفصل بدون الأعراض الأخرى؟ أم أن ما يتردد في هذا الشأن مجرد كلام لم يثبت أم تمت ملاحظته لدينا؟ وأوضحت د. مها المنيف أن أي التهاب فيروسي للغشاء المخاطي التنفسي العلوي يؤثر على حاسة الشم، وهذا معروف لدينا، وخاصة الإنفلونزا.
وتساءلت أ. فائزة العجروش: ما مدى صحة ما يتم تداوله من أن وفيات كورونا (كوفيد-19) كانت لأصحاب فصيلة الدم A، في حين أن النسبة قليلة جدًّا عند أصحاب فصيلة الدم O؛ وإنْ كانت هذه المعلومات غير صحيحة، فما السبيل للتصدي لمثل هذه الشائعات؟ وهل هناك دراسات من الاستفادة بأخذ عينات من دماء المرضى المصابين لإنتاج اللقاح المضاد له؟ أيضًا، تساءلت د. وفاء طيبة: هل كان للمضادات أثرٌ فعلي على المرضى؟ وهل كان لها دورٌ في تغيير المنحنى في الصين؟
وذكرت د. مها المنيف حول ذلك أن من المهم التنبُّه إلى أن الشائعات والمعلومات المغلوطة كثيرة، ويجب أن يكون لدينا القدرة على التعامل مع عدم المعرفة في هذه الأوضاع عوضًا عن اختلاق معلومات خاطئة. فالواقع أن هذا الفيروس جديد، وهناك عدة أوراق علمية ظهرت من الصين توضِّح بعضَ خصائصه، لكن لا زلنا لا نعرف الكثيرَ عنه. ومن جهة أخرى، فإنه لإنتاج اللقاح نحتاج الشفرةَ الجينية للفيروس، وقد تطوَّر العلم من هذه الناحية، وجميع مراكز الأبحاث لديها هذه الشفرة الآن، وتستطيع أن تستخلصها من المرضى المصابين. وتجدر الإشارة إلى أننا لا نحتاج لدماء المرضى لإنتاج لقاح؛ ولكن دماء المرضى أو البلازما بها المضادات الحيوية التي أنتجتها أجسامهم لمحاربة الفيروس، وهذه تُعطى كمنتجات الدماء للمرضى لتساعدهم على تخطي المرحلة الحرجة.
وتساءل أ. محمد الدندني: فيما يتعلق بالتعليم الطبي والعلوم الطبية، هل نحن مقصرون في تخريج العدد الكافي من المتمتعين بالكفاءة، من أطباء وصيادلة وممرضين، وأخصائي الطب الوقائي وطب الأوبئة… إلخ؟ وهل نحن بحاجة إلى مراجعة واقع مصانع الأدوية لدينا، والعمل على ربطها بمراكز أبحاث على مستوى عالٍ مرتبطة بكليات الصيدلة فيما يخص عموم الأدوية للأمراض المعروفة وليس دواء الأوبئة فقط؟ أيضًا، فمن الملاحظ أنه في الأزمة الحالية المتعلقة بفيروس كورونا (كوفيد-19)، فإن الدولة مُمثَّلة في وزارة الصحة والأجهزة الأخرى هي مَن تصدى للمهمة، ولم نرَ مساهمات حقيقية من القطاع الطبي الخاص، وهذا يدعونا للتساؤل: ما مدى صحة تخصيص القطاع الطبي، وإنْ كان ضرورة فما هو النموذج المطلوب؟ ومَن يقود هذا القطاع، المستشفيات الخاصة والتأمين أم وزارة الصحة؟ وماذا نتعلم من تطبيقات التكنولوجيا مُمثَّلة في الثورة الصناعية أو العلمية الرابعة فيما يخصُّ العلاج عن بُعد والمتابعة (طبيب العائلة عن بُعد) كونه يُوفِّر الوقتَ والمال؟ وكيف نستفيد من هذا الدرس ونُقلِّل من تضخُّم المدن، وتفعيل المدن المتوسطة والتي تحوي كلَّ الخدمات وعلى رأسها الطبية والتعليمية، فنُقلِّل الزحام؟ أيضًا، فنعلم جاهزية الدولة وحرصها على الأماكن المقدسة والتي تتطلب العنايةَ الدائمة والمستمرة، حجًّا وعمرة، والتساؤل: كيف نحمي الزوَّار والبلاد من الأوبئة والأمراض بما فيها الأوبئة الخاصة المستوطنة في كل بلد؟ وكيف نرقى بالوعي الصحي للعمالة الوافدة؟
وبدوره فقد حاول أ. محمد الدندني الإجابة عن بعض التساؤلات التي أثارها، حيث أوضح أنه بالنسبة للطواقم الطبية بكل تخصصاتها، فالرأي أن يكون هناك احتياطي متدرب كما للجيوش؛ بحيث يُدرَّب الشباب والشابات الراغبون مع مَنْحهم حوافز مادية ومعنوية للانضمام لجيش الاحتياط الطبي، على أن يحضروا دورة تدريبية سنوية لمدة أسبوعين طيلة عضويتهم بهذا الجيش، وأيضًا دورات عن بُعد ليكونوا على تواصل مع المعنيين في وزارة الصحة (مركز الطوارئ). أما بالنسبة لتخريج أكبر عدد ممكن من الطواقم الطبية، فمن المطلوب تفعيل الطب الموازي بتقليل سنوات الدراسة، وليكن الخريج Junior physician، وبالإمكان إكمال تعليمه وتدريبه ليكون طبيبًا عامًّا ومتخصِّصًا. أيضًا، يمكن تفعيل معاهد الصيدلة بدل السنوات الست في الكلية مع الاهتمام بالتخصصات المطلوبة في الطب الوقائي والأوبئة. وفيما يتعلق بصناعة الأدوية يجب – ومن باب الأمن الوطني – أن تُفعَّل بسواعد وطنية مع شراكات ذات قيمة.
وأشارت د. مها المنيف إلى أن لدينا عددًا كبيرًا من الأطباء والمتدربين على تخصصات أخرى، هؤلاء يسهل تدريبهم على تخصص آخر أثناء الكارثة؛ فمثلاً يُدرَّب الطبيب العام أو طبيب الأطفال للعمل في الإسعاف أو العناية المركزة، ومُدة التدريب تكون قصيرةً وحسب الحاجة؛ لأن لديهم الخلفية العلمية.
وأكدت أ. فائزة العجروش على أن من الضروري أن نستعد جيدًا للمستقبل بعد درس كورونا (كوفيد-19)، بالعمل على جذب كبريات الشركات الدولية ومعامل الأبحاث العاملة في مجال الأمن البيولوجي، وعَقْد شراكات إستراتيجية معها لتطوير القدرات المعرفية الوطنية، واستقطاب خبراء وعلماء في مجالي الأسلحة البيولوجية والكيمائية من دول العالم لتوطين المعرفة في هذين المجالين.
بينما أكد د. حمد البريثن أننا نحتاج إلى مختصين في التقنيات الحيوية وعلوم الأحياء مع إيجاد دعم يضمن استمرار الأبحاث وإنشاء المعامل المختصة. وعلى المدى الطويل، يجب الإنفاق الحكومي على علوم الأساس بشكل مباشر؛ لأنه لا يمكن التوقُّع متى تحتاج تلك التخصصات، والدليل على ذلك مجموعة من المشاكل واجهت المملكة تقريبًا خلال عقدين من الزمن بدءًا من حمى الوادي المتصدع وانتهاءً بكوفيد-19. لن يقوم القطاع الخاص بدعم البحوث الأولية أو غير الاقتصادية (ظاهريًّا). عمومًا، لا يعني هذا عدم دعم القطاعات الصحية الأخرى، بل يجب رَفْع مستوى التكامل بين الجميع.
وأشارت د. وفاء طيبة إلى أنه جاء ذِكْر الجيش وإنزاله إلى الشوارع في العديد من دول العالم، والتساؤل: هل جيوشنا مُدرَّبة على مثل هذا الإجراء كعامل مكمِّل مهم لإدارة الكوارث أيًّا كانت الكارثة؟ إنَّ هذه نقطة يجب أن تُؤخذ في اعتبار الدولة مستقبلاً أيضًا؟ وحول ذلك ذكرت د. مها المنيف أن هذا جزءٌ مهمٌّ من الخطة الوطنية للطوارئ أو الكوارث المُشار إليها أعلاه.
وأشار د. راشد العبد الكريم إلى أن إجراءات المملكة الاحترازية كانت رياديةً وعلميةً وعلى درجة عالية من المهنية. وهي تجربة يجب أن تُوثَّق وتُقوَّم، ويُبنى عليها وتُطرح ضمن (أفضل الممارسات) التي تُدرس في هذا المجال، سواء في طب الكوارث أو إدارة الأزمات. ولذا، فمن الضروري أن يخرج كتاب يُوثِّق هذه المرحلة بإيجابياتها وسلبياتها. والواقع أن كون هذه الأزمة عالمية خفَّف الضغط على الجهات ذات العلاقة فيما يتعلق باتخاذ بعض الإجراءات الاستثنائية، التي ما كانت لتُقبل لولا عالمية الحدث، وجعَلت من الممكن أيضًا الاستفادة من خبرات الدول الأخرى. والواجب أن تكون هذه فرصة لتقويم البنية التحتية الصحية (وربما غيرها – الاقتصادية والأمنية)، فيجب ألا يكون مكسبنا من هذه الأزمة فقط تجاوزها؛ لكن يجب أن يكون لنا منها أكبر قدر ممكن من المكاسب، فهي فرصة لبناء القدرات الوطنية. كما أن وجود الحرمين في المملكة يجب أن ينال اهتمامًا خاصًّا فيما يتعلق بمثل هذه الأزمات. والاقتراح أن تُنشأ أقسام خاصة في الجامعات ذات العلاقة تختصُّ بالجوانب الصحية العادية والاستثنائية (الطوارئ) للحرمين.
واتفقت أ. فائزة العجروش مع الحاجة إلى إعادة ترتيب جميع أوضاعنا وأولها الصحية والاقتصادية والتعليمية لتجاوز أي أزمات قادمة، وعلينا أن نستفيد من هذه الأزمة، ونُوجِّه البوصلة نحو الاحتياجات التي ننشدها، والتي ظهرت مع كورونا (كوفيد-19)، وكنا نغفل أو نتغافل عن أهميتها؛ وهذا لن يكون إلا من خلال التقارير من كافة قطاعات الدولة وغيرها عن الأزمة بسلبياتها وإيجابيتها؛ فهذه الجائحة يجب أن تكون لنا معول البناء والتفكير السليم استعدادًا لعالم ما بعد كورونا (كوفيد-19).
ويرى د. صدقة فاضل أن مجرد صحة هذا الاحتمال، ولو بقدر محدود بشأن احتمال وجود تسريب مقصود لسلاح بيولوجي فتاك، وأن فيروس كورونا (كوفيد-19) الراهن شبه مصطنع؛ يجب أن يُضاعف قلقَنا على وضع الإنسانية الحالي والمستقبلي. وفي كل الأحوال، العالم في حاجة ماسَّة للتعاون الوثيق في سبيل مكافحة أسلحة الدمار الشامل. ما يوجد الآن من إجراءات احترازية أقل كثيرًا مما يجب عمله.
وعقَّبت أ. فائزة العجروش بأنه بعد انتشار الأمراض الغريبة والمُفاجئة وآخرها فيروس كورونا المتجدد؛ فالعالم أصبح مكانًا غير آمن ومُخيف، يزخر بعدد من الأسئلة التي نعجز عن حلها، والشائعات التي يصعب علينا تصديقها أم تكذيبها.. وهل هي حرب بيولوجية؟ هدفها الأساسي تعطيل القوة الاقتصادية الرهيبة والمتنامية للتنين الصيني.. وخاصة بعد ما نشرته وسائل الإعلام العالمية من تقارير عن مسلسل “ذا سيمبسونز” الكرتوني الكوميدي الشهير، والذي توقَّع انتشار الفيروس قبل 27 عامًا! وعدد آخر من المسلسلات والأفلام تحدثت عن نفس الموضوع! لكن الأفضل أن تظلَّ الإجابة عن سؤال هل هي مؤامرة.. هل هي حرب بيولوجية؟ بلا إجابة! أفضل من التأكد من كونها مؤامرةً وحربًا بيولوجية؛ فحينها سيصعب علينا التفكير فيما ستُصبح عليه أيامنا القادمة في عالم تحكمه المصالح اللا إنسانية.
وفي تصوُّر د. وفاء طيبة، فإن الوضع الحالي قد أثبت أن الصحة هي أساسٌ مهمٌّ جدًّا حتى للاقتصاد، فقد تعطلت عجلة كل شيء عندما تعرضت الصحة للخطر؛ ولذا فمن المهم التركيز على دعم القطاع الصحي بجدية وقائيًّا وعلاجيًّا، وبناء الكادر الطبي بجميع تخصصاته مع التركيز على التخصصات التي نحتاجها في مثل هذه الجوائح؛ الطب الوقائي، وطب الحميات، وطب كبار السن مثلاً، وما يتبعها من تخصصات في العلوم الطبية الأخرى، والرأي (إنْ لم يكن معمولًا به الآن) هو تكوين صف ثانٍ من صغار الأطباء والتخصصات الملحقة بالطب، طلبة الطب والتمريض وغيرها؛ بمعنى أن يكون هناك مادة وتدريب أثناء دراسة الطالب في الجامعة على كيفية مواجهة مثل هذه الجوائح؛ للاستفادة منهم في القطاع الطبي وبمعايير معينة عند الحاجة.
وأوضحت د. مها المنيف، بخصوص الإجراءات التي يجب على وزارة الصحة اتخاذها إذا تفاقَم انتشار كوفيد -19، حيث تتضمن برأيها ما يلي:
- أولاً: يجب أن يكون لدينا خُطة وطنية للكوارث تكون متعددةَ القطاعات، سواء كانت الكارثة وباءً أو فيضانًا أو غيره؛ فالقطاع الصحي لديه مركز القيادة والتحكم، وهذا المركز تمَّ إنشاؤه بعد جائحة إنفلونزا الطيور ٢٠٠٩ وجائحة ميرس ٢٠١٥، وهذا المركز لديه خبراء من عدة تخصصات، وهو مَن يُقرِّر خطوات التصدي لجائحة كورونا (كوفيد-19).
- ثانيًا: جاهزية القطاع الصحي تعتمد على وجود العدد الكافي من الأسِرَّة والطاقم الطبي والمعدات والأدوات، والاعتقاد أن نظامنا الصحي قادرٌ على مواجهة هذا الوباء.
- ثالثًا: أما عن الخُطط الجانبية للمواجهة فيُحدِّدها عددُ الحالات، وقد تمَّ الإشارة إلى بعض المقترحات ضمن الإستراتيجية الثانية المتعلقة برفع الطاقة الاستيعابية للقطاع الصحي، والمُشار إليها أعلاه.
وتساءل د. رياض نجم: بعد أن ينحسر انتشار الكورونا (كوفيد-19) في بلد ما (على سبيل المثال الصين)، كيف يتم التعامل مع عودة الخدمات بين تلك الدولة وباقي دول العالم من حيث التنقل والسياحة والأعمال؟ وهل سيستلزم الأمر في الشهور الأولى صدور شهادة خلو من المرض لدخول تلك الدولة من خارجها؟ وما هي المدة الزمنية الكافية لعودة التنقل؟ وهل سيكون هناك تصنيف عالمي للدول حسب انتشار المرض فيها ومدى خطورة التنقل منها وإليها؟ وفي اعتقاد د. مها المنيف، فإنه قد يحدث شيء مُشابه لما حدث في العالم بعد أحداث سبتمبر ٢٠٠١ خاصة إجراءات السفر؛ حيث يُتوقَّع أنه سيكون هناك إجراءات مشددة على بعض الدول كفحص درجة الحرارة، وشهادة خلو من كورونا (كوفيد-19). بينما يرى أ. محمد الدندني أنه وبغض النظر عما سيفعل العالم يجب أن تكون لدينا جاهزية دائمة وبالذات في المطارات الدولية والمنافذ البرية والبحرية للفحص السريع والتأكد من سلامة القادمين حتى لو لم يكن للحج والعمرة. نحن بلدٌ مفتوح للعالم، وسيزيد هذا الانفتاح مع الخُطط الحالية.
وتساءل د. خالد بن دهيش: أليس من المناسب أن تقوم الدولة بإعادة المعتمرين – لا سيما الذين ثبُت أصابتهم بكورونا (كوفيد-19) – لبلدانهم بعد أن أدوا العمرة والصلاة بالمسجد النبوي استثناءً من تعليق السفر حتى لا تتفاقم الإصابات بينهم، لكونهم يقطنون في عمارات وفنادق خاصة بهم، حيث إمكانية الانتشار للمرض بينهم بسهولة لو أصيب أحدهم؟ ومن جهته، ذكر د. عبد الله بن صالح الحمود أنه يبدو أن هناك شبه اتفاق دولي بعدم ترحيل أي شخص إلا بعد التأكد من صحته، خصوصًا وأن أكثر دول العالم أوقفت استقبال الرحلات؛ جوية وبحرية وبرية. وبدوره أوضح د. خالد بن دهيش أنه يقصد الأصحاء بالطبع، وهي من الحالات الاستثنائية. بينما تساءلت د. وفاء طيبة: ما هي الطريقة السليمة للإعادة؟ وأضافت أن الأفضل هو العمل بحديث الرسول، صلى الله عليه وسلم، ولنا الأجر.
وأشار د. مساعد المحيا إلى أن قدر المملكة أنها ترعى الحرمين في مكة والمدينة، ومسؤوليتها كبيرة؛ الأمر الذي سيُلقي عليها أعباءً أكبر بشأن الذين جاؤوا للعمرة ولمَّا يعودوا بعدُ. ومما يزيد العبء هو تدني الوعي لدى كثيرين من أنحاء العالم الإسلامي بأهمية عدم المخالطة وتجنُّب المصاب، والحرص على النظافة. ويتطور الأمر ليتحول من مهمة صحية لمهمة أمنية.
واتفق د. علي الطخيس مع الرأي بضرورة عودة المعتمرين إلى بلدانهم في أسرع وقت ممكن بعد أن أدَّوَا عمرتهم؛ لأن بقاءَهم سيكون على شكل مجموعات، وهذه سوف تُفاقم انتقال الفيروسات للمحيطين بهم من مقيمين ومواطنين. أيضًا، هناك ملاحظة أخرى قد تكون وزارة الصحة قد أخذت بها، وهي ضرورة قيام فِرق صحية بالكشف على نُزلاء الفنادق والشقق المفروشة خاصة في مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة، لاحتمالية وجود مصابين بالكورونا وغيرها؛ لأن ارتفاع عدد الحالات المصابة بالكورونا بين المعتمرين وزوَّار الحرمين الشريفين سوف يؤثر على الشكل البياني لسلوك الفيروس الذي كنَّا نتوقع أن يستمر على خط مستقيم لفترة قصيرة، ثم ينحرف المنحنى البياني إلى حالة الانحسار.
ومن جهته، أكد أ. فهد الأحمري على أن الوضع الحالي يعكس أن ثمة أزمةً حقيقيةً، ومن المهم الاستفادة منها لا سيما فيما يخصُّ ما يلي:
- أولًا: إعطاء الصحة الأولوية؛ فحين ضُرِبت صحة المعمورة تعطَّل التعليم والاقتصاد، واختلت بقية المنظومات، واهتزت الحياة.
- ثانيًا: العناية بالصحة تبدأ من صروح التعليم العام والجامعي. والاعتقاد أن العناية بالصحة في المدارس العامة ضعيف، بدءًا من دورات المياه إلى التجهيزات الصحية، وكذلك عدد الطلاب في الفصول من ناحية صحية مرورًا بالتوعية بها، ومناشط منهجية وغير منهجية في جانب الصحة أيضًا.
- ثالثًا: الاهتمام بموضوع إستراتيجيات الكوارث وإدارة الأزمات، هل وضعناها كما ينبغي، وهل نفَّذناها كما ينبغي؟ وجدنا أن العالم الأول سقط في هذا الجانب، وهو الذي نستلهم منه دروسًا تنظيرية في رسم الإستراتيجيات وإدارة الأزمات. فهل القضية تكمن في التنظير أو التطبيق؟
- رابعًا: النظر في دور مؤسسات المجتمع المدني ودوره في الأزمات.
وعقَّبت أ. فائزة العجروش بأنه فيما يخصُّ قضية إدارة الأزمات، فإن التجربةَ خيرُ برهان، وتجربة المملكة خلال سنين طوال من خلال إدارتها لأي كوارث أو أزمات خلال فترة الحج هي ما ساعدت في نجاح إدارة هذه الأزمة، رغم حاجتنا الماسَّة لمزيد من الدراسات والتطبيقات التي تُثري أسلوب عمل الجهات المعنية بذلك.. ولعل قضية كورونا تكون سببًا في تطبيق مناهج تُعنَى بتدريسها في مراحل التعليم العام المختلفة.. وقد تكون هذه إحدى منافع جائحة كورونا (كوفيد-19). وأما ما تمت الإشارة إليه حول أهمية العناية بدورات المياه، فللأسف الشديد هذا الأمر ليس محصورًا في المدارس العامة فقط، بل نلاحظه في الجامعات والفنادق ومراكز التسوق والمطارات… إلخ. وبإذن الله، بعد هذا الفيروس نتوقع أن يتم التركيز أكثر على ذلك في المدارس والجامعات، ومن خلال وسائل الإعلام، وإلزام جميع الأماكن المُشار إليها أعلاه مع (الشواطئ، وقاعات السينما، والحدائق العامة وكل الأماكن الحيوية والمهمة، وأي مكان يرتاده الناس بكثرة) بوضع نظام التعقيم الآلي بعد كل استخدام؛ لنضمن عدم انتشار الميكروبات والجراثيم.
ويرى د. سلطان المورقي أن هناك ضعفًا وتدنيًا في إدارة جائحة كورونا من دول الغرب سواءً في أوروبا أو أمريكا، في حين أن هناك نجاحات واضحة وتفوقًا في إدارتها من دول الشرق؛ وهذا مؤشر كبير في تغيير المعادلة مستقبلاً بالنسبة للدول المؤثرة عالميًّا.
وأشار د. يوسف الرشيدي أنه وفيما يخصُّ القطاع الصحي وقدرته ومهنيته، فإن المُشاهِد للوضع العام لما قامت به وزارة الصحة من إجراءات واحترازات وقائية تمثَّلت في حملات التوعية من أواخر يناير، وتحديدًا بعد إعلان الصين تقريبًا في ٢١ يناير من أن الفيروس ينتقل بين البشر، ومع تسجيل حالات خارج الصين كماليزيا وتايلاند وأستراليا وأمريكا، يعتبر سابقًا لكثير من دول العالم التي تُفاخر بعلو كعب نظامها الصحي، وأثبتت المملكة وما قامت به من إجراءات كتعليق الأنشطة والتعليم والعمل وزيادة جُرعة التوعية وتكثيفها على كلِّ الأصعدة والمستويات من مؤسسات وأفراد بأنها تعاملت مع الجائحة بطريقة مميزة جدًّا خاصةً فيما يُسمَّى risk communication، وهو ما يبيِّن مدى وعي الجهاز الصحي والقائمين عليه بأهمية التواصل بالطريقة الصحيحة فيما يتعلق بالصحة العامة، وهذا يُبيِّن الخبرة التي تمَّ اكتسابها من فيروس ميرس، وكل ما يتم اتباعه من إجراءات وصولاً إلى حظر التجول يُبيِّن أنَّ الحكومةَ متمثِّلة في الصحة جاهزةٌ بإذن الله، وستعمل جاهدةً للحدِّ من انتشار هذا الوباء بالرغم من سقوط دول كُبرى في مواجهته، والسبب التقليل من حجم انتشار الوباء، وكيف سيؤثر على الطاقة الاستيعابية للقطاع الصحي.
- الوضع الاقتصادي والمالي أثناء وبعد جائحة كورونا (كوفيد-19):
أشارت د. نوف الغامدي إلى أنه ومن أجل الحفاظ على التوازن المالي، كان ثمة مُطالبة متوقعة بدعم القطاع الخاص والمنشآت المتوسطة والصغيرة، ولكنَّ الدولة كانت أسرعَ في التفكير ووضع الحلول من خلال عدة مبادرات نوعية؛ كتأجيل دفع بعض رسوم الخدمات الحكومية والرسوم البلدية المستحقة على منشآت القطاع الخاص لمدة ثلاثة أشهر، وتأجيل تحصيل الرسوم الجمركية على الواردات لمدة 30 يومًا مقابل تقديم ضمان بنكي وذلك للأشهر الثلاثة القادمة، وتأجيل توريد ضريبة القيمة المضافة وضريبة السلع الانتقائية وضريبة الدخل، وتأجيل تقديم الإقرارات الزكوية وتأجيل سداد المبالغ المترتبة عليها، ومنح الشهادات الزكوية بلا قيود عن مدة إقرار العام المالي 2019، وقبول طلبات التقسيط دون شرط دفعة مقدَّمة من قِبل الهيئة العامة للزكاة والدخل، وتفويض وزير المالية للموافقة على الإقراض والإعفاء من سداد رسوم وعوائد القروض الممنوحة حتى نهاية العام الحالي لمبادرة برنامج استدامة الشركات، وكذلك تمكين أصحاب الأعمال من تمديد تأشيرات الخروج والعودة التي لم تُستغل خلال مدة حظر الدخول والخروج من المملكة لمدة 3 أشهر دون مقابل، وتمكينهم من استرداد رسوم تأشيرات العمل المُصدرة التي لم تُستغل خلال مدة حظر الدخول والخروج أو تمديدها لمدة 3 أشهر دون مقابل، والإعفاء من المقابل المالي على الوافدين المنتهية إقاماتهم من تاريخه وحتى نهاية شهر يونيو 2020، وتمديد إقاماتهم لمدة 3 أشهر دون مقابل، وغيرها من المبادرات والبرامج التي تدعم اقتصادنا.
وأضافت د. نوف الغامدي أن الدولة وجَّهت لدعم القطاع الخاص من خلال تخفيض الميزانية، وكما ذكر معالي الوزير محمد الجدعان، فهي ميزانية طوارئ تتجاوز 120 مليار ريال (32 مليار دولار) للحدِّ من تأثير تفشي الفيروس على الاقتصاد الوطني؛ وبذلك فإن الدولة قد حوَّلت ميزانية الإنفاق إلى استثمارية لدعم القطاع الخاص، وهي أقل من ٥٪ من الميزانية، وهذا ما يعكس متانة الاقتصاد السعودي. كما أن تأثُّر الاقتصاد العالمي من خلال انخفاض السلع الإستراتيجية كالبترول والذهب مؤكَّد أن له تأثيرًا كبيرًا على المؤشرات الاقتصادية البالغة في الحساسية، ولكن قد يتعافى الاقتصاد تدريجيًّا. والتصوُّر أنه سيكون هناك تغيرٌ كبيرٌ في ميزان القوى الاقتصادية العالمي خصوصًا في الاتحاد الأوروبي بعد فشله في احتواء الأزمة. ورغم الحرب التجارية بين الصين وأمريكا والتي تحوَّلت إلى حرب عالمية – لكنَّها بدون أسلحة – أثَّرت على كافة الدول والاقتصادات العالمية؛ إلا أن التوقع أن الدولتين ستصلان لمرحلة من الاتفاق في فترة ما. وسيكون هناك تغيُّرٌ كبيرٌ في إجراءات السفر والتنقل؛ لضمان الأمان الصحي العالمي. كما ستتغير القوى لتتحول إلى التركيز على القوى الناعمة والإنسانية؛ مما سيجعل هناك تغييرًا في القضايا المشتركة الدولية. وعلى هذا، فإن من المهمِّ الأخذ بالمقترحات التالية:
- حملة توعوية للعمال لحثِّهم على اتباع الإجراءات الوقائية.
- توزيع مستلزمات النظافة الشخصية والوقائية والمواد الغذائية، والمنشورات التوعوية بكافة اللغات.
- برامج توعوية للأسر المنتجة وشركات التوصيل.
- برامج حول التوعية الاستهلاكية.
- البنية التحتية الرقمية للقطاع الخاص وأولوية العمل عن بُعد.
- التعامل المجتمعي مع إدارة الأزمات والكوارث.
- برامج توعوية من خلال الشاشات الرقمية في الطرقات والأماكن العامة.
- تحالف بين الجهات الخيرية لرفع معايير مواجهة الكوارث والأزمات، والعمل التطوعي خلال الأزمات.
- برامج خاصة بالمناطق العشوائية، والحد من تفشي الأمراض فيها.
- وضع سجل للمخاطر والتهديدات والأزمات المتوقعة مناطقيًّا، وإعداد سيناريوهات لمواجهتها.
- مراجعة الأوضاع الصحية في السجون، والتأكد من سلامتها.
وذكر د. يوسف الرشيدي أنه فيما يتعلق بالاقتصاد المحلي وآثار جائحة كورونا، فإننا لسنا بمعزل عما يحدث في العالم، ومهما قُدِّم من برامج ومساعدات فلن تتعدى كونها مساعدات لتخفيف الأثر وليس محوه؛ فالاقتصاد العالمي في كثير من التقديرات بدأ الدخول في ركود، وهناك مَن يتعدى ذلك بتشبيهه بالشلل العام؛ والذي من الممكن أن يستمر إلى ما بعد الربع الأول من العام القادم. ولكن هي بلا شك فرصة خاصة للمشاريع الصغيرة والمتوسطة لتعلُّم درس في إدارة الأزمات، وإيجاد الحلول للتعافي والتأقلم مع الأوضاع الحالية والقادمة.
وتساءل أ. عبد الرحمن باسلم: ما هو مصير منشآت الأعمال إذا ما استمرت الحالة مدة أطول، وما مصير العمالة التي لديها؟ وما هي الحلول التي من الممكن اقتراحها للجهات المختصة للمساعدة في الخروج من هذه الأزمة؟ وهل العمل عن البُعد في الشركات الآن يؤدي المطلوب؟ وإذا ما طالت المدة، ماذا سيتم على خدماتها وموقفها المالي؟ وما هي الطريقة المُثلى لحثِّ المواطنين والمقيمين للجلوس في المنزل خاصةً أن العمالة الأجنبية المنتشرة تريد الاستمرار، كما في قطاع المقاولات على سبيل المثال؟
وترى أ. فائزة العجروش أنه وبخصوص المنشآت الصغيرة، فهي جزءٌ لا يتجزأ من المنظومة الاقتصادية للدولة، ويجب أن تكون مستعدةً لتقبُّل كافة التحديات التي تواجهها الدولة في ظل الظروف الاقتصادية الطاحنة وانتشار فيروس كورونا (كوفيد-19)، وقد تمت الإشارة في الورقة الرئيسة إلى بعض التدابير التي قدَّمتها الحكومة للتخفيف من أثر الأزمة عليها.
وفي اعتقاد د. عبد الله بن صالح الحمود، مرحليًّا، فإن التدابير التي قدَّمتها الحكومة حاليًّا، بخصوص تأجيل سداد الرسوم والضرائب فضلاً عن مدِّ صلاحية الإقامات والخروج والعودة، بالرغم أن ذلك قد أتى لمدة محدَّدة؛ إلا إنها تعدُّ إحدى الدعائم مرحليًّا إلى أن تتضح الصورة. أما بشأن المناشط المعمارية فيفترض أن تسير كما هي عليه، فهي ليست بيئات أو مخرجات أغذية وأطعمة، لذا فليس ثمة تخوُّف وبائي يتمدد من خلالها، ثم إنَّ نشاط المعمار يعدُّ من أهمِّ الأركان الاقتصادية في البلد؛ ومن ثَمَّ فلا بد من الحرص والاهتمام به قدر المستطاع.
وأكدت د. وفاء طيبة على أهمية وجود وحدة إدارة للكوارث أيًّا كانت صحية أو طبيعية، فقد تؤثر أي كارثة على الوضع الاقتصادي. ومن جانب آخر، فإن ثمةَ تساؤلًا مطروحًا: هل قد نحتاج إلى أن نتراجع عن إعطاء الفيزا السريعة لبعض الدول، والذي تمَّ تطبيقه مؤخرًا؟
وتساءل أ. عبد الرحمن باسلم: إذا كانت أوروبا تعاني من كارثة كبرى الآن والأمر للأسف في خطورة، حيث إنَّ دولة مثل إيطاليا ميزانيتها أعلى من ميزانية دول الخليج مجتمعةً، والصناعة لديها متقدمة للغاية، ومع هذا فهي في وضع صعب، فما مقدور الدول العربية بجانبها، ودول الخليج بالذات؟ وفي سياق متصل، فإن اقتصاديات العديد من الشركات قد تأثرت بفعل الأزمة، ومنها كمثال شركات الطيران الكبيرة، حيث توقفت الإيرادات وتمَّ تخفيض الرواتب أو تسريح الموظفين في بعضٍ منها؛ ما يُضيِّع جهود سنوات من التدريب للكوادر، ويُعيد تشكيل خريطة السياحة العالمية وخاصة أن هناك إجراءات كبيرة سوف تُفرض على المسافرين لمدة طويلة حتى لا تكون هناك تبعات لهذا الوباء في المستقبل.
وذكر د. خالد بن دهيش أن قطاع السياحة والسفر من أكبر القطاعات المتضررة اقتصاديًّا. وأضاف د. رياض نجم أن الوضع ما بعد كورونا (خصوصًا الاقتصادي) لن يكون كما كان قبلها. وعلينا من الآنَ أن نُفكر في السيناريوهات القادمة، وليس متى سيعود الوضع إلى ما كان عليه.
وفي الإطار الاقتصادي ذاته، طرحت أ. فائزة العجروش تساؤلًا مؤداه: ما هي الإجراءات الإضافية المتوقَّع أن تتخذها الحكومة فيما لو استمر هبوط سعر النفط؟ وهل سيتوقَّف مُستقبل سعر برميل النفط على مدى تطبيق الإجراءات الوقائية والاحترازية التي أعلنتها الحكومة لإدارة ملف كورونا؟ أم أن هناك تداعيات أخرى مرتبطة بنتائج الحرب الاقتصادية الحالية القائمة بين المملكة ودول الأوبك من جهة وبين روسيا من جهة أخرى، على خلفية رفض روسيا خفض الإنتاج لإبقاء أسعار النفط عند مستويات أعلى؟
وأشار د. ناصر القعود إلى أن هناك حرصًا على استشراف المستقبل لمعرفة آثار هذا الوباء وتبعاته الصحية والاجتماعية والاقتصادية وما ينبغي اتخاذه من إجراءات لمعالجة هذه الآثار، ومن الواضح أن الإجراءات التي اتخذتها المملكة واتخذتها دول أخرى تعكس تقديراتها لهذه الآثار، وهذه التقديرات لا بد أن تتأثر بالمدة التي سينجلي فيها خطر هذا الوباء، ومن ثَمَّ تأثيراته على مختلف القطاعات، وبالتالي تتخذ الإجراءات المناسبة. والتوقُّع أن سعر النفط سيتأثر بتبعات الوباء وتأثيره على الطلب العالمي على النفط، كما سيتأثر بالطبع بطول فترة حرب الأسعار. ومجمل القول إنه بالرغم مما صدر من تنبؤات بأثر الوباء على الاقتصاد العالمي، فلن تكون نهائية؛ بل تعتمد على مدى طول الفترة اللازمة للتعافي، وبالتالي مدى نجاح السياسات والإجراءات المُتخَذة.
- العمل عن بُعد في ظلِّ جائحة كورونا (كوفيد-19):
أشار د. سلطان المورقي إلى أن ثمة مزايا ومنافع عديدة للعمل عن بُعد للموظفين، وأيضًا للمنشآت في مثل هذه الأزمات، ومنها:
- العمل عن بُعد يضمن استمرارية الأعمال في الحد الأدنى.
- يُقلِّل من التنقل من وإلى العمل.
- توفير في الوقت والتكلفة وضغوط العمل.
- يُحقِّق مرونة في أداء العديد من الأعمال التي يستطيع الموظف أداءها طبقًا لظروفه الشخصية.
- العمل عن بعد يكون أكثر نشاطًا.
- يزيد من كفاءة المشاركة وطرح الأفكار في الاجتماعات عن بُعد.
- يُحسِّن الإنتاجية.
- يُقلِّل التكاليف المباشرة وغير المباشرة.
- السهولة والمرونة؛ لأنه مع التطور التقني لا تحتاج إلى غرف اجتماعات أو أجهزة كمبيوتر، بل إمكانية عمل ذلك عن طريق اللاب توب أو الجوال الشخصي.
- يجعل الخدمات متاحةً للعملاء في غير ساعات العمل الرسمية.
- يُقلِّل من نسبة الغياب.
وفي اعتقاد د. حامد الشراري، فإن العمل عن بُعد، والتعليم عن بُعد ستتطور آلياتهما، حتى تصبح الخدمات والتعاملات عن بُعد هي الأساس، والخدمات التقليدية الحالية ستُصبح ثانوية. فقد نرى أن جزءًا من التعليم والعمل نُنجزه من المنزل قانونيًّا. فمثلاً، الدراسة ٥٠٪ من المواد يدرسها الطالب في المنزل، و٥٠٪ في المدرسة. ومثل هذا الإجراء يُخفِّف على ميزانية الدولة بشكل كبير، فيُستفاد من مباني المدرسة الواحدة لطلاب مدرستين، وبذلك تُخفض عدد المباني إلى النصف. أليس هذا توفيرًا على ميزانية الدولة؟ وما ينطبق على التعليم ينطبق على العمل، وهكذا. ونحن بحاجة لسنِّ تشريعات وتنظيمات تتعاطى مع هذه المتغيرات. فالعالم لن يعودَ إلى الوراء، وما تمَّ تجريبه اضطرارًا سيكون هو الأساس في المستقبل القريب، هكذا علَّمنا التاريخ!
واتفق د. حمد البريثن مع ما ذكره د. حامد الشراري من أنه سيتم الاعتماد على الخدمة الإلكترونية بشكل أكبر في التعليم، كما أن التوقُّع أن يرتفع مستوى الخدمات الإلكترونية الحكومية بشكل كبير جدًّا، وستصبح جزءًا من طبيعة المجتمع الدولي، وسترتفع مستويات أمن الشبكات بناءً عليه.
وذهب م. فاضل القرني إلى أن فيروس كورونا (كوفيد-19) مقارنةً بالمدة الزمنية في التأثير حتى الآن، تجعله متفردًا في جوانب عديدة محورية، وأهمها هو تحالف دول العالم في مواجهته كجبهة واحدة لم تكن قبل ذلك حتى في مواجهة الإرهاب العالمي. إلا أن هذا التحالف هو مرحلي لأسباب مصيرية، منها أن الإمكانات الطبية والمعلوماتية لجميع الدول ليست كافيةً أمام ضحايا المعركة اليومية مع المرض، والأهم هو أن الجميعَ يبحث عن سلاح مناسب بدون اعتبارات سياسية أو صناعية، دون نفي التسابق له. والتأثير على الاقتصاد العالمي قد يُعيد نموذج التحالفات السياسية والاقتصادية والعلمية، مثل ما يحدث في الاتحاد الأوروبي.
وحول الركائز والإجراءات المهمة اللازمة لإنجاح تجربة (العمل عن بعد) حتى انفراج الأزمة، فقد اقترح د. حامد الشراري المقترحات التالية:
- على المدى المتوسط: تغيير مُسمَّى الوكالات أو الإدارات في الوزارات والقطاعات الأخرى من “التحوُّل الرقمي” إلى “العمل عن بعد”، أو إيجاد إدارات جديدة لهذا الشأن ودعمها؛ لتفعيل دورها على أكمل وجه.
- على المدى القصير: وَضْع دليل يشمل سياسات وآليات العمل عن بعد وضوابطه وضمان جودته، وتعميمه على الجهات الحكومية وشبه الحكومية، وهذه مسؤولية وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية.
ويرى م. خالد العثمان أنه وبالرغم من سرعة تفاعل الدولة مع المخاوف الاقتصادية من الأزمة، وإطلاق مبادرات دعم كبيرة تبلغ نحو 120 مليارًا، إلا إن المشكلة كالعادة في التنفيذ على أرض الواقع، ومقدار الهوَّة الشاسعة بين مستويات اتخاذ القرار والتنفيذ. والواقع أنه لا بد من تفعيل متابعة التنفيذ للقرارات وحزم الدعم بشكل سريع؛ وإلا فإنه لن يبقى هناك الكثير لإنقاذه في ظل تسارُع فرص الإفلاس والإغلاق في القطاع الخاص، وخاصة المنشآت الصغيرة والمتوسطة. كذلك فإن ما نُشاهده الآنَ فجوة كبيرة في التواصل مع المستوى التنفيذي في الجهات الحكومية والبنوك على حد سواء، كما أن متابعة التحصيل وصرف المستحقات وتنفيذ إجراءات الإعفاءات والقروض وغير ذلك تصطدم بغياب شبه تام للموظفين التنفيذيين بحجة أنهم منقطعون عن العمل، وبعضهم حتى يستخدم عبارة أنه “في إجازة”!
- القطاع الخاص ومواجهة جائحة كورونا (كوفيد-19):
طالبت د. نوف الغامدي بأن يكون هناك حلولٌ ملائمة لدعم القطاع الخاص، وأغلب الظن أن ثمةَ تحركات في هذا الإطار على مستوى الوزارة والغرف ستصنع فارقًا في مسيرة القطاع الخاص، وتعمل على استدامته الفترة القادمة، خاصة وأن التحوُّل من ميزانية الإنفاق إلى الاستثمار يُعطي تصوُّرًا واضحًا لسعي المملكة إلى توازن القطاع المالي، وهذا ما بررته المبادرات الحكومية، والتي ستُحسِّن من أداء القطاعات المختلفة.
ويرى د. عبد الله بن صالح الحمود أن العمل عن بُعد في القطاع الخاص هو أداء متوسط الحال أو أقل من متوسط، خصوصًا في التواصل مع بعض الأجهزة الحكومية.
وذكر م. خالد العثمان أن مجلس الغرفة السعودية أطلق حسابًا خاصًّا على تويتر، لعرض مبادرات القطاع الخاص في كافة أنحاء المملكة خلال هذه الأزمة.
ويرى أ. محمد الدندني أنه في الوقت الحالي والمستقبل المنظور لا حلَّ إلا كون الدولة هي القائدة للحلول والتنفيذ، فمجتمعنا بعدُ لم يخرج من عباءة الدولة الرعوية، ومن الممكن أن يقوم القطاع الخاص والأفراد والجمعيات بدور، ولكن ليس أساسيًّا أو قياديًّا. وعقَّبت د. نوف الغامدي بأن هذا بالفعل ما يحدث حاليًّا من تحرُّك القطاع الخاص والغرف لإيجاد مبادرات نوعية، وأيضًا على مستوى المناطق ممثَّلة في مجلس المنطقة. والدولة بادرت، ولكن على القطاع الخاص أن يكون شريكًا في هذه الأزمة.
ويرى أ. فهد القاسم أن القطاع الخاص سيمرُّ بمرحلة انهيار لو طال أمد الأزمة، وسيترتب على ذلك إفلاس وتصفية الآلاف من المنشآت وفصل عشرات الآلاف من الموظفين، إذا لم يتم تداركه بحزمة من الدعم.
- البُعدان الاجتماعي والنفسي في جائحة كورونا (كوفيد-19):
فيما يخصُّ الوعي الاجتماعي والأثر النفسي لجائحة كورونا وما صاحبها من إجراءات، طرحت أ. فائزة العجروش التساؤلات التالية:
- كيف نساعد المواطنين على تقبُّل العُزلة المنزلية وجَعْلهم يستفيدون من الجوانب الإيجابية لها؟
- كيف نمنع تهافُت المواطنين لشراء السلع الضرورية وتخزينها بكميات كبيرة دون مبرر حقيقي؛ مما يضرُّ بالعرض والطلب في السوق المحلي؟
- كيف نتعاون ونجعل الخوف من عدوى انتشار الفيروس خوفًا صحيًّا وليس مرضيًّا يصل لحد الوسوسة واتخاذ خطوات غير متزنة؟
- ما هو الدور المرجو من الأخصائيين الاجتماعيين والنفسيين وعلماء الاجتماع لنَشْر الوعي وتقديم النصيحة والمشورة للناس؟
- ما هي الآلية الفُضلى للترغيب في عملية التطوع الفردي والمؤسساتي متى دعت الحاجة لذلك؟
ومن جانبه أكد د. عبد الله بن صالح الحمود على ما يلي:
- أن للإعلام دورًا مؤثرًا في مساعدة المواطنين على تقبُّل العزلة وجَعْلهم يستفيدون من الجوانب الإيجابية لها، حيث يمكن أن يُظهِر للمجتمع موادَّ إعلاميةً متعددةَ الأوجه، منها المناداة في تلبية نداء الحكومة بضرورة البقاء في المساكن وعدم الخروج منها إلا للضرورة القصوى، كما أن الدور الآخر يأتي من القنوات التلفزيونية من أن تُقدِّم برامجَ مرئيةً تتمثل في عمل بعض المواد ذات الطابع الاجتماعي، وكذا برامج المسابقات للجمهور من منازلهم، تلكم طُرق مؤدَّاها تشويق في المضمون وطريق للبقاء قدر المستطاع في المساكن.
- وبخصوص التساؤل عن كيفية مَنْع تهافت المواطنين لشراء السلع الضرورية وتخزينها بكميات كبيرة دون مبرر حقيقي؛ فهنا يأتي الدور الأكبر على وزارة التجارة بأن تنشر تطمينات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ومنها موقعها على تويتر، ومن خلال مقاطع مرئية تُظهر الإمكانات الكبيرة للمخزون الغذائي والمواد الكمالية. كما أن أحد واجبات وزارة الصحة تلك التي تبذل جهدًا منقطعَ النظير، بأن تبثَّ نشرات مكتوبة ومسموعة ومرئية عن كيفية التطهير من داء كورونا.
- أما بخصوص الدور المرجوّ من الأخصائيين الاجتماعيين والنفسيين وعلماء الاجتماع لنَشْر الوعي وتقديم النصيحة والمشورة للناس، فإن الدور المنوط بهم كبير للغاية، فالمفترض أن يكونوا إحدى الجهات المساندة لوزارة الصحة، فالأخصائيون النفسيون والاجتماعيون لديهم ما لدى غيرهم من النصائح النفسية والاجتماعية التي تدعم العاملَ النفسيَّ والارتياح الاجتماعي.
- من المهم إيجاد الآلية الفُضلى للترغيب في عملية التطوُّع الفردي والمؤسساتي متى دعت الحاجة لذلك؛ وهنا يأتي دور وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية مع الجمعيات الأهلية في هذا الشأن، ودورهما يكمن في استقطاب مَن لديه الخبرة والقدرة على القيام بالأعمال التطوعية كلٌّ حسب تخصصه، فالأزمات كمثل ما نعيشه الآن هو المفترض القيام به كواجب وطني يحتمُّ على كل فرد النهوض به وتقديمه لوطنه ومواطنيه.
في حين ترى أ. فائزة العجروش أن تطمينات وزارة التجارة بتوفُّر الإمكانات الكبيرة للمخزون الغذائي والمواد الكمالية لن تكفيَ بعد تطبيق قرار حظر التجول؛ لأنَّ بعده ستكون هناك ساعات محددة فقط للتسوق، ما قد يكون سببًا في تهافت المشترين في اقتناء المزيد من السلع قبل العودة مرة أخرى.
بينما تعتقد د. نورة الصويان فيما يتعلق بالتساؤل حول الخوف والهلع وتكديس المؤونة الغذائية، أننا نحتاج لجهود المعالجين النفسيين والأخصائيين الاجتماعيين التطوعية ووسائل الإعلام كذلك، خلال هذه الأزمة؛ لبثِّ ونَشْر التوعية ورسائل الطمأنة بموضوعية وبأسلوب علمي مدروس. أيضًا، ما تقوم به وزارة الصحة يوميًّا من عَقْد مؤتمر صحفي، وبث رسائل توعوية، سواء مرئية أو مسموعة أو مقروءة؛ بهدف الإحاطة بالمستجدات أولاً بأول هو إجراء احترافي، ومن أنجح السبل لقطع دابر الإشاعات وإثارة البلبلة حول الوضع، ولتشجيع الأفراد بأَخْذ المعلومة من مصادرها الموثوقة.
وأشارت د. وفاء طيبة فيما يتعلق بالجانبين النفسي والاجتماعي لجائحة كورونا، أنه لا بد أن أسلوب حياتنا اليومية سوف يتأثر، والإنسان لا يحبُّ عادةً التغيير في أسلوب حياته. العمل من البيت، الدراسة من البيت، التباعد الاجتماعي والذي يعني عدم الاجتماع بالأهل والأصدقاء، عدم الخروج للمطاعم والأسواق، البُعد عن كثير من أساليب الترفيه التي كنَّا نُمارسها كعادة وشيء طبيعي في الحياة. هذا كله لا بد أن يكون له آثارٌ إيجابية وسلبية في الحياة التي نعيشها الآن. وإيجابيًّا، قد نجد تحسُّنًا في العلاقات الأسرية في الأسرة الواحدة، وقد نكتشف سمات شخصية في بعضنا لم نكن نعرفها! قد نُمارس بعضَ الأنشطة التي لم نكن نمارسها معًا من قبلُ. وفي المقابل، قد يؤدي كثرة الاحتكاك والحجر الصحي إلى ظهور بعض المشكلات أو تفاقمها في الأسرة. الأسرة التي بها أطفال صغار تحتاج فعلاً لإدارة جيدة لتلافي المشكلات والخوف والفراغ، وعلى الأم والأب دورٌ مهمٌّ في هذه الأسرة خاصة لتخطي المشكلة. جميلٌ أن نجدَ بعضَ البرامج والأفكار المخصّصة لهذه الفترة لترفيه الأسرة واستخدام طاقات أفرادها فيما هو مفيد، وجدنا ذلك في بعض القنوات العالمية، لكنْ جميلٌ جدًّا أن نجده هنا وبإنتاج سعودي. والمأمول أن يعيَ أفراد الأسرة أن هذه فترة ضاغطة لا بد من التعامل معها بحذر وحكمة حتى نُقلل من الآثار السلبية ما أمكن. والاعتقاد أنه كلما شعر الإنسان أنه مُنتِج قلَّ شعور الملل وقلة الحيلة لديه، فلماذا لا نضع لأنفسنا (ونشجِّع أبناءنا) جدولاً أسبوعيًّا مثلاً، ولتكن هذه الفترة مُنتِجةً ونستفيد من الوقت، نضع قائمةً بما نحبُّ وما نتمنى أن نُنتج، ثم نوزِّعها على وقت الفراغ كلٌّ حسب التزاماته، ولتكن مكتوبةً، فالمكتوب أقرب للالتزام به؛ فقد نجد بعد انقضاء هذه الفترة أننا كتبنا أو حتى قرأنا الكتابَ الذي كنا نتمنى بعضًا من الوقت لإنجازه، أو غيَّرنا في بيتنا، أو نظَّفنا ورتَّبنا ما كنَّا نؤجِّله منذ فترة، أو تعلَّمنا من خلال الإنترنت المهارة الجديدة وامتلكناها نحن أو أبناؤنا، والواقع هذه المسألة من خلال الإنترنت أصبحت سهلةً جدًّا. يمكن أن نجلس لكتابة مذكرات أوreflections عن هذه الفترة خاصة. قد تظهر بعض المشكلات مثل الاكتئاب أو القلق البسيط، ويعتبر ذلك طبيعيًّا في حالات مثل هذه، وعلاجها الاستعانة بالله والصبر وقراءة القرآن والدعاء، وكل الخطط الأخرى التي وضعناها لأنفسنا، خاصة لدى بعض الأسر التي ظهرت بها حالات إصابة في ظلِّ ما قد يسيطر عليها من حالات من الخوف والهلع التي قد تتعرض لها. والحقيقة أننا هنا في المملكة لا نهتم بالجانب النفسي للمريض أو المواطن عامة في هذه الظروف، فالجوانب النفسية لا تظهر عادةً على خارطة العلاج أو الوقاية في مثل هذه الحالات لدينا، ويجب أن تكون الحالة clinical حتى يبدأ الاهتمام بها.
وعقبت أ. فائزة العجروش بأن فترة العزل المنزلي قد تنطوي على اكتشاف مهارات ومواهب مدفونة قد ترى طريقها للنور، وأيضًا خلال هذه المرحلة قد يتم اكتشاف جوانب كانت غير واضحة بالشكل الكافي من المحيطين وخاصة الأبناء، وعلينا التعامل مع كافة أفراد الأسرة بإعطاء مزيد من الخصوصية أثناء التقارب القسري تحفيزًا لمزيد من الراحة النفسية وتجنب الملل، وكذلك عمل بعض التجديدات في الديكورات المنزلية؛ فالتغيير مهمٌّ لكسر الرتابة في الحياة اليومية.
ومن وجهة نظر م. خالد العثمان، فإن الناس في كل مكان في حال من عدم التصديق أو عدم القبول بفكرة التغيير الحتمي الذي سيشهده العالم نتيجة جائحة كورونا؛ الكلُّ ما زال يفكر على المدى القصير في فكرة العودة إلى استكمال ومتابعة نمط الحياة السابق الذي اعتادوا عليه، وكل ما يفكرون فيه هو كم ستطول مدة التوقُّف الحالية، وهذه الحالة ستستمر لبعض الوقت ربما عدة أشهر حتى تدفعهم الحاجة إلى تبنِّي أنماط وحلول التغيير البديلة على موجات متتابعة. والأمر الذي لن يعود إلى طبيعته في المستقبل القريب هو إعادة فتح الحدود بين الدول؛ وهو ما سينعكس بشكل جذري على أنماط وهياكل السفر والسياحة والتبادل التجاري والاستقلال الإنتاجي. وباختصار، نحن نشهد بدايةَ عصر ما بعد العولمة، عصر القطرية المُنكفِئة والاستقلال الاقتصادي.
وفي اعتقاد أ. محمد الدندني، سيكون التغيُّر تدريجيًّا لعدة أسباب، وأهمها أن طبيعة تغيُّر الإنسانية وعلى مدى التاريخ، ليس بالضرورة دفعةً واحدة. ستبقى الفوارق، وتبقى الازدواجية العالمية وحتى ضمن النظام الواحد.
وعقبت أ. فائزة العجروش بأنه لا يمكن حل مشكلات اليوم بأفكار الأمس، ولا حل مشكلات الغد بأفكار اليوم. وحتى نرسم رؤيةً مستقبلية يستغرق ذلك منَّا بعضَ الوقت لاستيعاب الصدمة ثم الوقوف لمحاربتها والتغلب عليها، ومحاربة قدومها مرة أخرى، لا بد من توجيه حقيقي وممنهج في طريقة التفكير، وفي منظومة القيم ومواجهة المتغيرات بعقلية منفتحة؛ لأننا إنْ لم نفعل ذلك سنكون بعدها في مأزق تاريخي أمام أحداث لا يستطيع عقلنا أن يستوعبها، ولا علمنا أن يُجاريها. وهنا يجدر التساؤل عن الاستعانة بالذكاء الاصطناعي، ومدى قدرته على تحويل مستقبل البشرية إلى الأفضل، والتمتُّع بحياة آمنة سعيدة وبصحة ممتازة.
وفي تصوُّر أ. د. عثمان العثمان، فإن الأزمة الحالية تُبرز أهميةَ تعزيز العمل التطوعي بمجالاته المختلفة، ووجود مظلة واضحة تُسهِّل آلية التطوع وعمله، وتُشيع أدبياته في المجتمع. سيفكر كثيرون في التطوع، لكنهم قد لا يعرفون ماذا يفعلون، وما المجالات المناسبة لهم، في مثل هذا الوضع.
ولاحظ د. رياض نجم أن هناك الكثير من النقد لردود فعل الأفراد في المجتمع عن مدى التزامهم بتعليمات التباعد الاجتماعي. ومن وجهة نظره، فإننا من أفضل الدول في مدى الالتزام، بدليل المستوى المنخفض لعدد الحالات لدينا بالنسبة لكل مليون من عدد السكان: (السعودية ١٥، الصين ٥٦، الولايات المتحدة ٨٢، إيران ٢٥٨، ألمانيا ٢٨٦، إسبانيا ٦١١، سويسرا ٨٣٥، إيطاليا ٨٨٦)، وبالتأكيد هناك عوامل متعددة تؤثِّر في هذه الأرقام غير الالتزام.
ويرى د. مساعد المحيا أن صدور الأمر الملكي بمَنْع التجوُّل وتنفيذ الجهات الأمنية له سيُنتج سلوكيات اجتماعية إيجابية جديدة، وستتوقف غالب الاجتماعات، وسيدرك الجميع أهمية الالتزام بذلك، مع احتمالية وجود مخالفين، وعسى أن لا تكون مرهقةً لرجال الأمن.
أما د. نورة الصويان فترى أن فيروس كورونا المستجد من شأنه أن يمتد تأثيره على مستوى المجتمعات، والحكومات، والرعاية الصحية والاجتماعية، والاقتصاد، والمجتمع المدني، وأنماط الحياة. ما نلاحظه في تغريدات الأفراد في توتير خلال هذه الأزمة الانتماء وإظهار الولاء للدولة لمبادراتها وجهودها الوقائية السباقة، والإشادة بدور القطاع الصحي الملحوظ حتى إنهم أصبحوا رمزًا للوطنية لكونهم في الخطوط الأمامية التي تتعامل مع هذه الجائحة، سواء كانوا أطباء أو ممرضين أو صيادلة؛ إضافةً لكافة القطاعات في الخطوط الأمامية إبان هذه الأزمة، كمُقدِّمي الرعاية، والباحثين، والمعلمين، وعمال المرافق. والملاحظ أن هذه الأزمة سوف تُوثِّق العلاقة والانتماء والثقة أكثر بين الدولة والمجتمع بكافة أفراده ومؤسساته، والعلاقة بين بعضنا البعض، وسيكون لدينا تقديرٌ أكثر لمُتع الحياة البسيطة الأخرى التي كُنَّا ننعم بها ولم نستشعر أهميتها ومتعتها إلا بعد أن فقدناها هذه الفترة. لكن اللافت للنظر أننا لم نلاحظ أيَّ دور ملموس لمؤسسات المجتمع الأهلي مع أنه من المعروف أن تبعات فترة الانقطاع خلال الفترة الماضية على الأسر الفقيرة ليست سهلةً، ولا بد من تفقُّد أوضاعهم وتلمُّس احتياجاتهم، وهنا يبرز دور المجتمع الأهلي والمدني.
وأشار أ. محمد الدندني إلى أن هناك ولو قلة مَن يعتمد على الأجر اليومي، وإذا طالت مدة الجائحة والإجراءات المصاحبة لها سيعجز عن قوت يومه. وإذا نظرنا إلى الوافدين فهناك عمالة كثيرة حرة تعتمد على الأجر اليومي (العمالة بلا كفيل عامل)، وهنا يبرز دور الجمعيات الخيرية وأهل الخير، وهم كُثُر في مجتمعنا، فقط إيجاد الآلية والمظلة الجامعة لهذه الجهود. وعقَّبت د. وفاء طيبة بأنها لهذا تلفت النظر إلى جانب قانوني مهم يتعلق بافتقار أنظمتنا إلى قوانين تحفظ حقَّ العامل أو الطالب أو غيره في زمن الكوارث، فالظن أن الأنظمة ليس فيها شيءٌ عن الظروف القاهرة أو الطارئة. وفي مثل حالة العمالة المشار إليها، مَن يضمن لمثل هؤلاء قوتَ يومهم، كثيرٌ من العمالة والعاملين البسطاء في القطاع الخاص تمَّ تسريحهم أو أُعطوا إجازة بدون مرتب وليس هناك قانونٌ يحميهم، وربما يكون مراجعة ذلك في أروقة مجلس الشورى مهمًّا. ومن جديد، أكد أ. محمد الدندني على ضرورة أن يكون هناك قوانين لحمايتهم، وأيضًا تحفيز صاحب العمل؛ فمثلاً: مَن يُسرّح بلا مرتب أو إجازة بلا مرتب، يجب أن يستمر الدفع وتُخصم هذه المبالغ التي دُفعت بلا إنتاج من الزكاة المستحقة على صاحب العمل.
وذهب د. حامد الشراري إلى أن على الجمعيات الخيرية أن تُغيِّر إستراتيجياتها في إيصال المؤن والأرزاق إلى مستفيديها؛ فهذا دور مجلس الجمعيات الأهلية وكذلك وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية في توجيه وتذكير الجمعيات بذلك. وبدلًا من أن يأتي المستفيد ويستلم مؤنته الشهرية حسب المُخصَّص له، الآنَ يُفترض أن تعمل الجمعيات على إيصال تلك المؤن إلى منازل المستفيدين. وأضافت د. وفاء طيبة أنه يجب أن يكون من ضمن هذه المؤونة الكمامات والمعقمات والصابون، وشرح لطريقة استخدامها، وتبليغ برسالة تعليمات الدولة التي قد لا تصل لهم لسبب أو لآخر أو قد لا يقتنعون بها. فعلى أهمية المؤونة الغذائية إلا أن المؤونة الصحية والإعلامية مهمة جدًّا هذه الأيام، ولتساعد الجمعيات الخيرية الدولة في ذلك.
وذكرت د. فايزة الحربي أن كثيرًا من الجهات في القطاع الخاص لا نشاهد لها دورًا توعويًّا أو أيَّ مشاركة مجتمعية، مجرد مبادرات لا تكاد تُعَدُّ على أصابع اليد الواحدة، ونحن بحاجة إلى حثِّ الشركات للمساهمة الفاعلة في مواجهة جائحة كورونا.
ولفت د. خالد الرديعان أن الخشية من أن يكون انتشار الوباء في المدن الصغيرة والبلدات سيكون بوتيرة أسرع، بحكم أن الناس يعرف بعضهم بعضًا، وقد يتزاورون ولا يتباعدون فيزيقيًّا. ومن الضروري الآن زيادة الوعي بضرورة التباعد، وأن تكون رسائل الإعلام في هذا الجانب. وهناك عادةً عند بعض السعوديين – يمكن الإشارة إليها للضرورة القصوى – وهي أن البعض يتحدث بصوت مرتفع حتى لو كان قريبًا من المستمع؛ مما قد يترتب عليه صدور رذاذ من فمه أثناء الحديث؛ لذلك فمن المهم التوعية بأن تكون المسافة بين المتحدثين مترًا واحدًا، سيكون إجراءً احترازيًّا مفيدًا. وأضافت د. مها المنيف أن قدرات القطاع الصحي في هذه المناطق أقلُّ بكثير من المناطق الرئيسية خاصةً من ناحية وجود غُرف عناية مركزة ومستشفيات مستوى ثالث للعناية بالمرضى.
وأضافت د. وفاء طيبة أنه يجب مراعاة الجانب النفسي للطاقم الطبي والضغوط التي تقع عليهم بتخصصاتهم المختلفة، من المؤكد أنهم يعملون أطول من العادي، وفي ظروف صعبة غير عادية، وتحت حالة من القلق على الوضع الحالي وعلى الحالات وعلى أنفسهم وأسرهم؛ مما يجعلهم تحت ضغط نفسي كبير قد يؤدي إلى ضعف مناعتهم والتقاطهم للعدوى، وهم بالطبع أقرب الناس لها. فمع التذكير بصورة بعض الطاقم الطبي في إيطاليا يبكون مما يرونه حولهم من المرض والموت، بحول الله وقوته لن نصل لذلك، لكن مثل هؤلاء الأشخاص يجب أن نعمل على حمايتهم نفسيًّا حتى يستطيعوا الاستمرار في أعمالهم، وثمة مُقترَح سابق الإشارة إليه بعزل الطاقم الطبي لعدم نقل العدوى إنْ كان ثمةَ أهمية لذلك؛ ولذا يجب مراعاة أمور تنظيمية أخرى لتخفيف الضغوط عن هذا القطاع المجاهد. ومع أنه قد يكون الوقت والوضع ضاغطين بشكل كبير الآن، ولكن يمكن الاستفادة من الأخصائيين النفسيين والكوتش بعمل عيادة خاصة في المستشفيات الرئيسية، خاصة بالطاقم الطبي فقط، ومنفصلة عن العيادات النفسية العادية.
وتطرقت د. عفاف الأنسي إلى جانب التوعية ودور عالم الاجتماع فيها، والذي يجب أن يكون دوره تكامليًّا مع عالم النفس والطبيب والإعلامي؛ للعمل على رسائل توعوية مبنية على حقائق وبيانات صحيحة، لا تبالغ في الإيجابية للتخلص من الهلع والقلق الاجتماعي، ولا تبالغ في التخويف للالتزام بالتباعد الاجتماعي. البيانات الصحيحة الواقعية تبني الثقةَ، وهي عامل مهمٌّ في إدارة الأزمات، وقد تحدَّث عالم الاجتماع “أوليرش بيك” عن أزمة الثقة في مجتمع المخاطرة الذي نعيشه، والتي تدفع سلوك أفراد المجتمع إلى اللاعقلانية. فعلى سبيل المثال، المعلومات التي ذكرتها د. مها المنيف هي معلومات يجب أن تُستغل في الرسائل التوعوية؛ لأنها تكشف للعامة واقعَ القطاع الصحي، وبالتالي تُبدِّد حجم المخاطر والإشاعات لدى العامة. كما أننا نحتاج عالمَ الاجتماع عند إعداد الرسالة التوعوية وطريقة صياغتها لتتناسب مع أطياف المجتمع المختلفة، فلا ضيرَ من إعداد عدة رسائل مختلفة تُناسب الأطفال والكبار؛ رسائل تركِّز على الدين، ورسائل تركِّز على الأخلاق، رسائل مرحة، ورسائل علمية… إلخ. كما أن الرسائل يجب أن تُراعي ثقافةَ المجتمع وما يمكن أن يُسبِّب حساسيةً له، وبالتالي ينتج عنه عدم تقبُّل الرسالة بمحتواها، مثل الرسالة الإعلامية التي تم انتقادها سابقًا لتحيزها ضد المرأة.
وذكر د. عبد الرحمن الشقير أنَّ التضامن الاجتماعي يُمثِّل أهمَّ مفصل ترتكز عليه الصحة والأمن، وسبب انهيار المنظومة الصحية لبعض دول أوروبا وغيرها هو التأخُّر في التضامن من خلال التباعد الجسدي عبر الحجر الصحي المنزلي. وهذا السبب هو جوهر نجاح إدارة الأزمة في المملكة، حيث اتبعت الدولة مستويين من التضامن الاجتماعي، هما: أهمية التباعُد الجسدي من أجل التضامن، وهذا أحد شعارات وزارة الصحة؛ والثاني التضامن من أجل مساعدة الآخرين، وقد أكَّد الملك سلمان – حفظه الله – في كلمته للمواطنين على التضامن الاجتماعي، وقد تضامنت الدولة فعلًا مع القطاعين الخاص والعام، ومع المواطن والمقيم، وبقي أن يتحمل القطاع الخاص مسؤوليته تجاه المجتمع، ويتحمَّل أفراد المجتمع مسؤولياتهم تجاه جيرانهم ومعارفهم بالسؤال عنهم والاطمئنان الدائم عليهم وتفقُّد المحتاجين للسلع والخدمات منهم.
وأشارت د. الجازي الشبيكي أن أغلبنا لاحظ السلوكيات الاجتماعية التي صاحبت الأزمة، والتي تمثَّلت في استجابات الناس لهذا الحدث وتطوراته المتسارعة، هذه الاستجابات التي كانت نتيجة خروجهم فجأةً عن روتين حياتهم اليومي وما يتضمنه من أنماط وعلاقات وتفاعلات وعادات روتينية متكررة اعتادوا عليها، فكانت ردود أفعالهم – كما ظهرت في التعبير عنها في القنوات الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي – مختلفةً ومتعددةً، وربما متباينةً إلى حد ما. فهناك مَن رأى – على سبيل المثال – في البقاء الإلزامي في المنزل فرصة للتمحور الأسري وإعادة ضبط العلاقات داخل البيت العائلي لتعود لطبيعتها الأصلية التي قامت وبُنيت من أجلها من حيث التقارُب والتآلف والفهم والدعم والحوار والحب والأُلفة، وهناك مَن وصف البقاء الإلزامي بالمنزل بالحجر المُمِلِّ لما تسبَّب فيه من العديد من المشكلات العائلية بين الأزواج فيما بينهم وبينهم وبين الأبناء. والمتخصصون الاجتماعيون كان من المفترض أن يكون لهم دور فاعل في مثل هذه الأزمة، وهذا يستدعي ابتداءً الإعداد المعرفي والمهاري المُسبق والمستند على البناء العلمي والتطبيقي لأسُس دور الأخصائيين الاجتماعيين في الأزمات. ومن الممكن أن يشتمل هذا الدور على:
- البرامج التوعوية للمجتمع، والمستندة على المعلومات الصحيحة والدقيقة بعيدًا عن الشائعات والأخبار غير الصحيحة.
- تقديم الخدمات الاجتماعية المباشرة أو التحويلية.
- تنظيم البرامج الإرشادية للأسر لاستثمار مواردها وإمكاناتها المتاحة أو التي يمكن العمل على إتاحتها لمعالجة آثار المشكلات والاحتجاجات المُستجدة.
وفي ظل توقُّف أو تعطُّل المراكز والمؤسسات الاجتماعية عن العمل في مثل ظروفنا الحالية، فإن الأمر يستوجب الاستفادة من هذه الأزمة مستقبلًا من خلال ما يلي:
- الالتفات إلى أهمية التخطيط الإستراتيجي وإدارة إجراءات العمل في التعامل مع الأزمات.
- أهمية التفكير في استثمار وسائل التقنية الحديثة لإيصال المعلومة، وإيصال الخدمة.
- الحرص على رصد وبناء الخبرات المعرفية في الأزمات لاستمرارية الاستفادة منها وتطويرها وفق تغيُّر الظروف والأزمات.
- البعد التعليمي ومواجهة تداعيات كورونا (كوفيد-19):
تطرَّق د. عبد الله بن صالح الحمود إلى وجوب الاستعدادات اللازمة لدعم مسيرة الحياة في مواجهة وباء فيروس كورونا (كوفيد-19)، خصوصًا قطاع التعليم والمال والأعمال والتثقيف الصحي، فالبنى التحتية للتقنيات الحديثة أثبتت لنا عدم جاهزيتها الجاهزية المتقدِّمة التي يمكن القول إنها بنى تحتية خادمة لإنترنت الأشياء، تلك التي نؤكد أنها ستكون مسايرةً لمساندة كل قطاع، بينما المؤسف أنَّه اتضح أن ثمة صعوبات في تقديم تعليم عن بُعد متكامل الأركان لكافة طلاب التعليم العام والعالي، وأيضًا العمل عن بُعد لم تكن المنشآت الاقتصادية ذات استعداد متكامل لبرامجها؛ ما يجعل من تطبيق العمل عن بعد يفي بمتطلبات أو يشبه آلية العمل حضوريًّا، إذًا وبعد تجربتنا القصيرة مع وقوع وباء كورونا، ثبت أن لدينا قصورًا تقنيًّا لا بد أن نُعيد النظر فيه، فالتعليم عن بعد، والعمل عن بعد، لا يتأتيان جراءَ مُنادات فحسب، أو حتى اقتناء أجهزة لوحية مع برامج متواضعة تضعها الأجهزة المختصة دون أن تعلم أن تأسيس برامج متكاملة وفاعلة بطُرق افتراضية هي أساس أداء الأعمال والمهام كما هي على الطبيعة. ويمكن في هذا الإطار التوصية بما يلي:
- تأسيس بنى تحتية ذات بيانات تقنية ذات قدرة فائقة تلبي متطلبات التعليم والأعمال، وبكفاءة ذات تقنية عالية – Hi TECH.
- من اليوم وصاعدًا، لا بد أن تُؤدَّى أجزاء من مناشط التعليم والعمل عن بُعد بجانب الأداء حضوريًّا؛ لضمان نجاح وتفوُّق أداء المهام عن بُعد مستقبلاً.
- إطلاق برنامج إدارة الأزمات ومواجهة الأحداث، ومَنْح دورات تدريبية حول ذلك للطلاب والعاملين في مؤسسات القطاعين العام والخاص.
ويرى أ. د. عثمان العثمان أنه لا بد من تفعيل التعلم الإلكتروني للحالات الطارئة أولاً، ولإكساب المتعلم المهارة والشعور بأهمية التعلُّم الذاتي والمستمر تحت أي ظرف.
ويرى د. عبد الله بن صالح الحمود أنَّ الأهمَّ هو أن تُعاد هيكلة وضوابط المباني المدرسية، وأن نسعى إلى تأهيل الأفراد نحو عدة تخصصات تخدم مسيرة الحياة، ومسألة خصخصة القطاعات، فبالرغم من وجوب الإتيان بها إلا إن الأمر لا بد أن يتأتى وفق ضوابط قوية تكون داعمةً للمستفيد والمستثمر.
وتساءل د. خالد بن دهيش: كيف تُسهم الحكومة والقطاع الخاص في مجال التعليم عن بُعد من واقع تجربة الجامعة السعودية الإلكترونية؟ وكيف ننقلها للمؤسسات التعليمية الأخرى؟ وبدوره أوضح د. حامد الشراري أن الجامعة السعودية الإلكترونية بدأت عام ٢٠١١ كتجربة فريدة للمملكة، وسابقة للعديد مِن الدول في قراءات المستقبل وأهمية تبني مثل هذا النوع من التعليم (التعليم الإلكتروني). والجامعة السعودية الإلكترونية تتبع نمط التعليم المدمج (وهو خليط بين التعليم الحضوري والتعليم الافتراضي (الإلكتروني) بنِسَب معينة. عند هذه الأزمة، لم تواجه الجامعة أيَّ صعوبة في التحوُّل من التعليم المدمج إلى التعليم الإلكتروني (عن بُعد) بشكل كامل؛ لأنها مُمارسة ولديها خبرة ١٠ سنوات، وتطوِّر أدواتها وتُقيِّمها باستمرار. وأضاف أن الورقة الرئيسة تطرقت في المحور التعليمي إلى توجُّه المؤسسات التعليمية إلى خيار التعليم الإلكتروني (عن بُعد)، وأشارت بقوة إلى تحديات البنية التحتية التقنية، وهي من التحديات التي يجب معالجتها مستقبلاً، ولإثراء هذا المحور من الجانب التنظيمي وضبط الجودة، وحيث إنَّ من مهام مجلس شؤون الجامعات، إقرار اللوائح الأكاديمية ذات العلاقة بنظام الجامعات الجديد، فحريٌّ بالمجلس إعداد لوائح خاصة بالتعليم عن بُعد والاختبارات عن بُعد (الإلكتروني = عن بعد). وبالطبع، فإن البنية التحتية التقنية وسعة النفاذ، هذا تحدٍ آخر. أيضًا، هناك توجُّس واعتقادي أنه غير غائب عن المسؤولين ذوي العلاقة؛ وهو اختراق الخصوصية لجهات حساسة في الدولة بحكم العمل عن بُعد والتعليم عن بُعد، من شركات التقنية مُقدِّمة الخدمة. والخلاصة أنه بالنسبة للتعليم عن بُعد، هناك هاجسان يؤرِّقان أصحابَ القرار:
١- كيفية ضبط جودة التعليم!
٢- كيفية ضبط الاختبارات والواجبات!
وعقَّبت أ. فائزة العجروش بأن هذين الهاجسين في مكانهما، فالواقع أن التعليم العام هو ما يعاني أكثر في هذه المرحلة؛ كون تطبيق التعليم عن بُعد في مراحل التعليم العام لا يزال ينقصه الكثير والكثير مقارنةً بالتعليم الجامعي، ويأتي في مقدمتها (مدى جاهزية البنية التحتية للمدارس فيما يتعلق بالأنظمة التقنية التي تُسهل التنفيذ على أكمل وجه، ودون أية عوائق) و(هل لدينا العدد الكافي من المعلمين والمعلمات المؤهلين للتنفيذ)، و(مدى استعداد الطالب وتقبُّله للاستفادة من وسائل (التعلم عن بُعد)، و(مدى جاهزية أولياء الأمور لتعظيم مخرجات هذا النوع من التعليم). ومن جانبها، أوضحت د. وفاء طيبة أن الكليات التطبيقية المتضمنة لمقررات تحتاج دراسةً عملية تعاني هي الأخرى. وبدوره أضاف د. حامد الشراري أن التعليم العالي هو الآخر يواجه صعوبات قد تكون أقل حدةً من التعليم العام؛ أما بالنسبة إلى المواد التطبيقية والتي تحتاج دراسة علمية، فقد يُستعاض عنها في برامج المحاكاة على الأقل في هذه المرحلة.
ويرى د. يوسف الرشيدي فيما يتعلق بقطاع التعليم واستعداده والتكيُّف مع التعليم عن بعد، أن الجامعات نجحت وبنسبة مقبولة في التحوُّل إلى تقديم نشاطها التعليمي من خلال المنصات الإلكترونية باقتدار، هناك قصور نعم، والسبب سرعة تحوُّل الأحداث وتحوُّل الوباء إلى جائحة دولية، ولكن لا شك أنها فرصة للحكومة متمثِّلة في وزارة التعليم أن تستثمر في عمل منصة تعليم عن بُعد عامة تشمل الجميع، تكون برسوم مقبولة ورمزية؛ لتكون متاحةً للجميع مع فرض نسبة من المقررات بأن تكون عن بُعد تحسُّبًا لمثل هذه الظروف وغيرها من ظروف؛ لجعل جميع المستفيدين من أساتذة وطلاب أكثر خبرةً واستعدادًا للتعاطي مع تقنيات التعليم إنْ صحَّ هذا الاستخدام. التفاعل والحضور من قِبل المستفيدين في قطاع التعليم جميلٌ، ويعكس مدى دراية ومعرفة الجميع بالتقنية واستخدامها بسهولة ويُسر.
- البعد البيئي في جائحة كورونا (كوفيد-19):
تطرَّق د. زياد الدريس إلى جانب آخر لم يتم الالتفات إليه وهو المتعلق بانعكاسات الأزمة والسلوك الإنساني المصاحب لها على البيئة، سواءً أكانت سلبيةً أم إيجابية. كما أن ثمة تساؤلًا مفاده: هل ستنعكس العُزلة والنظافة والتعقيم والحذر من التجمعات والاكتظاظ وازدياد الوعي الصحي إيجابًا واستدامةً على بيئة الإنسان؟ فثمة هاجسٌ مثلًا أن كثرة التعقيم والتحوُّط والعزلة تحمي من الجرثوم المتسلط الآن، لكنها بالطبع ستُضعف المناعةَ المكتسبة للجسم أمام عودة الجراثيم المألوفة بعد انحسار كورونا (كوفيد-19) قريبًا بحول الله. وهل ستفطن المؤسسات الصحية لتهيئة التوعية بذلك لاحقًا، وللأفراد الحذر والتنبه، خصوصًا للأطفال والمسنين؟ وهل سيصبح الكون فيما بعد التحرزات البشرية أفضل حالًا؟ وهل استفادت البيئة حقًّا من عودة الإنسان إلى (جُحره) وإتاحة الفرصة للكائنات الأخرى أن تأخذَ راحتها بعيدًا عن مضايقة الإنسان لها؟!
وذكرت أ. فائزة العجروش أن التأثيرات على البيئة تعدُّ جانبًا مهمًّا من الجوانب الإيجابية لجائحة كورونا؛ فبالفعل انخفض المعدل العام للتلوُّث في الصين، كما عادت الأحياء البحرية لمياه البندقية على سبيل المثال؛ لكن من جهة أخرى، فثمة اتفاقٌ على الجوانب السلبية لكثرة التعقيم.
- منظمة التعاون الإسلامي ومواجهة جائحة كورونا (كوفيد-19):
تساءل د. خالد بن دهيش: ماذا اتخذت منظمة التعاون الإسلامي من إجراءات نحو جائحة كورونا؟ ومن جانبها أوضحت أ. مها عقيل أن الدور الذي تقوم به منظمة التعاون الإسلامي والمؤسسات التابعة لها مثل الإيسيسكو والبنك الإسلامي للتنمية وغيرها هو دعم جهود المنظمات الدولية الأخرى المعنية وخاصة منظمة الصحة العالمية، والتواصل مع الدول الأعضاء، ومتابعة الوضع لتنسيق وحشد الدعم سواء ماديًّا أو طبيًّا، وقد أعلن البنك مبادرة لدعم الدول كما أعلنت الإيسيسكو عن جائزة لمن يكتشف اللقاح. أما إعلاميًّا فتقوم بحملة توعوية بعدة لغات بالتنسيق مع الدول الأعضاء.
- البعد الإعلامي في مواجهة كورونا (كوفيد-19):
أكدت د. وفاء طيبة على أن الإعلامَ له دورٌ كبيرٌ دائما وأيام البلاء خاصة على نحو ما هو الحال الآن لمواجهة الشائعات والمعلومات الخاطئة. وبعيدًا عما دارَ في الإعلام من صدق الخبر أو كذبه، وما شاع حول المؤامرة من عدمها، نحن أمام جائحة، والدولة تُحارب بكل قوة، وهي حرب ليست هينة؛ ولذا يجب التركيز على الرسائل التي تصل للمواطن، والتي يمكن أن يكون لها أثرٌ كبيرٌ، وهو دور من أدوار الإعلام في المرحلة الحالية. والواقع أن الإعلام يقع على عاتقه أن يصل في هذه الجائحة لكل شريحة وكل طبقة من المجتمع، وأن يُوجِّه لها الرسالة التي تتفاعل معها وتفهمها بالفعل، وإلا فلا فائدة من التوعية التي ولسوء إخراجها أو اللغة التي تتكلم بها قد تبتعد بالسامع عن الرسالة الأساس حول الفيروس. ولكن هناك بعض المقاطع الجميلة لوزارة الصحة. أيضًا، ومع التنويه بأهمية ما قامت به الدولة من إصدار معلومات وتعليمات بلغات مختلفة، فإن من المهم أن تصدر بكل اللغات – إنْ لم يكن هذا هو الحادث بالفعل – فهذا ضروري جدًّا، فنحن بلدٌ به جنسيات كثيرة مُقيمة غير متحدِّثة باللغة العربية.
وأضافت د. مها المنيف أنه للأسف، فإن بعض الرسائل الإعلامية غير مُوجَّهة لما يحتاجه الفرد في هذه المرحلة الحرجة، والواقع أننا نحتاج توعيةَ الفرد بمدى أهمية المباعدة الاجتماعية، والالتزام بالبيت، وغسل الأيدي، وتنظيف الأسطح، والابتعاد عن الاجتماعات العائلية حتى لو كانت لشخصين أو ثلاثة، فنحن في مرحلة حرجة جدًّا. إنَّ الله خلق في الإنسان القدرةَ على الصمود والتكيُّف، ففي بداية العزل نتضايق بعضَ الشيء، لكن بعد ذلك تظهر قدرة الإنسان على التكيُّف مع ظروفه.
وتساءل أ. د. عثمان العثمان: أيهما يجب أن يغلب في هذه المرحلة: سياسة التخويف أم الطمأنة، لا سيما مع عدم استيعاب كثير من الناس للأسف؟ وهل يعي غالبية الناس الآثارَ المؤكدة على مناحي حياتهم حتى بعد انجلاء الوباء، بإذن الله؟ والاعتقاد أيضًا أننا مازلنا بحاجة لخطابات ولقاءات متعددة من أعلى المستويات، مثل خطاب خادم الحرمين الشريفين قبل أيام، والذي أشاع شعورًا بمدى الاهتمام، وكذلك لقاء معالي وزيري الصحة والمالية.
وتعليقًا على التساؤل بشأن سياسة التخويف والطمأنة، وأيهما يجب أن يغلب في هذه المرحلة الحرجة، ترى أ. فائزة العجروش أنه طالما هناك غرائز بشرية لا يُمكن السيطرة عليها من خلال التوجيه والتوعية الطوعية، لن يُمكن ردعها إلا بقوة تطبيق القانون وروحه، وهذا سيعتمد بكل تأكيد على نتائج الأيام المقبلة ومدى تعاون الشعب مع التعليمات وأثره في انخفاض عدد الحالات أو العكس.
وترى أ. مها عقيل أن دور الإعلام في أوقات الأزمات كما هو الحال الآن يتعلق بالأساس بزيادة الوعي وتوفير المعلومة الصحيحة بعدة لغات، وإيصالها للمتلقي بيسر مثلاً عبر توزيع المنشورات وبثِّ المعلومات على الراديو وفي التلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي (نعم، وزارة الصحة قامت بإعداد ملف توعوي بعدة لغات، وأنتجت مقاطع فيديو قصيرة عبر التواصل الاجتماعي، والحقيقة تقوم بدور جبار في المجال الصحي والتوعوي)؛ إلا أنه لا بد من تكاتف وتعاون الجهات والوزارات المختصة في تكثيف الوعي ونشر الرسالة. كما أن هناك أيضًا الجانب الديني، حيث يجب إشراك الشخصيات الدينية التي يثق فيها الناس في التوعية، خاصة أن هناك مَن يتواكل أو ينشر الرعب بأن هذا بلاء من الله بسبب ذنوبنا… إلخ من هذا الخطاب الديني المغلق. الناس بحاجة إلى الاطمئنان على مستقبلهم، فهم قلقون على الوضع الاقتصادي ومما قد يسببه إذا تفاقم، وقلقون على مستقبل أبنائهم التعليمي (حتى الآنَ، الصورة غير واضحة بشأن الاختبارات والفصول الدراسية القادمة والمبتعثين). كلها أسئلة بحاجة إلى أجوبة واضحة وصريحة. يُشكر للمسؤولين شفافيتهم في تقديم المعلومات حول الحالات. الجلوس في المنزل شكَّل فرصةً للعمل عبر الفضاء الإلكتروني؛ ولذلك يجب التركيز على تطوير البنية التحتية واتباع العمل والدراسة عن بُعد كمنهج وأسلوب. كما أن من المهم أيضًا الاستثمار في مراكز الأبحاث والدراسات، والحاجة إلى الإنتاج الذاتي للأساسيات من غذاء ودواء. وكذلك الاستمرار في تطوير التعليم في كل مراحله، وطبعًا تحسين الرعاية الصحية لكل الفئات والتخصصات.
في حين ترى د. عائشة الأحمدي أن هناك دورًا مهمًّا للمؤسسات المعنية بتشكيل الوعي الصحي؛ سواء ما ارتبط بمؤسسات التعليم، أو مؤسسات الإعلام بمختلف أنواعها، أو بالمؤسسات الثقافية.
وذهب م. خالد العثمان إلى أن الأثر الإيجابي لنجاح السعودية في إدارة أزمة فيروس كورونا، ومشهد التعاضُد والتآزر بين القيادة والشعب وتقبُّل والتزام الناس بتنفيذ تعليمات الدولة سيفوق بمراحل كلَّ جهود العلاقات العامة لتحسين صورتها الذهنية في عيون العالم، ومكافحة حملات التشويه المغرضة من بعض الحاقدين؛ فالعالم كلُّه يشاهد الآنَ ما يجري في كل دولة، وهي فرصة عظيمة لتحقيق مكاسب عظيمة في هذا الملف بتضامن الجميع وتحمُّل مسؤولياتهم.
ومن جانبه يرى د. مساعد المحيا أن الأزمة الحالية حول كورونا تُظهر أهمية الوعي الحقيقي في التعاطي مع التعليمات التي تصدر من وزارة الصحة، إذ نجد أنَّ كثيرًا الناس بما فيهم بعض المسؤولين في العالم أصابهم المرض بسبب تساهُلهم في حلقة واحدة من حلقات عدم المخالطة. كما تُظهر هذه الأحداث أن التعليم لا علاقة له مباشرة بالوعي، وهذا ما يُقلق في مجتمعنا؛ إذ إن مسألة الوعي لا ترتبط فعلاً بالضرورة بمستوى ولا بنمط التعليم. فكثيرون حاليًّا في مجتمعنا غير مكترثين ويهوِّنون من آثار هذه الجائحة ويشعرون فعلاً أنهم لن يُصابوا بها. هذه الثقة ينبغي أن تتكسر إعلاميًّا برواية كل المعلومات التي تُعزِّز فكرة العزل المنزلي قبل أن نصل لمرحلة قسر الناس على عدم المخالطة.
ولاحظ د. رياض نجم أن كثيرًا ممَّن يتعاملون مع وسائل التواصل الاجتماعي يتداولون أخبارًا غير موثَّقة ومن مصادر مجهولة عن وجود علاج للكورونا (كوفيد-19)، وأنه سيبدأ تطبيقه على المصابين خلال أيام! حتى إن بعضهم ادِّعى وجود علاج هنا في المملكة. ومعظم هؤلاء يؤمنون بنظرية المؤامرة، وأن هناك جهةً ما قامت بصنع هذا الفيروس وستُطلق العلاج في الوقت المناسب! والواجب هو تحري الأخبار من مصادرها الموثوقة وليس التي على هوانا.
وأكد د. حميد الشايجي على أهمية أن تكون الرسائل التوعوية واضحةً وفعَّالة، وكمثال التوعية باستخدام اليد غير المسيطرة (التي لا يتم الكتابة بها) في الأماكن العامة في فتح الأبواب في المكاتب، والحمامات، ووسائل النقل وغيرها؛ لأنه من الصعب جدًّا أن يلمس الشخص وجهَه بتلك اليد، ففي كوريا نشروا هذه الفرضية على نطاق واسع كرسالة توعوية للحد من انتشار كورونا، والتصوُّر أنها صحيحة إلى حد كبير؛ لأننا غالبًا ما نلمس وجهنا باليد المسيطرة (والتي غالبا ما تكون اليُمنى).
وفي اعتقاد د. زياد الدريس، فإن النجاح الإعلامي لوزارة الصحة السعودية في إدارة جائحة كورونا (كوفيد-19) يكمن في خمسة أمور، وهي:
- أولًا: الشفافية والصدق، فبعد أن كان الناس يتشككون كالعادة في أعداد المصابين وأماكنهم، ويلجؤون إلى الإشاعات والمعلومات غير الدقيقة المسرَّبة من بعض العاملين في القطاع الصحي، لم يعُد الناس يلتفتون إليها؛ بل أصبحوا متطوعين في الرد على الأخبار المكذوبة.
- ثانيًا: السرعة؛ لأن أيَّ تأخر في إيصال المعلومة يترك فراغات يملَؤھا الناس من أقرب مصدر قد لا يكون الصحيح.
- ثالثًا: المعلومات الدقيقة والمستفيضة المشبعة التي تجعل الشخص لا يبحث عن مصادر أخرى، تسدُّ جوعه وتُشبع نهمه.
- رابعًا: لم تقُم وزارة الصحة بدور المزارع والطباخ والسفرجي في آن واحد كما تفعل غالبية الوزارات والهيئات الحكومیة؛ بل وفَّرت المعلومات للجميع، وتركت لأهل المهنة ولغیر أھل المهنة القیام بما يرون دون اشتراط مُسبق أو مدفوع.
- خامسًا: صدق وعفوية الحديث دون تصنُّع أو تزويق من جانب المتحدِّث الرسمي لوزارة الصحة، والذي يتحدث بهدوء وصدق وكأنه يتحدث إلى أهله يحسُّ بهم ويحسون به، ولیس مجموعة موظفين يؤدون دورًا، وحین ظهر الوزير توفيق الربيعة مُخاطِبًا المواطنين أحسَّ الناسُ من خلال تلقائيته أنه ابن وأب، وأخ لأحدهم، فأحسوا به وصدقوه وتفاعلوا معه.
وفي السياق ذاته، يرى أ. عبد الله الضويحي أن من مكاسب كورونا (كوفيد-19) أن فتحت أذهاننا على أمور كثيرة؛ فلا يختلف اثنان على نجاح وزارة الصحة بقيادة وزيرها توفيق الربيعة في إدارة ملف “كورونا (كوفيد-19)” بعد توفيق الله، ثم دعم ولاة الأمر والحكومة الرشيدة. وقد أثبتت الأزمة أن مَن يعمل أو يريد العمل سيجد كلَّ تجاوُب ودعم من القيادة، وأن المشكلة في كثير من القطاعات – وخاصة عند الأزمات – ليست في عدم الصلاحيات بقدر ما تكمن في القدرة على التعامل مع الموقف. وفريق العمل المُكلَّف بإدارة الأزمة برئاسة وزير الصحة لم ينجح في التعامل معها طبيًّا فقط، بل اجتماعيًّا وإعلاميًّا، وكان للتعامل التدريجي مع القرارات مثل حظر التجول وغيرها دورٌ كبيرٌ في تقبُّلها والتفاعل معها. وكان لتعاون الجهات الأخرى مثل وزارة التجارة أو البلديات دورٌ آخر. أما وزير الصحة فكان قليلَ الظهور، ويعمل بعيدًا عن الإعلام، وإنْ تحدَّث فهو يتحدث بهدوء وثقة ورسالة مختصرة، وكان هناك مُتحدِّث إعلامي للوزارة برز على الساحة واثقًا من حديثه ورسائله الإعلامية، والتي تميزت بالشفافية والوضوح والسبق في الإعلان عن الإصابات وغيرها؛ لقطع الطريق على الشائعات. نحن بحاجة لأن نستفيد من هذه التجربة في مواقع كثيرة، وترجمتها بما يمليه الموقف.
ويرى م. فاضل القرني أنه بعد الذي حدث ويحدث في الغرب، فإن السيطرة على الفزع هو المفتاح للإدارة الناجحة للأزمة. إذا عمَّ الهدوءُ سيكون هناك مجالٌ للأفكار والمبادرات الفاعلة بأقل موارد بمختلف أنواعها وإجراءات ممكنة، وفق اعتبارات متعددة شعبية ومالية وإمكانات طبية وأمنية. وربما التصريحات الإعلامية في بريطانيا تسبَّبت في هلع. السيطرة على الإعلام وتوحيد الإستراتيجية والهدف مهمة الآن، وحتى الانتهاء من الأزمة بمشيئة الله. ويكون جوهر المحتوى هو أزمة إنسانية، وليست معنية بعرق أو دولة معينة.
وقد تمت أيضًا مناقشة:
- إنشاء مركز معلومات بخط ساخن ومُحدَّث بالمعلومات كل ساعة للأزمات يعمل طيلة الـ 24 ساعة، ومرتبط بقناة تلفزيونية مجانية في كل بيت.
- التفكير في إنشاء اتحاد تنظيم مجتمع مدني يضمُّ في عضويته مندوبين لجمعيات ومراكز ومؤسسات المجتمع المدني، للتشاور وتنسيق العمل لخدمة المجتمع في الأزمات تكاملًا مع جهود الدولة والقطاع الخاص.
- التوصيات:
- أولًا – توصيات خاصة بالقمة الاستثنائية لمجموعة العشرين:
- العمل على تعزيز النظام الصحي حول العالم من خلال مواجهة التحديات؛ بأن يعتمد على الرعاية الصحية الحكيمة، وسلامة المرضى والأطباء والممارسين الصحيين، والتأهب للأوبئة، وتطوير الصحة الرقمية.
- توفير مزيد من الفرص الوظيفية في القطاع الطبي وخصوصًا النساء، وصولًا إلى إنشاء أنظمة صحية مستدامة تُركِّز على سلامة الأفراد والمجتمعات عند الأزمات الطارئة.
- ثانيًا – التوصيات المتعلقة بالجانب الصحي:
- وَضْع خطة طوارئ مستقبلية لمواجهة الكوارث الصحية من قِبل المركز الوطني لإدارة الأزمات والكوارث بوزارة الصحة، على أن تكون خطة وطنية يشارك فيها جميع الجهات الحكومية، ويتم دعمها بالموارد البشرية والمادية اللازمة؛ وتشمل رَفْع الطاقة الاستيعابية للقطاع الصحي في السنوات القادمة من ناحية رَفْع عدد الأطباء والممارسين الصحيين، الأسِرَّة في المستشفيات، أسِرَّة العناية المركزة، المعدات، أدوات التعقيم، والصناعات الضرورية. ووضع الميزانية الكافية لذلك.
- تضمين الخطة الحالية للمواجهة:
- تدريب أطباء الباطنة والأطفال والتخصصات الأخرى وصغار الأطباء في الجامعات ليعملوا في الإسعاف والعناية المركزة، وتجنيد أطباء وممرضي المناطق ليكونوا على استعداد للتحرُّك من منطقة لأخرى حسب الحاجة.
- السرعة في نقل طاقم التمريض من منطقة لأخرى حسب الحاجة.
- الحجر المؤقت على العاملين في القطاع الصحي ليكونوا قريبين من المنشأة، وعدم اختلاطهم بأهلهم لمَنْع انتشار المرض بينهم خاصة أنهم هم جنود هذه الحرب، والوطن في أمس الحاجة لهم.
- ثالثًا – توصيات خاصة بالجانب الاجتماعي والنفسي:
- توجيه رسائل توعوية من متخصصين نفسيين حول كيفية التعامل بحكمة مع هذه الفترة في الأسرة، والاستفادة منها في تقوية العلاقات، وملء وقت الفراغ بما هو مفيدٌ، وتجنُّب الخلافات والمشكلات.
- افتتاح عيادة نفسية خاصة بالممارسين الصحيين يعمل فيها أخصائيون نفسيون لمساعدة الطاقم الطبي على الحديث عن مخاوفهم والصعوبات التي يواجهونها، ومساعدتهم على التغلُّب على الضغوط.
- رابعًا – توصيات خاصة بالجانب الإعلامي:
1- إبراز مدى عمق اللُّحمة الوطنية بين القيادة والمواطن، والمبادرات الإنسانية المقدَّمة من فئات المجتمع المختلفة لدعم جهود الدولة.
- توجيه الرسائل بمختلف الطرق والمستويات المعرفية للوصول إلى كل طبقات وعينات المجتمع؛ صغارهم وكبارهم، المتعلم والجاهل.
- خامسًا – توصيات خاصة بالجانب التعليمي:
- مبادرة وزارة التعليم نحو تأدية جزء من مناشط التعليم عن بُعد بجانب الأداء على الواقع كل سنة دراسية، وليس في حالات الأزمات فحسب، ضمانًا لنجاح وتفوق التطبيق الافتراضي للتعليم.
- إطلاق برنامج لإدارة الأزمات ومواجهة الأحداث في وزارة التعليم يتلمس الاحتياجات الواقعية، ومَنْح دورات تدريبية حول ذلك للطلاب والعاملين في المؤسسات التعليمية للقطاعين العام والخاص.
- سادسًا – توصيات خاصة بالجانب الاقتصادي، وسابعًا – توصيات مقترحة لدعم القطاع الخاص: تم دمج هذه التوصيات مع توصيات قضية أثر جائحة كورونا على الجانب الاقتصادي.
- ثامنًا – توصيات أخرى:
- توثيق جميع الأحداث والجهود والإجراءات على كل المستويات في وثيقة واحدة، يمكن الرجوع لها للاستفادة منها في أي أزمات أخرى لا سمح الله، ويمكن إضافة بعض القصص المهمة والملهمة أيضًا.
- أن تعمل هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات على تأسيس بنى تحتية ذات قواعد بيانات بتقنية عالية الكفاءة والأداء لتلبية وتحقيق متطلبات التعليم والعمل عن بُعد.
- ضرورة تخصيص جزء من الناتج القومي لدعم توطين المعرفة ونقلها وتطويرها في مجالات متعددة، ودعم الأبحاث المتخصصة لا سيما في المجال الصحي.
- ضرورة دراسة وتمثيل سيناريوهات متعددة متوقعة للكوارث والأزمات، لبناء خُطط لمواجهتها وإدارتها بفعالية.
القضية الخامسة
الأثر الاقتصادي لانتشار وباء كورونا
(31/3/2020م)
- الورقة الرئيسة: أ. نبيل المبارك
- إدارة الحوار: أ. عبد الرحمن باسلم
- الملخص التنفيذي:
أشار أ. نبيل المبارك في الورقة الرئيسة إلى أن الاقتصاد العالمي قبل وباء كورونا لم يكن في أحسن حال، وهو يعاني منذ الأزمة المالية العالمية في العام ٢٠٠٨م، ويصعب الحديث في المرحلة الحالية عن آثار اقتصادية محدَّدة بشكل قاطع لجائحة كورونا، وإنْ كان يمكن رصد بعضٍ من ملامحها الراهنة؛ فعلى المستوى العالمي ورغم كل ما يحدث وتوقُّف الحركة الاقتصادية، فالاعتقاد أن هناك من الآثار الإيجابية رغم الجائحة على المديين المتوسط والطويل أكثر من الآثار السلبية على المدى القصير؛ لأنه ببساطة الاقتصاد العالمي بحاجة إلى إعادة هيكلة لمؤسساته ولأدواته، نزولًا للسياسات المالية والنقدية. كما سوف نُشاهد بدايةً تفاهمًا أمريكيًّا صينيًّا لإدارة العالم أو صراعًا أمريكيًّا صينيًّا للاستحواذ على العالم، ولا يوجد خيار ثالث مع الأسف. كما أن المؤسسات الدولية سوف تبدأ في الذوبان والاضمحلال للأدوار التي كانت تلعبها في إدارة اقتصاد العالم، أو أن تتم إعادة هيكلتها بما يتماشى مع موازين القوى الجديدة. وفيما يتعلق بالأثر الاقتصادي الكلي على مستوى الاقتصاد السعودي تحديدًا، فالتصور أن الآثار الإيجابية على المدى المتوسط أكثر بكثير، ولا سيما مع تحقيق أهداف إستراتيجية للمملكة من خلال ما يحدث لقطاع الطاقة على مستوى العالم، والذي أثبتت المملكة أنها القائد الأوحد له على مستوى العالم، وتعرف متى وكيف تتحرك. ولعل ما حدث يساعد في إعادة النظر في بعض التوجُّهات، والعمل على أن يكون لدينا قدرٌ متزايد من الاكتفاء الذاتي وكامل الدورات الإنتاجية وخصوصًا فيما يخصُّ الأمن الغذائي والتقني والصحي.
وتضمنت المداخلات حول القضية المحاور التالية:
- الأثر الاقتصادي لجائحة كورونا على المستوى العالمي.
- ما مصير الرأسمالية بعد جائحة كورونا؟
- الأثر الاقتصادي لجائحة كورونا على الاقتصاد المحلى السعودي.
- الأثر الاقتصادي لجائحة كورونا على الشركات الكبيرة.
- الأثر الاقتصادي لجائحة كورونا على المنشآت الصغيرة والمتوسطة.
- الأثر الاقتصادي لجائحة كورونا على رواد الأعمال والمبادرين.
- الأثر الاقتصادي لجائحة كورونا على الأفراد في العالم والمملكة.
ومن أبرز التوصيات التي انتهى إليها المتحاورون في ملتقى أسبار حول القضية، ما يلي:
- فيما يتعلق بالاقتصاد العالمي: (يمكن أن تُقدَّم من خلال مناقشات قمة العشرين):
- ضرورة أن تُعاد هيكلة الموازنات المالية للدول، وذلك نحو تقديم الأهم على المهم، خصوصًا الموازنات الخاصة بالقطاعات الصحية والتنموية بعد انكشاف الأنظمة الصحية المخزي وعدم قدرتها المحافظة على المكتسبات، وأن تكون الحكومات هي القائد الأول في هذا القطاع.
- على الدول الإسلامية من خلال علمائها الاقتصاديين والماليين دراسة تقديم النظام المالي القائم على أساس الاقتصاد الإسلامي الخالي من الفوائد، والقائم على موازنة مصلحة الفرد والجماعة خاصة بعد النجاح المنقطع النظير للمصرفية الإسلامية.
- فيما يتعلق بالاقتصاد المحلي السعودي:
- يجب أن تكون الميزانيات الطبية والصحية على رأس أولويات الحكومة؛ فالصحة لا تقلُّ أهميةً عن الأمور العسكرية، والإنسان هو أساس الاقتصاد.
- متابعة تنفيذ الخطط الإستراتيجية للأمن الغذائي والمائي، وتطبيق أحدث التقنيات المناسبة للبيئة المحلية.
- فيما يتعلق بالشركات الكبيرة:
- أن يسعى صندوق الاستثمارات العامة للاستحواذ على شركات للصناعات العسكرية وتقنيات المياه والطاقة المتجددة والزراعة والبناء والذكاء الاصطناعي وغير ذلك، وتوطينها حتى تكتمل سلسلة الأمن الشامل في حالات النوازل.
- إنشاء أرامكو شركة استكشاف دولية، والاستحواذ على شركات نفطية صغيرة أو متوسطة في ظل الأزمة الحالية، والتي قد تكون فرصة مواتية.
- فيما يتعلق بالمنشآت الصغيرة والمتوسطة:
- سرعة تنفيذ وزارة المالية لمبادرات الدعم الكبيرة والتي تبلغ 120 مليارًا وغيرها، مع متابعة التنفيذ للقرارات الصادرة بشكل سريع؛ وإلا فإنه لن يبقى هناك الكثير لإنقاذه في ظل تسارُع فرص الإفلاس والإغلاق في القطاع الخاص، وخاصة المنشآت الصغيرة والمتوسطة.
- فيما يتعلق بالأفراد:
- تفعيل الصندوق المجتمعي للتخفيف من آثار وباء كورونا، لمساعدة الأفراد المحتاجين على تجاوز الأزمة.
- الورقة الرئيسة: أ. نبيل المبارك
نحمد الله ونشكره أن قيَّض لهذه البلاد قادة همُّهم الأول الإنسان، وسلامة الإنسان على هذه الأرض، وزرع السلام حول العالم؛ بدليل أن كل الإجراءات الاحترازية التي اتخذتها المملكة جاءت قبل كل دول العالم الذي يتسابق الآن لاتخاذ نفس الإجراءات، والتي كانت كفيلةً بعد توفيق وحماية الله، بأن نكون من ضمن أقلِّ دول العالم تضررًا، رغم أن فاتورة تلك الإجراءات باهظةَ الثمن، لكن قيادة هذا البلد كانت واضحةً، وقال الملك سلمان – حفظه الله – بما معناه: إننا مستعدون لدفع أيِّ ثمن لحماية البلاد والعباد. وقد قادت المملكة العالم قبل أيام لإنقاذ العالم اقتصاديًّا من خلال حزمة من القرارات بنحو ٥ تريليونات دولار عبر اجتماع قادة مجموعة العشرين.
الاقتصاد العالمي قبل وباء كورونا لم يكن في أحسن حال، وهو يعاني منذ الأزمة المالية العالمية في العام ٢٠٠٨م، وهذه حقيقة يعرفها الاقتصاديون حول العالم (وهنا لا أتحدث عن أسواق المال ولا المؤسسات المالية العالمية)، ولكن عن الاقتصاد الحقيقي، عمليات الإنتاج والتصنيع وأسعار المنتجات والهيكل الاقتصادي العالمي الذي تشكَّل منذ الحرب العالمية الثانية بقيادة أمريكا. وهو ناتج عن خلل هيكلي في مضمونه، فمعطيات اليوم غير قادرة على العيش بالهيكل القديم.
مع بداية انتشار الوباء، وقرار منظمة الصحة العالمية وَصْف هذا الفيروس بالوباء بسبب سرعة الانتشار، كان هناك أول إشارات القلق الاقتصادي، رغم أن البداية كانت صينية والمشكلة صحية، وكان هناك نوعٌ من الاحتفاء الغربي بما يحدث في الصين، خصوصًا مع بداية الحرب الباردة من خلال حرب التعريفات الجمركية بين الصين وأمريكا. ما لبث الموضوع أن أدَّى إلى شبه إقفال للحركة الاقتصادية في كافة أنحاء العالم (إقفال محرك الاقتصاد)، وحتى يومنا هذا، ولا يُعرف حتى الآن إلى أي مدى يمكن أن يستمر هذا الإقفال؛ بسبب أن علاج هذا الوباء لن يتم إلا من خلال التباعُد المكاني للأشخاص والعزل المنزلي وتوقيف حركة البشر، إلى أن وصل عدد الأفراد المقيمين إجباريًّا في منازلهم إلى أكثر من ٣ مليارات نسمة.
وبالتالي، يصعب الحديث عن الأثر ونحن في معمعة الوباء، ولمَّا تنقشع الغمة بعدُ. وعليه، يمكن أن يكون هناك بعضُ الآثار التي يمكن توقُّعها ومناقشتها على النحو التالي:
- الأثر الاقتصادي على المستوى العالمي؛ رغم كل ما يحدث وتوقُّف الحركة الاقتصادية، فالتصوُّر أن هناك من الآثار الإيجابية رغم الجائحة على المديين المتوسط والطويل أكثر من الآثار السلبية على المدى القصير؛ لأنه ببساطة الاقتصاد العالمي بحاجة إلى إعادة هيكلة لمؤسساته ولأدواته، نزولًا للسياسات المالية والنقدية. وتحديدًا، مفهوم النقد في الاقتصاد قد تغير. كما سوف نشاهد بدايةً تفاهمًا أمريكيًّا صينيًّا لإدارة العالم أو صراعًا أمريكيًّا صينيًّا للاستحواذ على العالم، ولا يوجد خيار ثالث مع الأسف. كما أن المؤسسات الدولية سوف تبدأ في الذوبان والاضمحلال للأدوار التي كانت تلعبها في إدارة اقتصاد العالم، أو أن تتم إعادة هيكلتها بما يتماشى مع موازين القوى الجديدة.
- الأثر الاقتصادي الكلي على مستوى الاقتصاد السعودي تحديدًا؛ الحمد لله من قبلُ ومن بعدُ، فإن التطورات التي حدثت منذ خمس سنوات على مستوى الاقتصاد المحلي بتوجيهات الملك سلمان – حفظه الله – وقيادة صاحب الرؤية ورئيسها التنفيذي الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد حفظه الله؛ كانت بمثابة الوسادة التي ساعدت على الحدِّ من التأثيرات السلبية على المدى القصير، ولكن أيضًا الاعتقاد أن الآثار الإيجابية على المدى المتوسط أكثر بكثير مع تحقيق أهداف إستراتيجية للمملكة من خلال ما يحدث لقطاع الطاقة على مستوى العالم، والذي أثبتت المملكة أنها القائد الأوحد له على مستوى العالم، وتعرف متى وكيف تتحرك. ولعل ما حدث يساعد في إعادة النظر في بعض التوجهات، والعمل على أن يكون لدينا قدرٌ متزايد من الاكتفاء الذاتي وكامل الدورات الإنتاجية وخصوصًا فيما يخصُّ الأمن الغذائي والتقني والصحي.
- الأثر الاقتصادي على مستوى الشركات الكبيرة؛ بالتأكيد هناك شركات سوف يكون هذا الوباء القشة التي قصمت ظهر البعير كما يقال؛ وفي المقابل، هناك قطاعات وتحديدًا القطاعات التي استثمرت في تقنيات المستقبل من إنترنت الأشياء والذكاء الصناعي والبلوك تشين- سوف تكون المستفيد الأكبر مما حدث.
- الأثر الاقتصادي على مستوى المنشآت الصغيرة والمتوسطة؛ هنا سوف يكون لدينا كوكتيل ذو مذاق جديد، التأثير سوف يكون حادًّا للشركات التي لا تتمتع بكفاءة تشغيل عالية وليس لديها نفس طويل، وهي الأغلبية لدينا مع الأسف، ولكن الاعتقاد أنه على مستوى قطاع التجزئة والخدمات سوف يكون الأثر جيدًا للمنشآت التي سوف تقرأ المستقبل للكيفية التي يمكن أن تتم بها هذه الأعمال. وقد يكون من المناسب لدينا أن تكون الفرصة أكثر ملاءمةً للقضاء على نشاط التستر وتشجيع المبادرين من الجنسين على ملء الفارغ. أما على المستوى الدولي، وبسبب طبيعة الأنظمة الاقتصادية وتحديدًا في أمريكا وأوروبا؛ فسوف نرى أعدادًا كبيرةً خارج السوق، وهو ما قد يرفع معدلات البطالة في أمريكا حسب بعض الوسائل الإعلامية إلى ٣٠٪ إذا استمرت الأزمة أكثر من ستة أشهر.
- الأثر الاقتصادي على مستوى المبادرين ورواد الأعمال؛ باختصار، لن يجدوا مثلَ هذه الفرصة لمن لم يبدؤوا بعدُ. أما من هم في السوق، فإن ما يحدث أكبر اختبار للقدرات الإدارية لهؤلاء للبقاء مع بعض الدعم الحكومي والمؤسسي محليًّا، ويمكن للكثيرين اليومَ الدخول من الباب التقني كونه بابًا واسعًا للمبدعين، والشركات الكبيرة مستعدة لدفع المليارات للاستحواذ.
- الأثر الاقتصادي على مستوى الأفراد؛ العالم ينقسم إلى ثلاثة مستويات: أولًا الغرب، والتصور أنه سوف يخسر المعركة لأنه غير قادر على استيعاب مفاهيم غير المفاهيم الرأسمالية التي طوَّرها خلال المئتي سنة الماضية، ولا يريد التخلي عنها، ومن ثَمَّ فإن الحكومات الغربية وتحديدًا السياسيين قد يجدوا أنفسهم في مواجهة شعوبهم “الهرمة”، والمفككة اجتماعيًّا.
الصين والهند والدول القادمة من مفاهيم عمل مختلفة، قد يكون ما حدث أهم اختبار لها في طريقة إدارة سوق العمل، والاعتقاد أن لديها الرؤية والقدرة. أما على مستوى دول العالم الثالث فيصعب التنبؤ بما سوف يؤول إليه الحال في سوق العمل، خصوصًا تلك التي تعتمد شريحة كبيرة من شعوبها على الدخل اليومي والأعمال البسيطة. أما في الخليج وتحديدًا في السعودية، فما دام الإنسان أولًا، فباقي التفاصيل لا داعيَ لها.
الكاسب الأول من الأزمة هي التقنية، في كافة المجالات، وتحديدًا الشركات التي كانت لديها طموحات في السيطرة على العالم من خلال التقنية، فما يملكون من بيانات ومعلومات عن الأفراد حول العالم لا تملكه الحكومات الرسمية عن مواطنيها، ولا الآباء والأمهات عن أولادهم. وسوف يكون هناك كاسبون كُثُر سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي.
كما أنه سوف يكون هناك عودة ولو بشكل أقل للحدود الاقتصادية على مستوى الدولة القُطرية، إذا ما استطاعت الدول الواعية أن يكون لديها دورات الإنتاج كاملة. فقد كانت ولا تزال الأزمة صادمةً لكثير من الدول، غير مُصدِّقة أن فيروسًا بدأ من بقعة في الصين، وأصبح يُحيط بالكرة الأرضية بشكل سريع جدًّا. ومَن يصدِّق أن بؤرة الفيروس أصبحت سليمةً وباقي العالم مرض بالعدوى من الصين وليس أمريكا هذه المرة.
- المداخلات حول القضية:
- الأثر الاقتصادي لجائحة كورونا على المستوى العالمي:
في تصوُّر أ. فائزة العجروش، وفيما يتعلق بأثر كورونا على الاقتصاد العالمي أنه لا يمتلك أحدٌ إلى الآنَ ولا حتى الخبراء الاقتصاديون تصوُّرًا واضحًا للنظام الاقتصادي الجديد بعد أزمة كورونا؛ فهذه الأزمة الاقتصادية المربكة لجميع دول العالم، وما نشاهده اليوم من صراع خفي ومُعلَن بين العمالقة لكسب معركة الكورونا (وسيخرج منها المنتصر منهكًا)، سيفرض على الخبراء الاقتصاديين والسياسيين التفكيرَ في أدوات ونظريات جديدة. لكن من المؤكد أنه ستكون هناك إعادة لترتيب للأولويات في ميزانيات الدول:
- يجب أن تكون الميزانيات الطبية والصحية على رأس أولويات أي حكومة؛ فالصحة لا تقل أهميةً عن الأمور العسكرية المرصود لها ميزانيات سنوية بمليارات الدولارات؛ هذا إذا تعلَّم الجميعُ الدرسَ.
- ستبدأ قيادات المراكز البحثية الصحية في تبني الاقتصاديات الصحية على المستوى الوطني، بعد ما كشف كورونا هشاشة الوضع الصحي في كثير من الدول، والتي كان يُشار إليها بالبنان على أنَّها دول متقدمة علميًّا وتملك أحدث وأفضل الأنظمة الصحية.
وذكرت د. نوف الغامدي أن كورونا يُقدِّم ليس فقط معطيات جديدة لتدشين نظام دولي جديد؛ وإنما يضع أيضًا معايير للقوى الدولية التي يمكنها السيطرة على العالم في الفترة المقبلة، حيث إنَّه يعَدُّ بمثابة اختبار حقيقي ليس لقدرة الدول على حماية نفسها من المخاطر والتهديدات؛ وإنما أيضًا قدرتها على حماية العالم، حتى تكونَ مؤهلةً للبقاء في الصدارة خلال الحقبة الجديدة. ولعل حالة البحث الدائم عن علاج للفيروس القاتل كشفت عن حالة من الصراع الجديد بين دول العالم، حول ما يمكننا تسميته بـ”الريادة الطبية” للعالم، في إطار حالة دولية تتشكل خلالها ملامح النظام الدولي الجديد، سيكون فيها التقدم العلمي أولوية مهمة في المرحلة المقبلة، خاصة بعد متغيرات واضحة لا تقتصر في نطاقها على الجانب السياسي؛ وإنما تمتد إلى جوانب أخرى لا تقل أهميةً، من بينها الاقتصاد والتكنولوجيا، وغيرها. إلا إن الجديد الذي قدَّمته أزمة “كورونا” الدولية، هو أن ميزان القوى تغيَّر، ليس فقط فيما يتعلق بالسياسة والاقتصاد؛ وإنما امتد إلى مجال الطب.
وتساءل أ. عبد الرحمن باسلم: هل كان الاقتصاد العالمي على حافة التزعزع، وكان ينقصه القشة؟ ومن ناحيته ذكر د. نبيل المبارك أن الاقتصاد العالمي كان يعاني من خلل هيكلي واضح لأسباب كثيرة؛ منها ما هو على مستوى الدول الأقاليم، مثل أمريكا وأوروبا؛ ومنها ما هو على مستوى أن هيكل الاقتصاد كان مُفصَّلًا على المقاس الغربي بالمفهوم العام منذ الحرب العالمية، وتغيَّرت معطيات كثيرة منذ ذلك الحين، فالصين لم تكون موجودة كقوة صناعية وأصبحت الثانية عالميًّا، وسوف تكون قريبًا الأولى. وبالتالي، معالجات الأزمة العالمية (٢٠٠٨) كانت مُفصَّلة لجسم قديم، لكن الجسم الحالي مقاساته مختلفة كليًّا. والغرب يعيش حالة إنكار لتلك الحقائق. أما العنصر الثاني فيتمثل في التطورات التقنية غير المسبوقة، اليوم التغيير التقني يتطور كليًّا كل ستة أشهر وليس سنوات، وهذا جعل كلَّ الأجهزة والحكومات والقطاعات المالية غير قادرة على التجاوب مع هذا التطور، لدرجة أن هناك اقتصادًا داخل اقتصاد، مثل تطوُّر موضوع العملات والخوف الأمريكي من نجاح العملات الرقمية مقابل نظام الدولار. كذلك التكتلات الإقليمية بقيادة الصين بدأت الآنَ تأخذ زخمًا أكبر مما كان يُتوقَّع له.
وفي اعتقاد د. حمد البريثن، فإنه في حال عدم حصول جائحة أخرى خلال السنوات القادمة؛ فإنه سيكون هنالك نموٌّ لبعض الاقتصاديات الموجودة، مثل صناعة الكمامات والقفازات والمعقمات، بالإضافة إلى تطور صناعتها لتصبح مثل مستلزمات الأطعمة الأخرى للأماكن العامة وكذلك وسائل النقل. أما في حالة تكرر الحالة الحالية بشكل أو آخر، فإن ما سيحدث سيعتمد على أقصى درجات الفكر الخلاق والتطوير، وسيرتفع مستوى الأتمتة على المستوى الإلكتروني أو الفعلي، وسيتطور استخدام الآلة المتحركة مثل الروبوت والدرون بشكل يشابه انتشار مطاعم المأكولات السريعة.
وفي اعتقاد د. ناصر القعود، فإن من أهم آثار جائحة كورونا ما خلَّفته من عدم اليقين في المجال الصحي؛ متى تنتهي على النطاق العالمي، وما عدد ضحاياها من المتوفين والمصابين؟ ومن ثَمَّ عدم اليقين فيما تُخلِّفه من آثار اقتصادية، وتأثير هذه على النواحي الاجتماعية كالبطالة ومعدلات الفقر ونحو ذلك، على المستوى العالمي. وما طُرح من إجراءات للحد من الآثار الاقتصادية على الصعيد الوطني أو الدولي مبني على توقعات معينة قد تتغير وتزداد مع تغير هذه التوقعات بحكم ما يُستجد من أحداث لها علاقة بمدة وآثار هذه الجائحة؛ فعلى سبيل المثال، في الولايات المتحدة بدأ الحديث أن ما أُقر من إجراءات اقتصادية على ضخامتها، ٢,٣ تريليونات دولار، غير كافية. الكل متفق أن الاقتصاد الأمريكي والعالمي في ركود، والنقاش حول صرامة هذا الركود ومدته.
ويرى د. عبد الله بن صالح الحمود أنه لا شك أن تأثير وباء كورونا بجائحته ذات الانتشار العالمي، أوجد هلعًا منقطعَ النظير، وهذا الهلع أسهم في ضعف اقتصادي كلي عالمي؛ فتوقف الاستيراد والتصدير، وتدنى نمو الناتج المحلي الإجمالي، تلك مؤثرات لا شك أنها أضعفت جلَّ الاقتصادات العالمية إنْ لم يكن كلها مجتمعةً، ولتلك الأسباب لا بد أن تتأثر الاقتصادات العالمية لكون عجلة الأعمال أضحت تسير ببطء إنْ لم يكن توقَّف البعض منها.
وتساءل د. رياض نجم انطلاقًا مما ورد في الورقة الرئيسة: إذا كانت الدول ستجنح بشكل أكبر إلى القطرية بعد أزمة كورونا، فما هو مصير الكيانات الاقتصادية الكبيرة، مثل الاتحاد الأوروبي ومنظمة التنمية والتعاون الاقتصادي OECD وغيرها، وعلى الصعيد الإقليمي جامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي؟
وفي هذا الصدد، أوضح د. ناصر القعود أنه قد تختلف الآراء حول التوقُّع أو التنبؤ بمصير التكتلات الكبرى على مستوى العالم؛ ففيما يتعلق بالاتحاد الأوروبي لا سيما مجموعة اليورو والتي تتبنى سياسات مالية ونقدية موحدة، فتأثير الأزمة الحالية عليها كبير، فقد أضافت جُرحًا إلى جراحها المتعددة، وقد سمعنا تذمُّر كلٍّ من إيطاليا وإسبانيا من عدم التضامن من بقية الأعضاء، غير أنه من المستبعد أن يفكك الاتحاد، وقد يدعو إلى التوصل إلى اتفاقيات وإصلاحات تقوي منه، وعدم القيام بذلك سيضعفه. أما منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي ونظرًا لطبيعتها الفنية ومهامها، فقد لا تتأثر بالأزمة. أما على الصعيد الإقليمي وخاصة مجلس التعاون، فقد تزيده تعاونًا في مجالات معينة تتعلق بالجانب الصحي وتنسيق السياسات المالية والنقدية. أما الجامعة العربية، فليس لها دور في الأزمة.
ومن جهته يرى م. فاضل القرني أن الاقتصاد هو همُّ كل فرد من المجتمع، وربما الخبير والمختص في ذلك يقرأه سلبًا أو إيجابًا وفق سياق الحدث. غير أن غير المختصين يراه كائنًا رقيقًا سريعَ التأثُّر بالتداعيات، ومن خلال عقود ماضية كان إيقاع تطوُّر الاقتصاد بطيئًا لأسباب معظمها سياسية وتداعيات أمنية، والأمثلة كثيرة، وربما تكونت بشكل مركَّز في العقد الماضي في المنطقة، وتأثير الربيع العربي على الدول التي تضررت منه. وأيضًا، ما حدث وما زال يحدث في مناطق أخرى، مثل فنزويلا. وإذا كان هنا كاسب فهناك خاسر. إلا إنه مع أزمة كورونا يختلف الوضع بشكل جذري على الأقل لأكثر من سبعة عقود، وهي أنه حتى الآن لا يوجد كاسب. هل هذا بسبب الصدمة على دول العالم وتقييد الحركة التجارية؟ إذا كان الأمر كذلك، فهذا أسهل للعودة على صعوبة لا يمكن التقليل منها؛ لكن الأصعب (وهذا من سياق التداعيات) أنه سقوط مريع للرأسمالية كمفهوم وتأثُّر شعوبها التي عاشتها منذ مئتي سنة، غير أن التأثر وإدمان أسلوب المعيشة الرأسمالي استفحل بشكل مضاعف بعد الحرب العالمية الثانية وظهور الولايات المتحدة بالقوة العسكرية والصناعية والإنتاجية في جميع المجالات. وإذا كان هذا المتحمل فالتوقع أنه سيكون هناك خللٌ في التوازن القيادي والصناعي في العالم (ليس في مصلحة العالم فقدان قُطب كما حدث بعد انهيار الاتحاد السوفيتي)، ويستلزم الأمر القراءة الدقيقة للمؤشرات الراهنة وانتهازها كفرصة. وليس من المستبعد ولادة تحالفات بنمط ومكونات جديدة.
بينما وفي اعتقاد أ. محمد الدندني، فإن الرأسمالية ناقضت نفسها، وهذا ما ساعد الصين وغيرها. من المفترض في الرأسمالية أن ترقى بالفرد والمجتمع كي يستطيع الاستهلاك، ولكن نرى العكس في حروب عبثية أزاحت ملايين البشر في كافة القارات من دمجهم في عجلة الإنتاج والاستهلاك. ما يحتاجه الغرب أن يعيَ أن التفوق ليس حقًّا مكتسَبًا، وأن يُدرك أنه لتخطي هذه الأزمة عليه أن يُخفِّف من حدة الصراع وتقليل الإنفاق على التسلُّح، وتَرْك الشعوب تسبر مواهبها ومقدراتها للمساهمة في استقرار العالم علمًا وابتكارًا وتصنيعًا وإنتاجًا.
وذكر د. عبد العزيز الحرقان أن المتوقع أن يصل عدد الموظفين المفصولين في أمريكا إلى ٤٧ مليونًا، فخلال أسبوع سابق على تاريخ طرح هذه القضية الحالية للنقاش، تقدَّم نحو ٣.٣ ملايين مواطن أمريكي بطلب إعانة البطالة، ومتوقع أن تتقدم أعداد إضافية أخرى في الفترة القادمة بذات الطلب.
وتطرق م. خالد العثمان إلى بعض خُطط الإنقاذ الاقتصادي في بعض دول العالم جراء أزمة كورونا، كما يتبين من الشكل التالي:
- ما مصير الرأسمالية بعد جائحة كورونا؟
تساءل د. زياد الدريس: هل ستخف قبضة الرأسمالية بعد أن ضعفت مرجعياتها المركزية بسبب هجوم كورونا الفادح عليها؟ أم أنها بالعكس ستزداد توغلًا وتوحُّشًا بذريعة “مركزية الأمن الصحي” في الكون؟! وبدوره أوضح د. صدقة فاضل أن الرأسمالية المتواجدة حاليًّا بها الكثير من التدخل الحكومي (إجراءات اشتراكية)، والتوقع أن أزمة كورونا والحاجة المتزايدة للرعاية الصحية الحكومية ستُضفي مزيدًا من التهذيب على الرأسمالية القائمة حاليًّا. فيومًا بعد يوم تزداد الحاجة لرعاية المصلحة الجماعية أولًا.
في حين يرى د. منصور المطيري أن هذه الجائحة سيكون لها تأثيرٌ على الليبرالية الرأسمالية الجديدة (new liberalism) التي كانت وراء موجة العولمة منذ التسعينيات، والتي تقوم على التخفيف من التنظيمات والقيود، والتصوُّر أنه ستكون هناك عودة للرأسمالية المقيدة. سيكون هناك حماية مِن كل بلد لاقتصاده وشؤونه الخاصة وصناعته وتجارته على حساب الالتزامات المعولمة السابقة. ولعل هذا يُخفِّف من ضغط أمريكا وحلفائها على ثقافة المسلمين الحالي والمتواصل بغرض تغييرها لتوافق الذوق الغربي عمومًا.
أما د. خالد الرديعان فيرى أن “عمال العالم” يواجهون مأزقًا كبيرًا تبيَّن أثره بعد هذه الجائحة. فعلى سبيل المثال، فإن نسب البطالة سترتفع بشكل غير طبيعي، فهي ستصل في الولايات المتحدة إلى نحو ١٥٪ في الأيام القادمة، ومتوقع أن تبلغ ٣٠٪ مع استمرار الجائحة حسب التقديرات التي تقدِّمها تحليلات المختصين. وفي أسباب ارتفاع مستوى البطالة، فإن لدينا متغيرين رئيسيين:
- الأول: تراخي الأنظمة التي تحمي العمال من التسريح بسبب التركيز على الربح، والربح فقط في الأنظمة الرأسمالية، وتهميش الجانب الإنساني في عملية الإنتاج بشكل عام. هذا المتغير يوضِّح الخلل الأخلاقي في الاقتصاد الحر، وصعوبة الجمع بين النزعة الإنسانية وعملية الإنتاج الصرف.
- الثاني: الأتمتة الإلكترونية والتطبيقات الذكية التي تُمكِّن من إنجاز كثيرٍ من الأعمال بأقلِّ عدد ممكن من العمال والموظفين. هذا المتغير يصعب السيطرة عليه؛ لأنه مرتبطٌ بالتقدم العلمي والتقني بشكل عام، وهو مطلبٌ عالمي.
وهذان المتغيران (غياب تشريعات الحماية + التقنية العالية) سيزيدان من مستويات البطالة بصورة دراماتيكية وحتى قبل جائحة كورونا وذلك في معظم دول العالم، أما وقد حدثت الجائحة فإننا سنواجه توترات عنيفة قد تبدأ بهزِّ عروش الدول الغربية ذات الإنتاج الوفير التي اختزلت الإنسان في أداة إنتاج لم تعُد صالحةً للعمل. أما الذي يعالج هذه المشكلة (البطالة) فيكمن في نظام رعاية اجتماعية متقدم يراعي الجوانب الإنسانية، ولا يعيق عمليات الإنتاج.
ومن جهتها أشارت أ. مها عقيل إلى ما يلي:
- أن الرأسمالية لن تنتهيَ ولكنها ستتغير، وإلا ما هو النظام البديل؟ الصين نفسها رأسمالية ولكن في إطار مجتمع اشتراكي. والواقع أن التعامل مع الغرب أفضل لنا من الشرق رغم التاريخ المرير للاستعمار، ولكن هذه فرصة لنا لترجيح كفتنا بعضَ الشيء. وربما يكون ذلك عبر المنظمات الدولية.
- لن نرى نهاية أوروبا، فقوتها ليست فقط في الجانب الاقتصادي، وإنما أيضًا في جوانب الحضارة والثقافة والعلم والابتكار؛ بمعنى آخر، القوة الناعمة. وهنا أيضًا فرصة لنستثمر أكثر في قوتنا الناعمة والدبلوماسية.
- الصين تعتمد أكثر على تقليد أو نقل التكنولوجيا والصناعات الأخرى وليس خلقها أو ابتكارها، وتعتمد على قوة إنتاجها الضخمة بسبب القوة العاملة؛ لذلك فالاعتقاد أنها غير قادرة حاليًّا على أَخْذ مكان أمريكا.
واتفق م. إبراهيم ناظر مع ما ورَد من استنتاجات متضمَّنة في النقاط الثلاث المشار إليها أعلاه، وأضاف أنه لا توجد اليوم رأسمالية بحتة ولا اقتصاد موجه ١٠٠٪؛ وإنما أغلب الأنظمة اليوم خليط بين هذا وذاك بغض النظر عن ميلها لأحد النظامين، ولن تسقط الرأسمالية ولن تنتصر الصين على الأقل في الزمن المنظور، ولكن لا شك أن تقنية المعلومات والاتصالات والاقتصاد الرقمي ستكون لها الكفة الراجحة، وهذا ما أكدته جائحة كورونا، ولا ننسي أن أمريكا والصين من الدول الرائدة في هذا المجال، وأنهما أهم الشركاء التجاريين للمملكة، وأن تنويع القاعدة الإنتاجية في المملكة والتحوُّل للاقتصاد الرقمي يحتاج إلى وقت في أحسن الأحوال مع نهاية ٢٠٣٠. ولا شك أن أجيالنا من الشباب والشابات هم عوامل ذلك التحوُّل.
في حين يميل د. مساعد المحيا إلى أن الدول الرأسمالية برغم الأثر الكبير على اقتصاداتها؛ إلا إنها أسرع الدول حراكًا ونهوضًا لاستيعاب الصدمة وخلق قدر من التوازن الذي يمكن أن يُسهم في تحويل هذه التأثيرات السلبية إلى معالجات إيجابية في هيكلة اقتصاداتها. فأمريكا بعد أزمتها في ٢٠٠٨ وبعد انهيار بنك الاستثمار الأمريكي ليمان براذرز قبل اثني عشر عامًا، كان هذا يُمثِّل هزةً كبيرةً وعنيفةً لكثير من شركاتها حتى وصل الداو جونز إلى منطقة ٦٠٠٠ نقطة، وبرغم أن ارتداداتها ظلت مستمرةً لفترة وربما إلى اليوم في عدد من دول العالم؛ إلا إنها استطاعت أن تنتقل إلى مرحلة أفضل؛ إذ الداو جونز وهو مؤشر على جانب من اقتصادها بوصفه يُمثِّل الشركات العملاقة اقترب من ٣٠٠٠٠ نقطة، وسجَّلت الشركات أرباحًا بعد أن كانت مهدَّدةً بالإفلاس، وكذلك نهضت دول مثل إسبانيا وإيطاليا واليونان من الأزمة إلى حد ما. والتوقع أن النظام المالي الغربي يمكن أن يمرَّ بتغييرات تجعله يتموضع على نحو يمتص تأثيرات هذه الأزمة ما لم تتطور لنحو يُكلِّف هذه الدول ما لا تُطيقه. والمأمول أن نشهد على المستوى المحلي بعضَ التغييرات التي تجعل الإنفاق في كل ما يسهم بمزيد من الإنتاجية.
ومن جانبه تساءل د. خالد الرديعان: هل لدى الغربيين الجرأة الكافية لتغيير مسار أنظمتهم الرأسمالية دون أن يدفعوا ثمنًا باهظًا للتغيير؟ وهل يستطيع المُشرِّعون والمصلحون الوقوفَ في وجه المُلاك وأصحاب الشركات الكبرى للحد من الاحتكار لكي يعود المجتمع الأمريكي مثلًا للمنافسة الشريفة في السوق؟ هل يتخلى أصحاب الشركات عن امتيازاتهم أو بعضها على الأقل وهم يرون أنهم حصلوا عليها بطريقة “مشروعة”؟ ومَن الذي يستطيع الوقوفَ في وجه هذا الغول الكبير الذي يُسمَّى “السوق”؟
وبدوره أشار د. عبد الله بن صالح الحمود إلى أن الرأسماليّة اليوم ومنذ أربعة قرون، تظلُّ هي صاحبة الصدارة في تطبيق الأنظمة الاقتصاديّة العالميّة، ولأنها بطبيعتها تعتمد على فكرة الملكية الخاصة، ومنها تنتج آليات منضبطة في حقوق ملكية مُلَّاك الحصص أو الأسهم (stockholder)؛ فهي نظام لا مفر منه، وحتمية بقائه تعَدُّ الأنموذج الممكن والصالح للمرحلة الحالية، بينما إنْ لُوحظ طغيانها على المجتمعات، هنا لا بد من تحرُّك الحكومات نحو تواجد التدابير التي تعالج الآثار إنْ حدثت.
وعقَّب د. خالد الرديعان بأن الرأسمالية طغت وطغيانها شديد ومُضِرٌّ للغاية، ولننظر إلى نظام الرعاية الصحية في الغرب فهو سيئٌ للغاية بسبب “رسملته”.
وأضاف أ. عاصم العيسى أن أيَّ مجتمع وأي نظام، إذا كانت له الأدوات للمراجعة والتطوير، فهنا القوة والاستمرارية، وإنْ اتِّسم بالجمود فهنا علامة ضعف مهما ادعينا أنه مثالي؛ لأن الكون والمستجدات لا تقف. وهو ما ينطبق على الرأسمالية. وكلما كانت الشعوب والدول تعرف نقاط قوتها وضعفها، كان ذلك أدعى للموضوعية، للاستمرار، للقوة، فالكون يستمر في حركته.
في حين ذهب أ. لاحم الناصر إلى أن ميزة النظام الرأسمالي أنه يراجع نفسه بعد كل أزمة، ويُحدِّث منظومته ويُطوِّر أدواته، ويتم ذلك في العادة عبر علماء الاقتصاد والمالية من أعرق الجامعات ومراكز الأبحاث، فهو ليس نظامًا جامدًا أو مركزيًّا بل نظامًا حُرًّا متطوِّرًا وقابلًا للتغيير، لديه حرية النقد والدراسة والبحث.
وأضاف د. عبد الله بن صالح الحمود أن أيَّ حكومة تعَدُّ المُشرِّع والراعي لكل شأن من شؤون الدولة، فليست الرأسمالية الوحيدة التي تطغى ويتألم من أفعالها الآخرون؛ لذا يأتي دور أي حكومة تجاه الحفاظ على مرتكزات الوطن لضمان حياة واقعية وذات رفاهية للمواطن. فالدول أو الحكومات التي لا تستطيع مقاومة الفرد أو الإقطاعي، فهذه لا تعَدُّ حكومةً حاميةً لأرضها وشعوبها.
أما د. خالد الرديعان فيرى أنه يُفترض أن نُفرِّق بين الديمقراطية والرأسمالية لغرض التحليل. فالواقع أن المراجعة والتصحيح أمور تنطبق على النظام الديمقراطي، فهو أكثر مرونةً وقابل للتعديل؛ أما الرأسمالية فهي صعبة المِراس، مُتكلِّسة، وتغيير بعض عناصرها يخلق مشكلات للمُلَّاك الذين سيقاومون وبضراوة كلَّ ما يمسُّ مصالحهم.
في حين ذكر م. إبراهيم ناظر أنه يجب الحذر من التعميم في نظرتنا للغرب وأمريكا بصفة خاصة؛ فبالتأكيد لديهم قصورٌ في كثير من الأنظمة، ولا ندعي لهم الكمالَ؛ لكن جميع ما تنعم به البشرية اليومَ من اختراعات، ووفرة اقتصادية ورفاهية، وأجهزة صحية متطورة، وأنظمة تعليمية وبنكية، وتقنيات حديثة واتصالات وتقنية معلومات، وصناعة طائرات وسيارات ورادارات، وغيرها الكثير – هو إنتاج النظُم الاقتصادية الرأسمالية. ومن جهة أخرى، وفي الوقت الحالي، لا يوجد نظام رأسمالي في صيغته الأساسية تمَّ تعديله ليواكب الكثير من المستجدات العصرية. ومن جهة ثالثة، فإن الجميع يعمل جاهدًا للحاق بالعالم الأول الرأسمالي، ونحن منهم.
وأكد د. عبد الله بن صالح الحمود على أن كل نظام وبتلقائية لا بد وأن يكون مواكبًا للمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية، وإلا كيف له أن يكون حاضرًا في خدماته على الدوام، فالتغير الثقافي والاجتماعي هما أيضًا الأساس لشحذ همم الأنظمة من أن تتسارع في تغيير وتعديل الأداء إليها، وإلا في نهاية المطاف ستكون في آخر الركب.
ومن جهته لفت د. زياد الدريس النظر إلى أنه طوال التاريخ السياسي للبشرية، ظلَّ المال عصبًا أساسيًّا لتوجهات الدولة وانحيازاتها، وليست القيم كما يظنُّ كثيرون – هذا طبعًا باستثناء حالات فردية ضئيلة – لا تكسر القاعدة. ثم توسَّع النفوذ المالي داخل كيان الدولة وتمدَّد مع تطوُّر النموذج الرأسمالي للدولة الحديثة، فأصبح أصحاب رؤوس الأموال هم ذوو التأثير والنفوذ الأكبر في قرارات الدولة. ولما تغوَّلت الرأسمالية وطغت في منتصف القرن الماضي، أصبحت الشركات هي التي تُدير الدول وتُحدِّد أين تكمن مصالحها، بل إن الشركات الكبرى هي التي تتحكم في عملية التصويت للرئيس الأمريكي القادم! وبدا جليًّا في الآونة الأخيرة أنه لم يبقَ للرأسمالية الجارفة من هدف تطمح إليه سوى أن يكون رئيس الشركة هو رئيس الدولة. وبفوز دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة، تكون الرأسمالية قد حقَّقت بالفعل ذروة طموحها ونجاحاتها. هل نستطيع إذًا أن نقول إن هذه هي نهاية الرأسمالية؟! الحقيقة، أن من الصعوبة الجزم بأن الرأسمالية قد بلغت ذروتها فنهايتها؛ لسبب بسيط هو أنها نظام يحمل في داخله القدرةَ على تصحيح الأخطاء وتعديل آليات العمل، وبالتالي تجديد الوجود. وهذا لا ينفي بأن رؤوسًا كبرى من الرأسمالية ستسقط بعد كورونا، لكنها كالتنين ستُنبت لها رؤوسٌ أخرى.
وأوضح د. خالد الرديعان أنه لا يقول إن الرأسمالية شرٌّ محضٌ؛ ففيها إيجابيات كثيرة كالملكية الخاصة، وتحفيز الأفراد نحو الإنتاج والتراكم، وخلق فرص العمل والابتكار.. الوجه السيئ في الرأسمالية هو الاحتكار، وغياب فرص التنافس الشريف. كما أن توجيه الرأسماليين للسياسة له مضارُّه الشديدة، كما ذكر د. زياد في مسألة وصول ترامب للسلطة.
وعقَّب م. إبراهيم ناظر بأنه توجد قوانين صارمة لمحاربة الاحتكار، وفي حالة ثبوت الاحتكار على شركة كبيرة تُغرم ملايين الدولارات، وهناك حالات كثيرة صدرت فيها أحكام قضائية وإنْ كان هناك أحيانًا تحايل على القوانين. بينما وفي اعتقاد د. عبد الله بن صالح الحمود، فإن الاحتكار غالبًا بدأ يندثر، فأغلب المنتجات دوليًّا أصبح لها منافسٌ مشابه لكل من كان محتكرًا سلعة أو منتجًا ما، ولننظر إلى الاتصالات وتفكك احتكارها، بعد أن كانت تُمثِّل الوكيل الواحد، والعديد من المنتجات الأخرى. والرأسمالية تظلُّ الأنموذج المناسب حاليًّا، ويبقى حرص الحكومات على رفع كفاءة التشريع والإشراف؛ لضمان مسيرة توافر الخدمات وعدم طغيان المستثمر على المجتمع.
وطرح أ. عبد الرحمن باسلم تساؤلًا مفاده: هل جرت عمليات تغيير جلد للنظام الرأسمالي سابقًا؟ هل غيَّر في الآليات الرئيسية؟ وفي هذا الإطار، أوضح أ. لاحم الناصر أن الرأسمالية مرَّت بالفعل بعدة مراحل، وتطوَّرت وفقًا لتطوُّر المجتمعات وتحوُّل النظُم السياسية:
- مرحلة الرأسمالية الـتجارية.
- مرحلة الرأسمالية الصناعـية.
- مرحلة الرأسمالية ما بعد الصناعية.
- مرحلة الرأسمالية المالية.
وأضاف م. فاضل القرني إلى المراحل السابقة مرحلة رأسمالية المعلومات وابتكار عالم (Cyber) منذ أوائل السبعينيات وإنْ كان على المستوى الحكومي، وحتى أصبح في متناول أيدي الجميع بمختلف مستوياتهم العمرية والتعليمية والاقتصادية.
ومن ناحيته يرى د. نبيل المبارك أنه يبدو واضحًا أن الغالبية في حالة “إنكار” لفكرة أو إمكانية سقوط الرأسمالية، وهو أمرٌ طبيعي في حالات التحولات الكبرى، ولكن التصوُّر أن السقوط لن يكون للرأسمالية كمفهوم، بل لقيادة الرأسمالية الحالية (أمريكا وأوروبا)، لكنَّ المسألة فقط كيف سيكون السقوط؟ وليسَ، هل يحدث؟ قد تتسلم الصين قيادة الرأسمالية بمفاهيم وأهداف مختلفة عمَّا عهدناها خلال العقود السابقة أو حتى المئتي سنة الماضية. السؤال المهم، هل يتخلل هذا التحوُّل حرب كبرى؟ أم انتقال بمخاض صعب ولكن دون حرب؟ في حالات التحولات الكبرى، على الدول الصغرى أن تقرأ بعناية تلك التحولات واتجاهاتها، كما قرأها الملك المؤسس في وقت دقيق جدًّا في تحول موازين القوى. تحرُّك المملكة الذكي جدًّا في موضوع النفط وإنْ لم يُكشف الكثير عنه حتى الآن، إلا أن القراءة لما بين السطور يذكرنا بما في كُتب التاريخ، عن تحركات الملك عبد العزيز بين بريطانيا وأمريكا، وكان ذلك قبل ربع قرن تقريبًا من استلام أمريكا الدولة الأولى في العالم والأقوى على الإطلاق.
بينما يرى أ. جمال ملائكة أن الخوف إذا تحوَّلت الصين إلى قوة عظمى تُصبح قوةً مهيمنةً، وتتجه الأمور إلى الأسوأ بالنسبة للدول الضعيفة ذات الموارد الهائلة.
وفي تصوُّر أ. محمد الدندني، فإن القيادة لن تكونَ بقُطب واحد. لا الصين بمفردها، ولا أمريكا بمفردها. هناك أوروبا العجوز، فقد تستفيد من القطبية وأيضًا الأسد الجريح روسيا.
وأشار د. عبد الله بن صالح الحمود إلى إعلان الصين عام 2013 عن مشروع ضخم سيسمح للصين بفرض نفسها على الساحة الدولية كثاني أكبر قوة اقتصادية عالمية، وهو المشروع المسمى «طريق الحرير»، الذي يشمل بُعدين أساسيين: يتعلق الأول بطريق بري، في حين يكمن الثاني في حزام بحري، ليرسُما ويُحدِّدا الرهانات الجيوسياسية على مستويات كثيرة لا تكشفها العلاقات الدولية ولا تتعرض لها، حيث يعتمد المشروع على إجمالي العلاقات الاقتصادية، ليس في آسيا فحسب؛ بل أيضًا يمتد إلى ربط آسيا بإفريقيا وأوروبا.
بينما وفي اعتقاد أ. لاحم الناصر، فإن أمريكا لم تستنزف الصين، هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى، فإن الصين لم تبلغ مبلغًا يُمكِّنها من قيادة العالم اقتصاديًّا مهما قِيل وكُتِب (فالغالب أن الأمريكان دائمًا في كل فترة يخلقون عدوًّا يُحفِّزهم على الابتكار والإنتاج، ويوحِّدهم خلف نظامهم السياسي)، بحيث تتحول القيادة إلى الصين لا سيما أن اقتصاد الصين مهما بلغ لا يزال بدائيًّا وقائمًا بشكل كبير على التصنيع القائم على اليد العاملة، كما أن أمريكا لا تزال تُمسك بالاقتصاد العالمي عن طريق الدولار وسوق السندات الذي لا يُماثله أيُّ سوق في العالم، كما أنها من حيث القوة العسكرية هي سيدة العالم؛ لذا فالاعتقاد أنه لن يكون هناك تغيير في مركز أمريكا، لكن ربما تتغير خارطة التعاون الأوروبي، وقد يتفكك الاتحاد الأوروبي بعد هذه الأزمة حيث تمكَّنت الصين نوعًا ما من إحداث اختراق سياسي للمنظومة الأوروبية، لكن يبقى النظام السياسي في الصين عائقًا أمام قبولها اجتماعيًّا في أوروبا، ومن ثَمَّ حتى لو أحدثت هذا الاختراق فسيكون وقتيًّا. كما أن النظام الصيني لن يستطيعَ الصمودَ أمام الضغوط الأمريكية إنْ أحسَّت أمريكا بالخطر؛ حيث نسبة الديون الداخلية للشركات والحكومات المحلية عالية جدًّا والكثير منها فاسد وغير قابل للسداد، مع ما سيتعرض له مركزها التصنيعي للتأثُّر نتيجة هذه الأزمة، وإحساس العالم بالخطر من انقطاع سلاسل الإمداد حيث ستبدأ الشركات الغربية بنقل مراكزها إلى خارج الصين.
ومن وجهة نظر أ. عبد الرحمن باسلم، فإن انكفاء الديمقراطيات الغربية على نفسها نتيجة اضطراب أوضاعها الداخلية (أمريكا وفرنسا وبريطانيا) أسهم بشكل مباشر في تزايد قوة الصين ونفوذها الدولي، ولكنَّ الأساس في بزوغ الصين كقوة عالمية يتمثل في نجاح التجربة التنموية الصينية، والتي تقترب من حالة المعجزة الاقتصادية.
ومن جديد، ذهب د. نبيل المبارك إلى أنه في خِضمِّ حوادث كبرى (كورونا كمثال) يكون هناك مُسببات ومسرعات للتحوُّل. لا ننسى أن هناك عددًا من البذور التي زُرِعت منذ سنوات في طريق التحوُّل، منها ما ذُكِر حول طريق الحرير، وتأسيس نظام نقدي بين الصين وروسيا وبعض الدول الآسيوية، والكثير مما لا يظهر على السطح ولا يُناقش إلا في غرف خاصة.
واتفق أ. عبد الرحمن باسلم مع القول بأن تسارع الأحداث والتغيُّر القادم للتوازنات سيجعلان الأمر يظهر للعيان في السنوات القليلة القادمة.
في حين أشار أ. لاحم الناصر إلى أنه ما زالت أمريكا تُملك العصا السحرية، وهي كون الدولار عملةَ الاحتياط العالمي والتبادل التجاري، مع حقها في طباعة الدولار بدون شروط، وحاجة العالم لذلك؛ ويمكن استرجاع مثال عندما عُلِّق قرار رفع سقف الدين العام في عهد أوباما في الكونجرس، وكيف حبس العالم أنفاسَه ومنهم الصين، وطالبت الكونجرس بالتصرُّف بمسؤولية لمنح أمريكا التمويل اللازم؛ عندها فقط ظهرت قوة أمريكا وتأثيرها في اقتصاد العالم. كما أنه مهما قيل عن نجاح الصين اقتصاديًّا؛ ففي ظل وجود النظام السياسي الشيوعي المركزي، فلا شك أن استقرارها هشٌّ ولا يمكن الوثوق به، خصوصًا مع التعديلات الأخيرة التي منحت الرئيس الصيني البقاء مدى الحياة، ونحن نعلم أن الاقتصاد لا يمكن أن ينمو إلا في طل نظام سياسي مستقر وشفَّاف، يحكمه القانون وتُحقَّق فيه العدالة النسبية؛ وكل هذا تفتقر له الصين وروسيا وجميع دول آسيا.
وأكد أ. عبد الرحمن باسلم على أنه يجب عدم المبالغة في التفاؤل، وعلى الحكومات العربية والإسلامية قراءة الأحداث بتروٍ وتخطيطٍ وتقوية العلاقات العربية وكذلك بين الدول الإسلامية، فالصين غول يلتهم ولا يُمهل كالآخرين.
وبدوره أكد أ. عاصم العيسى على أنه ابتداءً، فإن قراءة المستقبل تخمينية لا يُمكن الجزم لمسار مُحدَّد بعينه، ولكن السؤال: لو قلنا قبل سنتين إن أوروبا ممكن أن تسقط بسرعة، فلكان الجواب غير متوقع، ولو رجعنا للوراء قبل سقوط السوفييت بثلاث سنوات، وقد كانت الدولة العظمى المنافسة، بل ربما البعض يراها أقوى من أمريكا في جوانب، لما تُخيِّل ولما قُبِل عقلًا أن تسقط. الاعتقاد أن سقوط السوفييت ليس بسبب أمريكا وأفغانستان وشيء من هذا، إنما هي الدورة وبذرة السقوط من الداخل والقابلية للسقوط. ننظر لقوة أمريكا وغيرها سلاحًا، ودولارًا وغير ذلك، ولا ننظر لعوامل الخلل والفساد، وهي عشرات، كل واحدٍ ممكن أن يُسقط دولة. يُعلِّمنا التاريخ القريب أن الأحداث أسرع مما يتخيله آباؤنا قبل عشرين سنة؛ سقوط زعماء، قتلى، فقر، ظُلم، فساد، انكشاف أقنعة، إفلاس دول، سلسلة من عوامل غير منسجمة تحكم العالم، ثم يأتي أمر الله (كورونا) وخلال شهر، يُعلن العالم تخوُّفَه من السقوط، من الإفلاس، من الحروب، من الديون، هل هو بسبب كورونا، أم هو العالم المنخور داخليًّا يريد قشةَ السقوط، وإلى الآن الكثير في نشوة القوة والبقاء إلى الأبد، هناك سُنن للكون بالتغيير واستحالة البقاء في القمة للأبد مهما تكن وأيًّا ما تكون. ومما يُعزِّز ذلك سرعة الأحداث، وسرعة الزمان. ولو حلَّلنا أسبابَ السقوط والبروز فقط ماليًّا واقتصادًا ودولارًا، الدول لا تسقط لهذا فقط، فهناك الإنسان والعقيدة والمجتمع وغيرها الكثير مما لا نركِّز عليه! وفيما يخصُّ وضعنا على المستوى المحلي، من المهم أن تكون المملكة وقادتها وقوتها وأمنها وشموخها هي أولًا بلا مساومة؛ لأن ذلك يضبط بوصلة البقاء والولاء والاستمرارية والعز والرخاء، وهذا يتطلب أن تكون قوية تملك مقومات القوة كلها، وتتأملها باستمرار وفق ثوابتنا والمتغيرات المحيطة، ولا بد من إدراك أن العالم يتغير ويجب دراسة هذا التغير واتخاذ ما يلزم تجاهه.
وأضاف م. إبراهيم ناظر إلى ما تقدَّم أن الاقتصاد الأمريكي مرن لديه القدرة على استيعاب الصدمات، ولو نظرنا من ناحية الشركات المتقدمة في مجال تقنية الاتصالات والـIT والتطبيقات التي غيَّرت العالم، نجد أن مصدرها أمريكا. وهناك مسألة لم ينتبه إليها الكثيرون وهي أن أمريكا تركت كثيرًا من الصناعات التي تحتاج كثافةً من اليد العاملة والحجم الكبير، مثل صناعة الأثاث، تهاجر إلى الصين أو غيرها؛ لكن أبقت الصناعات ذات التقنيات العالية والدقيقة والصغيرة الحجم، مثل البرمجيات المتقدمة والكمبيوترات المتفوقة والأدوية، ويُطلق عليها (less volume high value). الصين في التقدُّم العلمي والتقني والأبحاث RDI تحتاج من ٢٠ إلى ٣٠ سنة للحاق بأمريكا. البيئة في أمريكا مُهيَّأة وقابلة للتحديث والتطوير، وتحويل الاكتشافات العلمية إلى سلع اقتصادية. ما النظام الاقتصادي البديل، هل هو النظام الاشتراكي الموجه، أم النظام الاقتصادي الإسلامي؟
ويرى د. خالد الرديعان أن التحليلات أعلاه تُلفت الانتباه إلى أن عوامل سقوط أمة من الأمم لا يرتبط بعامل أو متغير واحد كالقوة الاقتصادية أو القوة العسكرية؛ بل إنها مجموعة متغيرات تُشكِّل في مجموعها عناصر الهدم والفناء. وعندما يتوجه النقد للنظام الرأسمالي (الجانب الاقتصادي)، وأنه يحمل بذور فنائه وتفتُّته في مرحلة ما؛ فإن هذا ليس بالضرورة كلامًا ماركسيًّا، ولكنه يُشير كذلك إلى هشاشة رأسمالية اليوم “أخلاقيًّا” قبل أن تكون ممارسة اقتصادية. والمؤكد أن ماكس فيبر الذي نظَّر للرأسمالية كسلوك عقلاني لو كان على قيد الحياة (١٨٦٤-١٩٢٠) لتردد كثيرًا في أطروحته رغم أنه يُعيد جذور الرأسمالية وأخلاقها إلى روح البروتستانتية كمُلهم ومُوجِّه للعمل والإنتاج؛ ما يعني أن البُعد الديني بما يحمله من أخلاق وقيم مسيحية كان حاضرًا عند فيبر. الرأسمالية التي نراها اليوم مُتجردة من البُعدين الأخلاقي والقيمي وليس لها مرجعية دينية صلبة، بحيث أصبح الفرد في آخر اهتماماتها بما في ذلك رأسمالية الكونفوشيين (الصين)؛ فالجميع شرقًا وغربًا سواء في التوجُّه؛ لأن حافزهم ليس رُقي الإنسان وسعادته؛ ولكن تراكم المال واكتنازه وخلق الظروف التي تولِّد المال بصرف النظر عن الثمن الباهظ لهذا السلوك على المستوى الإنساني.
- الأثر الاقتصادي لجائحة كورونا على الاقتصاد المحلى السعودي:
أشارت د. نوف الغامدي إلى أن وباء كورونا لم يكن أول اختبار يدخله الاقتصاد السعودي في مسيرته بعد العمل بمتطلبات رؤية 2030، فهذا الاقتصاد خاضَ اختبارات كثيرة من قبلُ، ونجح فيها وتجاوزها بامتياز، بيد أن اختبار كورونا يظلُّ الأقوى والأعنف على الإطلاق حتى هذه اللحظة، ولا يستطيع تجاوزه إلا الاقتصادات القوية الراسخة البنيان. الحقيقة – وبكل تفاؤل – هي توقُّع تحسُّن نمو الاقتصاد السعودي خلال هذا العام بدرجة كبيرة، وقد يصل إلى 6%؛ وقد يعود ذلك إلى الزيادات الكبيرة في إنتاج النفط الخام، وأن ينمو القطاع النفطي بنسبة 13%، وستؤدي زيادة إنتاج الغاز والبدء في تشغيل مصفاة جازان إلى تعزيز الناتج المحلي الإجمالي لقطاع النفط في 2020. كما أن استمرار تنفيذ رؤية المملكة 2030، من خلال التطبيق الدقيق للالتزامات التفصيلية المضمَّنة في مختلف برامج الرؤية، سيكون المُحرِّك الرئيس للاقتصاد غير النفطي. ويعتبر نطاق التأثيرات المحتملة لفيروس كورونا على اقتصاد المملكة غير مؤكد إلى حد كبير، فالسعودية اتخذت العديدَ من الإجراءات الاحترازية لمنع انتشار الفيروس، ولكن في النهاية هذا ليس سوى وجه واحد، والوجه الآخر هو انتشار الفيروس في مختلف أنحاء العالم وتطاول مدة بقائه، وربما يؤدي إلى اضطراب واسع ودائم في التجارة العالمية والناتج الصناعي عام 2020، وهو ما سيكون حتمًا عقبةً أخرى أمام الاقتصاد المحلي.
ومن وجهة نظر أ. فائزة العجروش، فإنه لمعرفة الأثر الاقتصادي لأزمة كورونا على الاقتصاد السعودي لا بد من إدراك الفرق بين مرحلة رصد الأثر ومرحلة تحفيز الاقتصاد في جانبي العرض والطلب. ومن أهم المعايير التي يجب أن نعتمد عليها، هي متابعة معدل نمو الإصابات خلال الفترة الماضية، ونسبة التعافي من المصابين خلال الفترة نفسها. ومرحلة الرصد تكون عندما يرتفع معدل نمو الإصابات – لا قدَّر الله – مع انخفاض نسبة التعافي من المصابين، والتي تستلزم اتخاذَ المزيد من الإجراءات الاحترازية، ووقتها ينبغي العمل على رصد الأثر في الأنشطة الأكثر تأثيرًا، والأولوية تكون للأنشطة التي تُعزِّز جانب العرض كالصناعات الوطنية التي تُوفِّر سلعًا وخدمات ضرورية حال تأثَّرت سلسلة الإمدادات العالمية. وقد يكون من المبكر الانتهاء من رصد جميع الآثار وأعمقها على الاقتصاد السعودي، خاصةً أن نسبة المتعافين إلى إجمالي المصابين يبلغ حوالي ٨ في المئة حتى هذه الساعة (١١٥ متعافيًا، عدد الإصابات ١٤٥٣ حسب تصريحات وزارة الصحة). والعكس صحيح، عندما ترتفع وتستمر نسبة التعافي من المصابين ارتفاعًا ملحوظًا مع انخفاض وتدني نمو معدل الإصابات بإذن الله؛ سنكون دخلنا مرحلة انحسار الفيروس والحد من انتشاره.. وعليه، لا بد من العمل الحثيث لتحفيز جانب الطلب والعرض بشكل متوازن، وتحفيز جانب العرض في هذه المرحلة الذي سيساعد بطريقة مباشرة وغير مباشرة في السيطرة على استقرار مستويات الأسعار، ومن ثَمَّ تحفيز جانب الطلب؛ من خلال تقليص صادرات السلع الحيوية والإستراتيجية ذات الأمن الغذائي والدوائي وغيرها، بجانب خفض التكاليف التشغيلية. ومن المهم في هذه المرحلة أن نُسلِّط الضوء على توطين كثير من الصناعات الغذائية والدوائية والمستلزمات والأجهزة الطبية. والحلول المنطقية لن تكون واضحةً حتى تتضح الرؤية، نحن في أي مرحلة. وحسابات الأثر الاقتصادي والربح والخسارة حساسة وصعبة للغاية إذا تعلَّق الأمر بأرواح البشر، وعلينا في هذه المرحلة موازنة مصلحة العموم وصحتهم مقابل المصلحة الاقتصادية. وفي هذا السياق، فإن حكومتنا الرشيدة قد نجحت في إدارة الأزمة بامتياز، ويمكن التوصية بتكليف المزيد من المفكرين والباحثين الاقتصاديين والسياسيين والمختصين بإدارة الأزمات والكوارث لعمل الدراسات العلمية وفقًا للبيانات والمعلومات الناتجة عن هذه الأزمة. والدرس المستفاد الذي يجب أن يعيه أيُّ شخص يعمل في القطاعات المتضررة اقتصاديًّا من هذه الأزمة، أن يُخطط فورًا لرقمنة كل شيء في شركته ليتمكن من التعافي بشكل سريع.
وأكدت د. وفاء طيبة على أن الخطوات التي اتخذتها المملكة هي بالفعل يمكن أن تكون manual لمثل هذه الظروف. وهنا، وبداية يجب أن نتذكر جميعًا أن السعودية وفي النظام الأساس للحكم دولة شرعُها الإسلام، وجاء تطبيق ذلك كأفضل ما يكون في هذه الجائحة، وهذه بعض النقاط المفصِّلة لذلك:
- أحد أهم الأصول الإسلامية هو حفظ النفس، وجاء ذلك في مقدِّمة الأسس التي عملت عليها الدولة، فكان الإنسان هو الأهمُّ وحفظ النفس هو الأول. فالإنسان أولاً وأخيرًا هو الحلقة الأولى والأهمُّ في الاقتصاد.
- اضطرت المملكة راغمةً إلى إغلاق الحرمين أمام المعتمرين؛ لأن النفس أولًا، واتباعًا لسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في حديث شريف، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ، وَيَقُولُ: “مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ، مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ! وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ، مَالِهِ وَدَمِهِ” (أخرجه ابن ماجة في سننه برقم 3932). وهذا ما اتبعته السعودية، ولم تهتم بكل الخسائر الاقتصادية من جراء منع الوصول إلى الحرمين، ولا بحرمة الكعبة مقابل حرمة دم المؤمن.
- اتبعت المملكة حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيما يخصُّ الطاعون قياسًا عليه بعدم الدخول إلى بلد فيها طاعون، ولا الخروج من بلد ظهر فيه؛ من أجل حرمة الإنسان، وتبع ذلك خسارة كبيرة – سيعوضنا عنها الله سبحانه وتعالى- في قطاعات عظيمة؛ في الطيران والفندقة وغيرها.
وفي السياق ذاته، فإن هذه الجائحة تُنبهنا إلى أنه يجب تركيز الاقتصاد القائم على الأمن الصحي، ربما يكون هذا مجالًا مهمًّا سوف يتم التوجُّه له بعد هذه الجائحة. حقيقةً إلى الآن، لم نحتج في المملكة لأي شيء، ونرجو من العلي القدير ألا نحتاج، لكن اعتمادنا على الله ثم على بعض المخزون المستورد من الخارج وقليل جدًّا من المصانع المحلية، من المؤكد أن ذلك يجب أن يتغير، ويتم التوجُّه له كعامل مهم جدًّا تحقيقًا لأحد أهم أبعاد الرؤية ٢٠٣٠، وهو الارتقاء بالرعاية الصحية. وقد ذكر المتحدِّث الرسمي لوزارة التجارة (يوم 31/3/2020) أننا كمجتمع سنتحول اقتصاديًّا إلى العمل من أجل الأمن الصحي؛ وأضاف أنه لم يعُد هناك شكاوى كثيرة من المواطن على نقص المعقمات والكمامات؛ وذلك بسبب زيادة التصنيع المحلي لها، فقد كان عدد المصانع التي تُنتج هذه الأشياء ١٣ مصنعًا، وأصبحت ٣٥ مصنعًا، وهو خبر يؤدي إلى التفاؤل. بجانب ما اقترن بذلك من زيادة وعي المواطن السعودي من خلال درجة الإقبال على الشراء لوعيه بتوفُّر السلع.
وأضافت د. وفاء طيبة أنه يرتبط بذلك مسألة المرونة في الإنتاج، ومن المؤكد أنها موجودة كفكرة لمقابلة الاحتياج، ولكن أن يكون لدينا ٢٢ مصنعًا إضافيًّا لإنتاج المعقمات والكمامات لا يعني بالطبع إنشاء مصانع جديدة، وإنما تحوُّل بعض المصانع وقدرتها على التحول لحاجة طارئة، وهذا شيءٌ جميل، لو كان هناك نظام يخصُّ المصانع بأن يكون لديها خُطة طوارئ كلٌّ حسب إنتاجه الأساسي لتغطية الحاجات في بعض حالات الطوارئ، سواء كان الطارئ محليًّا أو خارجيًّا بناءً على دراسات، يمكن الاستفادة منه في التصدير لمناطق الطوارئ.
شكل يُبيِّن أثرَ فيروس كورونا على القطاعات الاقتصادية
ويرى د. خالد الفهيد أنَّ مثل هذه الجائحة قد تكون فرصةً مواتية لتقييم بعض مخرجات برنامج التحوُّل الوطني 2020 لتحقيق رؤية السعودية 2030، والمتضمِّن لثمانية أبعاد للبرنامج، منها: الارتقاء بالرعاية الصحية، وتحسين مستويات المعيشة والسلامة. وقد حقَّقا تميُّزًا وعكسَا اهتمام الدولة “أيدها الله” بالمواطنين والمقيمين على حد سواء، تناقلته وسائل الإعلام في الداخل والخارج، وتقدير المنظمات الدولية. ومثل هذه المِحن تُعزِّز أهميةَ تحديد الأولويات لبلادنا، مثل: الصحة، والتعليم، والأمن الغذائي.
وطرح أ. محمد الدندني التساؤلات التالية:
- بحكم أننا نخطو للخروج من مظلة الدولة الرعوية، ما مدى تحمُّل الدولة مع انخفاض أسعار النفط على الاقتصاد المحلي؟ وأيضًا، ما مدى تحمُّل القطاع الخاص المعتمد على مشاريع الدولة؟
- هل سنرى عزوفَ الناس عن الاستهلاك كما هو قبل فيروس كورونا من باب التوفير لمن لم تتأثر مداخيلهم أو لمَن تأثَّروا، وغالبًا سيكونون من القطاع الخاص؟
- هل من المطلوب مركزية الدولة في تسيير الاقتصاد لتقليل الخسائر بتوجيه الشركات بأنواعها للاندماجات، لتقليل التكلفة وللمحاولة ما أمكن من تقليل الخروج من السوق أو إعلان الإفلاس؟
- ما مدى استمرار جاهزية وقدرة بنك التنمية الوطني، الزراعي، الصناعي في الاستمرار في تقديم القروض لمشاريع قد قررت؟ نعلم التوجيه بالاستمرار، ولكن ما العمل إذا استمر سعر النفط بصورته الحالية؟
- هل ما حدث سيؤدي إلى إعادة النظر في المشاريع الكبرى، وعلى رأسها التعدين؟
- من المتوقع في ظل هذه الأسعار أن يُؤجَّل مشروع حوض جافورة للغاز في ظل الأسعار الحالية. وبغض النظر عن هذا المشروع، من المنطقي أن تتأثر شركات النفط الخدمية العالمية والمحلية مع الأسعار المنخفضة. ومع رخص الطاقة المفروض أن تنمو الصناعة والإنتاج، وهذا تأثيره عالميًّا، ولكن مع الأزمة ومدى استمرارها هل سنجد ارتفاعًا في الأسعار لأغلب المنتجات المستوردة؟
- ما هي الحلول المطروحة لو تزايدت البطالة جراء جائحة كورونا؟
ومن جانبه ركز أ. نبيل المبارك إجابته على التساؤلات السابقة في النقاط الثلاث التالية:
- إن ما يشغل تفكير الدولة وبتوجيهات خادم الحرمين، هو سلامة الإنسان والخروج بأقلِّ الأضرار على مستوى الصحة، أما موضوع أسعار النفط فهي في الأساس خطوة سعودية مدروسة لأهداف أبعد فيما يخصُّ قطاع الطاقة على المديين المتوسط والطويل، رغم تأثيرها المباشر على مدخولات الدولة في المدى القصير.
- من الواضح أن إقبال الناس المُفرط على الشراء وقت ساعات الحركة غير طبيعي فيما يخص الاستهلاك الغذائي تحديدًا، أما باقي المواد الاستهلاكية فمضطر أخوك لا بطل، ولكن لعلَّ الناس تكتشف أن هناك توفيرًا ناتجًا من عدم قدرتهم على الشراء الاستهلاكي غير الغذاء، وأن يكون بادرة للتفكير في أن الإنسان يمكن أن يُوفِّر دون أن يكون هناك تأثير على حياته.
- أن الاتجاه أكثر نحو المركزية هي إحدى نتائج الأزمة الصحية، ويبدو أن الدولة بدأت تكتشف فائدة المركزية؛ الكثير من الكُتَّاب الغربيين يعزون تفوق الصين بسبب عامل المركزية والسيطرة، في حين أن دول الغرب وأمريكا تحديدًا تُعاني من حجم العراقيل في القنوات التي يجب أن تمر فيها بأي قرار سياسي لإجراء أي إصلاح أو تطوير. فعلى سبيل المثال، البنية التحية في أمريكا وتحديدًا المطارات – كما قال ترامب – لا تُقارن بدول العالم الثالث. وهم من عقود غير قادرين على اتخاذ قرار في الاستثمار في تلك البنية التحتية المهمة.
واتفق د. خالد بن دهيش على أن الكاسب الأول من هذه الأزمة هو التقنية بمجالاتها المختلفة، وما يتمناه كل ولي أمر وموظف أن نستفيد ونُطوِّر آليات التعليم والتعلُّم عن بُعد على كافة المستويات التعليمية، بحيث نكون من الدول السبَّاقة في هذا المجال، ونُحدث نقلةً كبيرة في تعليمنا وتدريبنا في هذا المجال. وأيضًا، نُطوِّر أسلوبَ العمل عن بُعد، ونستفيد من القوى العاملة الكامنة من خلال هذا الأسلوب، وبالتالي نُطوِّر أنظمةَ العمل والموارد البشرية، ونُطوِّر أيضًا بنيتنا التحتية لمواجهة التعليم والعمل والتدريب عن بُعد، فمملكتنا – ولله الحمد- واسعة المساحة، وتضاريسها مختلفة؛ وبالتالي فهي في أمسِّ الحاجة للاستثمار في هذا المجال.
وفي تصوُّر م. إبراهيم ناظر، فإن أهم فوائد جائحة كورونا بالنسبة للسعودية، وقد يكون للعالم بأسره ما يلي:
- أثبتت صحة نظرة المملكة أن الاهتمام بالإنسان هو الهدف الأسمى، وهو محور التنمية المستدامة (بناء الإنسان وتنمية المكان).
- عجَّلت جائحة كورونا بإعادة هيكلة الاقتصاد السعودي نحو الاقتصاد الرقمي الذي كانت المملكة أصلًا سائرةً إليه ضمن رؤية ٢٠٣٠، وقـد انعكس ذلك في خطـط وجهـود الحكومـة فـي التحول الرقمي، حيث تقترب من قائمة أفضل ١٥ نموذجًا عالميًّا في التحوُّل الرقمي والابتكار، وتطويـر وتحسـين منـاخ الأعمال، وتنميـة المحتـوى المحلـي، وتعزيـز تنافسـية الاقتصاد، وتحسـين ترتيـب المملكة في المؤشـرات الدوليــة؛ حيــث أظهــر تقريــر ممارســة أنشــطة الأعمال لعــام 2020م – الــذي أصــدره البنــك الدولــي حديثــًا – قفــزةً فــي ترتيــب المملكــة مــن ناحيــة ســهولة ممارســة الأعمال بـ ـ30 مرتبــة، لتصــل إلى المرتبــة 62 مــن بيــن 190 دولــة، وذلــك مقابــل المرتبــة 92 فــي العــام الســابق، حيث جــاءت المملكــة فــي المرتبــة الأولــى ضمــن قائمــة أفضل عشــر دول. كمــا دعَّــم ذلــك تحسُّــن ترتيــب المملكــة بثلاثــة مراكــز إلى المرتبــة 36 فــي تقريــر التنافســية العالمــي الــذي يصــدره المنتــدى الاقتصادي العالمــي. كمــا ظهــرت جهــود المملكـة جليـةً فـي عمليـة التحـوُّل الهيكلـي لاقتصادهـا، وذلـك مـن خـلال اعتمـاد تقنيـة المعلومــات والاتصــالات، لتصبــح فــي المرتبــة 38 عالميًّا، ويدعــم هــذه النتيجــة النشــر السـريع لتقنيـة النطـاق العريـض والزيـادة الكبيـرة فـي مسـتخدمي الإنترنـت. كمـا تحسَّـن مؤشـر القـدرة علـى الابتـكار لتُصبـح فـي المركـز 36، وذلـك مـن خـلال الزيـادة فـي طلبـات بـراءة الاختـراع ومسـتوى الإنفاق علـى البحـث والتطويـر. وفيمـا يخـص تقريـر التنافسـية العالمـي الصـادر عـن المعهـد الدولـي للتنميـة الإداريـة (IMD)، فقـد حقَّقـت المملكـة أكبر تقـدُّم بيـن الـدول الأكثر تنافسـية بــ13 مركـزًا، لتحتـل المركـز 26 بيـن أكثر الـدول تنافسـيةً.
وتؤكد هذه التفاصيل – برأي م. إبراهيم ناظر – أن المملكة كانت قبل أزمة كورونا سائرةً في الاتجاه الصحيح. وكما جاء في الورقة الرئيسة، فإن معطيات الاقتصاد اليوم غير قادرة على العيش بالهيكل القديم، والاعتقاد أن أمريكا أو الصين سوف تتخلف عن الأخذ بالاقتصاد الرقمي، وهما أهم شريكين للمملكة، وما يحصل لهما إيجابًا أو سلبًا سيؤثر على اقتصاد المملكة. وبدون أدني شك، ومع كل الإجراءات التي اتخذتها المملكة؛ إلا أن جائحة كورونا سوف يكون لها آثارٌ على قطاعات كبيرة من المنشآت الصغيرة والمتوسطة، والتي أصلًا تُعاني من الضعف مقارنةً بأدائها في بقية اقتصاديات دول العشرين. ومن الجدير بالذكر أننا في حالة عدم يقين في أعلي مستوياتها، وصعبٌ جدًّا على أي محلل أو خبير اقتصادي أو مالي أن يُقدِّر كميةَ الأضرار، ويتنبأ بكيفية ردود فعل الأسواق إيجابًا أو سلبًا مع حزم الدعم سواءً الاقتصادية أو السياسية، وكيف ستكون تقلبات الأسواق عالميًّا وداخليًّا، ولا ننسى أن النمو الاقتصادي كان قبل الأزمة متباطئًا. والاعتقاد أن زيادة إنتاج البترول سوف تُنعش الاقتصاد، فهذا اعتقاد غير صحيح؛ فالمتوقع أنه سوف يؤدي إلى تدني الأسعار. لقد كانت المملكة تنتج حوالي ٩ ملايين برميل في اليوم بسعر ٥٠ دولارًا، ومن ثَمَّ فلن نُعوِّضه بإنتاج ١٣ مليون برميل بسعر ٢٠ دولارًا. لكن مع هذا، فإن مما يدعو للتفاؤل إعلان الرياض لدول قمة العشرين الافتراضية؛ فإذا اتحدت جهود أكبر ٢٠ اقتصادًا في العالم، واتخذت الإجراءات المناسبة؛ فسوف تعود الأسواق بأحسن مما كانت عليه، إرادة الإنسان أقوى من أي كارثة أو جائحة، إنها غريزة المحافظة على النوع والتكيُّف مع ظروف البيئة، وطبعًا بعد إرادة الله.
وذهب د. عبد الله بن صالح الحمود فيما يتعلق بتأثير جائحة كورونا على الاقتصاد المحلي، فإن الاقتصاد السعودي هو أحد الاقتصادات العالمية، وقد تأثَّر كما تأثَّرت الاقتصادات العالمية بالجائحة، وهنا تأتي التدابير الاحترازية المتخذة محليًّا وصحيًّا وأمنيًّا، فضلًا عن أن التدابير المعمول بها الآنَ بحزم تجاريًّا، ودعم التمويل المالي، والتخفيف من حدة الديون كالقروض البنكية والصناديق الحكومية؛ تلكم تدابير هوَّنت من حدة الأضرار الاقتصادية على الجميع. ومن ناحية أخرى، وبالتطرق إلى تأثير جائحة كورونا على المحتوى المحلي، يُلاحظ أن المحتوى المحلي لأي دولة إنْ لم يكن إحدى الركائز الإستراتيجية لها، فهي تعَدُّ دولةً رعويةً وغير مُنتِجة، فإنشاء هيئة تختصُّ بالمحتوى المحلي تحت اسم (هيئة المحتوى المحلي والمشتريات الحكومية) تعَدُّ بادرةً ذاتَ بُعدٍ سياسي واقتصادي في آن واحد، وحتى يتمكن المحتوى المحلي من الثبات والنمو المستمرين، لا بد أن تُعَدَّ له مقومات وأنشطة ذات مرتكزات تحفيزية، ومرتكزات مدروسة تتفق والإمكانات الطبيعية وغير الطبيعية التي تزخر بها البلاد، فالمحتوى المحلي يعَدُّ المخزونَ الإستراتيجي الذي يساعد أيَّ دولة أن تستغني عن غيرها في مجالات عدة؛ ففي مثل هذه الأزمة المتعلقة بوباء كورونا وغيرها من الأزمات تأتي الحاجة إلى الاستفادة من وعاء المحتوى المحلي من خلال ما تمَّ بناؤه وتحصيله مُسبقًا.
وذهب م. فاضل القرني إلى أن النُّخب في المملكة بمختلف تخصصاتهم (السياسية والاقتصادية والأمنية، وغيرهم) يجب أن تتكاتف جهودهم في دمج ما يحدث وما سينتج عنه، والخروج بسيناريوهات مختلفة عن بعضها تنطوي على الفرص المواتية للمملكة للخروج بأقلِّ الأضرار وأكثر المكاسب الممكنة. ومن المهم ألا يتم تقييم الأمور بنظرة مثالية مفادها أن التأثير على المملكة سيكون إيجابيًّا؛ لأن الأزمة لا تزال في منتصف مشوارها.
وذهب أ. فهد الأحمري إلى أن السعودية كانت هي النموذج المُحتذى في هذه الأزمة، داخليًّا وخارجيًّا. فقبل أن تُسجَّل إصابة واحدة في البلد، اتخذت السعودية قراراتها السيادية لمواجهة الأزمة، فأوقفت تأشيرات السياحة والعمرة فورًا، ثم تدرَّجت في اتخاذ التدابير بأسلوب نموذجي. وفي الخارج، وفَّرت السعودية لرعاياها العالقين في الدول الأخرى أفضلَ الفنادق، وقدَّمت لهم الوجبات المجانية والمصروفَ اليومي والعنايةَ الطبية والتواصلَ الدائم.
وأوجز م. أسامة كردي وجهة نظره حول الأثر الاقتصادي لجائحة كورونا على الاقتصاد المحلى السعودي في النقاط التالية:
- يجب أن نضع في الاعتبار أن من المستحيل فَصْل التأثيرات الاقتصادية السلبية لفيروس كورونا عن التأثيرات الاقتصادية لسوق النفط، وعن التأثيرات الاقتصادية للحرب التجارية بين أمريكا والصين.
- من الصعب التعرُّف على التأثيرات الإيجابية لحزمة التحفيز الأولى (باعتبار أن هناك حزمة ثانية متوقعة) من مؤسسة النقد العربي السعودي، كما ينطبق هذا الأمر على مبادرات دعم القطاع الخاص الصادرة من (لجنة التجارة والسياحة والترفيه والرياضة التي ترأسها وزارة التجارة)، المتفرعة من (اللجنة العليا التنسيقية لمعالجة تحديات الأزمات) العاملة في إطار مجلس الوزراء.
- يتضح أن هناك العديدَ من المؤثرات السلبية والإيجابية اقتصاديًّا بما نمر به الآن.
- مع ذلك، يمكن القول إن هناك قطاعات لا شك في تأثُّرها السلبي بأزمة فيروس كورونا؛ منها قطاع التصنيع المرتبط بالمستهلك، وقطاع الرياضة والسياحة والترفيه باعتباره من الكماليات، وقطاع النقل الجوي كما هو معروف وواضح.
- أما التأثُّر الإيجابي فالاعتقاد أنه سيكون من نصيب السعودة في القوى العاملة، وانخفاض التستر، وتطوير أكبر في استخدامات التقنية.
- المأمول أن يكون من إيجابيات هذه الأزمة إنشاء وزارة للبحث العلمي لفصل التعليم الجامعي عن البحث والتطوير، تبحث هذه الوزارة ضمن مجالات مختلفة في تطوير القطاع الطبي وأجهزته وأدويته.
- ربما يكون من التأثيرات الاقتصادية لهذه الأزمة ارتفاع مستوى اعتمادنا على إمكانياتنا المحلية، وعلى رأسها قطاعنا الخاص الذي أثبت على مرِّ العقود اعتمادية مرتفعة بالمقارنة مع القطاع الخاص الأجنبي الذي ثبت ضعف اعتماديته بمؤشرات واضحة، ليس هنا مجال لطرحها.
ومن جانبه طرح د. رياض نجم تساؤلًا مفاده: هل من المناسب في ظل التغيرات التي أحدثتها – ولا تزال – جائحة كورونا في اقتصاديات الدول، إعادة النظر على المستوى المحلي في أولويات رؤية ٢٠٣٠، وعلى الخصوص زيادة التركيز على:
- البحوث بشكل عام، وفي المجالات الطبية ومكافحة الأوبئة بشكل خاص.
- استخدام التقنية والعمل عن بُعد في جميع المجالات.
- أن يُخصَّص جُزء من التعليم الأساسي والجامعي ليكون عن بُعد حتى بعد عودة الأمور إلى طبيعتها.
- الاعتماد على سلاسل الإمداد المحلية حتى لو كانت أعلى كُلفة، طبعًا في الحدود المعقولة.
وتعقيبًا على ذلك، ذكر أ. نبيل المبارك ما يلي:
- يمكن الجزم بأن كل الاقتصاديات في العالم سوف يحصل لها تغيير؛ فكورونا سوف تجعل الجميعَ يُعيد حساباته، ليس بالضرورة أنَّ ما كان يحدث كان خطأً، لكنَّ جائحة كورونا سوف تُعجِّل بانهيار مفاهيم كثيرة ترسَّخت في الأذهان منذ الحرب العالمية، وبالتالي طريقة التفكير الإداري والسياسي للأمور يجب أن تتغير، كيف؟ لا ندري، ولكن سوف تبدأ تتطور مفاهيم مختلفة، وأساليب جديدة.
- فيما يتعلق بالبحوث، فالاعتقاد أن الأزمة الصحية أظهرت مدى ضعف هذا الجانب (على افتراض عدم وجود مؤامرة)، كما بيَّنت أنه يمكن أن تأتي البشرية من أماكن لا أحد يتخيلها. التاريخ يقول إن التغييرات الكبيرة تحدث مع الأحداث الكبيرة، ونحن نعيش واحدًا منها.
- فيما يرتبط بالتقنية وكما نقرأ في المستقبليات، فإنها تسير بسرعة جنونية، وبالنسبة لنا فالخوف ليس استخدام التقنية، ولكن نحن حتى الآن لا نُنتج التقنية؛ وإنما نحن مستهلكون لها.
- أما بالنسبة إلى التصنيع في المملكة؛ فهناك تركيز عليه بعد تأسيس وزارة خاصة به، وهو يعاني من عنصر أنه تصنيع يرتكز على العنصر البشري وليس الآلة، ويُركِّز على المنتجات الاستهلاكية أكثر من التصنيع الثقيل. كما أنه ثمة مراكز أبحاث صناعية لدينا، لكنها لا تواكب التطورات التقنية، وكذلك ليس لديها إبداع تقني للتصنيع.
واتفق م. خالد العثمان مع م. أسامة كردي في القول بأن هذه الأزمة تُمثِّل فرصةً ومطلبًا لتمكين المحتوى المحلي، إلا إنه يرى أن ما ذكره أ. نبيل المبارك من أن التقنية هي الفائز في هذه الأزمة يصطدم بواقع قدرتنا على إنتاج التقنية في ظلِّ غياب منظومة فاعلة لتحفيز وتمكين الإبداع والابتكار عمومًا، وفي القطاع التقني والصناعي خصوصًا. هنا، يجب الالتفات إلى الفرص العظيمة التي تحملها الأزمة للاستحواذ على تقنيات وصناعات تقنية متقدمة في الكثير من دول العالم نتيجة التعثُّر الاقتصادي الكبير الذي تعيشه تلك الدول.
وعقَّب م. فاضل القرني بأن هذا سببٌ رئيس، وهناك أسبابٌ مساعدة وكثيرة. وربما كأمثلة في المجال الدفاعي والأمني، انتشار صناعة الطائرة بدون طيار، والأجهزة الاستخباراتية الحساسة والمتطورة بأنماط (compact) ومتعددة الخيارات والأدوار في مهمة واحدة تعطي ميزة إدارة موارد وتقديم تأثير أكثر دقة وتكاليف أقل. بالإضافة إلى الصناعات اللوجستية؛ وجميع ذلك يساعد في تقليص البطالة والتصنيع المحلي جنبًا إلى جنب مع القطاع الخاص، والذي سيكون له دورٌ كبيرٌ كمورِّدين (Supplier).
وركَّز د. حامد الشراري على تقنيات المستقبل وأثرها في الاقتصاد؛ حيث يعتقد أن مَن يستحوذ على هذه التقنيات خاصة في مجالات العمل عن بُعد والتعليم عن بُعد، هو مَن يُسيطر على السوق. والملاحظ فيما يتعلق بالاقتصاد الجديد (الاقتصاد عن بُعد) ما يلي:
- أن هناك تنافسًا محمومًا بين الشركات (التطبيقات) التقنية في السيطرة على السوق (السوق عن بُعد)، من خلال طرح تلك التطبيقات مجانًا لكسب أكبر عدد من المستخدمين.
- التوقع أن يكون هناك تحالفات بين هذا النوع من شركات التقنية للسيطرة على السوق. فسوق التقنيات هو الرابح الأكبر في هذه الجائحة، والتساؤل: هل من الممكن أن نستحوذ على شركات تقنية من الدول التي تواجه صعوبات اقتصادية نتيجة لهذه الجائحة؟
ويرى أ. نبيل المبارك أنه يبدو ثمة توجُّس من أن تكون الصين هي المهيمنة على العالم، وأننا قد نكون (نحن) الخاسرين، بحكم علاقتنا مع الغرب وتحديدًا أمريكا. لكن المؤكَّد أن أمريكا لن تبقى مُهيمنةً للأبد. وبالتالي، علينا أن نُفكِّر في أنفسنا، وكيف يمكن أن نكونَ قادرين على أن نبني ونسير بخُطى حثيثة في طريق الاعتماد على أنفسنا قدر الإمكان، مع صعوبة تحقيق ذلك؛ لأن العالم بسبب التقنيات والتقدم، أصبح مترابطًا بشكل لم يسبق له مثيل. أيضًا، الدول مثل البشر، عندما تجد نفسَها في مركز القيادة، تختلف عنها عندما تكون تابعًا.
وعقَّب د. عبد الله بن صالح الحمود بأنه يجب الانتقال اليومَ إلى مرحلة التنفيذ، وقد أسَّست المملكة بالفعل كلًّا من: الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي المعروفة اختصارًا باسم سدايا، وهيئة المحتوى المحلي والمشتريات الحكومية. وهاتان الهيئتان إنْ لم نُبادر ببنائهما البناء العلمي والعملي، فإننا سنكون بعيدين كلَّ البعد عن أي منتج صناعي، وسنظل تابعين مستوردين مستهلكين.
وأضاف م. فاضل القرني أنه يجب أن نخرج من دور المُتفرج إلى لاعب، وأخذ مخاطر مدروسة، وخاصةً في فترة زمنية قلَّصت التفاوت في الثقافة والمعرفة والتقنية، وأصبحت الطاقات البشرية أكثر وعيًا وإدراكًا وتعليمًا، مقارنةً بسنين التأسيس وبعدها بعقود، والتي كانت تعتمد على مؤهلات خارجية في الاقتصاد والتعليم والاستشارات السياسية. فعدد حاملي الدرجات العلمية والممارسات القيادية والتنفيذية والمهنية الآنَ يُمثِّل فارقًا كبيرًا جدًّا. كلُّ ذلك يؤهِّل السعوديةَ لأنْ تكونَ ذاتَ تأثير ومشاركة فاعلة.
أما د. صدقة فاضل فذهب إلى أن هذه الجائحة العالمية يجب أن تُذكِّرنا بمسألة التموين وقت الأزمات المشابهة، لا سيما والعالم مُعرَّض لجوائح أخرى مشابهة. أصبح الاهتمام “بالخزن الإستراتيجي” في كل بلد أمرًا ضروريًّا لمواجهة الأزمات والجوائح المختلفة.
وفي هذا السياق، أشار م. إبراهيم ناظر إلى أن وزارة الدفاع منذ عدة عقود عملت مشروعًا ضخمًا عُرِف بمشروع “الخزن الإستراتيجي” لتأمين وقود للطائرات المقاتلة وبمواصفات عالمية بعدة مناطق بالمملكة، وسلَّمته لشركة أرامكو للتشغيل، ولا يزال قائمًا، وأرامكو مستفيدة منه لأغراض الخزن والتسويق. ومن ناحية الأمن الغذائي، تمَّ إنشاء المؤسسة العامة لصوامع الغلال ومطاحن الدقيق في عام ١٣٩٢هـ، والآن اسمها المؤسسة العامة للحبوب تحت إشرافها أربع شركات مساهمة (مطاحن الدقيق)، تُنتج أجودَ أنواع الدقيق بكل أنواعه. والحقيقة أن الخزن الإستراتيجي ليس فقط في مجال وقود للطائرات، ولكن فيما يخصُّ المنتجات البترولية وتأمين احتياجات الجهات المهمة والحيوية منها في أوقات الأزمات والطوارئ بنفس الكفاءة التي تتوافر بها في أوقات السلم والرخاء.
وتساءلت د. وفاء طيبة: ألا تضع الشركات خُطط طوارئ؟ أليس بها صناديق مثلاً لمواجهة الطوارئ؟ مثلما نطالب الدولة أن يكون لديها صندوق استثماري لمواجهة الطوارئ، قد يكون من المناسب لمثل هذه الشركات الكبيرة أن يكون لها أيضًا صندوق، الهدف منه مواجهة الطوارئ، وأيضًا خطة بديلة مدروسة. ومن جانبه، يرى م. خالد العثمان أنه لا يمكن لأي شركة أن تُخطط لانخفاض مبيعاتها بنسبة ٩٥٪، هذه ليست طوارئ بل كارثة قهرية.. بالإنجليزية اسمها Force Major. وذكر د. منصور المطيري أن القضاء أو التحكيم سيتردد كثيرًا في إطلاق وصف القوة القاهرة على فيروس كورونا؛ وذلك لأنه ليس السبب الرئيس فيما يحدث من اختلال في الالتزامات التعاقدية. السبب الرئيس في الاختلال هو الإجراءات الحكومية التي اتخذتها أغلب الدول. والقرار الحكومي الصادر من السلطة إذا نفَّذته وحال دون تنفيذ العقد، فهو قوة قاهرة تلغي الالتزام التعاقدي. وإذا كان المتعاقدان يتضرران ضررًا جسيمًا لكن يمكن تنفيذ العقد فهو من الظروف الطارئة التي تُوجب تخفيف العقد وتوزيع الخسارة بين الطرفين، وليس إلغاء العقد. والقصد أن العقود التي تتأثر بالقرار الحكومي وليس بالمرض نفسه تعتبر قوة قاهرة، وأما العقود المتأثرة بالمرض نفسه بحيث يمكن تأجيل التنفيذ أو تخفيف الالتزام فهي من الظروف الطارئة. والنقطة الأخيرة ستظهر بوضوح في التزامات الدول المدينة للمؤسسات المالية الكبرى، فهي لا تستطيع التحجج بالقوة القاهرة في عدم سداد دفعات القروض، ولكنها تستطيع المطالبة بالتأجيل أو التخفيف دون أن يترتب على ذلك أعباء مالية بسبب هذا التأجيل؛ وذلك إعمالًا لنظرية الظروف الطارئة.
وبدورها أضافت د. وفاء طيبة أن الأمور القانونية ليست واضحةً في أنظمتنا حول القوة القاهرة والقوة الطارئة وكيفية التعامل مع كل حالة، وفي ذلك ضياع للحقوق، وأثر كبير على كلٍّ من الشركة والفرد. ومع أن المادة ٧٤ من نظام العمل فيها ذِكْر للقوة القاهرة، ولكن لإنهاء العمل وبرضا الطرفين! والاعتقاد أنه لا بد من مراجعة هذه المادة وعموم أنظمتنا بعد هذه الجائحة، وتحديدها وتحديد دور الدولة فيها.
بينما أشار م. إبراهيم ناظر فيما يخصُّ خُطط الطوارئ للشركات، فإن هناك الاحتياطي النظامي للشركات (تُسمِّيه الدول الأخرى «القانوني»): هو الذي يفرضُ القانون والنظام تكوينه على الشركات، إذ توجب المادة (129) من نظام الشركات السعودي اقتطاع 10٪ من صافي أرباحها حتى يصل الاحتياطي إلى 30٪ من رأس المال (في النظام السابق كان 50٪ وليس 30٪)، ومن ثَمَّ يجوز أن يتوقف الاقتطاع. وإذا قلَّ هذا الاحتياطي عن 30٪ من رأس المال بسبب ظروف الشركة، وجَب العَوْدُ إلى الاقتطاع حتى يبلغ مجموعه هذا القدر؛ لكن يصعب التنبؤ بالكوارث الكبيرة، ولا بد من تدخل الدولة.
أما د. علي الطخيس فيرى أنه لا من الاستفادة من دروس وعِبَر الماضي، ومنها:
- معظمنا يتذكر الحرب العربية الإسرائيلية عام ١٩٧٣ والموقف البطولي للملك فيصل – رحمه الله – حين هدَّد بإغلاق آبار النفط، وعلى إثر ذلك ارتفع سعر النفط، وابتدأ المسار الجيد لسعر النفط، فرُبَّ ضارة نافعة.
- مرَّت المملكة بظروف اقتصادية خلال حربي الخليج وغزو الكويت، والحمد لله، تجاوزت هذه الظروف بسلام، وتعافَى اقتصادنا؛ بل أصبح أكثر قوةً من ذي قبل.
- على الرغم من تأثُّر الاقتصاد العالمي بشكل واضح منذ عام ٢٠٠٨؛ إلا أن المملكة وهي جزء من المنظومة العالمية لم تكن الأكثرَ تأثرًا، واتخذت وقتها العديدَ من الإجراءات الإيجابية.
- يلحظ الفرد غير المتخصص أن هناك حربًا اقتصادية بين أمريكا والغرب من جهة والصين من جهة أخرى، ليقود المنتصرُ فيها اقتصادَ العالم.
- ظهر وباء كورونا في الصين، وانتشر كالنار في الهشيم في معظم دول العالم، والغريب أن الصين يمكن أن تكون أول دولة تتعافى من هذا الوباء، وهذا يطرح تساؤلات لا تتوفر إجابات عنها في الوقت الحاضر، في مقدمتها: هل ظهور هذا الوباء صُدفة أم ينطوي على مؤامرة؟
- المملكة اتخذت خطوات احترازية قوية ساهمت في محدودية انتشار وباء كورونا، وشهد العالم أجمع واعترف بنجاح الإجراءات السعودية في التصدي لهذا الوباء، في الوقت الذي انهارت الدول الكبرى بجيوشها وعُدتها وعتادها واقتصادها وعلمها وصواريخها وقنابلها النووية من الحد من انتشار هذا الوباء.
- بالطبع تأثَّر الاقتصاد والصناعة والإنتاج، وزادت نسبة العاطلين عن العمل لأسباب كثيرة. كلُّ هذا كان نتيجة لمثيلاتها في العالم الخارجي، حيث تناقص الطلب على الطاقة مثلًا، ونحو ذلك. نحمد الله أن هناك جهودًا تمت لتحقيق رؤية المملكة ٢٠٣٠، وأهمها تنويع مصادر الدخل، والتوقُّع أننا سنعود إلى وضع اقتصادي أفضل مما كنَّا عليه.
- من إيجابيات أزمة انتشار وباء كورونا هو ما أكَّده خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده من أن الاهتمام بالإنسان وتطويره هو أساس التنمية، وهذا ما أكدته الأسابيع الماضية.
- من الإيجابيات أيضًا استعادة الحياة الاجتماعية للأسرة ولمُّ الشمل، والحجر المنزلي أكد ذلك، فضلًا عن زياد الوعي الصحي بدرجة كبيرة.
وعقَّب أ. عبد الرحمن باسلم بأننا في المملكة جزءٌ من المجتمع الدولي، وسلعة النفط لا تزال هي الدخل الرئيسي للاقتصاد، وما حدث من وباء أوقف عمل كثير من الشركات والمصانع في دول العالم، وبالتالي انخفض الطلب، يُضاف إلى ذلك أسعار النفط الآنَ والتي لامست 20 دولارًا؛ إذًا نحن سوف نتأثر بما يجري حولنا خاصةً وأننا لدينا مشاريع جبارة انطلقت وتحتاج إلى تمويل ضخم جدًّا، فضلًا عن مشاريع البنية التحتية القائمة، ويجب النظر إلى الأمور بعقلانية وتخطيط سليم دون الإفراط في التفاؤل.
وترى أ. مها عقيل بالنسبة للوضع في المملكة ما يلي:
- أن اعتماد السعودية الأساسي لا يزال على النفط ولمَّا نصلْ بعدُ ليكون لدينا مصادر دخل قوية ومستمرة رغم الخطوات والمبادرات المهمة التي اتخذتها الحكومة لتنويع مصادر الدخل.
- بالنسبة إلى التقنية فهي الحاضر والمستقبل، ويجب الاستثمار في العقول والأبحاث والابتكار، وتقوية الصناعة المحلية الكاملة وليس التجميع والنسخ، وتسهيل الإجراءات وتشجيع المبادرات.
- يمكن التفاؤل بقدرة الشباب السعودي على التأقلم مع الدراسة والعمل عن بُعد، والتفكير بطُرق حديثة ومبتكرة.
- من التأثيرات المتزامنة مع الجوانب الاقتصادية، التغيير الذي سيحصل في أسلوب حياتنا الاجتماعية والصحية والتعليمية، ولا بد أنه سينتج عن ذلك تحديات وفرص جديدة لا بد أن نستعد لها.
أما د. الجازي الشبيكي فترى أن الظروف الحالية مُهيَّأة للسعودية بصفتها رئيسة مجموعة العشرين، وفي إطار أزمة كورونا الحالية وتبعاتها الاقتصادية، لتقديم مقترحات بخصوص نظام مالي قائم على الأسُس الاقتصادية الإسلامية الصحيحة المتسمة بالملكية الحقيقية غير الافتراضية، وكذلك الاستدامة والبعد عن المخاطر حتى لو كانت بطيئة نسبيًّا. هناك خبراء ماليون على مستوى العالم الإسلامي مثل ماليزيا أثبتوا أن البديل الاقتصادي الإسلامي أكثر ضمانًا واستقرارًا على المدى الطويل.
- الأثر الاقتصادي لجائحة كورونا على الشركات الكبيرة:
في اعتقاد د. عبد الله بن صالح الحمود، فإن المنشآت الكبيرة لم تكن بمنأى عمَّا حدث لأي منشأة أخرى صغيرة أو متوسطة أو فوق المتوسطة نتيجة لجائحة كورونا، ولكن دون أدنى شك فإن المنشآت الكبيرة تظلُّ أدنى خطورةً من غيرها؛ إلا إنه في حال إطالة أمد أي أزمة لا شك أن التأثير سيطالها كغيرها، خصوصًا إنْ كانت قد تكبَّدت ديونًا جراء قروض مالية أو عدم تلقيها حقوقًا مالية لها بمديونيات من لدن عملائها لسبب أو لآخر.
وعقَّبت أ. بسمة التويجري على ما ورَد في الورقة الرئيسة فيما يتعلق بالفرص التي ظهرت من خلال هذه الأزمة (المحنة)، وكيف أن هذه الفرص بالفعل تعتبر (مِنحًا) لا سيما فيما يتعلق تحديدًا بفُرص الاستحواذ على بعض المشاريع الناشئة مقابل مبالغ مالية مجزية، ومن ذلك – على سبيل المثال – استحواذ شركة بندة للأغذية على شركة ناشئة للتوصيل اسمها “للباب”. والتصوُّر أننا سنرى مزيدًا من الاستحواذات والاندماجات في الفترة القادمة وخاصة في القطاعات التي زاد الطلب عليها مؤخرًا.
وفي اعتقاد أ. فهد القاسم، فإن الآثار التي ستُخلِّفها جائحة كورونا ستكون شبيهةً بتسونامي الذي ضرب شرق آسيا، وسنكون نحن والعالم بعد الوباء مختلفين تمامًا عمَّا قبله. ومن المتوقع أن تتغير الأنظمة والسياسات، وطريقة التعاطي مع القضايا العمالية والديون، بل وحتى التحالفات والسياسة، وجاذبية الأنشطة والقطاعات. أما من حيث الآثار فهي بالتأكيد كارثية على جميع المستويات لمعظم القطاعات والصناعات بغض النظر عن حجم تلك الشركات، وقد تُحقِّق قطاعات محدودة بعضَ المكاسب، مثل بعض شركات الغذاء والتقنية، أو قد تكون بعضُها أقلَّ تأثُّرًا. لكن من المتوقع أن نسمع عن حالات فصل جماعي، وقد بدأت الشركات بالفعل في التحرُّك في جميع الاتجاهات لتخفيض التكاليف وأبرزها تكاليف الموظفين؛ مما سينتج عنه تسريح الكثير وتخفيض الرواتب، ومنح إجازات للموظفين. سيكون الألم شديدًا، والأثر عميقًا كلما طالت الأزمة.
وذكر كلٌّ من د. حميد الشايجي وأ. فائزة العجروش أن شركة (ميدترونيك) – وهي أشهر شركة مُصنِّعة لأجهزة التنفس الصناعي- قامت بعمل نبيل وإنساني جدًّا، بعد أن زاد عليها الطلب لعلاج حالات كورونا الحرجة بالتنازل عن حقوق الملكية لتصنيع أحد أجهزة التنفس الصناعي المملوك لها، ونشرت التصاميم على موقعها للاستفادة منها، فهل هناك شركات وطنية تستطيع أن تغتنم الفرصة وتصنع هذا الجهاز محليًّا؟
وتساءل أ. عبد الرحمن باسلم: ما هي الفرص المواتية أمام شركة البترول أرامكو والكيمائيات سابك وغيرها؟ وبدوره يرى د. عبد الله بن صالح الحمود أنه من المناسب الآنَ الاستحواذ على شركات التقنية العالية، خصوصًا تلك المتعثرة أو شبه المتعثرة، فالفرصة سانحة لتقوية المخزون المعرفي والتقني. أما فيما يخصُّ الصناعات البترولية فالظن أننا لسنا بحاجة إلى المزيد منها؛ فأرامكو تعَدُّ من كُبريات الشركات العالمية تنقيبًا وتكريرًا للنفط، وسابك هي الأخرى أحد عمالقة الصناعة الكيميائية. وبدوره أكد م. خالد العثمان على أن مجالات التقنية واسعة ومتعددة. والأهم منها ما ينسجم مع توجهات برامج رؤية 2030، وعلى رأسها ربما الصناعات العسكرية وتقنيات المياه والطاقة المتجددة والزراعة والبناء والذكاء الاصطناعي، وغير ذلك.
بينما اقترح أ. محمد الدندني أن تقوم شركة أرامكو بما يلي:
- إنشاء شركة استكشاف دولية وشراء شركات نفطية صغيرة ومتوسطة تقوم بتطويرها وإضافة احتياطيات، وعند تحسُّن الأسعار إما البيع والتخارج أو الاحتفاظ ببعضها ذات الأماكن المهمة.
- الاستحواذ على شركات صغيرة تملك تقنية حديثة في الخدمات وتوطينها. ربما هنا يكون صندوق الاستثمارات العامة هو ذراع الاستثمار.
- الاستحواذ على شركات للصناعات العسكرية وتقنيات المياه والطاقة المتجددة والزراعة والبناء والذكاء الاصطناعي، وغير ذلك.
- الأثر الاقتصادي لجائحة كورونا على المنشآت الصغيرة والمتوسطة:
أشار د. عبد الله بن صالح الحمود فيما يتصل بأثر جائحة كورونا على المنشآت الصغيرة والمتوسطة، إلى أن المنشآت الصغيرة والمتوسطة هي المُحرِّك الأساس للنهوض بالاقتصادات المحلية، فهي المُسوِّق الرئيس لأي منتج خصوصًا المنتجات المحلية، وبالتالي فإن مسألة الاهتمام بها والوقوف معها وبجانبها وعلى الدوام يعَدُّ أحد أهم العوامل الأساسية؛ فمن المشاهدات تجاه دعمها ما رأيناه من مبادرات حكومية متعددة الأوجه نحو دعمها ماليًّا ومساندتها لوجستيًّا، وهذا أمر لو لم يحدث لكان أحدَ الأسباب الرئيسة لتدني مستوى الاقتصاد الوطني، والذي من أولوياته الحفاظ على كفاءة الناتج المحلي الإجمالي.
ويرى أ. فهد القاسم أنه كلما زاد الدعم الحكومي والحوافز المقدَّمة للأفراد ولمنشآت القطاع الخاص، وكانت وتيرة التنفيذ سريعة؛ فسيكون ذلك علاجًا استباقيًّا لكثير من الآثار الاقتصادية الكارثية قبل حدوثها. المشكلة ليست في الآثار التي نراها أو نتمكن من استشرافها وتوقُّع حدوثها؛ ولكن تكمن المشكلة في ما لا يُمكن توقُّعه والتنبؤ به بسبب جهلنا بمدة الأزمة وعمقها حاليًّا، يُضاف لذلك المدد التي قد يستغرقها التعافي بعد انتهاء الأزمة، على مستوى الحكومة أو القطاع الخاص.
وذكر م. إبراهيم ناظر بعضَ صور الدعم الذي يحتاجه القطاع الخاص خلال جائحة كورونا الحالية لا سيما ما يرتبط بالقطاع الصناعي والتعديني والمقاولات:
- إلغاء جميع الرسوم الحكومية إلى نهاية عام ٢٠٢٠.
- إلغاء القيمة المضافة إلى نهاية ٢٠٢٠.
- تخفيض سعر الكهرباء لقطاع السياحة والصناعة والزراعة إلى ٩ هللات حتى نهاية ٢٠٢٠.
- تخفيض أسعار المحروقات إلى نهاية عام ٢٠٢٠، لتكون مُماثلةً لأسعار عام ٢٠١٥، وكذلك المياه والكهرباء فيما يخصُّ القطاع الصناعي عام ٢٠٢٠.
- عدم إيقاف مشاريع الدولة بل زيادة الضخ.
- عدم إيقاف المقاولات في المشاريع؛ كونها شريان القطاع الخاص.
- وقف استحقاق إيجار الأراضي للدولة إلى نهاية ٢٠٢٠.
- دفع أجرة العاملين بالقطاع الخاص المجبورين على الإجازة.
أما بخصوص التسهيلات التي يحتاجها قطاع المقاولات تحديدًا فتتضمن:
- الصرف الفوري للمستحقات المتأخرة.
- إلغاء رسوم المقابل المالي لرخص العمل.
- إلغاء الرسوم البلدية.
- تمديد مُدد التسهيلات الائتمانية البنكية إلى ضعف المُدد الحالية.
- تعليق كافة غرامات وعقوبات التقصير والتأخير التعاقدية.
- تعليق كافة الغرامات الحكومية البلدية، ووزارة الموارد البشرية، والجوازات، وضريبة القيمة المضافة، والتأمينات الاجتماعية.
- عدم تسليم مشاريع جديدة من عقود التنفيذ المستمر، والاكتفاء بالتمديد للمقاولين الحاليين.
- استقطاع اشتراكات التأمينات الاجتماعية وضريبة القيمة المضافة من مستحقات المقاولين.
- تسريع صرف القروض من صندوق التنمية الصناعية للمشاريع المعتمدة، ويمكن إضافة هذا البند بإلزام صندوق التنمية الصناعية بصرف القروض المتأخرة للمصانع.
وأشار أ. عبد الله الضويحي بخصوص المقترحات المبيَّنة أن هناك تعليمات صدرت تجاه البنوك بجدولة المديونيات، وكذلك بعض الشركات والقطاع الخاص بتأجيل تجديد التراخيص أو إعفاء الغرامات.
- الأثر الاقتصادي لجائحة كورونا على رواد الأعمال والمبادِرين:
رصدت أ. بسمة التويجري بعضَ جوانب تأثير الأزمة الحالية على قطاع الأعمال في النقاط التالية:
- التوقُّف المفاجئ الذي حدث في الاقتصاد العالمي سيحتاج إلى وقت طويل لكي يعود مُجددًا، ويجب أن نكون مستعدين لذلك، وقد يكون الثمن خروج العديد من الشركات من السوق.
- بعض القطاعات التي توقفت تمامًا، مثل قطاعات النقل والترفيه والسياحة، ستحتاج إلى وقت طويل للعودة إلى سابق عهدها، وتعويض خسائرها الفادحة.
- ستزداد أهمية قطاع الرعاية الصحية؛ نظرًا للدور الفاعل الذي قام به في إدارة الأزمة الحالية، وللدور المنتظر منه في إدارة أي أزمات أخرى.
- الأزمة ستخلق ابتكارات جديدةً ونماذج عمل جديدة للتعامل مع الظروف الراهنة، والتي قد تمتد لأسابيع طويلة.
- الأزمة ستُلقي مزيدًا من الضوء على المسؤولية الاجتماعية للشركات والبنوك، وضرورة خلق نوع من التوازن بين أهداف الربحية ومسؤوليتها تجاه أفراد المجتمع.
وسلَّط د. عبد الله بن صالح الحمود الضوءَ على أثر جائحة كورونا على رواد الأعمال والمبادرين؛ حيث ذهب إلى أن رواد الأعمال قد يكونون قريبين من الأوضاع الاقتصادية التي تمرُّ بها منشآت القطاع الخاص الصغيرة والمتوسطة، بينما باعتبار رواد الأعمال أقرب ما يُقال عنهم أصحاب المنشآت المتناهية الصغر، ومبادراتهم دومًا ذات فكر نوعي وحديث، وإشكالية التأثير عليهم كبيرة للغالية؛ كونهم في بداية الطريق هذا أولًا، وأخيرًا بحكم أن أغلبيتهم يُعَدُّون من المبتكرين أو المبدعين؛ لذا من الواجب أن تزيد هيئة المنشآت الصغيرة والمتوسطة من الاهتمام بهم وتقوية دعمهم، والمؤكد أن الهيئة تسير في خطى ممتازة نحو النهوض بدور هذه الفئة.
ويرى أ. فهد القاسم أنه وفي الغالب يتوقع أن يكون من آثار جائحة كورونا إفلاس الكثير من منشآت الأعمال، وعلى المستوى المحلي فلا يزال قطاع الأعمال في المملكة لمَّا يشعرْ بعدُ بأثر الحزم التحفيزية التي تمَّ الإعلان عنها، ولا عن تحرُّك البنوك الذي تمت الإشارة إليه.
- الأثر الاقتصادي لجائحة كورونا على الأفراد في العالم والمملكة:
أشار د. عبد الله بن صالح الحمود إلى أن جائحة كورونا قد تركت آثارها على الأفراد في العالم وفي المملكة خاصة؛ فالفرد هو أساس المجتمع، والفرد مهما يكن وعندما يحل بالمجتمع أي أثر، فهو بطبيعة الحال قد تأثَّر ويتأثر على الدوام، المشكلة الأساسية للفرد هو ذلك الفرد الذي يعاني من بطالة مستديمة أو يعيش بين بطالة مؤقتة، أو قد خسر وظيفته جراء حدوث مشكلة أيًّا كانت، فهؤلاء على وجه الخصوص لا بد أن تُتخذ لهم تدابير مستمرة، ليس فقط حال حدوث مشكلة صحية أو اقتصادية؛ إنما حتى في حال الرخاء لا بد من التركيز عليهم، كونهم أناسًا تختلف ظروفهم وأوضاعهم عن غيرهم.
وفي اعتقاد أ. فهد القاسم، فإن العديد من الأفراد سيكونون ضحايا لأزمة كورونا الحالية بحكم أن العددَ الأكبر يعمل في القطاع الخاص الذي سيتأثر بشكل بالغ كما تمَّ ذكره؛ وقد يكون الأثر مباشرًا نتيجة التسريح أو انخفاض الراتب؛ وقد يكون أثرًا جانبيًّا، مثل انخفاض الدخل الناتج عن فَقْد المتسببين الصغار لدخولهم نتيجة توقُّف أعمالهم، وتوقُّف دخول كثير من الأسر الفقيرة المعتمدة على الصدقات.
وتطرقت د. وفاء طيبة إلى أن كثيرًا من الجمعيات الخيرية قامت بواجبها، ولكنَّ المسألة أعمق من ذلك؛ فهناك أعمال صغيرة أصحابها لا يمكن أن يلجؤوا للجمعيات الخيرية، سقطت شركاتهم تمامًا، وليس هناك مَن يدفع رواتب العدد القليل من العاملين، وصاحب العمل يعتمد على الدخل الشهري من شركته الصغيرة.
واقترحت أ. هيلة المكيرش أن تُلزم البنوك بدعم برامج ومبادرات تتيح الفرصةَ لتوظيف الخريجين والخريجات المتوقع أن تضيق الفرص أمامهم، في قطاعات حكومية أو خيرية أو قطاع شبه حكومي، وتتحمل البنوك رواتبهم حيث لا يخفى الأرباح والعائدات لها، وحان الوقت لمشاركات حقيقية.
وحدَّد أ. عبد الرحمن باسلم بعضَ الأمور التي يجب على الفرد أن يفعلها على المستوى المحلي لمكافحة آثار فيروس كورونا اقتصاديًّا:
- التركيز على صحته وصحة أسرته ومن حوله، خصوصًا كبار السن وأي مُصاب بضعف في المناعة، فالصحة هي رأس المال في هذه الحياة.
- تقليل النفقات على السلع والخدمات غير الضرورية (التوقُّف عن شراء الكماليات).
- ادخار ما يمكن من الدخل، وعدم الاقتراب من هذا المال إلا في حالة الضرورة القصوى حتى يمكن التعامل مع أي ظروف اقتصادية سيئة.
- إذا كان لدى الفرد مشروع صغير يجب تخفيض المصاريف التشغيلية قدر الإمكان، وذلك حتى لا يضطر الفرد إلى تقليل العمالة ما يكون سببًا في إرهاق الكثير من الأسر البسيطة.
- إذا كان الفرد مُستثمِرًا صغيرًا ويملك سيولةً فهذا هو الوقت المناسب، حيث يجب متابعة أخبار السوق جيدًا، فهناك الكثير من الفرص التي ستظهر لامتلاك الكثير من الأصول والشركات، كما يجب العمل على جَمْع أكبر قدر من السيولة المالية تحت التصرف في أي وقت حتى لا تضيع الفرص.
- في حال امتلاك بعض أسهم الشركات غير الموثوق بها، من المناسب عدم بيعها بسبب تراجع الأسعار حتى لا يتم التعرُّض لخسائر كبيرة، خصوصًا عندما يتعافى الاقتصاد.
كما تمت مناقشة الأفكار التالية:
- أن تسعى الشركات المحلية إلى إعادة هيكلتها وخُططها، مع التقنين المدروس في النفقات حتى لا تضطر على الدوام للإقراض أو الإفلاس مع القدرة على المنافسة في الأسواق العالمية.
- أن تسعى وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية إلى تخفيض أعداد العمالة الوافدة في المنشآت الاقتصادية، وأن يكون ذلك في حدود الحاجة الملحة.
- استقطاع اشتراكات التأمينات الاجتماعية وضريبة القيمة المضافة من مستحقات المقاولين.
- تسريع صرف القروض من صندوق التنمية الصناعية للمشاريع المعتمدة.
- على المستثمر الصغير الأَخْذ بنصائح أهل الخبرة ومتابعة أخبار السوق جيدًا، فهناك الكثير من الفرص التي ستظهر لامتلاك الكثير من أصول المنشآت القائمة.
- التوصيات:
- فيما يتعلق بالاقتصاد العالمي: (يمكن أن تُقدَّم من خلال مناقشات قمة العشرين):
- ضرورة أن تُعاد هيكلة الموازنات المالية للدول، وذلك نحو تقديم الأهم على المهم، خصوصًا الموازنات الخاصة بالقطاعات الصحية والتنموية بعد انكشاف الأنظمة الصحية المُخزي وعدم قدرتها المحافظة على المكتسبات، وأن تكون الحكومات هي القائد الأول في هذا القطاع.
- على الدول الإسلامية من خلال علمائها الاقتصاديين والماليين، دراسة تقديم النظام المالي القائم على أساس الاقتصاد الإسلامي الخالي من الفوائد، والقائم على موازنة مصلحة الفرد والجماعة خاصة بعد النجاح المنقطع النظير للمصرفية الإسلامية.
- فيما يتعلق بالاقتصاد المحلي السعودي:
- يجب أن تكون الميزانيات الطبية والصحية على رأس أولويات الحكومة؛ فالصحة لا تقلُّ أهميةً عن الأمور العسكرية، والإنسان هو أساس الاقتصاد.
- متابعة تنفيذ الخُطط الإستراتيجية للأمن الغذائي والمائي، وتطبيق أحدث التقنيات المناسبة للبيئة المحلية.
- إنشاء مراكز بحثية مع تطوير القائم منها دعمًا للقطاع الصحي، وعلى وجه الخصوص التخصصات الدقيقة للأمراض المعدية والوبائية.
- رَفْع كفاءة الإنتاج الصناعي متعدد الأغراض من خلال تطبيق الأتمتة الكلية، إضافةً إلى مواكبة المورد البشري لذلك. والاعتماد على سلاسل الإمدادات المحلية، وتطوير القائم منها للاستغناء ولو جزئيًّا عما يرد من الخارج.
- بناء الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي، وهيئة المحتوى المحلي والمشتريات الحكومية بناءً علميًّا وعمليًّا، والخروج من دور المتفرج إلى المبادِر في بناء محتوى محلي مأمول، وصقل المواهب البشرية بتأهيلها التأهيل المنافِس والمنتج؛ لئلا نكون مستوردين ومستهلكين فحسب.
- فيما يتعلق بالشركات الكبيرة:
- أن يسعى صندوق الاستثمارات العامة للاستحواذ على شركات للصناعات العسكرية وتقنيات المياه والطاقة المتجددة والزراعة والبناء والذكاء الاصطناعي وغير ذلك، وتوطينها حتى تكتمل سلسلة الأمن الشامل في حالات النوازل.
- إنشاء أرامكو شركة استكشاف دولية، والاستحواذ على شركات نفطية صغيرة أو متوسطة في ظل الأزمة الحالية، والتي قد تكون فرصة مواتية.
- أن تسعى شركات الاتصالات وتقنية المعلومات نحو الاستحواذ على شركات صغيرة ومتوسطة ذات محتوى متقدم تملك تقنية حديثة في الخدمات وتوطينها.
- فيما يتعلق بالمنشآت الصغيرة والمتوسطة:
- سرعة تنفيذ وزارة المالية لمبادرات الدعم الكبيرة والتي تبلغ 120 مليارًا وغيرها، مع متابعة التنفيذ للقرارات الصادرة بشكل سريع؛ وإلا فإنه لن يبقى هناك الكثير لإنقاذه في ظل تسارُع فرص الإفلاس والإغلاق في القطاع الخاص، وخاصة المنشآت الصغيرة والمتوسطة.
- توجيه المنشآت بأنواعها للاندماجات لتقليل التكلفة، ولمحاولة التقليل ما أمكن من مسألة الخروج من السوق أو إعلان الإفلاس.
- المساندة في سداد المستحقات الإيجارية للمنشآت أو المستحقات البنكية، وإيقاف الرسوم الحكومية وغرامات التأخير وفواتير المياه والكهرباء خلال فترة التعطيل، وسرعة سداد المستحقات الحكومية المتأخرة للقطاع الخاص.
- فيما يتعلق بالأفراد:
- تفعيل الصندوق المجتمعي للتخفيف من آثار وباء كورونا، لمساعدة الأفراد المحتاجين على تجاوز الأزمة.
- اتباع سياسة الادخار وعدم التصرُّف في الادخار إلا في حالة الضرورة القصوى، ومواجهة الظروف الاقتصادية الطارئة، وتقليل النفقات على السلع والخدمات غير الضرورية (كالكماليات وغيرها).
المشاركون في مناقشات هذا التقرير:
- الشركات الحكومية: ما لها، وما عليها:
- أ. علياء البازعي
- أ. محمد الدندني
- أ. وليد الحارثي
- د. خالد الرديعان
- د. رياض نجم
- د. عبد الله بن صالح الحمود
- د. علي الطخيس
- د. مها العيدان
- أ. نبيل المبارك
- د. يوسف الرشيدي
- م. إبراهيم ناظر
- م. سالم المري
- م. فاضل القرني
- الأمن البيولوجي والكيميائي.. جزء لا يتجزأ من الأمن الوطني:
- أ. عبد الرحمن باسلم
- أ. عبد الله الضويحي
- أ. فائزة العجروش
- م. فاضل القرني
- د. حميد الشايجي
- د. خالد بن دهيش
- د. صدقة فاضل
- د. عبد العزيز الحرقان
- د. عبير برهمين
- د. فايزة الحربي
- د. مساعد المحيا
- د. نوره الصويان
- م. إبراهيم ناظر
- م. أسامة كردي
- م. خالد العثمان
- د. حمد البريثن
- د. خالد الرديعان
- م. فاضل القرني
- نموذج الاقتصاد الدائري والصناعة بالمملكة:
- د. حمد البريثن
- د. عائشة الأحمدي
- د. حميد الشايجي
- د. خالد الرديعان
- د. وفاء طيبة
- أ. هيلة المكيرش
- د. خالد بن دهيش
- أ. منى أبو سليمان
- م. فاضل القرني
- أ. فائزة العجروش
- د. عفاف الأنسي
- م. سالم المري
- أ. د. مجيدة الناجم
- كورونا (كوفيد-19).. فيروس صغير يُربك عالمًا كبيرًا:
- د. مساعد المحيا
- أ. مها عقيل
- د. علي الطخيس
- أ. فهد الأحمري
- د. زياد الدريس
- د. عائشة الأحمدي
- د. عفاف الأنسي
- د. الجازي الشبيكي
- د. عبد الرحمن الشقير
- أ. د. عثمان العثمان
- د. نوره الصويان
- د. فايزة الحربي
- د. خالد الرديعان
- م. خالد العثمان
- د. حامد الشراري
- أ. عبد الرحمن باسلم
- د. ناصر القعود
- د. عبد الله صالح الحمود
- م. فاضل القرني
- د. حميد الشايجي
- د. نوف الغامدي
- د. مها المنيف
- د. سلطان المورقي
- د. وفاء طيبة
- أ. هيلة المكيرش
- د. صدقة فاضل
- د. رياض نجم
- أ. محمد الدندني
- د. حمد البريثن
- د. راشد العبد الكريم
- د. عبير برهمين
- د. يوسف الرشيدي
- أ. فهد القاسم
- أ. عبد الله الضويحي
- الأثر الاقتصادي لانتشار وباء كورونا:
- أ. عاصم العيسى
- أ. لاحم الناصر
- أ. جمال ملائكة
- أ. بسمة التويجري
- أ. عبد الله الضويحي
- أ. فائزة العجروش
- أ. فهد الأحمري
- أ. فهد القاسم
- أ. مها عقيل
- أ. هيلة المكيرش
- أ. محمد الدندني
- د. نوف الغامدي
- د. الجازي الشبيكي
- د. حامد الشراري
- د. حمد البريثن
- د. حميد الشايجي
- د. خالد الرديعان
- د. خالد العثمان
- د. خالد الفهيد
- د. خالد بن دهيش
- د. رياض نجم
- د. زياد الدريس
- د. صدقة فاضل
- د. عبد العزيز الحرقان
- د. عبد الله صالح الحمود
- د. علي الطخيس
- د. مساعد المحيا
- د. منصور المطيري
- د. ناصر القعود
- د. وفاء طيبة
- م. إبراهيم ناظر
- م. أسامة الكردي
- م. فاضل القرني
- أ. عبد الرحمن باسلم
(*) باحث واستشاري في الأمراض المدارية، ومتخصص في الأمن والسلامة البيولوجية، وحائز على جائزة الإنجاز المهني البريطانية.
(*) مُؤسِّسة ونائبة رئيس “جمعية رفيدة لصحة المرأة”، المملكة العربية السعودية.
(*) أستأد مساعد وباحث في علم الفيروسات بكلية العلوم الطبية التطبيقية بجامعة جازان.