مراكز الفكر: القوى “الناعمة” الجديدة

ديسمبر 26, 2024

:تفاصيل الخبر

تشبه “مراكز الفكر” مراكز البحوث والدراسات شكلاً، لكنها تختلف عنها غايةً ومضموناً، وإن تقاربت التسميات وتشابهت. لا ترمي مراكز البحوث (أوالأبحاث) إلى أبعد من الغايات الأكاديمية والحياد الموضوعي الصرف من حيث المبدأ، أما مراكز الفكر (أو التفكير) فتستهدف غايات استراتيجية محدّدة من خلال سعيها إلى الانخراط في صنع القرار السياسي العام.

ليس هناك تعريف لـ”مركز الفكر” يحظى بالإجماع؛ فبعض الباحثين يراه جماعة تجمعها المصلحة المشتركة، وبعضهم يراه حلقة تشاور، ويراه آخرون منظمة غير حكومية تسعى إلى تقديم مقترحات أو توليفات معيّنة في شأن مسألة اقتصادية أو قضية سياسية معيّنة، كما يراه آخرون أيضاً مجموعة من المفكرين تسدي النصح إلى صنّاع القرار السياسيّين بغية الضغط عليهم وتوجيههم.

“مركز الفكر” ترجمة عربية لعبارة “ثنك تانك” think tank الإنجليزية التي تعادلها بالفرنسية عبارة centre de reflexion “مركز تفكير”، أو laboratoire d’idées “مختبر أفكار” وهي مؤسّسات خاصة تنتِج دراسات وتقدّم مقترحات في ميدان السياسة العامة. ولئن كانت الترجمة الحرفية للعبارة الإنجليزية “ثنك تانك” هي “خزان أفكار” وللعبارة الفرنسية cellule de réflexion “خلية تفكير”، فإن العبارتين تستعيدان ما راج استخدامه خلال الحرب العالمية الثانية ودلّ في واقع الأمر على ممارسة أكثر قِدَماً: الغرفة التي يجتمع فيها أركان القيادة العسكرية من أجل التخطيط الاستراتيجي للمعارك الحربية، والذي يأخذ بالحسبان المعطيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية جميعاً لكلا الطرفين المتحاربين، ورسم سير الصراع استراتيجياً في جميع الميادين.

ثمة أنواع عدّة من مراكز الفكر أو غرف التفكير، فبعضها مراكز تضم باحثين محترفين تنتج بانتظام وعلى نحو دوري دراسات وأبحاث تستفيد منها جهات معيّنة، وبعضها الآخر حلقات دراسية تجتمع حول حزب معيّن أو زعيم سياسي معيّن للتفكير في مسألة معيّنة تندرج في إطار السياسة العامة. وبعضها يتّخذ شكل “الجامعة ولكن من دون طلبة جامعيّين” يقوم عملها على إعداد تقارير وإنتاج كتب كـ”مؤسّسة كارنيغي للسلام الدولي” على سبيل المثال. وهناك أيضاً مراكز تفكير تُسدي النصح والإرشاد للإدارات العامة الكبرى، كمركز “راند كوربوريشن” (RAND Corporation)، ومراكز تفكير يغلب عليها الطابع الأيديولوجي و”تدافع” عن قضايا معيّنة (« advocacy tanks ») ، وبخاصة في وسائل الإعلام أمام الرأي العام ولدى صنّاع الرأي. وتنضوي في عداد هذه الفئة مراكز الفكر التي تسوّق باحثيها لدى وسائل الإعلام بوصفهم خبراء في الموضوعات التي يتحدّثون فيها. على أن بعض مراكز التفكير يحسب أن نشاطه يعزّز المجتمع المدني وبعضها يعدّ نفسه في عداد المنظمات غير الحكومية ويكون دوره ممارسة الضغط (لوبي) على المراكز الحكومية وعلى صنّاع القرار السياسي..

غير أن باسكال لامي Pascal Lamy المفوّض الأوروبي السابق ومدير مراكز “الفكر عالمنا” قدّم لكتاب: “مراكز الفكر، أدمغة حرب الأفكار” لمؤلفَيْه ستيفان بوشيه Stephan Boucher ومارتين روايو Martine Royo (نقله إلى العربية د. ماجد كنج وصدر عن مؤسّسة محمد بن راشد آل مكتوم ودار الفارابي) بقوله: “منذ بعض الوقت نسمع في فرنسا كلاماً عن مراكز الأفكار وهي نصف نوادٍ سياسية ونصف مراكز بحوث أكاديمية حيث يلتقي سياسيون وجامعيون ومسؤولو مؤسّسات وفاعلون في المجتمع المدني.. إن فرنسا تأخرت عشرين سنة عن بروكسيل وزمناً أطول بكثير عن واشنطن في التزوّد بمختبرات الأفكار هذه القادرة على إنتاج تفكير سياسي مغاير يُثري النقاش السياسي”.

غالباً ما يتخذ “مركز التفكير” أمام القانون في الولايات المتّحدة شكل المعهد أو الجامعة أو المؤسّسة ذات الأهداف غير الربحية. وفي فرنسا غالباً ما يكون “مركز التفكير” حظيرة سياسية مؤيدة لهذا الاتجاه السياسي أو ذاك، أو لهذا الحزب السياسي أو ذاك.. كما أن تمويل مراكز التفكير يختلف من مركز إلى آخر: بعضها يرفض هبات الدولة وبعضها الآخر يقبل مساعدات مالية من الدولة لكنه يرفض تبرعات الشركات والمؤسّسات الخاصة.

أشهر مراكز التفكير التابعة لجامعات في العالم هي: هوفر إنستيتيوشن (Hoover Institution) الملحق بجامعة ستانفورد، ومركز بلفير للعلوم والشؤون الدولية (Belfer Center for Science and International Affairs) ومركز التنمية الدولي (Center for International Development) التابعان لجامعة هارفرد، ومركز الدراسات والبحوث الدولية (Centre d’études et de recherches internationales) التابع لمعهد العلوم السياسية في جامعة السوربون والذي يحتلّ المرتبة السابعة دولياً.

أما مراكز التفكير المرتبطة مباشرة بحكومات فأشهرها معهد البنك الدولي ـ دائرة بحوث الكونغرس (World Bank Institute, Congressional Research Service) الذي يقدّم خدمات جُلّى للإدارة الأميركية؛ ومعهد الخدمات الملكي المتحد لدراسات الأمن والدفاع (Royal United Services Institute for Defence and Security Studies) الذي يخدم الحكومة البريطانية؛ ومجلس المستشارين في مجال السياسة (Council of Policy Advisors) الذي يقدّم خدمات للاتحاد الأوروبي.

كذلك فإن أشهر مراكز التفكير الموضوعة في خدمة أحزاب سياسية تتصدّرها مؤسّسة فريدريك إيبرت (Friedrich Ebert Foundation) ومؤسّسة كونراد أديناور (Konrad Adenauer Foundation) الألمانيتان، يليهما مركز الدراسات السياسية (Center for Policy Studies) البريطاني. في فرنسا يأتي مركز تيرا نوفا (Terra Nova) في المرتبة التاسعة عشرة، وفي الصين يحتلّ معهد الحزب المركزي (Central Party School) المرتبة الثانية والعشرين عالمياً.

يرى مؤرّخ مراكز التفكير بيتر سنجر Peter Singer أن دور مركز التفكير هو أن يكون صلة الوصل بين عالم البحث والدراسة وبين عالَم السياسة وأن يتحلّى بالصرامة الأكاديمية في دراسة القضايا والمشكلات العصرية. أما جيمس ماك غانJames McGan مدير برنامج مركز التفكير والمجتمع المدني في جامعة بنسلفانيا فيرى أن مراكز التفكير “تسعى إلى إعداد الأجندات السياسية عبر مدّ الجسور بين المعرفة والسلطة”. ويرى المختصّون في تاريخ مراكز التفكير أن أقدمها في العصر الحديث هو مؤسّسة فابيان Fabian Society التي تأسّست في لندن العام 1884 ولعبت دوراً مهماً في الإصلاحات الاجتماعية. لكنهم يتفقون على أن أول مركز تفكير حديث هو بروكنغز إنستيتيوشن الأميركي الذي تأسّس العام 1916.

بدأت مراكز التفكير في العالم تتكاثر منذ نهاية الستينيات وبلغت أقصى نموها في العام 1996 بوتيرة ولادة 150 مركز تفكير في العام الواحد، ليخف هذا النموّ وتتباطأ وتيرته بعد العام 2000. في العام 2010 أُحصت دراسة صادرة عن مؤسّسة بحوث السياسات الخارجية Foreign Policy Research Instituteالتابعة لجامعة بنسلفانيا تحت عنوان (“التصنيف العالمي لمراكز التفكير”) أحصت 6480 مركز تفكير في العالم. وتأتي الولايات المتّحدة في طليعة دول العالم من حيث عدد مراكز الفكر، تليها الصين مباشرة.

في أميركا الشمالية 30% من جملة مراكز التفكير في العالم، وفي أوروبا 27%، وفي آسيا 18% منها، ثم في أميركا الجنوبية وجزر الكاراييب 11%، في أفريقيا 8%، وفي البلدان العربية 5%، وفي أستراليا 1%.

في أوروبا نشأ أول مركز تفكير في بريطانيا وهو تشاتام هاوس (Chatham House) وهو في المرتبة الرابعة عالمياً، تلاه في السويد مؤسّسة استوكهولم الدولية لبحوث السلام (Stockholm International Peace Research Institute) ثم في فرنسا المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية المعروف باسم “إيفري” (Institut français des relations internationales). أما في أوروبا الشرقية فكان أول مركز تفكير أُقيم في روسيا هو مركز كارنيغي موسكو (Carnegie Moscow Center) أعقبه في بولندا مركزان هما معهد القضايا الدولية البولندي (Polish Institute of International Affairs) ومركز الأبحاث الاقتصادية والاجتماعية (Center for Economic and Social Research).

يقرُب عدد مراكز التفكير البريطانية من 278 مركزاً بعضها ذو شهرة عالمية كمنظمة العفو الدولية (Amnesty International) الخامسة عالمياً، ومنظمة هيومن رايتز ووتش (Human Rights Watch) وهي في المرتبة السادسة عشرة عالمياً.

في أفريقيا نُشير إلى معهد الدراسات الأمنية (Institute for Security Studies) في دولة جنوب أفريقيا ومركز الدراسات والتوثيق والبحوث الاقتصادية والاجتماعية (Centre d’Etudes, de documentation et de Recherches Economique et Sociale) في بوركينا فاسو الذي يحتل المرتبة الخامسة عشرة من حيث الأهمية بين مراكز التفكير في العالم، ومجلس تنمية أبحاث العلوم الاجتماعية في أفريقيا (Council For the Development of Social Science Research in Africa) في السنغال والذي يشغل المرتبة التاسعة.

من أبرز مراكز التفكير في الصين الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية (Chinese Academy of Social Sciences) الذي يشغل المرتبة الرابعة والعشرين عالمياً، وفي اليابان المعهد الياباني للقضايا الدولية (Japan Institute for International Affairs) وفي الهند معهد التحليلات والدراسات الدفاعية (Institute for defence Studies and Analyses).

بحسب التقرير الصادر عن جامعة بنسلفانيا المذكور أعلاه تحتل المراتب الثلاث الأولى عالمياً ثلاثة مراكز تفكير أميركية هي على التوالي: بروكنغز إنستيتيوشن (Brookings Institution) ومجلس العلاقات الخارجية (Council of Foreign Relations) ومؤسّسة كارنيغي للسلام الدولي (Carnegie Endowment For International Peace).

في البلدان العربية نُشير إلى مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية (l’Al-Ahraam Center for Political and Strategic Studies) الذي تأسس العام 1972 وتنصبّ بحوثه ودراساته على الجوانب السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية للمجتمع المصري، بغية توعية الرأي العام العربي بعامة والمصري بخاصة على القضايا الاستراتيجية والانخراط في مسار اتخاذ القرارات. وفي بيروت وُلِد مركز كارنيغي الشرق الأوسط (Carnegie Middle East Center) العام 2006 برعاية من مؤسّسة كارنيغي للسلام الدولي Carnegie Endowment for International Peace وغايته متابعة بروتسيس (عملية) التغيرات السياسية في الشرق الأوسط. وفي العام نفسه ولد مركز عصام فارس في بيروت أيضاً برعاية من الجامعة الأميركية والغاية من نشاطه تحسين مستوى السجال السياسي واتخاذ القرارات في العالم العربي انطلاقاً من جميع وجهات النظر المطروحة في المجتمعات العربية من دون استثناء أيّ منها. وفي دبي مركز بحوث الخليج (Gulf Research Center)، وفي المغرب يحتل مركز الدراسات والبحوث في العلوم الاجتماعية (Centre d’études et de Recherches en Sciences Sociales) المرتبة الثانية والعشرين عالمياً.

مراكز الأفكار التي تهتم بالمسائل الجيوسياسية للبلدان العربية كثيرة، لكن مقارّ معظمها خارج البلدان العربية وغالباً ما تستبدل كلمة العربية في برامجها السياسية بكلمة الشرق الأوسط حرصاً منها على أن تشمل التسمية إسرائيل، ومعظمها يضع مصالح إسرائيل في المقام الأول. ويقدّر تقرير جامعة بنسلفانيا المذكور آنفاً أن عدد مراكز التفكير التي تهتم بقضايا الشرق الأوسط الجيوسياسية تنيف على 200 مركز، 52 مركزاً منها في إسرائيل، تليها إيران وتركيا ومصر التي يتراوح عدد مراكز الفكر في كلّ منها بين 20 و 30 مركزاً. في المغرب 9 مراكز وفي تونس 9 مراكز وفي الجزائر 4 مراكز.

يتمتع بعض مراكز الفكر بنفوذ بل بسطوة على مراكز القرار السياسي: بعد الحرب العالمية الثانية جاءت خطة مارشال من بروكنغز إنستيتيوشن، وكانت الحرب على العراق بتحريض من بعض مراكز الفكر في الولايات المتّحدة. ومهما ادَّعت مراكز التفكير الحياد والموضوعية فإنها تبقى خاضعة لميول أيديولوجية واضحة وتسعى إلى خدمة مصالح سياسية واقتصادية معيّنة؛ فأكثر من 60% من مساعدي وزراء خارجية الولايات المتحدة جاؤوا من مراكز تفكير. من هنا السؤال الذي عالجه نعوم تشومسكي وإدوارد هيرمان في كتابيهما صناعة التوافق Fabrication du consentement : هل تبقى مراكز التفكير مستقلة ونزيهة في حيادها حين تُقدّم توصيات في شأن السياسة العامة وتستفيد من التمويل العام والخاص وتتمتّع بقدر كبير من النفوذ؟

المصدر: https://bit.ly/3xXFNi8

:آخر الأخبار

خلال مشاركته في ملتقى “المسؤولية الوطنية تجاه مكافحة الفساد”

ينظمه برنامج المراكز الفكرية والمجتمعات المدنية التابع لمعهد لودر بجامعة بنسلفانيا الأمريكية

مركز أسبار للبحوث والدراسات ومركز الأمير تركي بن محمد بن فهد للإبداع وريادة الأعمال يوقّعان مذكرة تفاهم لتعزيز التعاون العلمي والبحثي والتدريبي

Scroll to Top