مراكز الفكر الاستراتيجية.. الواقع الراهن وشروط الانتقال إلى فاعلية أكبر
ديسمبر 26, 2024
:تفاصيل الخبر
تزايد الاهتمام بمراكز الفكر الاستراتيجية عالمياً بشكل واضح وملحوظ في العقود الأخيرة من القرن العشرين، فقد أصبحت تمثل أحد الدلائل الهامة على تطور الدولة واهتمامها بالبحث العلمي، واستشرافها آفاق المستقبل، وذلك انطلاقاً من كون تلك المراكز الفكرية تعد من الضرورات المجتمعية الملحة في الوقت الراهن، وأصبحت تحتل مكانة مهمة في العالم المتقدم وخاصة في مجال صنع القرار السياسي، وذلك يرجع لكونها مصدراً مهماً للتوجيه وبلورة الرأي العام، فهي تلعب دوراً مهماً في تطوير الفكر السياسي والاستراتيجي، وذلك من خلال ما تقدمه من تحليلات ودراسات تُمد بها صانع القرار في الدولة من أجل المساهمة في ترشيد القرارات والسياسات.
عربياً، تنامى الاهتمام بمراكز الفكر الاستراتيجية وأصبحت محل حديث بشكل واضح منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، واتسعت دائرة نشاطاتها من حيث الحجم الكمي، ومن حيث نوعية المساهمات التي تقدمها، وتأثيرها على مراكز صنع القرار على المستويين الداخلي والخارجي، ولكن تجدر الإشارة هنا إلى أن الدور الذي اضطلعت به مراكز الفكر الاستراتيجية في الوطن العربي بشكل عام، مختلف عما هو عليه الأمر في الغرب، ولأنها لم تتبوأ مكانها الحقيقي، ولم تمارس دورها الحيوي المتمثل في المشاركة في صنع القرار السياسي، وهذا ليس بسبب عجزها عن أداء هذا الدور، بل بسبب المعوقات الكثيرة التي تحيط بها، وعدم تمكينها بهذه المهام بحكم طبيعة الحياة السياسية في العالم العربي وطبيعة أنظمتها وبعدها عن العمل المؤسسي المعمول به في الدول المتقدمة.
أولا: ماهية مراكز الفكر الاستراتيجية
يقتضي إدراك مكانة مراكز الفكر الاستراتيجية في بيئة صنع القرار السياسي تحديد ماهيتها من حيث: التعريف، النشأة والتطور التاريخي، أهمية مراكز الفكر الاستراتيجية ودورها في صناعة القرار السياسي.
أ/ مفهوم مراكز الفكر الاستراتيجية:
لا يوجد تعريف عام وشامل (جامع ومانع) حتى الآن لمراكز الفكر الاستراتيجية، حيث ظهرت تعريفات كثيرة لهذه المراكز يعكس كل منها فهم صاحبه ومنطلقاته، وتكمن صعوبة إيجاد تعريف جامع لهذه المراكز في أن معظم المؤسسات والمراكز التي تقع تحت قطاع مراكز التفكير لا تعرب عن نفسها، وإنما تعلن عن نفسها كمنظمات غير حكومية NGO أو منظمات غير ربحية Non profit organization، وهذا يعد أحد التعريفات التنظيمية المعترف بها في القانون الأمريكي.
ويعرف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي مراكز الفكر والبحث بأنها: منظمات ملتزمة وبصورة دورية، بإجراء الأبحاث والدفاع عن أي موضوع يتعلق بالسياسات العامة، وتشكل جسراً يربط بين المعرفة والسلطة في الديمقراطيات الحديثة، إذ أنه يرى في المراكز البحثية هيئات وسطية بين المعرفة والسلطة، أو بين السياسيين والأكاديميين، كما تعرف مراكز الفكر الاستراتيجية بأنها: أي منظمة تقوم بأنشطة بحثية سياسية تحت مظلة تثقيف وتنوير المجتمع المدني بشكل عام وتقديم النصيحة لصناع القرار السياسي بشكل خاص.
ب/ مفهوم صنع القرار السياسي:
يمكن تعريف عملية صنع القرار السياسي علي أنها: عملية ديناميكية تتضمن مزيج من القوة والنفوذ والرشد والعقلانية، وتتم بواسطة مؤسسات رسمية وغير رسمية تتفاعل جميعاً لصياغة القرار السياسي كحل توفيقي بين جميع الاعتبارات، كما تعبر عملية صنع القرار السياسي عن توزيع القوة والموارد السلطوية وتتضمن تمثيل المصالح، كما تهدف إلى تحقيق أفضل النتائج الممكنة من خلال الموارد المتاحة، ولذلك فأن هناك قوتين تتجاذبان عملية صنع القرار السياسي، قوة تجذبها باتجاه تمثيل المصالح الأثقل وزناً نظراً لاستحواذها على عناصر القوة السياسية في المجتمع وقوة أخرى تجذبها نحو العقلانية والرشد وإقامة نوع من التراتب المعقول بين مختلف المصالح وتحقيق الأهداف المشتركة (فكرة المعقولية).
ج/ النشأة التاريخية:
عند تتبع المسار التاريخي لمراكز الفكر الاستراتيجية سنجد أن الباحثون يختلفون في تحديد البداية التاريخية لتأسيسها، فمنهم من يقول أن نشأة تلك المراكز في صورتها الأولى كانت في الجامعات الأوروبية، وتحديداً في القرن الثامن عشر وكانت تعرف باسم (الكراسي العلمية)، وكان أولها نشأة كراسي الدراسات الشرقية في بولونيا وفي باريس، وهناك من يحدد نشأتها الأولى في عام ١٨٣١ مع تأسيس المعهد الملكي للدراسات الدفاعية في بريطانيا، وهناك من يربط نشأتها بعام ١٨٨٤ مع تأسيس الجامعية الفابية البريطانية التي تعني بدراسة التغيرات الاجتماعية، وبصرف النظر عن البداية التاريخية لنشوء هذه المراكز، فأنه مع مطلع القرن الماضي تصاعدت حركة تأسيسها، ففي الولايات المتحدة الأمريكية تم تأسيس معهد كارنيغي للسلام الدولي عام ١٩١٠، وفي بريطانيا تم تأسيس المعهد الملكي للشؤون الدولية عام ١٩٢٠، وفي فرنسا تم تأسيس المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية عام ١٩٧٩، ومن ثم انتشرت ظاهرت تأسيس مراكز الفكر عبر الغرب ومنه إلى العالم أجمع.
ثانيا: أهمية مراكز الفكر الإستراتيجية ودورها في عملية صنع القرار السياسي
ترجع أهمية مراكز الفكر الإستراتيجية إلى كونها تمثل بالنسبة لصانع القرار السياسي النوافذ التي تساعده على تكوين رؤية أفضل عن الواقع وما يواجه من قضايا ومشكلات، ومن ثم اتخاذ القرار السياسي الصحيح.
حيث تتمثل أهم الأدوار والمهام التي تقوم بها مراكز الفكر الإستراتيجية في ميدان صنع القرار السياسي فيما يلي:
١/ إن مراكز الفكر الإستراتيجية تشكل صلة الوصل بين عالم البحث والدراسة وعالم السياسة، فهي التي تمد الجسور بين المعرفة والسلطة، وذلك عن طريق ما تقوم به من أبحاث ودراسات تُمد بها صانع القرار السياسي.
٢/ القيام بالدور الاسترشادي لصانع القرار السياسي في الحالات والقضايا التي تتطلب معرفة متخصصة وسرعة في الإنجاز والقرار، وذلك عن طريق ما تقدمه تلك المراكز الفكرية من استشارات وإرشادات حول تلك القضايا، وذلك أيضاً من خلال ما تقدمه من بحوث علمية وموضوعية دقيقة تعمل على ترشيد السياسات العامة، وتمكن صانع القرار السياسي من اتخاذ قرار سياسي رشيد وعقلاني.
٣/ تمثل مراكز الفكر الإستراتيجية قناة اتصال بين صانع القرار السياسي والشعب، حيث يقوم صانع القرار السياسي من خلالها بإرسال رسائل أو قرارات سياسية خاصة بقضايا معينة إلى الشعب.
٤/ تسهم مراكز الفكر الإستراتيجية في فتح الآفاق لرؤية المستقبل بتصور علمي دقيق، وذلك من خلال دورها في استشراف المستقبل استناداً إلى قواعد علم المستقبليات وذلك من أجل مساعدة صانع القرار السياسي على التخطيط الاستراتيجي للمستقبل.
الخلاصة:
في النهاية، بعد التطرق لماهية مراكز الفكر الإستراتيجية ودورها في عملية صنع القرار السياسي خرجت الدراسة بمجموعة من الاستنتاجات الرئيسية والتي تتمثل فيما يلي:
١/تعد مراكز الفكر الإستراتيجية من الضرورات المجتمعية الملحة والمؤسسات التطويرية والنهضوية الرائدة في عالمنا المعاصر، فضلاً عن أهميتها ودورها الفعال في دعم عملية صنع القرار السياسي.
٢/إن قوة مراكز الفكر تنبع من عمق بحوثها ودراساتها، ومدى قدرتها على امتلاك كفاءات علمية وكوادر بشرية عالية الخبرة ولديها رؤية استراتيجية واستشرافية للمستقبل يمكن أن تفيد بها صانع القرار.
٣/على الرغم من التنامي العددي لمراكز الفكر إلا أنها لا زالت تعاني من تحديات جمة تحول بينها وبين النجاح الحقيقي في عملها ودورها في عملية صنع القرار السياسي، ولكن في النهاية نذكر بأن هذه التحديات التي تواجه تلك المراكز الفكرية قد تختفي ولكن ذلك مرهون باستخدام الآليات والسبل اللازمة للنهوض بمراكز الفكر الاستراتيجية ودورها في عملية صنع القرار السياسي.
المصدر: https://www.mcsr.net/news691
